لا تحملني خطا ما هو خطاي..لو...

By rw_suhad

1.2M 11.9K 249K

وعيونك هذه جمر، لابد ستنطفئ. فهيَّا غادر الآن. غادر وأنت مشع. غادر وأنا أبكي غادر قبل الغروب، قبل أن يحل اللي... More

المقدمة
الفصل الأول
الشخصيات
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون (الجزء الأول)
الفصل العشرون (الجزء الثاني)
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الفصل الخامس والعشرون
الفصل السادس والعشرون
الفصل السابع والعشرون
الفصل الثامن والعشرون
الفصل التاسع والعشرون
الفصل الثلاثون
الفصل الحادي والثلاثون
الفصل الثاني والثلاثون
الفصل الرابع والثلاثون
الفصل الخامس والثلاثون
الفصل السادس والثلاثون
الفصل السابع والثلاثون (الجزء الأول)
الفصل السابع والثلاثون (الفصل الثاني)
الفصل الثامن والثلاثون
الفصل التاسع والثلاثون
الفصل الاربعون
الفصل الحادي والاربعون
الفصل الثاني والاربعون
الفصل الثالث والاربعون
الفصل الرابع والاربعون
الفصل الخامس والأربعون (الجزء الأول)
الفصل الخامس والاربعون (الجزء الثاني)
الفصل السادس والاربعون (الجزء الأول)
الفصل السادس والاربعون (الجزء الثاني)
الفصل السابع والاربعون
الفصل الثامن والاربعون (الجزء الأول)
الفصل الثامن والاربعون (الجزء الثاني)
الفصل التاسع والاربعون (الجزء الأول)
الفصل التاسع والاربعون (الجزء الثاني)
الفصل الخمسون
الفصل الحادي والخمسون (الجزء الأول)
الفصل الحادي والخمسون (الجزء الثاني)
النهاية

الفصل الثالث والثلاثون

14.5K 136 757
By rw_suhad



"عذرًا لا مقدمة لهذا الفصل، العبرة في النهاية."

لا يزال النقاش قائم في المعضلة التي وضعهم بها تركي وغادر.. انقضت ساعتين وأكثر وقد اسهب مشعل شرحه لقضية أسيل، يحكيها لوالده بكافة تفاصيلها.. ولا جدال في دهشة الآخر لما حصل لهذه الفتاة المغدورة، وعائلتها المكنوبة.. كان واضعًا يده على رأسه في إشارة للاقدرة على التحمل والذهول والمباغتة والحيرة.. ليصل مشعل نقطة النهاية معلنًا: والولد أنا أخذت الاعترافات منه كاملة وهو الآن معي بطريقة غير شرعية.. بطلق سراحه لو تأكدت إن أهلها ما بيتعرضون له أو على الأقل تكون مرت فترة على الموضوع.. تدري هالأمور فيها قتل وثأر ونهايتها سجون وقصاص.. الله يكفينا الشر. ليأخذ شهيقه متدرجًا بإيصال الهدف من تواتر كلماته ربما بخطة عسكرية تنظيمية: لجل كذا قلت لك عبدالإله ما يصلح ياخذها.. أخوي وأعرفه لو بس استفتحت وقلت إنها مطلقة بيرمي الرفض وبلا أي اعتبار لا تقول ما يرد لي طلب لكن هو كذا تفكيره وما بتغير فيه شيء.. فما بالك لو بالصدفة أو الافتراض أو أي احتمال قدر يتوصل لماضيها والقضية ذي بالذات؟ بيفضحنا مع عبدالمحسن وبيطلق بنته وبيشب الدنيا نار.. تبي أكمل ولا اقتنعت؟
تنهد بقلة حيلة: طيب نفاتحه لو رفض نشوف غيره.
فتح أزرار ياقته وهو يهز رأسه رفضًا: وش هالبنت اللي تنعرض على عيالك يبو بندر؟ أنت كذا بتقطع الشك باليقين وبتفتح العيون عليك.. يالله بس يقتنعون أنك تبي تقوي العلاقة مع أهل فيصل عشان تخطب من بيتهم ولا يخفى عليك أنهم يدرون بعلاقتك مع عبدالمحسن.. اصرف النظر عن عبود.
فرج يديه كناية عن الحيرة متسائلا بانفعال: ومن بقى يا حضرة الضابط! خلصوا عيالي كانك تعرف اخو لك أنا ما اعرف عنه عطني علم الله لا يهينك محتاجه بفزعة.
قهقه بتلقائية من نبرة والده وانفعاله.. ليكمل خالد بقطع: لا تقول لي واحد متزوج.. تاليها اتسبب في بيوت عيالي! هذا غير إن ماهي زينة في حقنا وحقه.. بيقول مستكثر عياله على بنتي وعطاها متزوج.. وبدال لا نكحلها بنعميها. تبسم لابنه الذي استرسل بالضحك مخفضًا رأسه كي لا يوبخه.. طبطب على ذراعه متابعًا: أنت تضحك وذاك انسحب وأنا اتركوني ارقعها بلحالي.
مسح وجهه بابتسامة تعلقت بعد ضحك انتابه ليرجع صوته بهدوءه واتزانه: لا والله ماهو قصدي.. طيب مهند ليش مجنبه؟ أشوفه مناسب وبيسهل علينا أمور كثيرة.
صفق يديه باستغراب وسؤال يتوجس صدق مشعل بما يقول: أنت صاحي؟
احتدت معالمه للجديّة وهو يبعث كلماته: عشان قضية محمد الله يرحمه؟ أبو فيصل يشوفنا كلنا قتلة ما اوقفت على مهند.. بعدين دام فيصل أخوها وهو يعرف بأخلاق أخوي وطينته بعيدًا عن الزلة اللي ارتكبها وهذا دافع قوي نحصل على الموافقة.. ومهند متساهل ومرن يعني بياخذها حتى لو مطلقة.. ولو درى بيوم بقضيتها بيوقف عنده الموضوع.. باختصار يالشيخ مهند الخيار الصحيح بالمكان المناسب.
أطرف نظره لابنه وبتساؤل يوجب التأكيد: تهقى يا مشعل؟ تعبت من التفكير اقلبها يمين وشمال وأقول يالله سلّم.
تبسم بموافقة: اي نعم ازهلها.. بس أنت اقنعه أكيد أنه بيرفض بالبداية ولا لو تبي أنا بكلمه..
قاطعه خالد: لا أنا اللي بكلمه.. لما تجي مني بتكون الموافقة أسهل.
طبطب على فخذه بخفة: الله يكتب اللي فيه الخير.. يلاه قم معي عشان المطرود يرد جناحه.. قالها بمداعبة ليردف خالد بحنق من تصرف تركي ببعض من الوعيد والتهديد.

****

فتحت عيونها بكسل لتعيد إغلاقها.. تشعر بدفئ على جسدها الصلد. لمسات تنتقل على ظهرها العاري من أي قطعة يكسوه حتى الاغطية الحريرية التي كانت تضمر بها جسدها.. ارتخت على جزء من ظهرها.. وتاركه الجزء الأعظم جلي.. بالرغم من أنها احست بأطرافها ترجف من برودة تداعبها الا أنها تحس بتدفئة لطيفة على جيدها.
سرعان ما ابلجتها مرة أخرى عندما تذكرت وجوده بجانبها.. عاجلت بكمش الغطاء على نهديها وهي تلف جهته تتأكد مما كانت تشعر به.. أيقنت أن تكهناتها قد أصابت كبد الحقيقة، وها هي في احضانه.. يبادلها النظرات بلا تعابير.. أبعدت ناظريها عنه حين استشعرت قربهما.. وخاصة بأن جزئه العلوي مكشوف.. فأنثنت للجهة المغايرة تحجب عيونها عنه. بينما كانت تبحث عن المنشفة في باطن الغطاء وستذكرت ذاكرتها ليلة الامس ومعانات الامس.. من تصرفات غير منطقية، وتهجم مختل، شنيع.
توقفت عن البحث عندما سطت ذراعه محاوطه خصرها، فجذبها ليرتطم ظهرها بصدره.. وأنفاسه تتصادم على عنقها وأذنها، فتزيد رجفة واختلال أحاسيسها.
همس بالقرب من أذنها: خليك مكانك.. فيه كلام كثير ابغى أتكلم معك فيه.
أجابت وعيونها توقفت عن الجولان والرمش.. بذات الدرجة من الصوت: ابي اروح بيت هلي.. بعد اللي سويته امس ما في شيء ينحكى فيه!
زاد خفقان قلبها وهو يقلبها لتتسمر عيونها في خاصته ذا النظرات المهلكة، والحادة.. بلعت ريقها ببطء كما عيونه التي انهفت على شفاتها الممتلئة، المحمرة بسبب البرودة التي تشعر بها.. وكأنها كرزة قد بلغ نضجها.. فحاول التقرب منها الا انها صدت للجهة المتباينة. امسكها من فكها معيدها لمستوى نظره: زين!
-ما ابي أتكلم معك.. عمري كله محد مد يده علي.. تجي أنت من لا شيء وتعطيني كف.. وفوق كل ذا تأخذ جوالي وتقفل في وجه امي.. وغيرها كثير من حركاتك اللي ما لها داعي.
رفع ذاته، وخلل انامله داخل شعرها المموج بطبيعته.. وتفوه ببحته الاجشه: اسمعيني بالاول وبعدها اهرجي باللي تبينه.
أخذ الصعداء وأصبحت يده الثانية تتلمس خدها المصوب عليه واقعت صفعته: بالأمس وصلني اتصال عن شغلي وتعسرت أمور كثيرة.. واصلًا ذي الأيام مضغوط لابعد حد.. اعتبريها زلة ومعد بتتكرر بس اللي ابغى انبهك عنه.. ان شفتيني معصب واخلاقي في خشمي لا ترادديني.. انا مو برز تاخذين وتعطين معاه وقت الانفعال وتفكرين ان ذا راح يهديني ما تدرين انه يزيدني عصبية.. من هالحين أقول لك ان شفتيني بهالحالة خليني في حالي لا تجادلين او تسألين.. عشان لا اذيك ولا تأذيني.. تمام كذا.. وصل الكلام؟!
-بس هذا مو حل! يعني كل ما عصبت يا انك بتبعد او بتكون بنفس حالة أمس! قطعت كلامها وكأنها تستعيد وتذكر كُل ما جرى في الأيام الفائته، لتستكمل بمنطوق أكثر استعجاب وإدانة: ما جت على امس ذياب.. أنت من يوم زفافنا وانت متغير وصاد.. هم بعد الشغل! وش هالشغل اللي يخليك تتسبب في فرحة ليلة العمر.. الا ان كنت ما هامك ولا حاسس بقيمت ارتباطنا.. او انك مجبور فيني؟!
شحيح ابتسامة ساخرة عرضها، وسريعًا ما تلاشت حينما اردف: مجبور! وش شايفتني أبو عشرين سنة عشان انجبر على زواجه؟
-هذا التفسير اللي طلع معي.. ولا وش يخليك تعرض عني بهالشكل! لا تبرر وتقول شغل كل انسان عنده اشغال بس بهالطريقة والعصبية اللي انت فيها ما شفت.. قصّمت كلماتها مستكمله بثقة وتحدي: اول ليلة لما رحت وتركتني بلحالي وخذت جوالي.. كنت على أساس اطلع واعود بيت ابوي.. بس انت جيت وعطيتني خبر وفاة عمي سلمان وما قدرت افكر عدل.. وصبرت أسبوع طلعت لك اعذار من تحت الأرض وكل ذا لاني ما ابي اهلي يسون لك مشاكل.. تعرف لو يدري ابوي والله ان يقوم الدنيا ولا يقعدها..
قاطعها برفعة حاجب مستنكر وتخللت محياه إبتسامة إمتهان: يعني تهديد ذا.. ولا شلون؟!
-افهمه مثل ما تبي.. لاني للحين في داخلي غصة من حركة امس وحركاتك ليلة زواجنا.. يومك كنت عابس طوال الوقت حتى المصورة استغربت الوضع.. وبعد ذا كله ترفض انك تنزف معي.. خربت كل لحظاتي ذياب.. ما كانك نفس الشخص اللي في أيام الملكة.. تغيرت حيل!
غضت بصرها وهي تعاود شد الغطاء بكفها الأيمن، المتراخي على المخدع.. حينما اقترب منها مقبل طرف شفتها. فارتعدت من داخلها كوتر آلة هارب، حينما مرر إصبعه على عمودها الفقري.. أبعدت رأسها وأدارت له ظهرها دون أن ترمش. امسكها من عضدها أثابها لما كانت عليه.. موضح: ما تغيرت يا زين.. بس انتِ اللي ما عرفتيني عدل.. من يومي ما اتحاكى وناقم على كل شيء.. ما راح اعيشك حياة وردية من الحين أقول لك.. وهم بعد ما هي بسودا.. يعني بين البين.. ومشاكلنا ما هيب موضوع نقاش عشان تعلمين هلك عنها.. كل ما يحصل بينا يبقى بينا.. واللي صار امبارح بإذن الله ما يتكرر كلها زلة وعديها لي.
أثناء كلماته التي سردها.. استرخت قليلًا وظلت تتابع بصريه التي تطوف ملامحها.. فصمت وبادلها ذات النظرات.. وقالت قاطعه تفحصه شبرًا شبرًا لها: متى بنرجع الرياض؟!
وضع كفه على خدها، فحتواه.. ورد مقترب منها، حتى خالط أنفاسها أنفاسه فصعدت في عروقها موجة حارة ووهرْج لم تبلَ مثله: بعدنا بنجلس أسبوع.. وش لها مستعجله.. وثانيًا لو بنعود تراك رايحة لجدة.. الرياض بنأخذها زيارات محنا مطولين فيها.
لعقت شفتها باضطراب من قربه المُهيب، فأجابت وهي تراه مركز النظر في ثغرها الراجف: بس انا ابي اشوف اهلي اول ما نرجع من فينا.
تدريجيًا رفع بصره لها، مع هزت رأسه: بتشوفينهم زين.. بس هالحين ابيك تقومين وترتبين الأغراض بنروّح مكان ثاني.
-وين؟
رد بفتور وإبهامه على طرف شفتها يتحسسها، كما لو أنه يتحقق من رغبته وتزعزع غريزته.. في تقبيلها على حين غرة تمشي الرغبة بلا انقطاع بجسده: في مكان ريفي بيعجيك.
لم يستمر تبادل الحوار اكثر.. فراح ملتهم ثغرها برغبة مسعورة، تولد الوحش داخله.. والكون كله احترق ولم يعد سواهم في غرفة نوم زجاجية مظلمة بفعل الستائر المتلعفة حاجبه ضوء الشمس.. ومع هذه المتعة المشتهية.. استرجعت الذاكرة الى مكان تحشرجت فيها النفوس وضاق به الحال فقادته اقدامه الى البغي والفسوق.. استشعر أيام داجنة لئيمة.. مبتعد عن ثغرها الممطر للكوارث.. به معاني تشبه الورود وشيعة الشياطين عندما يلثمه.. فرفع ذاته عنها بطريقة مدورسة منسحبة، يشعر بوخزات داخل صدره من انساحبه ومن تقربه، ليقول بصوت لا نبرة فيه سوء فراغ وهو ينظر الى ابعد نقطة قد تتلاقى عيونهم فيها: تجهزي عشان لا نتأخر.

