الفصل التاسع والاربعون (الجزء الثاني)

30.4K 221 2.7K
                                    



تبرق السماء بنجومها النوّارة.. لوحة هائلة تذب فيها الحياة في هذه الليلة المميزة بالنسبة لـ تاج التي قضت يومها برفقة زوجها في مخيمه الخاص.. حيثُ كان يعكس الحس الأنيق والمترف، تحيط بها مناظر من قلب البيئة الصحراوية الجميلة.. كان ملاذًا فخمًا ومثاليًا لقضاء ليلة رومانسية بطابع مختلف عن الاعتيادية. تطغى على الغرف درجات من الألوان الترابية والطبيعية ومنسوجات بتصاميم تشتهر بها منطقة الخليج العربي.
كانت اقدامها حافية تسير فو ق الرمال الذهبية بنعومة.. ترفع ثوبها "مخور امارتي" حتى يصل الى منتصف ساقيها القمرية.. يطوقهما خلخالان من الذهب.
كان ثوبها يوضح تمايل خصرها وبطنها التي بدأت قليلة الانتفاخ بطريقة ناضجة مثيرة ومغرية.
يتهاوى شعرها الاملس الثليل مع هبوب النسيم.. تتوقف للحظات وكأنها تراجع شيئًا ثم تكمل مسيرها.. كانت تفكر وتفكر في حياتها القادمة.. كل شيء بدأ في غاية الجمال والسرور.. مشرق ومبهج.
متأكدة بأنهما سيصبحان والدان مثاليان.. فهي تعرف شخصه.. أنه صارم.. عنيد في مبدئه لا يطيق الانحراف.. وإن هدوءه في القول والتفكير لأبلغ دليل على رجاحته واتزانه.. لا سيما حبه الشديد وتقديره لعائلته.. يشبه والده في هذا الجانب.. ولكنه أكثر صرامة وانضباط وهذا ما أشادت به. وهي أم لديها فائض من الحنان والدلال سيوفر اتزان وبيئة صحية لأبنائهم.
التفتت صوب المخيم.. فتراجعت عائدة.. أخبرها مسبقًا بأنه سيأخذ غفوة قبل وجبة العشاء.. قد بدأ منهك ومجهد.. انه كثير السهاد والسمر.
اخفضت نظرها ببسمة تحنانه.. حينما وضعت كفها على معدتها.. حيث كفها معانق لساعة مميزة من مجموعته الأولى والتي سيفصح عنها نهاية السنة.. كانت أول ساعة يتم صنعها من قبل علامته التجارية.. وأول معصم حواها.. فقد اهدائها إياها قبل أربعة أيام.
وبينما تطوف بنظرها تترقب هذا المكان الخرافي المفضل له.. يتعبها أحساس دمث.. لم يساورها من قبل سوى هذه الأيام.. يطوف ويجوب الفؤاد فينشرح ويحبر.
اشرقت معالمها ناتجة عن بسمة طوت على كل تعابير جاثية.. ووميض عجيب يقدح من عيونها حين ران اليها وقوفه بطوله الفارع الملفت للنواظر.. يتحدث بهاتفه.. كان مظهره عشوائي.. بثوبه الأبيض، مشمر عن ساعديه.. فاتح ازرار ياقته وأول زر من ثوبه.
أساريره المشدودة قاسية مدهشة. وجهه، الذي يعلوه شعر أسود قد خففه وحدده حتى برزت شراسة معالمه العنيدة الطاغية.. وضيء مشرق، كأنه جديد. شاربان سوادهما عميق، متهدلان بعض الشيء، يظللان فمه الأحمر الحارّ، الظافر، وكأنه جرح طبيعي جميل.
خففت من سرعة خطاها وهي في نجوة تأملها.. المحب لشخصه.
قبل بوقت.. شد على مقبض يده..  محرر ما كتمه من أنفاس ملهبة.. بشيء حز بصدره.. مما عُلم في إمكانية الوصل الى النقيب.. بسبب قبضهم والتحقيق المستمر مع الخونة الفاسدين، المتسببين في تسريب المعلومات الأمنية لجواسيسهم.. للنظم الإرهابية المنتشرة في البلاد.. عقب أن شكل هو وفريقه -ذوي الثقة، والكفاءة، والخبرة- هيكل عسكري قوي في المراقبة والترصد لأي يد غادرة.
