الفصل الحادي والاربعون

25.7K 237 50.2K
                                    



"بداية السقطة عثرة"

فرجت عن كفها أمام عينيه لتلقي عليه بظرفيّ حبوب كانت قد حذفتها باستصغار صوبه ولم تزل عينيها عنه كتحدي، كالتقاط لنظراته كما كان يلقي على مسامعها خبر زواجه.. ككل دموع البؤس والنياح.. ابتسمت باستحقار وتشفي: ما تسائلت يا الضابط يا مطمع كل الحريم ليش للحين ما حملت منك؟ قلتها لك محمد ما بيجي دام أبوه ما اعتدل ولا ظنتي بيعتدل ولا يهمني أساسا.. اي نعم استخدمهم وتدري من متى؟ عقب ليلة دخلتنا.. ذيك الأيام لما ردينا من الدمام وقلبي ماهو مطمني من ناحيتك.. عقب ما ادخلت عطيتك حياتنا وعرفت إنك ما تستاهل تصير أبو لولدي.. وصدقني أكثر معروف سويته في حياتي إني تمنعت عن رغبتي في الأمومة.. لكن ذا كله من الماضي ونا حاضري يبو خالد هو انفصالي عنك.. ماراح اتكلم فيه كثر ما تكلموا عيال عمي.. بس ما هان علي تقبل على مجلسنا وما اشوفك مصدوم وأنت مستغقل بالضبط مثل الحين.. وصدقني الود ودي اتغطى عنك مثلك مثل أي رجال في الشارع بس لا.. ابيك تشوفني ونا متشفية فيك.. مثل ما شفتني مكسورة عقب زواجك علي.. كادت أن تكمل إلا أنها رجفت شفتها بلا قدرة لها.. قوة كلماتها لامست أطرافها.. هزت مكامن وجدانها.. وراجة عينيها أن تكف دموعها.. ناشدتها لا تدمع.. اغمضت كي لا تفيض الا أن هتونها افاضت.. عقدت إبتسامة على وسع، فزاد معالم الجرح متخلل سماتها، وراحت تمسح ببطء واسهاب.. وهي تحدق فيه: هالدموع اللي ذرفتها.. تخالف احاسيس ما سبقها من دمع.. مب أنا اللي اطعن في الظهر.. لا تربيتي ولا شخصي يتوافق مع فعلتي.. بس حدني زماني.. شفت هالبزر وش سوت فيك.. يالله ما عليك امر ارمي علي اليمين.. صدقني تستاهل وحده تحشمك وتقدر وجودك في حياتها.. وما تقول الا سمّ وابشر.. ما هن بناقصات العقول اللي على كل كلمة تعلك!
ذكرت آخر كلماتها بسخرية جلية تقصدت أن تشكلها على محياها.. أخفت عنه حزنها متعمدة.. رغم توجعها ما بانا.. أخفت كسرًا في الفؤاد ببسمةٍ.. عمن تحب كأنه ما كانا.. وفي صدرها بكاء الملكوم.. يذرف صرخات ونياحًا! فكيف بالكتمانا!
كصب المستهام.. عيونه لا تزيح من عليها.. تعرفه كيف يخفي جموح غضبه، وما ينهجه من تصرفات تتناسب مع مقام شخصه.. وهذا ما لا تتمناه، تريد إشعال فتيل اعصابه.. حتى تخرج اسوأ ما فيه! ولكنه ضابط رفيع الشأن في الاستخبارات العامة.. يمكن ان يخفي سير حقيقة انفعالاته.. ما أقساه! عجبًا!، كل إنسانٍ يضفي عليه من آيات المديح ما يضعه في مصاف الانسان الكامل. كلهم يبجلونه، ويعظمونه، ويصفونه بالرجل العادل الذي يرعى الحق، إلا هي، ومن يعرفه أكثر منها! لقد عاشرته زمنًا، وخبرته، وسبرت غور نفسه. وهل في الدنيا أقسى قلبًا منه؟ ألم يذل نفسها، يقهر روحها، ويميت عاطفتها؟ شهور قضتها في كنفه، لم يشعر هذا الرجل الصلف المغرور طوالها أنها امرأة رقيقة تطمح ببصرها الى الحب!