****

قسم سحاب
حول مائدة الغداء المعد بطابع شرقي بحت.. لم يكن الكثير من سكان هذا القسم متواجدين، أسامة ورفيف، خالد وسحاب.. يتشاركون الطعام وسحاب التي تحكي لهم مما بجعبتها وخالد يرد عليها بذات التفاعل وسط صمت الاثنين المتبقين.. فتلك قد أشارت لزوجها ببدء الحوار الذي قد تناوله منها مسبقا.. ليشرع بهدوء: يبه.
حوّل ناظريه إليه بتلقائية: سم.
قال بينما توقف عن الأكل: بعد إذنك تغير منصبي بالشغل.. أكمل بتردد: يعني أنا أقل واحد من أخواني...
قاطعه والده باحترام: تكلم عن نفسك.. مالك شغل بأخوانك.
زفر الهواء براحة: ابي ترقية يعني ما يصير كل ذا المجهود على منصب مثل منصبي هذا وأنا بشركة أبوي.. لو إني بشركة ثانية أكيد مكانتي أعلى.. صراحة أشوف إنه ظلم بحقي. قال آخر جملة بصوت منخفض كمن وجب عليه قولها ولكن يخشى إظهارها.
كان ينظر لإيماءاته المندفعة ويستمع لنبرته المترددة وعينيه تقع على رفيف التي تمثل الانشغال بوجبتها وكأن الأمر لا يعنيها أو بالأحرى ليس من تخطيطها.. حبّذ مطاوعة ابنه بكل ترحاب وما إن أنهى كلماته ليرد بهدوء: وهل أنا مقصر معك بشيء؟ قلت لكم الحلال كله بين ايدينكم خذوا اللي تبون.. تفرق معك المسميات؟
أجاب بخنوع وهو لايتفق بما يقول: ايه.. يعني هالتفاصيل مهمه وتعطي تحفيز لجل تكمل شغلك بذمة وضمير.. عبدالإله منصبه أعلى مني رغم أن مهاراتي بالشغل والتفاوض تتجاوزه بمراحل لكن هو اللي يترأس اجتماعاتنا مع الوفود ونصهم ما نتفق معهم والسبه أسلوبه.. لو إني مكانه كنت برتب كل شيء لصالحنا.. ماهو عدل اللي يصير.. على أي أساس توزعت المناصب دام أنا للحين بمكاني ولا تغيرت منه.
نظر لوالدته التي توقفت هي الأخرى عن الأكل وعلى ملامحها مؤازرة لابنها.. لولا أنه تحدث بما يثير عصبية والده فهي قلقة أنه سيتلقى كومة من الشتائم.. استاءت من طريقته فالمفترض ألا يجادل بأمر أخوانه.. لم تبادله النظر، ظلت مثبتة تركيزها على زوجها كاهتمام لما يقوله.
استنفرت نظراته بحمق واشتداد.. أزعجه مقارنة أسامة بأخوانه فهو على يقين بأن الفتنة تفتت علاقة الود حتى تكاد تقضي عليها بأقصر وقت وأقل مجهود.. لم يتفوه بأي كلمات قاسية، أظهر التفهم برده: وش قلنا؟ مقارنات ما ابي.. هالأمور ونا ابوك ما يجي منها إلا الخراب.. لكن دامك جيتني مابردك.. عمك أبو جاسر طلبك بالاسم عشان تشتغل في شركته.. يبيك ساعده الأيمن ولك الكلمة من بعده.. أنا ما رديته ولا اعطيته تم.. فكر ورتب أمورك وعطني الرد.. ومنها تكون لك خبرة بمجال شغله.. بس مبدئيا جازت لك الفكرة؟
استرق النظر إلى رفيف ليستشف موافقتها من عدمها.. لم يخفَ ذلك عن خالد الذي ابتسم بسخرية فقالت سحاب في محاولة لانقاذ ابنها من نظرات والده الساخرة: أسامة حبيبي فكر ورد على أبوك بعدين لا تستعجل.
التفت إلى والدته لما استشعر تجاهل زوجته له ليقطع الصمت قول خالد الذي بدا مستخفًا: خلاص فكروا وردوا لنا خبر.
وقفت بتهذيب وكانت حانقة من حديث عمها وهي تقول بصوت منخفض: الحمدلله.. ثم راحت خطواتها ليوقفها خالد: أم نجد!
التفتت بغرابة: عفوًا عمي! تناديني؟
هز رأسه بإيجاب: اي نعم.. وراك مستغربة خلاص عمها عبدالإله اختار الاسم.. وش كنت بقول.. خذي رجلك وإن شاء الله انكم راضيين ومو مختلفين معي. ليوجه نظره لابنه: أسامة! لا تطول بالرد.. الرجال ينتظر.
اماء بالموافقة ليقف لاحقًا زوجته.. أما خالد وجه كلماته لسحاب بصرامة: اسمعي يا أم مشعل.. مرت أسامة إن عادها بتطري صهورها بالشينة وتذكر المقارنات الفاشلة تقضب الباب وراها وبالناقص هي وغيرها.. ما ربيت عيالي على قلب واحد عشان يجون حريمهم يفرقون.. أنا تغاضيت عنها كثير بس كثر الدق يفك اللحام والواضح أن أسامة ماهو موقفها عند حدها.. وصلي العلم لولدك.
وضعت كفها على كفه بتطمين: على أمرك يبو بندر.
....
فور وصولهما الجناح نفّست عن غضبها بإغلاق الباب بقوة ثم اشاحت نظرها صوب أسامة بغضب: لا تقول انك بتفكر! ارفض العرض.. حنا بشركة أبوك ومو مترقعين هالمرة تطلع منها!
بدأ يفك أزرار قميصه بانزعاج من عصبيتها المعتاد عليها بكل ما يخص أموره المادية: اهدي رفيف ما ينفع حامل وكل هالعصبية...
قاطعته وهي تجلس على الكنبة باستياء وسخط حاد: مو قادرة يا أسامة تعبت منك ومن أهلك لاهم اللي يقدرونك ولا أنت اللي ناوي تعطيهم الوجه الثاني.
خلع قميصه وهو يتوجه إليها ليجلس بذات الكنبة: أنا اشوف ان روحتي لشركة ابو جاسر فيها منفعة أوسع خبرتي في مجال شغله.. ولو على الفلوس يا قلبي ماهو قاصرنا شيء.. صدق كلام أبوي كل حلاله بين ايدينا مافي راتب محدد.. بس المهم رضاك وش رايك؟
وضعت يدها على بطنها تمسح عليها ولا تزال متجهمة الملامح.. فأردفت بامتعاض: اسمعني.. العرض ترفضه ولزوم تترقى بمنصبك وغير كذا ما عندي.
اقترب يقبل خدها بلطف: طيب اهدي خايف على بنتي والله.. قالها بابتسامة فبترت الهدوء باعتراضها: بعدين وش اللي أخوك يسمي بنتي؟ مدري من الحامل أنا ولا هو! أنا وسهى اتفقنا نسميها لورا ومحد له شغل.. لو يبي يسمي ويطب ويختار يشد حيله ويتزوج ويسمي على كيفه.
ابتعد عنها ولا يزال بمحيطها فأردف بجمود: أنا طلبت من عبدالإله يسميها.. عمها تراه ماهو غريب بعدين ليش دايما تعاملين أهلي كأنهم أغراب عكس أهلك يدرون بكل شيء بينا.
تهز رجلها بتذمر وهي تقلب كفيها كناية عن السخط: لأن أهلي يدرون بدون لا يتدخلون بس أهلك بكل شيء حاشرين نفسهم كيف لو تقولهم بكل صغيرة وكبيرة!
رفع حاجبه بتعجب وعدم إعجاب لما سمع: عن الغلط واحمدي ربك إن حمولتك هم أهلي.. كافين شرهم عنك وكلهم خير يا رفيف.. والبنت بسميها نجد على شور أخوي.. إذا أنتِ عاجبك وضعك أنا ما ابي عيالي بعيدين عن أهلي.
وضعت يدها على صدره تبعده عن مساحته القريبة منها واستنكار ملامحها قد بان: ايه بدينا أهلك وأهلي والكلام اللي ماله داعي!
باغتها برده الصريح: ايه دام حياتنا مكشوفة لهلك أنا بعد بدخل أهلي.. ولا اعقلي واللي بينا يظل بينا مالها داعي أراء سهى اللي تفرضها عليك.. أنا متزوجك ولا متزوجها!.. نظرت إليه بتجهم فأكمل بلا مبالاة: اركدي وعيدي النظر بسالفة أبو جاسر.. أنا جازت لي لكن ما اتخذت القرار بلحالي عشان تعرفين اني حاطك بالصورة. وقف واضعًا المنشفة على كتفه متجهًا إلى دورة المياه.

****

فيلا سياف آل مسفر

بالأعلى دخلت الغرفة المخصصة لها، وقبل أن تغلق خلفها الباب، وزعت نظراتها في النطاق لتتأكد من خلو المكان من أي انسي.. سارت مرسلة الصورة التي قامت بإلتقاطها قبل دقائق في غرفة شذى الشاغرة فهي بالاسفل تقوم بواجب الضيافة لأهلها القادمون للمباركة من اجل إستقلالهم في الفيلا الحديثة، التي تبعد الكيلومترات عن قصر الشيخ خالد. وسياف في غرفة نوم ابنه. وقد كانت الصورة تحوي قميص نوم ذا لون احمر قاني ينتمي لشذى موضوع فوق مخادها. فالتقطت الصورة في عجلة من أمرها لم تلبث دقيقة الا وجوالها يُعلن عن اتصال وارد.. لبت الاجابة، بصوتها المرتبك: Yes, madam Thuraya?
-ليش صوتك مرتبك.. ما فيه خوف كرستين.. انا ما فيه يدخل انت مشاكل.. I swear.. بس انت قوي قلب.. وراح اعطيك فلوس كثير.. Okay؟
اخذت انفاس وهي تجلس فوق السرير، وقلبها يرتعد داخل قفصها: OK.
بنظرات متشبعة بخبث وشناعة افكارها تفور وتطفو حتى هجعت: كلم عامل.. ولا باقي؟
-كلم.. بس هو يبغا فلوس كتير مرة.. انا اقول ما فيه.. بس هو يقول لا ما يصير هذا مشكل كبير.. لازم فلوس كتير.
-ما عليه اهم شيء يوافق.. خلاص صوري لي المكان بالكامل وكم باب فيه.. وانا اتصرف واعطيني رقم العامل.. وايه صح قبل لا انسى كم عاملة موجودة وايش جنسيه؟
- two.. سيم سيم انا.. بس هو جديد هنا.
-حلو.. كم باب خروج؟
-كمان two.. واحد مطبخ والتاني قدام بيت.
ابتهجت اساريرها حين تراءى لها وجهه منكوس الرأس كجذوع شجرة يائسة.. فتجمعت الانفاس داخلها وكأنها تُعيد الحياة لروحها الذابلة. يكبر قرن الشيطان حتى يُعمي الأبصار، لكل نارٍ ماءٌ يُطفئها، إلا نار الحقد والحسد فإنها إن اتّقدت أكلتِ الأكباد والقلوب. وران اليها صوت كرستين الذي قطع خيالها المقيت: مدام.. ايش رايك في صورة انا يرسل؟!
ابتسامة جانبية معقودة بإحنة: كويس انت كرستين وعشان كذا راح احول لك فلوس.. انت واجد تمام.. بس ارسل فيديو بيت عشان اعرف كل شيء.. خلاص كرستين؟!
ردت بعجل وابتسامة جشعة نهمة: ok madam.
....
بالاسفل بين ضحكات النسوة واحاديث متغيرة المواضيع.. كانت قادمة بفستانها الخفيف البيتي، بلونه الكموني المنعش.. فوضح على مظهرها الانثوي، معالم الحمل بالإضافة الى بروز بطنها للأمام واكتسبت القليل من الوزن ليضيف اللطافة لهيئتها.. وتسير خلفها العاملة التي تسحب عربة ممتلئة بأنواع الضيافة الفاتحة للشهية.
بإبتسامة عذبة أردفت العمة نورة التي قطعت حديثها مع المها الجالسة جوارها: يمه شذاوي اتركي عنك يا قلبي.. وخلي العاملة تضيف ارتاحي.. تعالي اجلسي يمي.
أجابت بينما كانت تقوم بتوزيع التوزيعات فوق الطاولة العظيمة المتوسطة الجلسة، وتنقل الأوامر للعاملة بأن تقوم بسكب القهوة: ابشري يمه هالحين جايه.
المها التي توزع انظارها في المكان بإنشراح تام، فاليوم لم تتواجد ضرتيها العنود وسحاب.. الغير مرغوب بهن بالنسبة لها.. اما عن شيخة فهي لا تثير إنزعاجها: ما شاء الله تبارك الرحمن.. بيتك يشرح الصدر يا ام تميم.. الله يبارك لكم ويجعله خير المولج وخير المخرج.
تبسمت وهي تستوي جالسة بجانب عمتها نورة: من ذوقك يا عمة. رفعت حاجبها حين همست نورة في أذنها: وشلون سياف معك.. لا تقولين تمام ومن هالكلام اللي دايم تهرجين به.. علميني الصدق؟!
تبسمت إبتسامة بسيطة وهي تتناول القهوة من يد العاملة، نظرت في أعين عمتها وبذات درجة الصوت: زين يا عمة.. والله تمام.
-دامك حلفتي اجل صادقة.. الا وينه فيه.. خليه يجي نبي نبارك له ببيته.. شكله درى بوجودي ولجل كذا ما يبي ينزل!
استطرت مبتسمة: نايم هو وتميم جو من البر ورقدوا.. وما لبثت ان قالت كلماتها حتى تناهى اليها رنين هاتفها معلن عن وصول رسالة.
-شكله هو ردي.. ليتني طريت شيء عدل.
قهقهت بخفه ناهضه بعد ان وصلها رسالته يخبرها بالصعود لغرفة نومهما.. وقبل أن تبتعد التفتت لقول سارة: على وين يا حلوة؟!
-شوي وراجعه.
واتخذت المصعد مرتقيه اليه.. فأول ما فتحت باب الغرفة.. رفعت حاجبها بصدمة من الظلام الذي داهمها وبرودة هزت أركانها وتريثت لدى الباب واستتلت: سياف؟!
-تعالي شذى.
فسارت ما ان اقتربت من المخدع، حتى صغت على قوله: من هنا يا شذى.. ابيك قريبه مني.
وقالت متعجبه: فيك شيء؟!
امسكها من ذراعها بعد أن ابتعد تارك لها حيز بالقرب منه.. فاستوت جالسة وظلت تطالع بخوف لملامحه الغير ظاهرة غير انه يمكنها تحديدها بعد أن اعتادت عيونها على الظلمة. وراحت واضعه يدها على خده بإستخبار وتعجب.. وكان لنظرتها وللمسة يدها فعل النار في الهشيم، فقد أحس بالنيران تندلع في أحشائه، فراح محاوط خصرها.. واضع رأسه على صدرها. وقلب الرأي على مختلف وجوهه، ووطن النفس أخيرًا على مواجهتها بالحقيقة السافرة، ومجابهتها بهذا الكلام: حلمت يا شذى.. حلمت بعمي فهد زعلان مني بالحيل.. اخذ انفاس وسربها على نحرها: ما ودي اعلمك بضيقتي وتزعلين مني!
واجابت وهي تحاول ان تبتعد عنه حتى تتمكن من رؤيته الا انه شد قبضته على خصرها مانعها من الابتعاد.. فتراجعت متشبثه بحضنه اكثر: علمني يا حبيبي.. حتى لو بيضايقني.
-اخاف اقولك واخسرك.. واخاف اخبيه بقلبي ويزيد تأنيب ضميري.. لأني ان ما تكلمت عن الموضوع متأكد ان بيجي يوم اندم عليه.. وانا خلاص قرفت من كل شيء.. احس عايش في دوامة كل يوم تطرى علي هالسالفة وتعكر مزاجي.. وحتى ان حاولت اتناسى او اتجاهل لابد ان يرجع عقلي لذات النقطة.. تعبت يا شذى!
فهي الملمة بحركاته وسكناته، العليمة بخلجاته لإقباله عليها في كل شعور يعتمل صدره، يستشيرها ويأخذ رأيها.. وانبرت بصوت هادئ منخفض: سلامة قلبك يا قلبي.. سيف تكفى لا تخوفني! علمني.. لا تشيل همي مستحيل ابعد عنك.. بس لا تخلي شيء يكدر خاطرك.. قول يا حبيبي!
وابتعد عنها وهو يتناول الصعداء وتراجع متساند على رأس السرير وعيونه حطت على السقف.. وتردد وتحسس جبهته وعينيه. وقد رأى انه لابد ان يفعل ما عزم عليه من إطلاع زوجهِ، ولم يلبث بعد الا وهي تضع يدها على خده موجهة نظراته لها.
-خوفتني سياف.. تكلم وش اللي يخلي ضميرك يأنبك!؟
احتضن يدها بقبضته الرجولية الضخمة بالنسبة ليدها الصغيرة، واخفض عيونه لأسفل بخيبة: أنا قتلت ولدي! ثم صمت وهو يتجرع الانفاس لعله يخفف من الاضطراب الذي هز بدنه.. حتى أكمل: خليت وحدة من اللي تزوجتهن تجهض.. لأني ما ابي.. قاطعته وهي تسحب يدها من قبضته.. وتولاها عجب شديد. فكيف يتأتى لها بهذه الكلمات؟ كيف يمكنها أن تتقبل ما تسمعه.. وقالت بصدمة: وش تقول!
وهتف ملتوعًا بتسرع: هذا اللي صار.. شذى انا ما ابي عيالي من مره غيرك.. ادري انها غلطة بس ترى ما نفخ فيه الروح...
قاطعته مجفلة، ثم كتمت ما بداخلها من اشمئزاز، وهي تعتدل لتصبح أمامه تمامًا فلا يفصلهما سوى بضع انفاس: آآآخ يا سياف.. أنت وش تقول! اخاف ربي يبتليني في عيالي.. ليش سويت كذا! ليش من الاساس تعرس بهالطريقة.. ليش يا سياف! يا ربي ليش مو مكتوب لي افرح.. ما فكرت في اللي ببطني اخاف يصيبه شيء والسبه ابوه!
-قلت لك غلطه يا شذى غلطه وإن شاء الله ما عاد بتتكرر.. تفكريني ما حسبت لهل شيء! كل يوم اصحى ونا مو بخير.. كل همي انتِ وعيالنا.. بس مدري وش صابني ذاك اليوم! وصمت بحسرة تغلغلت داخل حنجرته فأرغمته ببتر كلماته.
سكنت وهي تتحسس بطنها وادمعت عينها ناظرة لأسفل، وهي تتذكر حلمها الذي تستذكره بكل تفاصيله.. ووجه ابيها الغير راضي، والطفل الذي بيد سياف.. فزمت شفتها رابطة أفكارها، لتقول بصوت شاجن: متى صار هالكلام؟!
وانتظرت أن يتكلم. انتظرت كلامه بمزيج من الخوف والرعدة والتلهف على سماع ما يودُّ أن يفصح عنه، ولكنه لزم الصمت.
فأعادت قولها وهي تنظر اليه: سياف! وسكتت شاعره بالاضطراب من جهته.. فأقتربت مرتكزة على ركبتيها.. محتضنه ملامحه بكلتا كفيها ففطنت شفتيه القويتين المطبقتين، ورأت العينين الجامدتين، واحست بإبتئاس مشع منه.. فأحتضنته جاذبته الى صدرها وتمهد على رأسه.
دقائق حتى شعرت بدمعة نازفه على صدرها، ولأول مرة تهطل عينيه الصقرية.. فرجف جسدها مما سال من مكمون مشاعره.. فانكشع غطاء الندم والحسرة، وما لبث حتى قال بصوت هادئ بنبرة يحاول أن يظهرها طبيعية: لا تسأليني عن اي شيء.. انا بنفسي ما ادري وش اللي خلاني امشي في ذا الدرب.. ندمان اني تسببت على نفسي.. الله ياخذني يومني فكرت.. قاطعته مبتعده عنه واضعه كفها على فاهه مانعته من التبرير: لا تقولها.. بس خلاص الله يخليك ما ابي اسمع اكثر.. الحين ما عليك الا تستغفر وتكفر عن هالشيء.. بس فكر.. فكر يا حبيبي أي شيء تسويه بيرجع فيني او في عيالك.
وما ان قالت كلماتها، حتى اسرع مخلل يده داخل خصلات شعرها جاذبها اليه.. ليلتصق جبينه بجبينها.. وخشمه ملامس خشمها: جعله بروحي وعافيتي عنكم.. تدرين انكم اغلى ما عندي.. الله لا يقهرني ولا يوريني خساسة افعالي فيكم.
اسرعت وهي تهز رأسها رافضه وتأخذ انفاس عميقه غاضبه، وكفها حجب شفتاه: بس خلاص وش قاعد تقول! تكفى ما ابي اسمع شيء مثل كذا. اغمضت عيونها، واضعه رأسها على كتفه.. ليحتضنها محتوي جيدها بتشديد، يتنفس خصلات شعرها بعمق وأفكاره تجول وتدور في عائلته الصغيرة التي ستُكمل بابنه "فهد" وما سكن حتى سمع صوتها الهامس بالقرب من أذنه: سياف اطوي كل ذيك الصفحات.. ما ابي اعرف عنها شيء.. تعرف اني اهوجس كثير عشان كذا لا تعلمني.. واطلب المغفرة من ربك.. سياف؟!
ابتعد عنها بعد أن استشعر حركتها.. فوضعت يدها على خده كما يفعل هو، لتسترسل: صدقني يمكنه اختبار من ربي عشان تصلح حياتك وتبعد عن ذا الدرب.. والحمدلله شوف هالحين وضعنا.. باقي مع بعض.. يمكن لو ما صار ذا الشيء كنا انفصلنا من زمان.
اخذ انفاس عميقه وتدرجت عيونه مخالجها شعور سحيق ولكن انبسطت اساريره وهو يشعر بها تجلس على محاذاته، واضعه رأسها على كتفه.. وتقبل عنقه بطفيف من قبلها الناعمة.. متمتمة: الله يسامحك.
وفجأة تناهى اليهما رنين هاتفها.. لتأخذ انفاس وهي تمسح ملامحها.. وتعتدل في جلستها مبتعده عنه.. فأجابت. اما هو فقد احتضنها من الخلف.. مكبل خصرها بذراعيه الطويلة، حتى الصق ظهرها بصدره.. وثبت ذقنه على رأسها.. وران اليه ضحكتها اللطيفة.. فأغمض ناظريه وهدئ باطنه.. وأدرك صوتها: هذي امي نورة.. تقول تبي تشوفك!
هز رأسه بقلة حيله وهو يفتح عيونه ببطء: وهذي وش جابها؟!
فقهقت بخفه وهي توكزه على بطنه بكوعها: لا تقول كذا.. المهم انزل وتراها تقول تبي غرفة زي غرفة عمة شيخة.. عشان لو جت يكون لها مكان تنام فيه.
-على جثتي. قالها وهو يقبل خدها بتملك واضح.. فأنتِ الاولى، كمطلع القصيدة، وأنتِ الاخيرة لا شك ولكن كمسك الختام.

