الفصل الحادي عشر

14.8K 187 945
                                    


" كم كان كبيراً حظي حين عثرتُ عليكْ. "

ضرب معها موعد عبر رسالة نصية وكأنه يعيد احكام لعبته بعد أن شاركها وجبة الغداء دون أن يتفوه بكلمة حال انتهائهما من لعبة البولينج فقط أشار لها بإصبع سبابته بموقع الطاولة التي كانت داخل الكوخ وبعدها عادوا الى المنزل وكل واحد منهما قد توجه لقضاء وقت كافي مع نفسه في غمرة مشاعر جديدة، حتى أصبحت الساعة الثامنة مساءً.. تهيأت لهذا العشاء بمظهر بسيط في رونق غير متكلف.. كالشعاع السنّي.. فاتنة العذري كالنجمة تهيج محافة النور تبينُ غيهب الغسق.. كانت طرقات ميكونوس متلألأة بأنغام صاخبة.. كان كل شيء يوحي بتدفق الحياة.. في تلك الساعة من المساء.. وحين بلغا موقع المطعم المراد، تنبهت أن هذا الرجل الذي يتقن دوره في استحكام لعبة الغموض، نجح كعادته في استدراجها الى ديجوره. ألقت نظرة على المكان الذي لا يخجل من إشهار فخامته. أعادت النظر في الطاولات الموزعة بطريقة حميمية الزبائن ورقي المكان. بدا لها المطعم في تعدد زواياه، متاهة لفتاة مثلها. قصد الطاولة التي حجزها من قبل فقد كانت في زاوية جميلة تضيئها أنوار خارجية تتلألأ على سطح الشاطئ. جلست بعد أن سحب لها النادل الكرسي. ظلت متوترة تسترق النظر بين الفينة والأخرى لحركة المطعم. أغلق جهاز الهاتف النقال الذي كان يتحدث به، معلق وقد لاحظ ارتباكها وتزفيرها لأنفاس علقة في رئتها: نغير المكان.. ما ناسبك!؟
ردت بتسرع وكأنها تحول ابعاد الشبهة: لا.. لا عادي. كان هذا أول ما تلفظته. اخفض الطرف يترك لها مساحة استجماع ذاتها.. ذلك بأن التوتر مغمور سماتها.
أمامها رجل ثلاثيني.. بملامحه الرزينة وأهبة تحيطه وقار، بشعر كثيف فحمي مسرح للخلف. مهذب النظرات ولكنها حادة الطباع. يتسم بوسامة متكلفة، أول ما لفت انتباهها في تصرفاته الغامضة بالنسبة لها هي حركة عض شفته السفلية حين يكون محدق في شيئاً ما، كما يفعل الآن على هاتفه، والتي دائماً ما تصدر دون انتباه منه فهي بالتأكيد إحدى عاداته العديدة. قلبت عينيها في الشاطئ وأنواع المراكب الراسية على ضفته.. كانت ألحان " موتسارت " تعبر بدعة أكبر في الصمت المنثور في أجوائهما.. أعاد وضع هاتفه فوق الطاولة حين تقدم النادل لأخذ طلباتهما، القت ناظريها عليه بينما تراه يرتجل اطباقه وكأنه قد سبق له التواجد هنا دون أن يكلف نفسه عناء النظر في قائمة الطعام... واخيراً قد علمت بأن عشرة أيام عسلها لم تكن مميزة بالنسبة له فهو قد اعتاد زيارة هذه الجزيرة وكُل مكان قد تواجدت فيه فهو ليس سوء محطة قد زارها من قبل.
يختار كل شيء بانتقاء حتى نظراته متفردة لا تليق الا به. تسمرت عيناها على طبقها في محاولة لتجميع شتاتها. بينما وضع زجاج النبيذ "الحلال" بورجوندي... بعد أن احتسى القليل منه، علق على نظراتها المثبتة على طبقها بينما يمسك بالشوكة والسكين: عطيني العلم.. وش يجول في عقلك!؟
التقت عينيها بعينيه حينها لاحظت ميلان فاهه قليلاً لجهة اليسار وكأنه متعجب! ردت بعد مرور لحظات: ما فيه شيء!
ارخى يداه التي تأهبت لتقطيع تلك القطعة من لحم الواغيو الياباني، لعله حان وقت الخوض في نقاش ليُكمل على الأقل ربع ساعة دون بتره بلحظات الصمت تلك.