صدمة قد رنت في داخله! وشعر كمن أصيب بطعنةٍ نجلاء في حماطته، يشعر شعور المدنف الذي برح به السقم حتى أشفى.. كيف لها أن تأتي بكل بسالة وترمي استهجانها منه!! لا احد يشهر بتلاعبه امام مرأى عينه! كلهم خلف ظهره يحاولون جاهدين في اطاحته.. ليس لديهم الجراءة والقدرة على الوقوف حياله.. فكيف بالفتاة التي لم يضع كيدها في الحسبان أن تقف بكل هيمنه وتلقي كلمات الاستصغار من سموه! أصبحت خطيرة عليه.. فيها من اللؤم والطعن الذي لم يعهده في النساء.. تتفنن في التبصر في سماته بكل غطرسة.. فنظراتها حازمة لا تلين لعاطفة.. ألم يقولوا "أعلِّمه الرمايةَ كلّ يومٍ.. فلما اشتدّ ساعدُه رماني" انها تبارزه بذات مرادفاته وقوة حضوره.. لا خشية ولا رادع يوقفها!
فكل رجلٍ شريفٍ لا يغضي عن إهانة بل يكيل الإهانة لسواه في غير تحرج أو تردد... ورأى أن لا محيص من الوصول الى قرار سريع، فهز رأسه ببطء.. واجمع فكره فقال بحزمٍ ووضوح: ماني مواخذك ولاني معاتبك.. فعلتك هذي تدل على ضيق فكرك.. تبين تبارزين بها انسان وأنتِ غلطتك شملت شرع ودين! استغفري ربك واطلبي المغفرة والسماح.. ما يحدنا الزمن ونغلط في الشرع.. ان كان غلطتي في مشاعر فغلطتك اكبر واعظم!
إنه ينتقم.. ينتقم.. وهذه سجيته.. وهذا طبعه! وكان شأنها شأن المغلوب، المقهور، المغلول اليدين، المشلول الحركة، الذي يتمرد ولا يجهر بتمرده، ويعصي ولا يعلن العصيان.. إنه اللؤم المتجسم.
قالت بحدة وهي ترفع اصبع سبابتها بانفعال قد اظهر علنًا: غلطتك هالحين صارت بسيطة! وكسر الخواطر امره هين! أنت كذبت ونافقت وعودك.. وكم من كلمة اردفت بها قدامي.. اطلعت مشاعرك كلها زيف ووهم!
-ما اخلفت شين مما ذكرتيه.. مادامنا في مسرح الحياة.. فحنا معرضين لأمور خارجة عن الإطار.. ونسحب كلمة اردفت بها ألسنتنا.. قولنا مهب قرآن لجل يبقى صامد وثابت.. ان حدك زمانك على مخالفة الشرع.. أنا حدني على قبول العطية.. ما هب عيب الاعتراف بالغلط.. العيب أن تصد وانت غلطان.
هزت رأسها بقلة حيلة.. وبسمة اغتصبت ملامحها المكدرة: هالحين صار الغلط راكبني من ساسي لراسي! يا قوة وحزم منطوقك.. تعرف تصف الكلام صف.. هو صحيح انك غلبتني في النقاش كما دايم.. بس ما راح تفوز فيني.. ماني حي الله بنت. ثم أكملت بإقدام بعد فينة: طلقني.
أخذ انفاس عميقة.. وهو ينكس عصاته.. اقترب منها ولم تتراجع.. بل بقيت متململه مكانها.. ابعد حجابها ليظهر منتصف شعرها، فأسقط على كتوفها.. انسلت بعض خصلاتها على معالمها.. وقال بينما كان يكمل بفتح الازرار العلوية للعباءة: ماهي بقطعة قماش تمحي اسمي اللي تحملينه.. قولي أبو خالد.. مشعل.. ولد آل مسفر.. مجرد أسماء اعتز بها.. ما هب محرزه يا تاج تنسفين ملكيتي لك.. وانا رجال ما اتنازل عن حقي.. اخذه اخذه لو الجميع وقف ضدي.. هذا هو نهجي.. ومسامحه يا اخت محمد امسامحه على غلط اقترفتيه في حق نفسك اولًا ثم في حقي.
وكان مع كل ما يقوله ويقوم به.. يزيد أكثر في تشويه داخلها.. جاحظة العينين.. لم ترمش مأخوذه بوقع كلماته.. هل يعقل بأن الحق اصبح معه بدلًا عليه! زادت توسع حدقيتيها وهي تراه يعدل نسفة غترته.. ثم قال بإيجاز دون أن ينظر لها: امكثي في بيت عمك فترة.. لين اعود واخذك.. يالله فمان الله.. انتبهي على نفسك زين. اقترب منها طابع قبلة على جبينها.. وهمس: استودعتك الله.
خرج برأس مرفوع وقوة معهوده منه.. لم تحصل على مبتغاها.. أنه في كل ما يفعله.. يرفع شأن نفسه اولًا.. ويحتكم للرأي السديد، فلا يجعلك أن تأخذ عليه زلة.. إنه يعرض عليها الاستمرار في حياتها الزوجية، وهذا جميلٌ، بيد أن له معنًى خطيرًا، ومعناه اختيار الجحيم وإيثار نار السعير.