****

صباح يوم جديد بعث أشعته لتتخلل ستائر هذه الغرفة الفارهة التي يحوفها هواء المكيف البارد وروائح المطيبات المنتشرة بالأرجاء.. تقف أمام المرآة وهي تضع مستلزمات حقيبة يدها، تستعد ليومها الأول بالجامعة، خائرة القوى متضاربة الأحاسيس.. لم تتجاوز حزنها بعد.. ثمّة فقد وشرخ عميق بداخلها.. إلا أنّ مشعل ارغمها على بدء دراستها كي تسلى عن حزنها.. نظرت إلى نفسها ولم تضع سوى الكحل الأسود ومرطب على شفتيها الناعمة.. حتى شعرها الحرير تركته منسدلًا بلا تسريح.. وقد ارتدت بنطال أسود وبلوزة بيضاء تصل إلى خصرها المنحوت.. حينما انتهت توجهت خارج غرفتها إلى الصالة جالسة على الكنب بجانب عباءتها في انتظاره للخروج.. لم يكن ليثيرها أدنى لافت، تنظر إلى الفراغ وطرأت على تفكيرها مجموعة الكتب التي وصلت ليلة وفاة عمها.. فوقفت بفضول ذاهبة إلى الغرفة لتفتح الباب وعينيها تجولان في المكان فلم تجدهم! تمت تتأمل بحيرة حيث أنهم كانوا بالقرب من الباب.. عضت شفتها بتصبر وهي تنوي تأجيل حديثها معه بعد عودتها.. فلم يكن ليدخل جناحهما سوى العاملات وبوجودها؛ حيث أنه غير مسموح بأخذ أو نقل غرض دون أخذ الأذن منها.. تراجعت بحنق وهي تقعد على ذات مقعدها تتلمس شحمة أذنها بانفعال ساخط.
بالداخل، كان يقف بجانب السرير وهو على بدلته العسكرية دون ارتداء القميص بعد، باقيًا فقط ببلوزته الزيتية فأخذ يرش عطره الفوّاح باستهلاك، ليرتدي القميص دون أن يغلق أزاريره مكملًا نشر رذاذ العطر عليه.. أخذ هواتفه ومفتاحه خارجًا إلى الصالة.. وقعت عينيه عليها فيما كانت منشغلة بالتفكير الذي لا يعلم عنه سوى أنها غاضبة.. اتجه إليها ليجلس بجانبها منخفضًا إلى الطاولة أمامهما متناولًا ساعته ليلبسها وهو ينظر إليها باستطلاع.. قائلا بنبرته الهادئة: تاج!
تمت تنظر إلى الأرض بتركيز وعناد ألا تقع نظراتها عليه.. وهي تود لو تشق قميصه وتنهال عليه بضرباتها لكن لم يسعفها التوقيت للسؤال حتى.. ردت بتوهان متعمد وكأنه اخترق سرحانها: نعم.
هز رأسه باستدراك ولا يزال يتأملها بتفحص ولم تلن ملامحه أو يبتسم فظلّ يحدق وكلماته تخرج متباطئة: بترجعين أنتِ والأميرة مع السواق.
نظرت إليه وبجمود كثيرًا ما ترسمه على سماتها الفاتنة حين تنوي تجاهله: وليش ما ارجع معك.
مسك كفيها على أزرار قميصه وبعينيه أشار لها بإغلاقهم.. تحدث بذات الرتم المتزن: أنا مشغول.. غير كذا أغلب مشاويرك للجامعة بتكون مع السواق.. وقتي ما يسمح لي.
تعوث أصابعها بانزعاج على قميصه واتخذت الصمت موقفها حتى التقت عينيها بعينيه الكحيلة مع سؤاله المبهم: الين متى؟
اعتدلت في حركتها لتغلق بقية الأزرار بانتظام.. وشيء من التوتر دبّ يخالجها فأرسلت إليه نظرة استفهام عما يسأل.. ليرد عليها وهو يحك شفته السفلى بسبابته وازدادت نظراته غموضًا وتشويش: كارهة قربي لك تاج؟!
أخفضت بصرها لصدره وهي تتمسك بالزر لتغلقه ولم تزح عينها بل استمرت تحدق بثبات وخرجت حروفها تائهة باختلال جارٍ مع هدوء المكان ورائحته المهيبة المزعزعة لمشاعرها صوبه: لا.. لا ابد.. بس نفسيتي تعبانة.. ويمكن ربطتها بتصرفاتي.. لترفع عينيها إليه وهي تراه يتأملها باهتمام لما تقول.. بدا عليه بحاجة لإجابتها الرادعة لكل تصوراته وتوقعاته.
انهت مهمتها لتبعد كفيها عن محيطه وهو قد ظهر عليه الاعتراض وملامح الاستنكار ليقول في حيرة وبهمس: تاج! أنتِ حتى حضني ما تبين تقربينه.. نومتك جنبي تكرهينها.. تبعدين لأقصى السرير وتستفردين بنفسك لجل ما انوم عندك.. اصدقي معي أنا مو جابرك على شيء ما تبينه.
رفعت رأسها تنظر للسقف وهي تتنهد ببعثرة شتات مشاعرها وأفكارها.. بداخلها كومة مشاعر لا يصلها أو ينالها سواه أما عقلها سطى شأنه على قلبها هذه المرة.. فيظل يخبرها بتزمت ورصانة بالانغلاق.. تذبذبت باضطراب فباتت تغار أن تعلق نسمة عطره التي تحب في محيط به من النساء، أو تقع نظراتهن عليه بإعجاب.. هي تهواه وتعشقه وهذا ما توقن به، تمتمت بقلة حيلة: أحتاج اكون لحالي مشعل.. لا تفهمني غلط.. بترت حديثها وهي تشعر بيده على كفها مشرعًا: ما فهمتك غلط.. أنا ابيك تكونين صريحة معي.. بتفهمك وبكل رحابة صدر.. تهمني راحتك وصحتك النفسية ما اقول أهم شيء تنفذين متطلباتي ولاني مبدي نفسي عليك.. بس تصدين وتكسرين أي طريق يوصلني لك! أنا هقوتي فيك خير بس عقب فعولك تاج!!... سرعان ما تأملته بغرابة لكلماته وهو مكملًا بثباته بل أن صوته أظهر بحة الغلظة المنعقدة بأوتاره: نفسي عزيزة علي وإن سلمتك اياها فاعرفي إني اغليك وأدنى شيء يجيني منك أكره نفسي مليون مرة.. انهر بداخلي واقعد اتحفظ بتصرفاتي كل ذا لجل ما اثقل عليك.. هي نقطة وحدة لزوم تفهمينها.. أموت ولا أكون على هامش حياة شخص أحبه...
قاطعته وصوتها مال ليأس يشابه شفافية حروفه الكارهة لشعور الحاجة الملحّة لشخص آخر: وأنت فهمت من تصرفاتي ذا كله؟ معقولة ما تعرف حاجتي لك مشعل؟ ما وصلتك مشاعري ولا قدرت تستوعب وش أنت بالنسبة لي؟
هز رأسه بموافقة وعينيه مركزة على عينيها الحزينة: لأني اعرف وش كثر قلبي يحبك.. ما ابيك تعاملينه بجفا.. على هونك تاج ارفقي بي.
ابعدت كفه عن كفها فراحت تمهد بخفة على ذراعه مشخصة تأملاتها الحانية تتوزع على وسامة ملامحه وبسالة عينيه المتوافقة بطبيعة عمله.. همست بخجل للهدوء الملازم مع اعترافاته ونسمات الصباح تتهاوى بينهما بعبير فوّاح باختلاط عطريهما: أنا آسفة.. بحاول أكون صريحة معاك.. اقولك لو تضايقت أو ازعجني شيء منك.. بس ما تزعل من الصراحة؟
تراجع مستندًا على الكنبة عاقدًا حاجبيه باستنكار: وش منه! تو ابيك تصارحيني تالي ازعل؟ ما اعترف بالزعل في قاموسي.. لو إنسان اغليه وازعجني تصرفه.. اعاتبه أول مرة ثم لو عادها فراقه عيد...
قاطعته باعتراض ولهجة هجومية: صدق إنك ناكر عشرة! يعني لو كررت تصرفي بسهولة تقسى علي ويمكن مع الأيام تصير حياتنا...
وضع كفه على فمها يمنعها المواصلة وابتسامة جانبية رُسمت على شفتيه: أنتِ ما يشملك الموضوع.. ومانيب قايلك شلون واصلة بقليب مشعلك وتقومين تتغلين علي.. خلينا على كذا وعسى هالعقل الصغير يفهم ما بين السطور. ليبعد يده عن فمها ولا تزال ابتسامته على حالها.. وهو يأخذ منديلا يمسح مرطب شفتيها من على كفه.
رفعت حاجبيها باستعلاء وابتسامة زاهية تزين ملامحها: مشعل لا تقول عقلي صغير ولا معصقلة ومن ذا الهرج..
قهقه بخفة وهو يقبل كفها ثلاثًا فاستقطع حديثها ورأسه بالقرب من كفها وعينيه مصوبة عليها: امزح معك تقبلي تاج! بعدين أنا احبك على ما أنتِ عليه.. بكل حالاتك تجوزين لي.. يا ذي الكلمة اللي قلتها وبعدك ذاكرتها.. تاجي اطلعت ما تنسى! اهب ما شاء الله الظاهر ما ينخاف عليك وبتبيضينها بالجامعة.
وضعت يدها على شعره تبعثره: على طاري الجامعة.. تأخرت على المحاضرة.. بتبدي بعد نص ساعة.
أبعد رأسه عنها بانزعاج خفيف وهو يرمقها بتحذير وبحة الضحك على صوته: اعقلي يا بنت.. وانزلي معي أبوي ينتظرنا نفطر معه.. لا تقولين قدامه أنك متأخرة.
وقفت ترتدي عباءتها: غريبة بالعادة عمي يفطر قبلنا.
وقف وهو يرجع شعره للخلف.. انخفض يقبل رأسها: يقول بيتطمن عليك قبل تروحين الجامعة.. مدري رايحة حرب يمكن!
ضحكت بخفة واضعة حجاب رأسها: الله يسعده عمي.. اسمع مشعل.
همهم وهو يتصفح هاتفه.. لتقول بنبرة منخفضة: ابي عطرك اللي أنت متعطر منه بآخذه معي.
نظر إليها بابتسامة: خذيه ولو تبين راعيه بعد.
وضعت يدها على فمها وهي تحاول إخفاء خجلها لترد بغنج: طيب وينه.
ضم شفتيه بتذكر: اعتقد إني تركته على السرير.
لعقت شفتيها بابتسامة لطيفة: ابيك تجيبه لي.
صغر عينيه باستنكار هازل وهو يضع هاتفه بجيبه: تبشر بعزها أم محمد. تحرك متجهًا إلى الغرفة وهي أخرجت مرطب شفاتها تعيد وضعه بعدما عبث به.. لتبتسم بخفة وهي تتأكد من حجابها فسمعت خطواته لتنظر إليه.. اقترب مادًا يده: سمي.
أخذته وهي تستنشقه لتقول بانجذاب: الله! يذكرني فيك مشعل.. ذوقك حلو بالعطور.
مسك كفها وهو يرافقها بخطواتها خارجين من الجناح: ما عليك زود تاجي.