ضيق النظر.. وهو يرفع هاتفه.. ينتظر رد الطرف الآخر.. ولم تمر ثلاثة دقائق حتى أتاه صوت احدى عاملي السفارة السعودية في دولة استراليا.. بنبرة إجلال.. واحترام: آمرني طال عمرك؟!
-وصلتك المعلومات!؟
أجاب بعلم: ايه معاليك.. اعتمد ما راح أطول...
قاطعه بصرامة القول وهو يركز في مدى البيداء الواسعة: لو ما اني معتمد عليك.. ما كنت وكلتك بها يا مقرن.. هذي المهمة شخصية جدا.. البحث الّي بتقوم به ابيه يكون سريع وسري.. وبنتائج دقيقة.. الميزانية المالية مفتوحة لك.. أي شيء تحتاجه خذه.
رفع رأسه قليلًا.. مزفر.. ويحرك أجفانه بتفكير وتثاقل: زين خالد آل مسفر.. وذياب سلطان آل جلوي.. حدد لي مكان إقامتهم.. وانقل كافة تحركاتهم.. وتأكد لي بعد من شغل ذياب.. تعمق في ادق تفاصيل حياته واعماله.. خبري ان له اعمال كثيرة بسدني.
جاءه الرد حاسم ومقدام: بمجرد ثقتك فيني.. يجعلني اكثر احتراز وكفاءة.. كل الّي طلبته راح ينفذ بالكلمة الوحدة.. أوامر ثانية معاليك!؟
-سلمت.. أنت لها قول وفعل.
أغلق جهازه الخاص.. معيده الى جيب ثوبه.. بدل سحنته ذو السلطة.. والسيادية.. الى معالم أقل حدة واستحكام.. وكأنه خلع قناع ليلبس آخر. حين استشعر بوجودها على بعد منه.. التفت ناحيتها.. متعمق النظر فيها.. وهي تتقدم صوبه وبسمة غانية بسيطة قبّلت ثغرها.
خفض جفونه لساقاها العذراوان وترنّحاته.. وكأن الأرض تمور بها لا تهجع عن سرد خطاها.. وقرع الخلخالان تزيد من عبثها.
-مساء الخير.. تو جايه.. بشوفك بعدك نايم! شلون نومتك عسى بس ريحت؟!
مدّ كفه ليسهل عليها الاقتراب منه.. فـ احتضنت كفها كفه.. رفعت اهدابها فوازته بالوقوف والنظر.
هز رأسه مستحكم كفها.. وسار بها: الحمدالله.. احسن.
مشت إلى جانبه بخطوات كلاسيكية كعارضة أزياء في استقامتها وتبختر بثقة.. كأنما هناك خيط لا مرئي يعلقها من عمودها الفقري حتى أعلى رأسها.. وكفها موثوق بكفه.. يسيران فوق السجاجيد الفاخرة.. على طول الطريق وسط الكثبان الرملية الذهبية.. وتحت السماء المزينة بمصابيح الدنيا.. والبدر في عليائه يتربع على عرشه في السماء والنجوم تحيط به.
أمر أن تمد الطاولة في الهواء الطلق.. المفتوح على شساعة السماء.. حال سيرهم جهة تلك الطاولة ذات الشكل البيضاوي.. الحاملة في وسطها زهور وشمعدان ومقبلات رفعت على قواعد ذهبية.. واطعمة بكميات قليلة، في صحون بورسلين كبيرة وثمينة.
تم تجهيز الطعام من قبل أفضل الطهاة بالنسبة لذائقته في الأكل.
بدأت غير راضية فيما تراه.. لم ترغب بعشاء مجرد زينة على طبق مضاعف لثمن الاكل.. صحون تغذي جوعك قبل أن تتذوق زادها.
تقفا نادلتان في كامل قيافتهن.. على بعد مسافة من الطاولة.. تلبية لأي امر او مساعدة.
وحين استوت ماكثة فوق الكرسي على طرف هذه الطاولة.. وقد جلس مقابلها على الطرف الآخر.
سألها: ودك بأكل معين!؟
هزت رأسها بالنفي.. وهي تتفحص الاطباق ذات المكونات الغريبة الغير اعتيادية. أشار بيده للنادلتين فابتعدتا.
حلّ صمت لثواني.. عدا صلصقة الأواني تتموج على المسامع.. بتره بقوله: بتكملين هالترم؟!