تململت واقفه لا تكاد تفقه ما آل اليه الامر.. كسيارة انحرفت عن المسار المخطط له! ان تصبح في ثواني انت الكاذب الاشر! هذا ما لم يكن في الحسبان.
خرج بعد أن ضرب الباب بعصاته.. وهو يقول بنبرة غليظة وعينيه لأسفل: يا ولد.. يا ولد. أكمل سيره بعد أن سمع صوت سعود يخبره بخلو الطريق.
وما أن اشرف على الفناء.. كان يقف سعود وعلى محاذاته أخويه راكان ونايف.. أقترب ماد يده للمصافحه.. قال بولاية واستقواء.. وهو يشد على يد الاخر مشخص البصر: يالله فمان الله.. اشوفكم على خير جميعًا.. ومرتي في حفظ الله.. ثم في عهدتكم.. هقوتي فيكم خير يا عيال سلمان.. لنا جلسة ثانية أن أراد الله.
كانت ملامحهم جامدة تشير الى علامات تعجب من ثقة منطوقه، لم يحاولوا ان يستشفوا ما وراء كلماته.. فمن يسمعها سيعرف مدى واقعيتها.. لا الوقت ولا الموقف يستدعي لمبارزة كلامية.. فلربما تاج أرادت البقاء على ذمته.. فهم رجال حكيمين ذو طابع سليم في اتخاذ موقف الحزم واللين.. اتخذوا موقف المودع للضيف.. غير أن اردف نايف حين هم الاخر بتوديعه وقد كان آخر الصف: حنا احرص عليها من نفسها.. تاج ما تشكي باس وهي بين اخوانها وعزوتها.. ردوا الأمانات الى أهلها.. وأنت رديتها وما قصرت.
ابتسامة طفيفة رسمها على محياه.. فيه من الجبروت الحازم.. والنفوذ الطاحن، فيه من السيادية الناضجة والبارزة في كل ما يفعله من إيماءات وتعابير: حق الملكية باق لا يزول ما بقي الشيء المملوك.. عندك أي اعتراض يا طويل العمر.. هات ما يبرهن ويثبت قولك.. دامها لا تزال حرم مشعل آل مسفر.. فهي في ولايتي وعصمتي.. ويالله يا رجال برخصتكم.. ودعتكم الله في حفظه ورعايته.
وسار بملامح جامدة.. مرتدي النظارات الشمسية.. تخفي اشتداد انظاره.. واحمرارها من انفعال غزا معالمه من تلك المتعسفه عن أوامره.. كيف لها أن تحرمه من طفل أراد ان ينجبه رحمها! كان قد تغاضى عن سؤالها في تأخر انجابها.. وحين لم يُرد إحراجها.. لقد أثار كفة الاعذار عن كفة الاتهام! ولكنها لم تأخذ سكوته عنوةً فقد فضلت الخداع عن الوضوح.. والصد عن الوصال!
تكررت عليه إهانتها له.. في ذات المكان وذات النظرات.. في أول يوم لقياهم، ها هو الزمن يعيد نفسه.. ولكن في ظرفًا آخر ومشاعر معاكسة.. وشد على المقود ينفس عن تلظى استجمعت في صدره.. ففتح ازرار ياقته.. واسرعت عجلات مركبته.. فلم يتنبه على ابواق السيارات المدهوشة من السرعة المهولة.
ولكن يجب أن ينازلها مادامت تعنيه! ولكن عشقه لها بدأ يعيقه عن سداد رأيه وعن مبدأه.. أشعرته على مدار الشهور الذي قضاها بجانبها.. عن عجز قد أفتك خليته في تجميعها وإبقاها تحت سطوته.. إلا أنها تفلت في كُل مرة يعتقد أو يتوقع نجاح خطته.
توقفت مركبته على جانب الطريق بعد قطع مسافات مأهولة لم يشعر على نفسه الا وقد برز له الرمال الكثيبة.. نزع غترته.. وأعاد شعره الأثيث للخلف.. والصمت سيد المكان.. زم شفته ويده تتلاعب بشعيرات ذقنه.. التي بدأت بعضها تكتسب اللون الرمادي.
لقد ركن إلى رأيه، وأيقن أن طريقته تلك هي الطريقة المأمونة، وهذا شأن كل واثقٍ من نفسه، ليغوص في لجةٍ سحيقةٍ لا قرار لها!

لا تحملني خطا ما هو خطاي..لو أنا المخطي كان والله اعتذرتWhere stories live. Discover now