****

قصر آل مسفر- حديقة قسم العنود

بمثل هذا الوقت الدافئ والمنعش.. فصل الربيع الذي قد حطّ على الرياض منذ فترة.. تتخلل نسمات الهواء الحديقة الخضراء فتبعث روائح الورود المتنوعة.. ذات الألوان المشكّلة والمنسجمة.. كان متكئًا على المسند وهو ينفث دخانه برفقة مهند الذي بجانبه ولم تفصلهم سوى مسافة قصيرة.. يتشاركان أحاديثهم باندماج بالغ.. مهند الذي يرتدي الشورت الأسود والقميص الرمادي بهيئة شبابية أنيقة على عكس الآخر الذي لا يهتم بمنظره وحينها كان مرتديا الثوب الأسود وشماغه على كتفه.. أطفأ سيجارته وهو يخلل يده بشعره ليحركه بعشوائية مستمعًا لحديث مهند.. ليقطع تجاوبهم صوت ليان التي كانت ترتدي عباءتها بطريقها للخروج: بابا يتصل عليك من زمان.. ادخل يبيك.
اومأ رأسه بموافقة ليسألها: وين رايحة؟
توقفت بضجر وبعناد: مالك شغل.. بابا موافق اطلع.. ثم تابعت خطواتها للخروج فنظر مشاري للآخر بتعجب: والله لو أنها أفنان كسرت راسها.. قليلة أدب ناظر شلون تكلمك!
قال بلا اهتمام وهو يلتقط حاجياته: مالي خلق هواش الوالد.. اسمع أنا بدخل أشوف وش الموضوع.. مانيب مطول..
قاطعه بالوقوف وهو يضع يده على كتف الآخر: جدي يبيك بموضوع كايد خذها مني ونا مب فاضي انتظرك يا كلي أنت!
رفع حاجبيه بتكشيره خفيفة: شدعوه يا الحب.. أجل بجي بيت عمة شيخة بعد شوي.. خلها تحسب حسابي بالجريش.
اومأ بالموافقة وهو يتراجع بخطواته وذلك اتخذ مساره لمنزل والدته.. ما ان ابلج باب الفيلا.. حتى التقط هاتفه يتصل على والده في منزل شاهق لا يسعك الاتصال المباشر بسكانه.. فتعكف باحثًا في سبيل للوصول إليهم.. وصله صوت والده: اطلع أنا في جناحك.. اسرع يابو خالد اتصل عليك من زمان ما ترد.
اعدل خطواته صوب المصعد وبنبرة مشككة: لهيت مع مشاري.. بديت أخاف ترا من الحين اقول ما قتلت أحد يمين بالله.
خرج صوته مستنكرًا: أعوذ بالله.. يابوك أنت منت مجرم لا تقول كذا.. الناس تمسكها عليك.. اطلع اطلع وبعلمك شلون تهرج.. خف رجولك أنا وأمك نحتريك.
أغلق هاتفه بالتزامن مع وصول المصعد لطابق جناحه.. فتبادى صوت والدته له.. دخل وهو يراها بجانب والده بكامل زينتها وأوج تفاعلها.. ألقى السلام مقبلًا رأسها: شلونك يا المملوحة؟
تبسمت بعجرفة وهي تنثر شعرها والذي ينشر رائحة العود بكل الاتجاهات: لوني زين وأبوك قدامي.
فانحنى محتضنًا والده كما بادله خالد الحضن وقبلة على رأس ابنه: هلا هلا بالعريس.
ابتعد باستغراب وصوت العنود المندهش: وش تقول يبو بندر!
ألقى كلماته بتسرع: بطلع من بيتك ومانيب راجع لين تعدل عن كلامك.. تراي اسويها وتجي مني...
أشار له بالجلوس على المقعد أمامه بمقاطعة لاعتراضه ونظراته بين ابنه وزوجته: اعقل يا ورع.. وأنتِ يالعنود بدال لا ترحبين بالفكرة تقلبين علي! تعمد ندائها باسمها بدلًا عن كنيتها بابنها.. في محاولة لاسترداد الهدوء وأخذها بصفه.. هو يعلم كم تحبذ ندائه لها باسمها.
بالفعل تراجعت عن دهشتها باتزان جلستها وابتسامة جذابة: ايه بس استغربت لأنك ما قلت لي عن الموال ذا.
صوّب عينيه لابنه الحائر والذي ينظر للأرض في محاولة لفهم ما يجري.. استاء من ردة فعل مهند الواضحة لأمر الزواج بالمقام الأول.. فأدلى كلماته بمرونة: يابو خالد وراك رديت الكلمة بحلقي! لا خذيت ولا أعطيت معي.. مسرع رميت تهديدك.
نقل نظراته المتأسفة في تأمل لسمات والده المهيبة.. وبصوت بدا مشتتًا: لأني شايل الفكرة من راسي.
أمال رأسه محدقًا بتركيز: لو سمعت وش بقول يمكن تغير كلامك.. اسمعني بالأول لا تصير عجول.. التفت للأخرى المستمعة باهتمام: وأنتِ بعد لا تقاطعيني.. فكروا باللي بقوله.
تمتم بلا حول: الله يصلحكم.. فأبتدئ مشرعا فكرته وكلًا منهم قد أخذ نصيبه من النظرات.. فهو بارع في إحاطة الجميع باهتمامه وصوته الذي يشعرك بأمان منطوقه وكأنه يرسم دربًا منيرًا من أوله لآخره: أنا ابيك أنت بالذات لهالزواجة.. ما اخترت عبدالإله ولا تركي لأن الناس اللي بناسبهم هم آل ثنيان.. وذي النقطة تشكل لك فارق.. أوقف زوجته التي كادت أن توقع كلماتها على مسامعهم وبنبرة حادة عالية كي يصمتها: ودي نصفي النية تجاه أبو فيصل دام ولد عمتك رجع.. وأكيد لو ناسبناهم بيطيب وصلنا بهم.. وبتصير المجالس وحدة.. تنهد ليكمل: تكلمي يالعنود ما ابي استأثم فيك وتموتين بحسرتك والكلمتين ذي بجوفك. قال عبارته الأخيرة بيأس وقلة حيلة من حركاتها المزعجة والمعترضة.
تسارعت بالحديث: ما حسبتها صح هالمرة يا خالد.. فوق إن محسن يواطن اليهود ولا يواطنك هالمرة ولدي التجربة؟ وبيردون طلبك صدقني ونا ما ارضاها على ولدي وحيدي.. يعني مدري شلون فكرت.. كانك تبي القرب منهم جرب باقي عيالك.. بس مهند بديهي بيرجعونه! يخسون ويعقبون يرفضون ولد العنود..
قاطعها باستنكار: اعقبي يا مره! ذا ولد أبوه.. مهند بن خالد.. استغفر الله أنا وش خلاني ازهمك ونا داري بعوج تفكيرك.
تحدث بتأييد لوالدته الحانقة: أمي صادقة وليش اتقدم وأنا وأنت نعرف منهو أبو فيصل.. وأساسا كل الفكرة رافضها.. ما ابي اتزوج لسع قدامي اثنين وراه القلق من بدري.
ازدادت غلظة صوته وجدّت ملامحه باحتكام: لا تردني يا مهند.. أنا ابيك أنت من بد أخوانك تناسبهم.. إذا على الرفض تحسب يهون علي يرجعونك؟ بس أنا مستبشر خير وحدسي يقول بيتم الموضوع.
وضعت يدها على كتفه لينظر إليها وبصوت معترض: مهند ابيه ياخذ بنت خاله سعد.. ليه نروح للغريب يابو بندر؟
مسّد على كفها بخفة وهو يقول باحترام: بنت أخوك على العين والراس.. الله يعوضها باللي أحسن من ولدي.. دامنا ما خطبناها له مابه خلاف.. بس حديث نفسك..
بترت كلماته باعتراض: أنا متأملة فيها.. لا تكسر بخاطري وترجع بنت أخوي عشان بنت آل ثنيان.. اللي ما يندرى هم بيوافقون ولا ولدي فار تجارب.
زفر بغضب رافعًا سبابته بتنذر: كلمة شينة زيادة بتشين نفسي عليك.. هذا وحنا ما قلنا شيء بس هواجيسك...
تكملت بحرقة غير آبهة بمقاطعتها له: لا تزعلني بأهلي و...
ارتفع صوته بتجهم وبحة مشددة: عسى منتيب أم مشعل اللي ارجعت بنت أختها بعد خطبة كل العالم درت عنها ومع ذلك ما ازعلت ولا قالت ربع اللي سمعته منك.. اهجدي يا أم مهند بعدك ما سمعتي باقي السالفة.
كان ينظر لوالديه بصمت وأفكاره هو الآخر مبعثرة إلا أنه تنبه على انزعاج والده فتحدث بدفاع: يمه صبر.. أنا ابي اسمع الموضوع.
نظرت إليه بتهديد لما تحيز موافقًا والده.. أما خالد تماسك باصطبار ممتنعا عن طرد العنود: فكر بالموضوع.. والبنت بعدها صغيرة.. لكن مطلقة!
هز رأسه بتقبّل ليتحاشى عسارة الأجواء والأراء في هذا الحيز من المكان: خلاص ابشر بفكر زين واقولك.
احمرت عينيها بدموع قهر وغيظ لتقف منسحبة وهي تمسح دموعها.. زفر بضيق ووخز بداخله فيما أن ابنه بدا موافقا ليرضي رغبته وهو يخفي عنه أمر جلل.. تحدث بإكراه للوضع: مهند تعال جنبي.
وقف بتثافل ليتجه كما أمره والده جالسا بجانبه.. وضع كفه على فخذ مهند ليقول بهدوء: ما تقول ابوي يتأمر علي واوصلت يزوجني غصب عشان ماضي ارتكبته لا والله.. بس أبيك تفكر عدل آل ثنيان أجاويد وفيصل هقوتي إنه صديقك ولا؟
أخذ شهيق وهو يومئ باتفاق ليتابع خالد: والمفروض أنك تفكر بالزواج منت صغير.. ونا يابوك مب عاجبني وضعك.. لا شغل ولا زواج! باكر الصبح باخذك معي لجل تتدرب وتنضبط بإشراف بندر بكبره.. صار يبو خالد؟
قال بتحفظ وتساؤل: وش اللي صار الشغل ولا الزواج؟
تبسم بمكر: الاثنين!
رفع حاجبيه باعتراض: تو تقول فكر عدل بالزواج! تلعب علي بكلامك!
قهقه بخفة ومحاولة إرضاء بنبرته: ونا اقصد فكر بالاثنين.. الزواج والشغل.. أدري فيك ما ترد لأبوك طلب.
تبسم بامتعاض: أنت جالس تضيقها علي! بعدين حتى أمي ماهي موافقة...
قاطعه باستدراك: أمك اتركها علي أنا بقنعها.. وما بيصير شيء إلا برضاها.
قبل كف والده وهو واضعًا رأسه عليه بتقدير: إن وافقت ترا عشانك.. ولا الزواج ما افكر فيه.
مسح على شعره برضا: الله يرضى عليك.. انخفضت نبرته ليسأل باهتمام: يعني ما تفرق معك مطلقة؟ كفو والنعم فيك يابو خالد.
نظر لوالده وهو يعتدل بجلسته: أنا ما عندي إشكال بس لو أمي موافقة.
وقف بشموخ ارتكازه المهيب وهو يعيد نسفة شماغه: هالحين بكلمها وما يصير خاطرك إلا طيب.
....
كانت تبكي بصمت وقلة حيلة على سريرها المخملي ذو المفرش الأبيض الصافي يتخلله اللون الرمادي الزاهي.. حتى فُتح الباب لتغير مسار نظراتها للجهة الأخرى ولا تزال على هدوءها فقط تفيض منها الدموع بغزارة وحمق من زوجها الذي سلبها حرية اختيار زوجة لابنها.. وما دفعها للجنون عدم أخذ رأيها بعين الاعتبار.. جلس أمامها على السرير وهي تمسح مدامعها لتهم بالوقوف واستوقفها صوته: العنود اجلسي جاي بكلمك.
جلست بصمت فهي عاجزة عن مشاكسته كعادتها.. نظر لعينيها الدامعة ونظراتها المتوزعة التي لا تتوقف عليه لبرهة.. فأردف بتعقل: اضبطي واحكمي لسانك واعرفي شلون ومتى تحكين لجل ما اثور عليك وما يمسكني عنك عاقل.. ومهند ما بيتم زواجه إلا بموافقتك.. مثل ما هو ولدي هو بعد ولدك ولك كلمة عليه.. امسحي دموعك عشان اعرف اتكلم معك عدل.
قامت بما تفوه به وهي تنظر إليه بصمت.. طرح سؤاله وعينيه عليها بمتابعة: وش منه زعلانة؟
أجابت بما تبقى من صوتها المبحوح لبكائها الغريق: أخاف يرفضونه يا خالد وثاني شيء أنا ابيه لبنت أخوي.. وآخرتها اطلعت البنت مطلقة.. مابها عيب آمنا بالله بس أنا ابي ولدي ياخذ بنت دامه ما سبق له الزواج.
نكس رأسه بتفهم: لو ارفضوه مافيها شيء الزواج قسمة ونصيب.. ما تقولين كرامة وانهدرت.. ولدي بيظل راسه مرفوع لو ردوه كل العرب.. وموضوع بنت أخوك ما كلمنا أهلها ولا صار شيء رسمي.. والنعم في أهلك لكن الظروف تحكم أحيانا يا أم مهند.. يعلم الله للحين بخاطري موضوعنا مع آل جاسر.. بس ماهو بيدي.. كل شيء حصل بشكل غير متوقع.. وش بعد قلتي؟ عشانها مطلقة؟ والمطلقة وش بها؟ علياء بنتي خالعة رجلها وبقص لسان اللي يحكي فيها.. هي عندي في بيتي ولا لحد منة عليها.. وبنت عبدالمحسن مطلقة وبعدها صغيرة.. نسيبهم ردي وما خاف ربه فيها.. لو على ولدك هو يبي موافقتك وما عنده مانع.. ونا بعد.. باقي رايك.. وش تقولين يا مرت الشيخ؟
اخفضت رأسها بخيبة.. لتسأل بنبرة بائسة: ليش ما تعطيها عبدالإله.. ما ابي تصير بخاطر مهند لو رجعوه عشانه قاتل منهم.
طبطب على ظهرها بتأييد لكلماته: عبدالإله يبي من أهلي.. وحدك عاد في ولدي قسم بالله لو رجعوه اعطيه بدال الوحدة أربع ولا ينكسر خاطره.. ازهليها ابو خالد ما ينخاف عليه.. قلبه رهيف لكن يعرف شلون يداري روحه.. ونا متأمل خير بفيصل قبل أبوه.. والحين ابي منك ايه أو لا.
اومأت بموافقة ونظراتها لأسفل دون أن تنبس بكلمة.. احتضنها بعطف وهو يشعر برفضها الباطن وحزنها على اختيار عروس لابنها الوحيد بما لا يتفق مع هواها.. نهر ذاته على إجباره ابنه أولا ثم زوجته.. تنهد بضيق وهو يقبل رأسها بمراعاة وامتثال.

****

نزعت نقابها باقية على حجابها حينما دخلت الفيلا.. راقت لها الأجواء الدراسية والعملية التي انغمست بها هذا الصباح وهي تتجول برفقة الأميرة لمرافق الجامعة.. استعادت جزء من ذاتها المسلوب بحزن سكن دواخلها.. تبسمت وهي تستمع لصوت عمتها سحاب وابنتيها فتوجهت لصالة الطعام والروائح الشهية تنبعث بعطاء.. ما إن أطلت عليهم.. كانوا متراصين حول الطاولة بجو عائلي حميم وأشعة الشمس تتسرب مشارف الغرفة فتتشتت بألوان زاهية منعكسة بفعل ألوان الستائر الساحرة.. تبسمت وهي تلقي السلام.. ردوا التحية بانشراح لما رأوا ابتسامة تاج التي غابت عنها لأسابيع.. هي لم تبدأ وجبتها بعد، فصرحت بتهلل: حياك يا بنتي تو ما بدينا اطلعي بدلي وانزلي افتحي نفسي على الأكل.
قالت ببشاشة وهي تفتح أزرار عباءتها السوداء الأنيقة وقد كشفت عن شعرها واضعة حجابها حول رقبتها: بالعافية عليكم أنا مجهدة شوي.. عمة شرايك فيني اليوم.. وأنتوا بعد بنات حبيتوا الستايل؟ حسيته بسيط يناسب الجامعة.. أحس بعتمده.
تأملتها بإعجاب وهي تتمتم: ما شاء الله ما بعد زينك زين كل شيء يليق عليك.. بس اعتمدي تساريح بسيطة وزينيها بالاكسسوارات لا تفردين شعرك كل يوم كذا.
جمان التي تلتقط قطعة اللحم وهي تتحدث دون أن تنظر للأخرى: اسمعي ترا أنا ببدا آكل.. ومثل ما قالت أمي ناقصك بس تسرحين شعرك.. عندي لك أفكار لو تبين.. ثم التفتت إليها مكملة: ونا السنة الجاية لما ادخل الجامعة بعتمد نفس ستايلك.. مالي في الاوفر مثل ميمي بالله عليك وش مسوية اليوم؟ هه يمه اسمعي من تاج عشان ما تقولين أحشها.
أجابت بهدوء وقلة حيلة: اسكتي ترا مافيني حيل لهذرتك.. أنا طالعة ولما يرجع مشعل بتغدا معه.
سحاب التي توقفت عن وضع الرز في صحنها متلفتة صوب تاج: مشعل مشى الشرقية تغدي لاتحترينه.
تلقائيا قد رفعت حاجبها بامتعاض وكلمات سحاب تصب على مسامعها.. غيرة حامية كست ملامحها حتى احمرّت وهي تقول بنبرة مستنكرة منخفضة كي لا تتجهم غضبًا: وليش ما يقول ياعمة؟
قطبت حاجبيها بعطف: ذي السفرات تطري عليه فجأة ما عادت مهمة يخبرنا عليها.. الوكاد أنه لهى بشغله وهو داري بك مشغولة بدوامك.. لا تعتبين ولا تشرهين عليه يا تاج.. لأنك بنتي اقولك ذا الكلام.. ما ابيك على كل صغيرة تحاسبينه.. لا أنتِ اللي بترتاحين ولا هو.. وذي المسألة بوابة المشاكل الله يكافينا شرها.
تفاقم شعور الحمق تجاهه وفكرة أنه يقضي وقته في ضيافتها أو حتى أحدًا من أقاربها.. هذا التصور يفتت ذرات حبها فينثرهم بلا هوادة ليفور دمها سخطًا.. رسمت السماحة على معالمها بتهرب.. ولا تزال متشبثة بلومه وزجره وردعه عنها.. كل شيء يهون عدا ذهابه لتلك المرأة التي تنتظره بكل جرأة واضحة على محياها.. ليطرأ على بالها أمر الهدية التي اختفت.. لمست شحمة أذنها تقرصها بتتابع.. ما أصعب أن تبقى هادئا وبداخلك نزاع يرن بإعلان حرب طاحنة.. تريد أن تستولي على الوضع برمته.. لها كامل الأحقية وخالص الإرادة في إحاطة زوجها دون البقية.. اومأت بموافقة تخفي الرفض التام: أجل بروح أنام.. عن إذنكم.
صعدت وهي تضع الحجاب بإهمال ولا مبالاة سرعان ما حطت قدميها المصعد.. وهي تلتقط هاتفها بجزع في محاولة للوصول إليه.. رست أقدامها خارج المصعد لتقف أمام باب جناحها تقدمت بنفور وذلك لا يجيب على اتصالها.. رمت حقيبتها وعباءتها على المنضدة الزجاجية.. وهي تنثر شعرها بتحرر وتقذف سماعة أذنيها حينما لم يرد على اتصالها الآخر.. فقامت ترسل له بسخرية مضمنة بحروفها.. *دامك في الشرقية لا تنسى تمر شقتنا تاخذ فستاني الأسود عرفته؟ ذاك اللي لبسته أول ليلة* تعمدت تذكيره بتلك الليلة التي قضتها معه.. حينما أتمم زواجه منها بسعادة غمرتهما معًا.. لما تراءت لها أحلامها بمعيّة الرجل الذي عشقت.. ولم يخطر على بالها أن تترادف المنغصات تباعًا بعدها.. توجهت صوب السرير واضعة هاتفها على الكومدينة وهي تضغط زر إغلاق الستائر باشتعال حانق.. لتتوسط السرير وتحادث نفسها باستياء: تروح وما تقول؟ يعني متسحب من وراي وعارف أن اللي تسويه غلط! والله اقهرك زي ما تقهرني.. لتكمل بانزعاج وهي تستذكر حديثه هذا الصباح: هذا اللي فالح فيه تآمر وتنهي.. ابيك يا تاج وسوي يا تاج وأنا ماكله تبن.. أخذت تتلحف بالغطاء وأفكارها تأخذها لأبعد مدى من الجنون.. وهي تتبادل كلماتها بتجاوب وكأنها شخصين يتحدثان: قسم بالله لو ما رديت هالحين اروح بيت عمي.. حمارة أنا لو سكت لك وتركتك تهيت عند بقرة الدمام الله ياخذها.. تضغط الأرقام بعنف وهي تعض شفتيها باغتياظ.. مرت ثلاث رنات ليرد عند الرابعة بضحكة وكأنه كان يحادث أحدهم قبلما يرد: ايه هلا!
احتدت ملامحها بغضب من هدوءه وحنق برز على صوتها: ليش ما ترد على مكالماتي؟
أجاب بمكر وقد توقف بسيارته ليتسائل باستفزاز: وش تبين غير الفستان؟ شكلي محظوظ الليلة يا أم محمد!
تحدثت بجفاء عتابها وخجل داهمها فاقشعر بدنها لنبرته التي تصل قلبها بلا رادع: ولا اتصال أو رسالة تقول إنك بتسافر.. على فكرة ما أحب أكون على هامش حياة أي شخص! بادلته التنبيه مثلما فعل قبلًا.. ومع تغيير بسيط بقواعد المماثلة لئلا تكشف له غرامها به وسط موقف بغيض كهذا.
هز رأسه بتقبّل لحنقها وضحكة اخفاها بصدره.. وهو يشير لحارس الفيلا أن يأخذ الغرض الذي بحوزته بالخلف: طيب يا تاجي اوصلت المعلومة.. وش بعد بتنورينا فيه قبل لا اقفل؟
ارتفع صوتها بغيظ من بروده: مشعل لا تستفزني! متى بترجع؟ ما ابيك تطول هناك.
سمعت صوته وهو يخبر أحدهم: خذ الكيس اللي بالشنطة.. سلمت.. فوجه كلماته لها: مشغول هالحين مانيب مطول برجع قبل اثنعش.. مع السلامة.
أغلق هاتفه وقد سبقته بإقفال الخط.. حتى لايكن له الحظوة في ذلك.. تبسم بلا شعور ليخرج من سيارته بالتزامن مع دخول سيارتها حدود الفيلا.. وقد كانت تقودها وبجانبها ابنها مشعل.. التقت أنظارها بأنظاره وكلاهما يرتديان النظارات الشمسية السوداء.. أغلق الباب خلفه وهي قد ترجلت من مركبتها مشيرة لأحد الحراس بركن السيارة بالموقف الداخلي.. متجهة صوبه مع ابنها وبدا عليها الارهاق واحمرار وجنتيها من أثر الحمى.. قالت بنبرة هادئة ليست بتلك المتلهفة كالعادة.. إذ أنها أول مرة تراه بعدما تخلى عن الاطمئنان عليهم: حياك تفضل.. أم الحسن جايه بالطريق.
أقبل ابنها بترحيب نهج عليه وورثه من والدته المرحابة بضيوفها دائما: شلونك يا عم؟ أجل جاي من الشغل.. عساك ع القوة.
كان قد اوصل تاج واتجه للمطار مباشرة ليلحق برحلته إلى الدمام وعليه الزي العسكري.. يستشعر هدوءها ونظراتها المؤكد أنها تحط عليه لكن لا يعلم أين هدفها خلف تلك النظارات.. فابتسم بوقار: الله يقويك.. هلا بك زود.. نظر إليها وتلك تتأمله بخفقان قلبها المتيم به.. وأي فتنة يمتلكها حتى يعدل قرار قلبها بالصد عنه.. هذا اللباس من شأنه أن يزيدك وقار ورزانة ويزدني دمار واستغاثة.. قال بنبرته الغليظة لابنها لما لم تقدم على إدخاله: قلط ضيفك يا مشعل.
تحركت بشرود ورائحة عطره أثارت مشاعرها فبردت أعصابها وتلاشى غضبها باستكنان وهي تخبر ابنها: أبو خالد خذ عمك للمجلس.
اماء بالموافقة وهو يشير لمشعل بالدخول.. سار بمحاذاة ابنها وهي بقيت واقفة تتأمله بنهم.. بشيء من الجوع له ولرؤيته ولكل تفاصيله.. لم تبرح المكان إذ أنه مثقل بجزيئات عطره الأخاذة ففي هذه الثواني قد عاشت مئات اللحظات والمشاعر والتخبطات التي أحدثتها رائحته.. تمتمت بهمس "خسيس يا مشعل بس أحبك".