-ايه أكيد.. ليش وش تشوف؟!
أعاد آنية الماء بترفق.. ومسح فاهه بالمنديل الحريري.. فأجاب بتباطء: الّي تشوفينه.. بس لو تبين شوري اسحبي.. وجهك مصفر كلما رجعتي من الجامعة.. وعاد الاختبارات قادمة مهب مقصرة بتجهدك.. أنا أقول الجامعة مهب طايرة.. خذي وقتك الين ما تولدين.. بعدها كملي.
قالت بـ إصرار: ما ابي اتأخر في الجامعة.. يكفي الّي فاتني بعد وفاة اخوي.. باخذ هذا الترم وبوقف عقبه...
اقتطعت كلماتها حيثما شاهدت.. اهتزاز رأسه بلا رغبة من مواصلة النقاش.. وعيناه على طبقه: الّي تشوفينه سويه.. دام كل هالاصرار.. على العموم انتبهي على حملك.. ترفقي بالّي في بطنك قبل كل شيء.
كانت تتوقع رد أكثر عطاء وجود.. أن يكون أكثر تودد وولع.. ولكنه كعادته يفاجئها بحسم موقفه.. بالغموض الآسر المستفز.
عُجبت، فـ استتلت بقنوط: مشعل وش فيك الله يهديك!! انا ما قلت شيء يزعل.. كل الّي قلته ابي اكمل هالترم دام اني داومت.. وتوني في بدايات الحمل صح احس بدوخه.. بس موب لدرجة اضيع ترم.
ثم أكملت بنزعة غيرة: بعدين كل كلامك فيه اهتمام لحمودي أكثر مني.. ترفقي بالّي في بطنك.. انتبهي على حملك! ما فيه انتبهي على نفسك.. اهتمي بصحتك! كله حمودي.. كله حمودي.. حتى السواقة طلعت عيوني الين ما وافقت اتعلم...
بتر حديثها معترض، مشير بسبابته: وموب راضي.
-صح موب راضي.. ولا عمرك بترضى علي.. لو اعطيك عيوني بتطلب قلبي! هذا أنت يا مشعل ما يعجبك شيء.
هدأت الأجواء من صخب الحوار فلا صوت يعلو على أصوات الأواني.. ومرت الدقائق خالية الفواض من أي حديثٍ قد يدار.
تبصرت فيه.. فكان في سلوة عنها.. وعالم غير العالم.. زفرت أنفاسها.. متلقفة المنديل الحريري.. ومسحت فاهها.. ثم وقفت تميس لمكانه.. ورنين خلخالاها يضيف من أنثوية مشيتها المتهادية.
وضعت يديها على عوارضه.. ووجهت وجهه ناحيتها.. اخفضت رأسها قليلًا لآثمة جبينه.. قالت وهي على مقربه منه: وش فيك يا حبيبي! صاير عصبي على ايش شيء؟
تهاوت بجسدها على جسده.. فمكثت فوق فخديه.. ويدها منفرجه على صدره.. بينما الأخرى امسكت يده فجعلته يتحسس بطنها ورسمت بسمة حانية على معالمها.. فحواها بذراعه.. وأخذ انفاس من شداها.
أكملت بتناغم أكثر عذوبة.. لكنه عميق أيضًا.. والنواظر قد ازلفت على بطنها المستحكمة من قبله: عشان ولدنا لا تعصب.. موب قلت ضروري نفسياتنا ترتاح قبل لا يجي حمودي!! أنا معرف وش يشغل بالك هالايام.. ووش معصبك ومخليك ما ترقد زين!! واعرف انك منت بقايلي لو سألتك.. بس تذكر البيبي بيهون عليك كل شيء.. هالايام يا حبيبي ضروري نستغلها ونفرح وننبسط ما نترك شيء يكدر خاطرنا.. صح مشعل.. تتفق معي ان ايامنا صار لها طعم أكثر من قبل.. ما حسينا بها حتى في بدايات زواجنا!؟
أطرق برأسه وعيونه فقط تديم النظر فيها بنظرات عميقة مفكرة.. وكان واضحًا من جملها المسرودة.. أنها تتوصّل إلى ذلك، بكل عفوية، ودون تمهيد.. لشدة ما تحس وتآنس.