-ان ما نال الأكل على استحسانك.. ممكن نغير المكان بالكامل.. لك الأحقية في اختيار المكان والطعام المناسب لك.. وعلي التنفيذ.
ها هو يجتاز رقعة أرضها.. الرجل لا يكون رجلًا إلا أن تمتع بسلوك التهذيب مع المرأة.. يمنح لها مساحة حتى وأن كانت خفية.. فالقيمة المعنوية تفوق الثمن المادي!
سنا تسطع من مقلتيها بلا علم منها.. حين وقعت العين بالعين.. وخالجت النفس الاحساس.. بلعت ريقها وأردفت بينما العين قد انزوت عن النظر.. مثبتة على طبقها: لا عجبني.. والمكان حلو.
توقفت يدها عن تحريك فتة الدجاج بالصوص، حين رأته يأكل بيده اليسرى كما المتواجدين المدعين للرقي أو ما يسمى بـ " الاتيكيت"، خلافها فهي غير عابئة لهذه المسميات... استفزها طريقة تقليده لهم وهي التي رسمته بأنه شخص لا يغير مبادئه وعاداته.. لا تعلم لما لسانها زل بنبرة استخفاف: ترى هذا مو تطور وأنت تاكل مثلهم... سم بالله وكل بيمينك. تبسم ابتسامته الجانبية المعهودة كما لو أنه قد يموت لو أكملها، أعجبه ثباتها على مبادئها دون خطو خطوة في التصنع: أنا أعسر. كان في نبرته تهكم ذكي لا يخلو من المرارة. علت وجنتيها حمرة الارتباك قالت معتذرة: اوه ما انتبهت.
رد بتهكم: دايماً ما تنتبهين. صمتت حين حشرها في ركن الحقيقة، فهي حقاً تتجنب التصادم معه في اللحظات.. حضر النادل يسأل إن كانا يريدان تحلية. اكتفى هو بقهوة " هاسيندا لا إزميرالدا " الخاصة به، وأحضر لها النادل عربة الحلويات لتختار. اختارت قطعة من التشيز كيك بالتوت. رشف من القهوة ثم القى ناظريه على ساعة معصمه ليعيد عيناه عليها وهو يقول بنبرة هادئة: جهزي نفسك بكرة الساعة تسعة الصباح.. ثم أكمل احتسائه بأخذ جرعة من القهوة كما لو كان يحتسي كلماته لإكمال الجملة التي انتهت في خلدها بعلامة تعجب! طريقة كلامه التي تحتاج لمزيد من المعطيات تستفزها... حدقت به وكأنها تنتظر الاكمال وقد وضح من تعابيرها... ولم يغب ذلك عليه ولكنه تجاهلها كما لو أنه لم يفهم ما تعنيه نظراتها... زفرت رافعة حاجبه بانزعاج: وين بنروح؟ هز رأسه وهو يعيد كوب القهوة على الطاولة: بنروح الأسواق الشعبية... وأهم الأماكن السياحية في الجزيرة. بعد ثواني ردت بحذر وارتباك: عادي.. ما اروح؟ حدق في عينيها لمدة عشرون ثانية لم تفسر تلك النظرات ثم أردف وهو يلعب بشعيرات دقنه بينما يده الأخرى مرتكزة على ممسك الكرسي: لاحقه على الحبسه... ابشرك بالرياض ما فيه خرجات كثيره. أزعجه افصاحها عن حقيقة كرهها لمشاركته اللحظات لذا إن كانت ترسم الحواجز اذاً عليه اختراع الطريق.. شعرت بهجوم شرس من قبله بعد أن صرح عن حبسها بالرياض وكأنه يخبرها بأنه فقط يتماشى مع تلك العشرة الأيام التي فرضها على نفسه. لِم لا يتفهم شعور الغربة والتشتت اللتان تعيشاه! صمت خيم لدقائق حتى أخرج بطاقته المصرفية ليدفع الحساب.. رغم الضياع الذي عاشته خلال هذا الموعد إلا أنه خُلق مزيج من المشاعر المبهمة.. ذلك بأن القدر كُتب لها أن يبقى ذكرى سيكون من أفضلها وأحزنها. ركبا خلف السائق وانطلق بهما.

لا تحملني خطا ما هو خطاي..لو أنا المخطي كان والله اعتذرتWhere stories live. Discover now