****

بعد مغادرة مهند عن الجلسة بطلب من والده.. انطلق هو الاخر لقسم جدته. الهادئ بسبب غياب أغلب ساكني المكان.. فعائلة سياف انتقلوا لمنزلهم الجديد، وأبناء علياء ذهبوا برفقة والدهم عدا رؤى المحمومة.. والاميرة ماكثة في غرفتها. فتح الباب داخل لم يتنبه على وجودهن ولم يتنبهن على وجوده.. ولكن ما لفت انتباهه هو صوت عمته التي تجلس في الجلسة البعيدة عنه لمسافة تُذكر وبجانبها العمة نورة مولياته ظهورهن.
-ابوها قالها آخر مرة مؤيد ولد اخوه رجع من الخارج ويبي يتقدم لها.. وتعرفين رؤى ما تاخذ وتعطي مع ابوها.. وانا والله ما ودي بنتي تبعد عني يكفي انا وعايني وش صابني بعيد عن اهلي.. هالحين بنتي!؟
-مو شرط يا عيوني.. الولد ماشاء الله عليه طيار ولا ناقصه شيء.. واهله محترمين مب لازم إن صابتك مضرة بتصيب بنتك.. أنا اقول خطبة ولما تخلص يملكون.. وخاصة انه ولد عمها يعني مامنه شر... توقفت أذنيه عن التقاط كلمات أكثر من هذا الحشو البغيض. احتدت ملامحه عن غير العادة وما لبث إلا أن اتخذ المصعد ليرتقي لها، بلا شعور أو تفكير اخذته اقدامه الى جناح عمته.. هناك معضلة في منتصف صدره تموج بتفاقم شنيع وتحجب العقل عن عمله. يعرف بأنه شخص منعدم الأسلوب واللباقة.. ولكنه كان على أمل أن يُخلد عبق رسائله بين حناياها.. على أمل أن تبادله لو قليلًا من الشعور الساطي على مدائن خياله الذي يرسم ألف مشهد للقاء ويرتب ألف موعد مؤجل! فتح أزرار ياقته بانفجار مغلغل داخل احشائه.. حريق تلهب باطنه. فتح باب غرفة نومها بقوة مستفحله.. كانت مستلقيه فوق سريرها، فهي تشعر بإعياء من الحرارة المتملكة رأسها.. وحين أغار غرفتها.. رفعت عينيها من على هاتفها بروعه من صوت ارتطام الباب بالحائط.. شهقت بذعر وهي تنظر إليه.. استوت جالسة محتضنه لحافها.. لم تتوقع أن يكون بهذه الجرائة بأن يدخل الجناح.. لاسيما تواجد والدتها في القصر!
اسرعت بقولها الراجف وهي تراه يتوجه اليها بعد أن اغلق الباب: اطلع ترى ماما موجودة.. والله يا مشاري لو ما خرجت بصرخ واجمعهم عليك.. اطلع يا مجنون عن الخبال!.. يمين بالله راح ارد على رسايلك بس أنت اخرج الحين قبل لا تجي ماما وتصير سالفة... بترت كلماتها بعد أن رانَ في عينيه الجحيم تتسعر.. واشتداد يتصبب من سماته المنفعلة المتجهمة. لأول مرة تراه بهذا الانفصام المخيف المرعب.
برجفة ثغرها قالت: مـشـ.. مشاري تكفى!
شهقت متراجعه للخلف حتى اصطدمت برأس السرير، وجسدها يزداد رجفه.. وحمى تغلو في جوف جمجمتها.. حتى احمرت عينيها وذبلت.. فحين هو اقترب منها ممسك بعضدها.. ورائحة عطره المشوب برذاذ السيجارة تُماج في محيطها.. صرخت بحدة: اترك يدي.. لا تلمسني يا وسخ!
اشتدت قبضته، مقترب منها، بفحيح اهتياجه، واشتداد منطوقه الحانق: تبينه يا رؤى! تبين ولد عمك الكلب؟!
ردت وهي تحاول إبعاد قبضته المحتضنه ذراعها: مب شغلك وابعد عني. قطعت كلماتها رافعه عيونها لخاصته.. بعد أن شد أكثر بمسكته.. فتوسمت في سوداويتيه الساخطة الموجِدة.
-ردي.. تبينه! موافقه عليه يا رؤى.. وش فيك ساكته.. ولا خايفه من ابوك لجل كذا ما راح ترفضين.. أنتِ خايفة صح!
أجابت ولا تزال تبعد يده عن عضدها، وبرز الحنق على محياها من قربه الماجن: لا مو صح.. مو صح يا مشاري.. ابعد عني.. ما يصير حرام.. وثانيا انت مالك شغل فيني اوافق أو لا.. لا أنت بابا ولا ماما.. ولا حتى أخوي.. اتركني ترى مو لصالحك أحد يدخل علينا وأنت عندي والله أعلم جدي.. والله يا مشاري لا اقلبهم عليك هاللي يحامون عنك وأولهم جدتي.. ابعد عني لا تمسكني. صرخت بآخر كلمة اثناء اقترابه أكثر لتشعر بأنفاسه تتخبط في ملامحها فتتنفس منه وإليه.
نار تهشم جيمع التحذيرات والمبادئ داخل قلبه.. مسكها من فكها باشتداد.. فأدمعت عيونها من شدة الحرارة المختزنة داخل جسدها الصغير، فالسخونة فتكت بدنها.. وإعصار حردان ضايق يتسرب محتوي بدنه من إشهارها النافي: بلى لي شغل.. يعني وش كنتي محسبه تصرفاتي معك.. مجرد طيش وهبال! واللي خلقني محد بياخذك غيري حطي هالفكرة في بالك.. لا ولد عمك ولا غيره دام راسي يشم الهوا.. سامعة يا رؤى.. وعزة الله إنك تحرمين على غيري.. وإن كان على جدي كلميه اصلًا انا ابيهم هالحين يدخلون عشان يسهلون علي أمور كثيرة.. تدرين وش بسوي.. بقولهم إني نمت معـ... قطع كلماته صفعه ناولتها اياه لم تكن بتلك القوة التي تنهك جسده ولكنها كانت اقوى ما اردفت بها، خاصة ان صدى صوتها في المكان.
تفوهت من بين دموعها وصوتها الراجف الكليل، وضعت يدها على مسكته القابضة ذقنها.. ويدها على صدره تحاول إزاحته من التوغل بها: قليل ادب ومو متربي.. الله ياخذك يا وسخ.. والله لو أنت آخر إنسان في الحياة ما راح اناظر حتى وجهك.. ولا تفكر إنك إذا تقدمت لي بوافق.. وايه موافقة على ولد عمي دام ذا الموضوع بيخليك تبعد عن طريقي... قطعت كلماتها بصرخة متألمه حين قست قبضته المتملكه ذقنها، ثم قام بدفعها للخلف فخبط ظهرها برأس السرير بعنف موجع، خلل يده داخل خصلات شعرها، وجذب رأسها بالقرب منه.. وهي تدمع بألم وإرهاق جسدي بادخ: بسك عناد.. ليش تحبين تقهريني.. أنا ابي اعرف ليش تكرهيني بهالشكل.. وش سويت لك! كل ذا بس عشان حركات المبزره اللي اعاملك بها.. صمت وهو يغمض عيونه ويتجرع الاكسجين، في أمل أن يقلل من شدة أعصابه.. تراخت قبضته داخل خصلات شعرها، فأبعدها ليمسح ملامحه المحتدة.. ثواني حتى التفت صوبها وهو يردف بنبرة هادئة ومتزنة، لم تسمعها من قبل.. شيء يربك دواخلها ويجزعها: أحبك.
أعاد كلماته بتأكيد منطوقه، محدق في عيونها المندهشة: ورب الكعبة إني أحبك.. مو من هالفترة من زمان يا رؤى.. ما اقولك بادليني نفس الشعور.. ولا اطالبك تحبيني.. بس لا توافقين.. ادري اني غثيث ودفش.. وحركاتي سامجة وغبية.. ولو تبيني اطلع من البيت واروّح بيت ابوي.. ابشري اليوم ما بتشوفين وجهي.. بس ارفضي.
اخذ انفاس عميقه يقلل من شعور الاضطراب المتفاقم داخله، ليكمل وعيونه تنحدر لأسفل: ما كنت اعرف ان عمتي عادي تزوجك وأنتِ بهالعمر.. ولا كان تقدمت لك من مبطي. رفع بصريه عليها ليجدها تتفحص سماته بحذر وخجل.
أضاف معيد شعره للخلف وعيونه ابعدها عن محيطها، فانزلقت على اظافر يده: طيب وإن تغيرت.. بتوافقين علي؟!
بلعت ريقها واصابعها تتلاحم ببعضها، ثواني حتى ردت بتشتت: لا.. بادلته نظراته المتعجبه وهرول صوبها بقوله المستنكر: ليش لا.. وش ناقصني لجل ترفضيني.. قلت لك راح اتغير.. حتى حسي ماعاد بتسمعينه.. يعني ابد مالي أي معزة عندك؟
-الموضوع مب كذا.. أنت حتى دراسة مو مكمل كلها شهادة ثانوية وهذا بعد ما جبرك عليها خالي.. ولا عندك وظيفة.. وفوق ذا كله. دنت نظراتها لأسفل، وانخفضت نبرت صوتها: بابا ما راح يوافق عليك وأنت تدري ليش.
أجاب بعجل: ما لك شغل في موافقة أبوك جدي بيتفاهم معه.. اهم شيء أنتِ اتوافقين.. وإن على الدراسة بكمل وبشتغل.. حتى وظيفة راح اخذها من بكرة.
بمراوغه وهي تراه لأول مره بهذا الوهن والترجي الضعيف، حتى ملامحه تحولت من الصلابة والشقاوة لملامح هادئة متوسلة: أقول اخرج الحين قبل لا تجي ماما ما ابي ادخل في مشاكل.
هز رأسه وهو يمسح على فاهه بتصبر: راح اخرج بس توعديني تفكرين.. اعطيني الموافقه بالاول؟
زفرت بقلة حيله: زين ابعد خل اشوف لك درب.
ابتعد عنها لتنهض، ولكن قبل أن تبتعد عنه مسك ساعدها، لتعيد رافعه حاجبها بإحتدام ناحيته.. ليقول بتضرع: صدق بتفكرين؟!
نفضت يدها من مسكته، وهي تبتعد عن مكانه خارجة.. ثواني حتى عادت مصرحه: اخرج محد حولك بس اسرع.
حدق فيها قبل أن يخرج وكأنه يستشف ما تعنيه نظراتها، ولكنها كانت في تصدي عن ناظريه.. ليخرج بإنزعاج وغبنة بسبب تصرفاتها المتعالية.
شبح ابتسامة إنتصار رسمتها.. وقبل أن تدخل غرفتها تنبهت على شماغه الساقط عند عتبة الغرفة.. يبدو أنه سقط حين كان مقبل.. حملته وهي تلتفت يمنة ويسرة.. ثم دخلت بسرعة واضعته اسفل مخدتها، واستلقت تهدئ من نبضات قلبها المجلجلة.. لأول مرة تستشف فيه الجانب العاطفي المهتم والخجول من اعترافاته.