تابعت بحماس يتوهج من منتصف صدرها: كل المشاكل الّي مرينا فيها.. كلها مشعل كلها.. أصبحت عندي ذكرى من الماضي طويتها.. والحين أعيش واقعي ومستقبلي بكل حب وفرح.. أنا مؤمنة ايمان قاطع ان القادم مشرق وحيل.. حيل جميل.
كان يصغي إليها. تطوف على وجهه ذي التقاطيع الدقيقة، ابتسامة طفيفة من اشراقها كُل اردفت بكلمة.. فهي تعني ما تقول وتقصد.
أعاد خصلت شعرها التي سقطت على ملامحها خلف أذنها.. ثم أمسك غمازة ذقنها المحمرة.. قال: فرحانة هالكثر يا أهلي!!
أفرجت عن بسمة حتى بدت ضواحكها: ايه.. فرحانه وفرحانه وفرحانه.. وأنت مشعل منت فرحان مثلي!؟
بلل شفته وكأنه يراجع قوله الذي لم يقوله يومًا لنسائه.. كان رجل كثير المتطلبات والمعايير.. للذته وشغف رجولته.. لا لمشاعر واحاسيس، واحتياجات عاطفية.
ولكنه بدأ أكثر هدوء.. واستحكام.. وبدأت أصابعه تتحرك بخفة على بطنها: بطلب منك طلب.. ما قد طلبته من شخص.. لاني ما احتجت له حتى في الشدايد والثقال.
بلعت ريقها.. وهي ترمقه متفرسة متفحصة.. فارتعدت فريصتها: بسم الله مشعل لا تخوفني!!
تراجع بظهره بأريحية أكثر.. وبات أكثر استكنان: ما فيه شيء يخوف عشان تخافين.. مجرد طلب وابيك تنفذينه.. ان كان عندك القدرة الكافية له.
سكت لبرهة.. وعيناه قد ثبتت بتعمق في سوداويتها.. ثم واصل بعد شيء من الصمت: الأيام المقبلة شداد.. أمور متعسرة معي.. ونا ما ابي شيءٍ منك غير تدارين وضعنا.. وتقدرين الّي بينا.. لا تعصبين.. لا تعاندين.. لا تتحسسين من أي كلمة اقولها.. وان صار فيه مشكلة.. أو سوء فهم.. مرريها.. تساهلي معي يا تاج.. تساهلي لأقصى درجة.. أعرفك عصبية وما تضبطين نفسك.. بس عندي أمور كثيرة معقدة.. عشان كذا ابيك تدارين الّي بينا وموب كل شيء تزعلين منه وعليه.. أي تصرف اتصرفه معك ما يجوز لك فهو ناتج عن ضغوط عمل.. فهمتي!؟
طأطأت رأسها بفهم.. ليتابع: زين.. بس تقدرين على مزاجي!؟
عضت شفتها السفلية.. ممسكة بشحمة أذنها.. عاقده حاجبيها.. ثم أجابت: صراحة انا حيل عصبية ومقدر اتمالك نفسي.. وازعل بسرعة منك.. بس عشانك بحاول أوصل للي تبيه.
ضيق عينه: ما سبق وطلبت من يعاوني.. علميني سرك يا بنت مساعد.. وش مسويةٍ لي؟!
أجابت بسطوة وتلاعب.. وتحرك أصبع سبابتها على صدره: يقولك دعوة المظلوم مستجابه.
ضحكت فاستبانت نواجذها.. حين قرص خصرها: راعية لسان طويل وأنتِ الصادقة.
ثم أحنى رأسه بتقدير.. ممسك كفها مقبله: شكرًا.
تبسمت بحرج: العفو.
لاحقًا فقط ستسبر كم كان صادق في قوله هذا.. وكيف كان متعلق بشخصها، وهو الذي ما اعتاد ان يختبر هذا الشعور يومًا. ولكنها لا تمعن كثيرًا في ما يطرحه وما يُفضح على مرأى منها. كان لها من المباهج والسعادة ما يشلّ تفكيرها. لم يحدث أن كان أكثر تلقائية وصدقًا ممّا هو اليوم، ولا كانت أقرب مما هي هنا. لكأن الطبيعة الصحراوية وازت بينهما.. هو الآن مثلها في بساطته وعفويته.. يتقاسم معها بالتوافق الهواء النقي.. كما يتقاسم معها المشاعر والاحاسيس.

لا تحملني خطا ما هو خطاي..لو أنا المخطي كان والله اعتذرتWhere stories live. Discover now