****

أقبلت مرتدية الجلابية الفاخرة ذات اللون الأحمر القاني لم تكن فضفاضة أو ضيقة.. وذلك ما زاد رونقها وعكس بذخ معالمها.. شعرها المغطى نصفه بطرحتها الحرير البيضاء.. ويغطي كفها نقش الحناء البسيط.. وأظافرها المترفة مزينة بالطلاء العنابي.. رائحتها المشبعة بالمطيبات والبخور النفاث متخلخلًا جذور شعرها.. دخلت لتقع عينيها عليه يحادث ابنها.. جهرت بصوتها: حياك الله.. عسى ضيفت عمك يبو خالد؟
تبسم لوالدته برصانة: هالله هالله عمي مشعل راعي البيت ماهوب ضيف.
تهللت بزهو وعينيها على مشعل الذي قبل رأس ابنها بابتسامته الجذابة بتهذيب.. تخطو بمشتيها المتسيدة فتبادت تخبر ابنها: بوخالد قم اجهز.. وراك درس رماية.
وقف مستأذنًا من مشعل: عمي عادي اوريك بدلتي؟ عندي نفس بدلتك ومكتوب هنا الضابط مشعل بن خالد الدماح.. بس ما معي فرد حقيقي.
قهقه بخفة وإعجاب لفصاحة هذا الطفل: لا كبرت بتاخذ فرد مثل هذا ونا بسلمك اياه.. بتصير مثلي ومثل الحسن.. بس أنت قلت مكتوب ضابط ولا أنا غلطان؟
تسارع مجيبا بحماس: ايه ضابط.
طبطب على ظهره: أجل بتغذي مثلي أحسن من ولد خالتك.
ضحك بعفوية وهو يتبسم لوالدته خارجًا من المجلس.. حتى عمّ الصمت المكان فقال وعينيه مصوبة عليها دون أن تزاح: وش أخباركم عساكم طيبين وما حولكم أذى.
زفرت الهواء بضيق وهي تتذكر ذلك اليوم الذي اعتدوا عليها أخوتها في هذا المجلس تحديدًا وسط صرخات أختها وشجارها الحامي معهم.. خرجت كلماتها بتعالي وسخرية مقترنة بنبرتها: لا أبد كلنا بخير وصحة وعافية ما نشكي شيء.. كل السالفة إن عيال أبوي تهجموا علي أنا وخيتي.. تدري فينا حريم ما ورانا أحد.. بس الحمدلله عاقبتها سليمة.. مدوا يدهم علي وهددوني حتى أم صديقك ما سلمت منهم.. يرسلون لها كل يوم ولد صقر يشرف علينا.. اللي يسمعهم يقول ندخل رجال في بيتنا.
قالت كلماتها الأخيرة وسط دهشة مشعل من جرأة منطوقها ولا مبالاتها بما تقول: ثمني كلامك واعقلي ذا ماهوب كلام مره محترمة!
وضعت طرف طرحتها على كتفها وهي ترسم ابتسامة تخفف من اندفاعها وبنبرة غانجة مطيعة: حاضر.. على أمرك.
استرسل يتحدث باهتمام متحسسًا عتابها المتعجرف بين شكوتها التي أبت أن تظهر بموضع شفقة: أخوانك استخفوا! شلون يتهجمون عليكم كذا؟ تسببتي بشيء يا أم مشعل؟ عطيني السالفة من الألف للياء.
قالت بثقة ويديها تشرح معها الحادثة.. ليظهر حُسن كفيها أمامه بلا قصد منها: اقبلوا بشرهم لا احترموا البيت ولا راعيه الغايب.. اسدحوا هرجهم اللي ماله قيمة.. والزمي يا أحلام كلمتنا ولا بنضرب بيد من حديد! الله وكيلك من وقت عتبوا البيت ليما اطلعوا والتهديدات ما اوقفت.. ما كأنا خواتهم من دمهم ولحمهم.
هز رأسه بمتابعة وهو متكئًا بذقنه على يده: وش مطلبهم؟
ركزت بعينيه المصوبة ناحيتها لتوقع كلماتها بتباطئ: ارجع لولد عمهم!
قطب حاجبيه باستنكار: وأنتِ رفضتي لجل كذا مدوا يدهم عليك؟
تبسمت بقلة حيلة وهي تفرج عن ذراعيها باستسلام: عليك نور.. هذا اللي صار.
قال بنبرة ساخرة: وولد عمهم جا معاهم؟ ولا يعطي الأوامر من بعيد؟
قهقهت بخفة وهي مستمعة لنبرته المحتقرة من طليقها: تقصد هم اللي اعطوه الأوامر وهم اللي ينفذونها؟ ايه.. لكن لا ما يستجري يجي.
قطع اندماج حديثهم دخول أم الحسن.. فوقف احترامًا وهو يرد السلام.. جلست بجانب أختها بملامح هادئة ونظراتها لاتقع عليه مباشرة تشعر بالعتب تجاه صديق ابنها.. لتباشر ترحيبها: مرحبا بك يا ولد الشيخ.. السموحة منك اتعبناك معنا.. حنا ندبر نفسنا لا تشغل بالك...
قاطع كلماتها وهو يعلم باستياء والدة الحسن على وجه الخصوص.. فأجاب بمحاولة لتجاوز عتابها: والله مابها كلافة ولا تعب.. المعذرة منكم ومن أخوي الحسن.. بس صارت معنا حالة وفاة وما قدرت اتطمن عليكم وكلمت رائد يشرف على أوضاعكم بدالي.. لو أدري أنكم ياعيال الدماح بتزعلون علينا ما كنت غفلت عنكم...
بترت حديثه بخجل واهتمام لتبريره: يووه سامحني يا ولدي والله إني قلت مشعل أصيل ولا بيتركنا وهو اللي ماخذ ولدنا! وعظم الله اجركم وغفر لميتكم.. منهو الميت عساك بطولة العمر؟
زفر براحة لما انطلى عذره عليها.. فأجاب وعينه قد وقعت على أحلام المتأملة له بلا توقف.. أعاد اهتمامه للأخرى: نسيبي الله يرحمه.. وجزاك الله خير يا خالة.. اليوم فضيت وجيتكم وإن شاء الله بمركم كل فترة.. ادعي لنا بالتوفيق لعلك أقرب منا إلى الله.
اومأت بتفهم ويُسر: عين الله تحميكم.. كل يوم أدعي لكم وربي الشاهد عسى القبول يا ولدي.. تسلم وما تقصر.. إلا تعرف يا مشعل متى بيرجع ولدي من المهمة؟ تسائلت بتشفق وحنين ورجاء.
تلافى نظراتها بانسحاب وهو يعلم بالمدة المتوقعة لغياب الحسن.. قرابة السنة والمدة في ازدياد حسب قواعد اللعبة التي يسير عليها آل فياض.. فأجاب بتحفظ: إن الله أراد ماهوب مطول لا تشيلين هم.. ونا بحرص أن يمر عليك كل فترة تتطمنين عليه.. فاتجه مغيرًا المنعطف الحساس لاتجاه آخر: اصدقيني يا خالة ورا ما تردون على اتصالات رائد الفترة الأخيرة؟ قالها وهو ملتمس الإجابة بانتظار موقنًا بحدسه.
تبسمت بارتباك واستحياء وهي تخفض صوتها: والله مدري وش اقولك.. ذا كلام ولدي ونا اطاوعه.. تحصله ما يدري بعذرك..
قاطعها بابتسامة ذكية وقد صحّت توقعاته: والله إني داري.. لكن اسمحيلي يا خالة ولدك فيه من حركات البزران وتشره الحريم.
ضحكت أحلام بعفوية وهي تنظر لأختها باتفاق: شايفة شلون يا أم الحسن؟ ما قلت لك من قبل؟ يا كثر ما يتشره ولدك وهذا صديقه عايني وش يقول.
قطبت حاجبيها بابتسامة صافية: حرام عليكم تحكون عنه كذا.. والله ولدي يحبك يا مشعل مير سامحه تراه طراك بالشينة.. بس تعرفه كلام ولا غلاتك عنده ما يوصلها أحد.
قهقه ببحة صاخبة وهو يطبطب على الكنبة ماسحًا ملامحه بكفه الآخر: مسامح من غير ما تقولين ومرتن ثانية عقليه.. عفس علينا الدنيا الله يخزي شيطا.. كح بخفة مقتطعًا كلماته لتقف أحلام تناوله زجاجة الماء بقلق وأم الحسن مردفه باهتمام: بسم الله عليك.. اشرب جعله مداخيل العافية.
أخذ منها ليتجرع الماء دفعة واحدة وهي ظلت واقفة متسائلة بترقب: مشعل.. عساك بخير هالحين؟
اومأ برأسه: ايه تسلمين.. تحمحم ليبرز صوته بنبرة أعلى: طيب يا خالة أنا وصلني الخبر كامل من أم مشعل.. وبكلم حراس أمن يطوقون بيتك وما يدخله إلا اللي ترغبون فيه.. وش بعد أقدر أخدمكم؟
ردت بشكر وعرفان وهي تبتسم له بعطف: حنا معنا من يحرسنا بس هم يتجاوزون الكل ويدخلون بلا احم ولا دستور.. ما نبي إلا سلامتك.. قطعت جملتها وهو يومئ لها بالانتظار فأكمل موضحًا: ذولي حراس أمن مسلحين.. مايقدرون يتجاوزونهم.. ولو تعرضوا لكم اتصلي علي ونا بتصرف معهم شخصيا.. حقكم علي ونا بخدمتكم بأي وقت.
تمتمت بالدعاء الصادق له وهي تبلغه بسلامها لوالده ووالدته.. أما هو قد وجّه أنظاره صوب أحلام: وينه مشعل بشوف بدلته قبل لا امشي.
زمت شفتيها بابتسامة غنجا: يا حظه ولدي.. الضابط صار صديقه.. لتقف بانبساط: هالحين ازهمه لك.
خرجت متوجهة صوب المصعد لتغير رأيها متراجعة وهي تتصل على ابنها: مشعل.. عمك يحتريك وراك ما نزلت له؟ ايه انفداك انزل له ببدلتك العسكرية.. حافظك الله. مشت بخطواتها للخارج وهي تخلخل أصابعها بين خصلات شعرها لترفع الطرحة عليه من جديد بطريقة تجميلية عن كونها ساترة.. تمت تتأمل سيارته وخيالاتها تطوف حوله.. ما يتملكه ويرتبط به.. تتعلق روحيا بتلك الصغائر والتفاصيل.. تنهدت بيأس لتقع عينيها على حجرة الحارس المُنارة وقد خطف نظرها كيس يشابه ذلك الذي أرسلته لمشعل فأخذتها أقدامها وهي تجهر بعلو: صالح.
ارتدى قبعته ليضع كوب الشاي قبل أن يخرج: آمري يا عمة.
نطقت بحذر وعينيها لم تزاح عن ذلك الكيس: من أعطاك ذا؟
التفت صوب إشارتها ليردف بتسرع: الضابط مشعل عطاني.. بس ما قال هو لك ولا للعمة أم الحسن.
اومأت بتفهم وتجمهرت غصتها بمنتصف صدرها: طيب جيبه خل اعاينه.. اهتزت شفتها بخوف أن يكون بكل تلك العجرفة والقسوة لمثلها.. التي تعشقه بجنون.. تمتدحه بحضوره وغيابه.. ولم تكُف عن فعل المزيد.. قوية جسورة صلبة لا تلين لكلمة تُملى على مسامعها.. عداه قادرًا أن يرشدها وهي خلفه بكل خنوع واستسلام.. ما إن وصل الكيس أمامها.. أغمضت عينيها بقهر وكأنها شعرت بالتقرف من مظهر الكتب.. وهي بالحقيقة تقززت من سوء شعورها الخائب.. لذاعه خالطت جوفها فتحاملت على ذاتها وهي تقول بنبرة لا تقبل التخاذل: تطلع الحين يا صالح.. تبعد ذا الكيس عن وجهي.. تحرقه بأي مكان ثم ترجع.. سامع وش قلت؟
هز رأسه موافقا ليحمله معه ينفذ أمرها.. تراجعت ملتفته وكان خارجًا من الفيلا دون أن ترافقه أختها.. فهو لم يعد غريبا أو إن صح القول ستكثر زياراته لهم.. فلا حاجة للتصرف برسمية مع صديق والدهن القديم.. اتجهت صوبه بلا تراجع.. تسير إلى سيارته وهو قد توقف بتعجب من محاذاتها له بجانب باب السائق.. اشتدت الحمى داخلها وحرارة جسدها سارعت بالارتفاع.. نطقت بين دموعها التي تنهمر منه وأمامه.. نبرتها موجعة.. تبكي عشاق الحب المخذولين بحبهم: أحد يرد الهدية؟ ولا عشانها مني؟ أكملت بنحيب وقد استجمعت قبضتيها لتضربه بخفه على صدره وهي تتشبث بقميصه: رد علي ليش.. قاطعها بدهشة وهو يقبض على كفيها في محاولة لصد ضرباتها.. فاختلط عطره بعطرها وحرارة تتسرب من جسدها إليه.. تتنفس ذات الهواء المحيط به.. زلزل بصوته محاجرها وأذنيها: أحلام! ابعدي عني مانيب ناقصك.. والله إن اطلع عفاريتي عليك.
تبسمت بألم لما سمعت اسمها منه بعد كل تلك السنوات.. أعادتها ذاكرتها لندائه لها.. فكانت الأحوال مختلفة والقلوب متفقة.. لم تكن لتتوقع أن يصاغ اسمها منه لأولى أمنياتها.. تبكي بحرقة ونظرها شاخص لخاصتيه: انسى يا مشعل.. غلطتي إني تركتك.. بس مب غلطتي إني خذيت غيرك..
بتر كلماتها وهو يبعد كفيه عن قبضتها وقد تنهد بضيق: ما خصني في ذا كله.
هزت رأسها بنفي تام وهي تستند على باب سيارته بدموعها التي لم تتوقف.. انفطر قلبها من صده الدائم وانسحابه من إشرافه لهم بسبب تواجدها.. فباتت كأنها داء: ارحمني يا مشعل.. ماقد ترجيت مخلوق كثر ما ترجيتك.. والله إني بزر وغلطانة قد شعر راسي يوم اني قدمت شغلي عليك.. أما زواجي عيال أبوي اجبروني آخذ ولد عمهم.. والحين يبون يرجعوني له هم بعد بالغصب.. تكفى لا تكسرني ونا اللي ما انكسرت بيوم.. كل اللي شفته بسنيني بلياك.. تمر علي كأنها جحيم تسعر وتشب بقلب مجنون فيك.
اخفض رأسه بتشتت من اعترافها العميق والذي داهمه من كل الجهات.. حاصره كمباغتة فجائية لم يسبق له أن شهدها.. تحدث بهدوء: مانيب محملك أي غلط.. هذي حياتك وأنتِ حر فيها.
نظرت له بترجي وكلماته تخنقها ولا سبيل للوصول إليه فارتفعت نبرتها نسبيا: حياتي هي حياتك.. أنا حلومتك يا مشعلي.. حبيبتك..
قاطعها باندفاع حتى أنه اقترب منها بتلقائية لتصمت بخوف من نبرته: كنتي!! وبإرادتك انسحبتي.. قلت لك قبل نفترق.. أموت ولا أكون على هامش حياة شخص أحبه.. ولا هميتك.. جايه هالحين وش عقبه؟ ابعدي من قدامي وكملي حياتك مع اللي خذيتيه.
قالت برفض قاطع وأنينها قد ازداد لما تراءى له حبها لطليقها: ما ابيه يا مشعل.. ابيك أنت..
أخذ شهيق بعمق ليزفره بغضب منها وهو يريد الدخول لسيارته قاطعًا كلماتها: أحلام اعقلي جنونك ذا طلعيه على أخوانك
ضربت على سيارته بيديها وقد هدأ صوتها تدريجيًا واعتلته نبرة حانقة: ايه مجنونة فيك وبك ولجلك.. وعمي خالد بكلمه بقوله يا شيخ طلبتك اصير حليلة ولدك الضابط.. والله اني اسويها وتعرفني بنت أبوي.
رفع حاجبيه بذهول باللا تصديق وهو يبعدها من عضدها عن سيارته: الله يلعن ابليس وخري يا بنت الحلال عن دربي.. كلمتي مع أخوانك كانك ماتبين ولد عمك.. غير كذا لا تتأملين.. قبضت كفه بجرأة متغلغلة بأحشاءها ورغبة تمادت لتظهر على تصرفاتها.. متمسكة به بتملك وهي تثبت عينيها بلا خوف: أحبك يا مشعل.. تحمل جنون معشوقتك.. حلومتك ما يروضها إلا راعيها.. تذكر؟ وأنت الوحيد تقوى تروضني.. سحب كفه من بين قبضتها الخفيفة لقوته الجسيمة وسط محاولات للتشبث به حتى جرحته بظفرها وسط باطن كفه الأيسر وقد تجهمت ملامحه لتصرفاتها الخرقاء وكلماتها الفاحشة البذيئة غير مدركًا للجرح الدامي الخفيف الذي تتابع بالنزيف.. تمتم بتصبر: خبلة أنتِ قسم بالله ما يمسكني عنك إلا الحسن.. حاشمك لجله يا مره.. تلمسين رجال ما يحل لك؟ وش جرالك! وين تربية ابوك؟ قالها وهو ينثر كلماته بغضب رنّ على مسامعها فتوقفت دموعها برعب من نظراته الحادة.. صرخت بأعلى صوتها وقد سقطت طرحتها على كتفها ليتمايل شعرها ناشرًا عبيره العبق: جرحت يدك هاه؟ هذا أنت رحت ولا جيت جسدك ما له شف مني.. بيمناك ندبة لجامي وبيسارك جرح ظفري! وقلبك لي أنا يبو خالد.. قاطعها بقلة صبر: مانيب بو خالد اللي خبرك.. أنا ابو محمد يا أم مشعل.. ليدخل سيارته بسخط منطلقًا خارج الفيلا.. تاركها خلفه بدموعها الثائرة وهي تتمتم بصلابة منطوقها وجسدها قد ذبل لمصابه: اللي يعوف ما يتلهف.. وحياة عيونك اللي تسترق النظرة لي ومبسمك اللي يرجف لا خاطب لساني إن مصيرنا واحد يا ريحة أبوي. فأنهت كلماتها بهيمنتها وثقتها بحبه متراجعة للخلف بسيادية وطرحتها ملتفة حول رقبتها.. وبشيء من التشفي: جعلك لحضني راجي يابو محمد!

****

ليلة صاخبة أكلت يقظة آل فياض وندمائه.

ليالي دعجاء تقلب اجسادًا تشبعت بخدرها، وغدت كلماتها نيئة لا أحد يتذوق طعمها، تناثروا في اواضع مزرية، كانت جلساتهم في أول الليلة دائرية الشكل، وأخذت في التشكل، والتقلب مع أنغام الموسيقى الصاخبة التي عزفت من قبل فرقة موسيقية.. لأداء الوصلات الغنائية الراقصة، فهيجت الحضور مرارًا، وجعلت أبدانهم تتخلص من تخشبها برقصات تقترب من القفز أكثر من اقترابها للرقص المتقن.
وتفننت الفتيات في إظهار مهارة أجسادهن بتثني قدودهن، وهز أردافهن بتموجات قاهرة. نخبة من أعيان البلد يتخلون عن وقارهم هنا، يخلعون أنفسهم من أنفسهم، ويستلقون على أبسطة الملذات كما لم يفعلوا من قبل، وقبل أن تنتهي الحفلة يكونون قد أضمروا النيات على معاودة ما لم يكملوه في تلك الليلة. وفي كل ليلة لا يكملون رغباتهم، يؤجلونها لمواعيد قادمة، لهذا تتواصل السهرات.
فحين يحين موعد الحفلة تتزاحم السيارات الفاخرة على بوابة القصر في تفويج نساء للداخل تم انتقاؤهن بعناية، حيث تعبر الفتاة المختارة عدة أدواق، وكأنها في مسابقة جمال، حتى إذ تم ترشيحها لأن تكون ضمن الفتيات اللاتي يحضرن الحفلات الخاصة تكون الفتاة قد اجتازت فحصًا عسيرًا. في السهرات الخاصة تتواجد نخبة من النساء. من كل لون وعرق تم جمعهن، ولكل منهن ميزة تمنحها التفرد بين بقية الجميلات، وتقتصر الحفلات الخاصة على مدعوين محددين، يهبون لاستراق اللحظات الماتعة، وينفقون من سعة. كل النساء اللاتي يحضرن الحفلات العامة تتقافز أمنياتهن للدخول الى دائرة الحفلات الخاصة، فوصول الفتاة إلى هذه الدائرة تكون قد بلغت المنى، فيمكنها أن تتحكم فيما شاءت، وأن تحصل على الأموال بيسر وسهولة.
كان يقف بين جموع الخدم، والحرس الحاملين رشاشات على اكتافهم محاوطين المكان.. وكلاب الحراسة الضخمة منتشره حول سور القصر البغي.. خفر عظيم هذا الذي يحرس آل فياض وكأنه رئيس دولة على العناية التي يتلقاها.
تبسم بسخرية وهو يتعلك ناظر في أغنياء البلد المحاطين بـ سطام ويتحدثون معه بوقار واحترام لدرجة الذِل بالنسبة لمكانتهم في البلد.
اخذ حُسوة من سيجارته التي اخذها من غزل مسبقًا.. بعد أن أصبحت عادة بأن تضع له كرتون في مدخل منزلها.
يترقب عن كثف لكل ما يجول في المكان بتربص مُضمَر.. تنبه على كلام الحارس الذي يقف بجانبه: وين فردك؟!
رفعه أمام عيني الاخر، ليطأطأ بقوله الذي خرج أمر: ارمي اللي في يدك واوقف قريب من طويل العمر.. ان احتاج شيء تنفد من غير أي اعتراض.
بلل شفته وهو يرمي السيجارة داهسها بقدمه: ابشر. ثم سار بخطوات ثابته وعيونه مثبته على سطام ذا الضحكة الساخرة لحديث اعوانه.
توقف جهة اليمين في المكان المطلوب منه.. وحلبة الرقص ممتلئة بحشد النسوة الاتي يبذلن جهدًا مضاعفًا في هز أجسادهن بإغواء مثير. فتيات، ونساء يتغيرن في كل حفلة، وكل واحدة منهن تبحث عن البقاء ضمن الكوكبة الاثيرة، لذلك حرصن على مذاكرة مزاج السيد، وحفظ تقلبات مناخه عن ظهر قلب من خلال تلقينهن من قبل من اوصلهن لهذه السهرات.
كان الحديث في العمل في هذه السهرات ممنوعًا منعًا باتًا. فلا يرغب لأن يسمع أي شيء يكدر مزاجه أثناء استمتاعه بالشراب، والنساء. غالبًا ما يكون معتدل المزاج. مسامرته جالبه للضجر، والثراء معًا. لا أحد يتحدث إلا بعد أن يأخذ الموافقة بإيماءة من رأسه.
تنبه لنظرات عبدالملك الثاقبة له.. فبلع ريقه، حتى أشار له بأصبع السبابه بطريقة صاغرة وقحة.. هرول في خطواته ليدنو منه، خافض عينيه لأسفل فقد عُقب من قبل بسبب نظراته الثابته للوجيه.
همس: علم 86 بأن يجهز الغرفة بكل الأدوات.
هز رأسه بعدم فهم، وهو يسير وينظر الى الأرقام الموضوعة على جهة اليسار لكل حارس موجود في المحيط. توقف عند ذاك الضخم الحامل ذات الرقم.. انتصب بجانبه ليقترب رافع صوته ليتمكن الحارس من سماعه بسبب الضوضاء الذائعة في المكان: طويل العمر يقول جهز الغرفة بـ.. صمت مثل أنه نسي! لعله يتمكن من معرفة ما يجول بينهم. إلا ان الاخر طأطأ برأسه كما لو أنه فهم الغاية دون أن ينبس بكلمة.. وذهب.
عض على شفته بإنزعاج، ثم ادار عائد الى مكانه.. كان سطام يغدق الأموال على النساء وهو جالس بطريقة بذيئة فحشة. فهو الوحيد الذي يحق له نثر النقود على افخاذ الحاضرات، والمحظيات من صديقاته. يهب لهن مبالغ مجزية، ويحجر على المدعوين منافسته في هذا الفعل.
توقف سطام فتوقف من في الجلسة جميعًا.. فراح الحسن مستبصر ما جعله يقف من نصف إندامجه، فران إليه تلك الفتاة التي خطت خطواتها داخل المجلس، قفز مستقبلًا إياها لاثمًا خديها.. وهمست في أذنه كما لو أنها تعتذر على التأخير الصادر من ناحيتها.. وهي تشبك يديها خلف رقبته، بدلع صريح. لـ غرام جسد باذخ الاغواء والفحش، قفز بعمرها الصغير، لمرتبة البغايا المحترفات. فتنبهت عيون السيد الملاحقة لمفاتنها في كل سهرة تحضرها، فتحولت إلى محظية، وتم حظر بقية الرجال من الاقتراب منها، لم تعد تمر على الصندوق لأخذ حصتها كما كانت تفعل سابقًا. غدت تمتلك قلب السيد، والمال الذي تريده يكون في رصدها بمجرد أن تتلفظ بالمبلغ الذي تريده.
وزيادة في تدليله قبلته بين عينيه، فانتشى، والتفت مناديًا على محاسبه وهمس في أذنه، لينطلق عدوًا، ويعود حاملًا حقيبتين، ومنتظرًا إشارات السيد الذي التفت للفتيات ضاحكًا، وأمر بصرف مائة ألف ريال لكل فتاة، وتناول إحدى الحقيبتن المجاورتين لجلسته، ونثر أكثر من مليون ريال أسفل قامات الفتيات المتثنيات على الأغاني.
إزاء فعله هذا تصايحت الفتيات بدلال فائر وهن يدخلن حلبة الرقص. جلست في حضنه رجل فوق الأخرى ويدها تتحرك على صدره وتهامسه بتغنج ونعومة ظاهرة على محياها.. تعرف تمامًا أنها تمتلك سحر الأنثى، وأنها بحاجة لأن تروي أنوثتها بنظرات المعجبين الذين يقتنصون مفاتن جسدها خلسة، وبحذر شديد، مخافة أن يلمح السيد عيونهم. ندمائه يسرقون مفاتنها حينما تعبر أمامهم، لتتخذ موقعها بجواره.
حدق الحسن فيها وهو يتفحص وجهها بتأمل سري فأخفى ابتسامته، هازًا رأسه بقلة حيله ويستغفر ربه من مظاهر الأغراء الساطي في المحيط من النسوة المتمايلات أمامه.. وظل يتربص حتى رمقها تقف فاختلت المنصة من الفتيات.
في السهرات الراقصة تتعمد أن لا تنهض من جلستها إلى حلبة الرقص إلا بعد أن يطلب منها النهوض، فتشترط أن تُترك لها الساحة بمفردها. هذا الاشتراط استوعبته جميع الفتيات الحاضرات، فبمجرد نهوضها يُفرغ لها المكان، ويفتعل الرجال الانشغال بالأحاديث الجانبية، أو التطلع إلى جهة أخرى كي لا تتسرب نظرات الرغبة لجسدها، فتكون نهاية صاحبها الطرد المشين من داخل السهرة إن لم يكن تعطيل بصره تمامًا.
تجيد الرقص الخليجي والمصري على الايقاعات الصاخبة، تبدأ رقصتها بخلع حذائها، والسير المتغنج مع تحريك مؤخرتها تحريكًا مثيرًا ينتقل رويدًا رويدًا نحو وسطها، لتنفض جسدها كاملًا، موزعة هذا الغنج بين القدّ والصدر، كابحة شلال شعرها المتصبب على وجهها بين الحين والآخر في حركة مفتعلة في الغالب، وتظل تنتقل بخفة في تلوين تثني جسدها بتموجات تظهر سريان جبروت أنوثتها، لتصل في رقصة مذبوحة ترتعش لها كل مفاصلها ثم تتباطأ، لتعاود السير بقدمين متداخلتين، وتقف أمامه تمامًا ناثره شعرها على وجهه، فيحتويها بين ذراعيه لاثمًا ما يصل إليه فاهه منها.
بعد هذا الأداء الفاتن لا يقوى على الجلوس، فيقودها إلى غرفة النوم الداخلية. وبعد أن اختفى عن ناظريه.. سريعًا ما لفت انتباهه ذاك الضخم القادم جهة عبدالملك ويهامسه.. ليقف الاخر منتصب ويتوجه معه.. وقبل أن يهم مغادر المكان متطلع للأثنين.. قاطع سير خطواته رنين هاتفه للمجلس على أمل اللحاق بهما.. سريعًا ما تناوله من جيب بنطاله ليجد رقم غير معرف يضيء شاشة جواله المعروف باسم مطلق.. اخذ شهيق محتدم من قطع عمل تربصه المواصل لـ عبدالملك.. خرج مبتعد لزاوية من زوايا المكان حتى يتمكن من سماع الاتصال.. قبِل المكالمة وقبْل أن يردف بكلمة سمع صوت أنثوي غناج على الطرف الاخر: وينك.. ليش ما اشوفك في المكان؟!
ابعد الهاتف من على أذنه ناظرًا في الرقم.. ثم أعاده لأذنه وهو يهز رأسه بفهم: هلا.. هلا بالعمة.. وشلونك يا طويلة العمر...
قاطعته بتأفف متملل: اترك ذا الكلام وعلمني وينك فيه.. ليش ما داومت؟!
-الشيخ طلب مني مهمة انجزها.. تبين...
لم يكمل كلامه حتى اتاه صوتها الأمر: تعال بسرعة لا تتأخر. وأغلقت المكالمة دون أن تستمع اليه.

****

قصر خالد آل مسفر

اوقف سيارته وأخيرا بعد يوم طويل انقضى نصفه هنا والنصف الآخر على أراضي الدمام.. بعثر شعره بفوضوية وهو يحرك رأسه مع تحركات أصابعه على أمل أن يطرد ختام رحلته هذه.. ترجل من مركبته وسماعة أذنه تبعث رنين اتصاله على تاج التي لم تجب بعد.. وقف أمام سيارته الأخرى وقد سمع صوتها الأشبه للهمس البارد: هاه؟
فتح باب السيارة ليرد عليها ببرود وارهاق: تاج انزلي أنا تحت.. ونزلي معك ثوب وعمامة.. لا تبطين....
تداخلت كلماتها مع حديثه فتوقفا معًا كي يسمح لكل منهما الآخر بالحديث.. تنهد ببححة: ايه وش كنتي بتقولين؟!
أجابته بنبرتها الكسولة وهي تحتضن اللحاف: تو دخلت بنام.. أنت اللي اصعد زين جيت واقدر اكلمك.
أغلق الباب من بعده ليشغل مركبته ومكيف الهواء معًا.. خرجت نبرته بسخرية مضمنة بحروفه: ما تشبعين من المناقر؟ انزلي ولاتنسين اللي علمتك عليه.
انتفضت من تحت اللحاف متناسية برودة المكان وهي تزفر بغضب وعصبية: يا ما شاء الله وأنا لين متى آخر من يعلم بسفراتك؟! عناد فيك مانيب نازلة.
اتزنت نبرته بهدوء: الطاقة عندي في أسفل مستوياتها.. شوي وتنعدم وماهو بصالحك.. خلينا نتوكل بنبات برع البيت.. صمت بدهشة لما قطعت الاتصال بوجهه ولم يكمل عبارته حتى.. تشكلت ملامحه بلؤم وغيظ من هجومها الساحق عليه.. فاتصل على جمان.. ثواني حتى اجابته: هلا مشعل.
اتكئ على المقود وأنفاسه الحارة تلفح يديه.. جسده ينضب حرارة ويصب عرقًا.. رد عليها بفتور: كلمي تاج تنزل أنا تحت احتريها.. وخليها تنزل لي بيجامة بعد.
ردت بتساؤل واهتمام: ابشر حبيبي.. وش فيك تعبان؟
أغمض عينيه باسترخاء مرجحًا أنه التقط منها العدوى.. وجهها المحمّر حنقًا ومرضًا.. وحرارة كفيها لما لامسته.. أخذ شهيقه ببطء: كلها حمى الحمدلله.
-ما تشوف شر وابشر هالحين بكلم تاج.. تصبح على خير.
أغلق الاتصال مبتعدًا للخلف وهو يرفع درجة التكييف.. ودّ لو يسكب دلوًا من الثلج على جسده فتتبخر جزيئات الحرارة المترسبة بأعماقه.. سعل بشدة حتى دمعت عينيه ليخلع قميصه بتحرر باقيًا على بلوزته.. تنفس بانزعاج ليفتح لاصق الجروح الذي قد وضعه مسبقًا على جرح كفه.. فاستبدله بآخر وابتسامة خيبة عبرت شفتيه.. ابتسامة لا يعلم مناسبتها ولا يريد التحقيق بهذا الأمر.. إلا أن ذاكرته ذهبت قسرًا لمنظر عينيها الفياضة بدموعها.. هذا المنظر يشابه لمعة عينيها بالدموع قبل كل سفرة له من الدمام إلى الرياض.. لما كان يواسيها بقوله "مالي غنى عن الدمام وأهل الدمام".. تلك الأيام الخوالي انقضت بسرعة البرق.. رفع أنظاره على تاج القادمة وخلفها إحدى العاملات تحمل ملابسه.. تمّ يترقبها بنظرات متفحصة وابتسامة مكر متخفية بين شفتيه.. يعلم بأنها تراجع نصها أو حوارها الذي ستلقيه أمامه بشيء من التذمر والانزعاج.. ما إن وصلت لتركب.. اخبر العاملة متجاهلها: حطيهم في هذيك السيارة. تراجعت العاملة صوب سيارته الأخرى.. أما تاج لم تعلق أو تسأل طالما أنه لم يخبرها أي سيارة سيستقلون.. أغلقت الباب فانتهز الصمت فرصته وحلَ السكون المربك بينهما.. اطفأ محرك سيارته لتنظر إليه بغرابه وهو خرج أمام ناظريها لينخفض قبل أن يغلق بابه قائلا باستخفاف واستلعان: تفضلي معاي يا حجة للسيارة الثانية.. العتب على عيونك ما شفتيني اطفي السيارة؟ أغلق بابه دون أن يسمع ردها رغم أنه كان ينوي استقلال سيارته هذه لكنه رغب في رد حركتها التي اقتضت بإغلاق المكالمة في وجهه.. تبعته بحنق وهي تشتمه بداخلها لتركب بجانبه كادت أن تصدح بصوتها متغاضية عن إرهاقه الواضح إلا أنها تراجعت وعينيها وقعت على خالد الذي ترجل من سيارته بعدما فتح السائق له الباب طواعية.. خرج مشعل بتسرع تاركًا بابه مفتوح مقابلًا والده وهو يتحدث بابتسامة: عنك يابوي.. لاتقرب أخاف اعديك.
كانت أصواتهم تصلها.. يمكنها سماعهم بوضوح.. وهي ترقب المشهد بتأمل.. تعلم كيف أن عمها يضع مشعل بكفه وباقي أبنائه بكفة أخرى.. حقيقة يعلمها الجميع ولا سلطة لهم بتغييرها.
خالد الذي تفحص ابنه بخوف: سلامتك يا الغالي جعله فيني ولا فيك..
قاطعه وهو يكح بخفة: وش تقول يالشيخ! الله يمدك بالصحة والعافية.. باخذ مسكن وبيطيب حالي.. تكفى لا يوصل أمي الموضوع.
وقعت نظراته على تاج ليعاود النظر لمشعل وبصوت منخفض : اطلع ريح.. وباكر لا غديت أحسن اطلعوا.
تبسم بحنو: لا خلا ولا عدم يابوي.. بنسبقكم للمخيم وانتوا متى ما زهبتوا الحقونا.
هز رأسه بتفهم وهو يتساءل بعناية وعينيه على الرداء العسكري: تو رجعت من الدمام يبه؟
اومأ بموافقة وهو يمسح على ملامحه.. فأكمل خالد بتخابر: إلا شلونهم ربعك عساهم طيبين.. عادك تشوفهم ولا قطعت عنهم.. أي عرب هم وش يرجعون؟
أجاب وصوته قد انخفض قليلا: بيت عبداللطيف الدماح.. لا الحمدلله زينين.. ويسلمون عليك.
هز رأسه بتذكر: ايه صحيح.. الله يسلمهم ويرحم أبوهم ما حصل لنا نشوف بعض على حياته.. بلغهم سلامي كثير.. ويلاه ما اعطلكم استودعكم الله.
رجع سيارته وهو يعلم بسماعها لكامل حوارهم فقال مقتطعًا كلماتها التي ستخرج ناهرة بالطبع: تاج.. مو وقت الزعيق.. لا وصلنا قولي اللي تبين.
تجاهلته وقد خرج سؤالها مفاجئا له: وين دبلتك؟
نظر إليها نظرة جانبية دون أن يلتفت ثم أكمل على طريقه: تركتها فوق.. لو يزعلك هالشيء بحطها في جيبي لأني ما احب البس الخواتم.
رست على بر الانشراح بعد يومها الدراسي وصباحها الرائع معه.. فأمست ضائقة منه.. ركزت أنظارها على الطريق وهي تقول بصوت محطم: تشوف نفسك غلطان مشعل؟
قطب حاجبيه بتكشيره خفيفة: وليش لزوم واحد فينا يغلط؟
وضعت رجل على الأخرى وهي تحرك دبلتها: لا طبعا.. بس دامني شايله بقلبي عليك.. إما إنك مزعلني أو فهمتك غلط.. وش رايك؟
اعتدل بجلسته مجيبها بشيء من التثقيف لمكنون شخصيته: الوكاد فهمتيني غلط.. ونا دايم اقولك في ذي الحالة تعالي عشان افهمك.. بدال لا تبنين توقعات وترسمين تنبؤات بعيدة عن الواقع.. ممكن تأجلين الكلام لوقت ثاني؟ منهك صدق.
نظرت إليه لترفع عينيها عنه سريعًا وهي تتساءل باستهزاء: رحت مافيك إلا العافية وش مرضك؟
همس ببرود: الحمدلله كله أجر.
اومأت بموافقة ووعيد: طيب طيب.. بس ترا بنوصل وباقي نكمل كلامنا.. اوصلت لدرجة مب عارفة وين بتوديني.. لو ما قلت لعمي ولا أنا يا غافلين لكم الله.. تصرف بوضوح هذا اللي اطلبه منك.. بس لو تصرفت معك بنفس الأسلوب بتقعد تعطيني نصيحة وش كبرها!
أرجع شعره للخلف بضجر من هذه الحرارة التي تزداد سعيرًا.. ما ان انتهت ليرد باسترسال: أنا كذا تاج.. وذا الشيء ما ظنتي يقلل من قدرك.. لو ما قلت لك وين وجهتنا ولا وش بنسوي مب معناته ابي اضايقك واتعمد انرفزك لا حشى.. وش مزعلك قولي اللي بخاطرك؟
فلتت حروفها بصدق شعورها: وش له رايح الدمام؟
ضرب على المقود بخفة ملتفتًا إليها ليرمقها بقلة حيلة: وش تبين تسمعين؟
ضحكت باستنكار وابتسامة غيض: اسألك وترد علي بسؤال؟ رجعنا لنقطة الصفر تموت لو ما عشت دور الغامض!
ضحك ببحة صوته المرهق لكن ذلك كان كفيلًا بإظهار إعجابه لما رمت إليه: اسمعيني يا الغالية.. رحت الدمام التزام وواجب اديته ورجعت..
قاطعته وهي تلف بجسدها عليه وقد خلعت نقابها لخلو الطريق المؤدي للبر من السيارت.. وعينيها تلونت بغيرة سليطة وانزعاج: وش اتفقنا عليه مشعل؟
ظل مركزا نظره على طريقه: اعيد واكرر لانفسرين تصرفاتي على إني ابي اضايقك.. لو ماهو واجب علي ما كنت رحت.
ميّلت رأسها بعناد وهي الأخرى تشعر بحرارة غيرة وغيظ تداهم جسدها الناعم: بس ذا الواجب يضايقني.. عادي اتضايق؟
اهتدى صوته بعطف.. وعينيه وقعت على ملامحها ليتنهد: شيلي ذا الموال من راسك تاج.. لا تطرينه كل شوي.. ولا يروح بالك بعيد.. ما يجيب راس الضابط إلا وش؟
ظلت رافعة حاجبها بإحتدام ولم تتحرك أو تنطق بكلمة ليجيب عن سؤاله بنبرة منخفضة هامسة: إلا تاجه!
اخفضت ناظريها لأسفل بتفكير محير ولا تزال على وضعها لترفع عينيها إليه تتأمل ملامحه الجانبية.. فقالت بيأس وبلا اهتمام: لمتى ذا الواجب؟
تسرع قائلا: ادعي إن الله يتمم كل شيء على خير.. ونودع مب ذا الواجب وبس.. إلا كل الواجبات.. مرت دقيقة صمت ليقطعها بسؤاله المرافق بإبتسامة عذبة: تصافينا؟
عضت شفتيها وهي تعيد ترتيب حجابها: مدري.
تبسم بترحاب: خذي وقتك بس لاتطولين يا وجع قلبي.. قالها بابتسامة جانبية موقنًا باستيائها منه.. وقف أمام مخيم والده الخاص بالعائلة.. كعادة ممتلكات الشيخ خالد.. يمتلك من الفخامة والأناقة مالا يترك لحديث النفس خوض النواقص فيه.. كان بالقرب من مخيمات عدة يمتلكها أقاربهم من آل مسفر.. خرج برفقتها وهو قد أخبر الحارس مسبقًا بتهيئة المكان فأشار لها بالدخول وعينيه قد التقت بعيني ذلك الشاب: تاج ادخلي قبلي بسلم على الرجال.
تابعت سيرها متذمرة بصوت هامس: دواك عندي.
هتف لها بضحكة ماكرة قبل أن تعتب باب المخيم: زين أنك تعرفين.
توجه ناحية بجاد الذي اقترب لما دخلت تاج.. وذلك يهلل ويرحب بطريقة مضيافة متهللة: هلا بن عمي حيه ولد الشيخ.. يا ساعة الله المباركة.. شلونك وشلون الوالد وأخوانك.. من مبطي ما سيرتوا هنيّا عسى بس الجماعة قادمين؟
صافحة بحرارة وقد ابتسم بعينيه بترحيب: ارحب يابو سعود أمورنا طيبة طابت أيامك أنت ومن يعز عليك.. حياك تفضل...
قاطعه بإصرار وقسم: علي بالطلاق إنكم أنتم اللي بتشرفونا.. الباب بالباب يبو محمد طل علينا أنت والأهل بأي وقت.
ضحك ضحكة قصيرة وهو يمسح جبينه الذي بدأ يتعرق: ما يصير تقول كذا.. تطلق بنت الناس قبل تعرس عليها! شارب شيء أنت؟!
تبسم ابتسامة عريضة ونظرة غامضة خطفها لمشعل وهو يتمتم منهيًا حديثه: الله يكون بالعون.. سلم على أهلك كثير.. لا تعوّدون قبل تسيرون علينا نضيفكم.. حافظك الله وإن بغيت شيء لا يردك إلا لسانك.. محسوبك ممتر البر شبر شبر.. حتى الضبان تعرف منهو بجاد.. قال كلماته بهزل وهو يتراجع عائدا لمخيم والده الذي يبعد المترات عن مخيم خالد آل مسفر.. فتح باب سيارته حاملًا ملابسه متوجهًا للداخل.
ما إن توغل للداخل حتى وجدها بالغرفة الطارفة.. على حالها ويبدو أنها تهاتف أحدهن.. تركها قاصدًا الحمام وهو يستعد لنشر رذاذ الماء البارد على جسده الساخن.. تلك الهائجة قد كبدته عناء السفر إليها ليغادر حاملًا عدوتها بحوزته وكأنها تذكره بوجودها وإن طالت المسافات وافترقت الطرق.
تاج الجالسة بتأمل للمكان وصوت عبير يصل مسامعها: توتو روقي يا عمر أختك.. لا تكلمين مشعل وأنتِ معصبة.. أحياناً تقولين كلام ماله داعي لا زعلتي وبلا سبب بعد.. أختك وأعرفك وبقولك اياها قبل لحد يقولها بوجهك.
عبست بملامحها الجميلة وهي على اعتراض كامل بما تقوله أختها.. أخفت حقيقة ظهور أحلام بحياة زوجها.. لا تريد لأخواتها القلق أو التفكير بها.. ستتدبر أمرها بنفسها.. لكن صدرت كلماتها بصرامة وشراسة: سافر بدون لا يقول! عبير لو ما بردتي خاطري بكلم غيداء.. غلطانة اني اكلمك دمك بارد ما تحسين فيني.
ضحكت بعفوية وصخب لترد هازلة: والله لو كلمتي غدوش.. بينوم مشعل في الصالة.. انتبهي تكلمينها المجنونة.. طيب حقك علي.. هاوشيه بس خفي عليه.. رجلك ترا ما يتحاكى.. تحسبينه مثل رجلي ولا فهد؟ يا كم قد قلتي لي بوقفه عند حده وتالي اتصل عليك.. إلا واحصلك نايمة في العسل.. خيتي طاحت ومحدن سمى عليها...
قاطعتها بقهر فلم تعد تتقبل أن تتذكر مواقفها معه وهي بهذا الحال من الهيجان الناقم منه: خبلة أنا اتصل عليك.. خلاص قفلي قبل يطلع من الحمام.. تبين شيء؟
تحدثت بحب وعطف: ابي سلامتك وسعادتك.. الله يسخركم لبعض توتو.. تصبحين على خير.
أغلقت اتصالها براحة تسربت إليها من كلمات عبير المطمئنة.. وقفت تخلع عباءتها وهي برداء النوم.. استذكرت حضور أهل زوجها المحتمل.. فارسلت لجمان *وانتوا جايين يمنا.. جيبي معك ملابس لي*.. فلتت شعرها وهي باقية بمكانها لا تعلم أي غرفة سيقطنون.. ظلت تمشي بطرق متعاكسة بانتظاره.. هدأت العاصفة بداخلها ومزيج من الود والاهتمام ناحيته خيّم على مشارف قلبها.. بلعت ريقها بتوتر وخجل من صراحة ووضوح عاطفتها الأنثوية تجاه صخب رجولته.. تلمست شحمة أذنها على عجل.. فسمعت صوت الباب يُفتح لتلتقط هاتفها بمحاولة الانشغال غير مدركة لما بين يديها.. منشغلة بالتفكير عنده.. ليواجهها وهي تفتعل اللا نظر إليه.. فالتقط هاتفها المقلوب ليعيده إلى وضعه.. وهو يبتسم لها بدهاء: كذا الناس تمسك الجوالات.
نظرت إليه بنقمة وهي تضع الجهاز جانبًا: ما يضحك! وين غرفتنا.. فيني نوم.
اقترب وهو يرتدي بلوزة بيجامته مقبلًا رأسها ليبتعد مسافة قصيرة: انفدى الزعلانين.. تحولت ملامحه لابتسامة ذابلة بفعل الارهاق: غرفتنا آخر الممر يمين في يمين.. ولا اقولك تعالي معي اوريك.. اخاف تهببين وتدخلين غرفة بالغلط.
قبضت كفه اليمنى بتملك وهي تمشي متحاشية أن تقع أنظارها عليه.. شد على قبضتها دون أن يقبلها كعادته.. فهو يتمالك نفسه من الانغماس بها.. مرضه في اشتداده ويخشى عليها الإصابة.. وصلا غرفتهما ليقول وهو على وشك المغادرة: محتاجة شيء تاجي؟
نظرت إليه وهي تتعلق بذراعه بغنج تخجل أن تستشعره بذاتها.. وهي قد قررت أن ترقده في حجرها.. حضنها الذي دائما ما يكون مخاده الخاص.. تبسمت بتوتر مغري: ما تبي تنام؟
تنهد بعجز وآهات خفيفة هائمة صدرت منه قد اربكت تاج.. قلبت تفكيرها رأسًا على عقل.. حتى أنها تركت ذراعه وهي تمسد على شعرها بانشغال.. زفر هواءه بارتياح: نامي هنا.. انا رايح غرفة تركي.. ما ابي اعديك...
قاطعته بخيبة: إن شاء الله منت معديني.. بس تعال مشعل!
لعق شفته العلوية وهو يتنفس بهدوء: ودي يا تاجي لكن ماباليد حيلة! قبل لا اجيك مريت المستشفى اجريت بعض التحاليل وعسى بها منفعة.. بعدين بعوضك باللي تبين كم تاج عندي!
صفق ملامحها احمرار قاني فابتسمت بتلقائية مخفضة أنظارها للأسفل.. سمعت صوته المبحوح: يالله يا كريم أم محمد ترضى علينا وحنا بصحتنا.. تصبحين على خير.
اقتربت محتضنته بدفء وقد تاقت إليه.. حضنه وتنتهي عنده رغباتها.. عقب وفاة عمها وصدها الدائم له لم تكن لتحتضنه أو يبادلها هو الآخر.. كانت تمتنع عنه وتمنعه عنها.. وما إن ترسبت رغبتها الجامحة به.. لم يُقدر لها أن تعوضه أو تعوض نفسها وحاجتها إليه.. شعرت به يطوقها باحتضان مربك لذبذبات مشاعرها.. قبلته على صدره بخفة لتبتعد وعلى محياها ابتسامة خفيفة: وأنت من أهله.. حبيبي.
ابتعد عنها ليعود لدوامة السعال وهو يومئ لها ذاهبًا باتجاه صف آخر من الغرف المخصصة لأخوته.. في ليلة كادت أن تكون لهم اجتماع بعد فراق.

****

نظرت الى ساعة معصمها بضطراب ومسرة.. لعلها لا تعرف مشاعرها في هذه اللحظة من شدة التناقض الذي تشعر به.. فهي متخوفه من ان يتم التنبه على خروجها في هذا الوقت (منتصف الليل) وهو وقت خلود الفتيات إلى النوم.. فقد تسللت دون علم أحدهن، حين وصلتها رسالة منه يبلغها بالخروج وقد وعدها بإرجاعها قبل موعد استيقاظهن.. تلفتت عندما سمعت صوته الذي اخترق دهاليز أفكارها التي تخلل توازنها، وتُرسل ذبذبات من الإرتباك والتوتر: هلا!
-وين سرحتي؟!
تبسمت قليلًا ثم أجابت: اخاف اقول لك وبعدين تزعل!
-وشو علميني.. ابي اعرف وش تهوجسين فيه؟
-عبدالاله توعدني نجلس بس ساعتين ثم نعود.. أخاف البنات او خالة شمة ينتبهون على غيابي.
هز رأسه ببطء وعيونه مصوبه على طريقه.. ليقول دون أن يتلفت لها وهو ينعطف يسارًا: ما عليك اهم شيء سويتي اللي علمتك عليه!
-ايه قفلت باب الحمام بالقفل وفتحت الدش.. بس مدري خايفه.. تعرف اول مرة اخرج في الليل.. وانت الله يهديك ما اخترت الا ذا الوقت.. لو اجلنا اليوم مو احسن؟!
القى عيونه عليها، بنظرة لا تفسير لها سوى بانها تشير الى شيء اثار ارتباكها.. وبصوت مغلظ متعمد: لا مو احسن.. انا ابي ذا اليوم special يا ملك.. يعني باختصار شيء لا صار ولا استوى ما ابيك تنسينه بالمرة.. ومتأكد أنه بيعلق في ذاكرتنا جميع.. والافضل اني اسكت هالحين لأني متخوف اخرب ام المفاجأة.
انشرحت اساريرها وبقيت تتأمل ملامحه المركزه على طريقه وكأنه يحرص على السير وفق قواعد القيادة الصحيحة.. إنجذاب كامل تصوعه عيونها المتأملة للون بشرته البرونزية النادرة الرؤى.. له عينان واسعتان، ثاقبتان، حالمتان، عسليتين، بحر يدعوك للإبحار بحرية داخلها، قلعتان تحميهما اهداب كثيفة وطويلة، ذو أنف مستقيم، شفتاهُ منتفخه طفوليه.. متوردة وكأن هذه الشفاه لم تحضتن يومًا سيجارة.. فهي تجبرك بإعادة النظر للتأكد من اللطافة التي تميز وجهه فتعطيه طابع لا يشابه شخصه المشاكس، الماكر.. أسنانه بيضاء متساوية متراصة، شعره بين أملس ومُجعد كستنائي اللون كما ورثه عن والدته.. طويل القامة، ممشوق القد، أصابع يديه طويلة رشيقة كعازف موسيقى. وتزداد جاذبيته بلباسه الرياضي ذا اللون الاسود بالكامل عدا البلوزة البيضاء التي يحتضنها "جاكيت" اسود.
استشعرت بتأملها الذي طال لدقائق حين وقعت عينه فيها.. فتبسمت خلف النقاب بخجل وابعدت ناظريها لتضعها على الشارع الذي يغرو بعدد من السيارات التي لا تتجاوز الخمس.
اخذت انفاس ثم قالت موضحه، وعيونها في الفراغ: كلمت هلك على موضوعنا!
اعتدل في جلسته، وتواضع بإبتسامة هادئة رسمها بتضلع: وش تتوقعين؟!
رفعت حاجبها باستنكار، لافه رأسها جهته: وش تقصد؟
-قصدي واضح.
عقدت حاجبيها بتعجب وعيونها على ذلك المبنى الذي يحوفه سور عظيم.. فيستطيع أي شخص أن يراه من بعيد.. فُتحت الأبواب عند مرور سيارته بعد أن رمقه البواب، فسيارته مظللة لذا مامن خوف عليها أو مس شبهة. أكمل سير سيارته متداخل في طرقات المزرعة الفارهة.. وهي لا تزال تنتظر رده ليلجم جميع افكارها المتضاربه.. حتى أردفت وهي تحس بتباطؤ عجلات السيارة، دلالة على قرب توقفها: لا ما فهمت قصدك.. لنا كم وأنت تقول راح اخبر هلي بعلاقتنا.. يعني أنت ما عطيتهم علم.. ابي افهم عبدالاله لا تمشيني كني بزر؟!
توقفت عجلات السيارة أمام الفيلا العظيمة.. فالتفت ناحيتها، مصوب كامل تركيزه في عيونها الظاهرة من خلف النقاب.. بلا ملامح أو نبرة في كلماته: انزلي بالاول بعدها بنتفاهم.
-طيب فهمني هنا.. عشان الحين انا تضايقت وما ابي اخرب المفاجأة حقك.. لجل كذا علمني وريحني.. أنت كلمت اهلك ولا لا؟!
ران اليها بابتسامة عقدها بشكل لئيم مبهم.. فقال وهو يفتح حزام الأمان: طيب انزلي.. قلت لك خل نتفاهم بالداخل.. ما لها لزمة نتكلم هنا.. يالله لا تتأخرين علي.. احتريك.
قالها دون أن يسمع ردها.. فهبط مغلق الباب خلفه.. تفاقم انفعال داخلها وهي تراه يتقدم بخطواته دون أن يتنبه لوجودها.. فتحت باب السيارة بإحتدام من تجاهله لها.. خرجت وخطواتها تتبع وجهته.. حتى حين دخلت كان المكان مظلم ما من ضوء إلا أنها تطلعت الى هيئته الواقفه على السلالم.. فقالت بحيرة: عبدالاله!
ولم تكمل فقد أجاب وهو يرفع اصبع سبابته لأعلى: تعالي خل نصعد.. فوق المفاجأة مب هنا.
تلعثمت الكلمات داخلها، فاختزلت. الا أنها اتبعت طريق سيره.. الذي يبعد عنها لمسافات كما لو أنه يسابقها.. تنظر في الممرات المظلمة بتوهان.. فامتدّ هدوء بينهما طويلًا كما الطريق الذي يعبرانه، وامتصهما سكونٌ فاتر، شعرت بارتباك غريب، إذ بدا الأمر جرمٍ أن يمشيا في طريق واحد.. وحين أرادت أن تردف بإستفسار.. اختفى عن مرأى عينها بدخوله لإحدى الغرف. واصلت سيرها ودخلت الى ذات الغرفة.
-عبدالاله!
قالتها ولا تزال واقفه فوق العتبة.. فنظر اليها بجمود ولم تلحظ ملامحه.. فلا شيء يُنير المكان سوى أضواء خافته تُعكس من النوافذ العريضة المحجوبه جزئيًا بالستائر.. اقترب منها وعيونها تتابع سيره.. ابتعدت عن طريقه حين صار على محاذاتها.
اسرعت بقولها المدهوش: ليش تقفل؟!
لم ينبس بكلمة فقد قام بإغلاق الباب، ثم اخرج القفل من القلب.. تنبهت على عيونه التي حُدقت في خاصتها.. وازدات حصانة وسحابة إرتعاب تلاعبت بأطرافها لترتعش وهي تراه يقترب منها ببطء متعمد خسيس.. على عجل وضعت يدها على صدره وظهرها يرتطم بالجدار.. وكأن يدها أصبحت حاجز أو صد لكي لا يتوغل فيها أكثر.
قالت بذُعر وتشعر بأن اسنانها ترتطم ببعضها: عـ.. عبدالاله.. وش.. فيك.. و.. وين المفاجأة.. اللي قلت عنها؟! صمتت ليس لأنها لم يكن لديها تساؤلات، بل لأن رجفة شفتها وشعور فزع قد انهال عليها فأسكتها.
وضع يده مسندها على ذات الجدار الذي تستند عليه.. رد ويده تسحب النقاب من على وجهها.. بنغمة جديدة عليها، فيها من النغل والخباثة ما تزيد نبضات قلبها الراعد: تبين تعرفين أن علمت اهلي بعلاقتنا! قال آخر كلماته بضحكة عميقه ساخرة مستهزئة.. وقحة، متسلطة.. وعلى عجل تحولت تلك الملامح الى الاستحقار، والاستصغار.. وقد اقترب منها أكثر، ليقول بصوت اشبه بالهمس: تخسين وتعقبين.. وحدة مثلك تصير حِل لي.. مب أنا اللي اتزوج بنت حرام.. قلتها من قبل والحين اعيدها.. مجهولة نسب ما تصلح تاخذ ولد حمايل وشيوخ.. حدها تعرس على واحدن من مواخيدها. ثم اكمل ويده تعتصر ذقنها بقسوة: انا عبدالاله بن خالد يا قليلة الأصل ما ينقال لي منحط أو قذر أو ****.. هالهرج ينقال لأمثالك عيال الحرام.. سمعتي ولا اعيد!؟
تحجرت الدموع داخل عيونها، عرفت بأنه لن يغفر اغلاط حكتها وقت انفعالها من خسارته! فهل يحاسب الماء من أجل غريق.. أو خنجر من اجل نزيف!
صدمة شلت حواسها جعلتها تنظر اليه، والآف من علامات الاستفهام المتداخله تحتاج الى إجابات واضحة وصريحة.. أكمل وهو يرمي نقابها أسفل قامته بإمتهان: يا كبرها عند العرب لو يدرون ان عبدالاله تزوج وحده مثلك.. المفروض هالعقل لا يقفز لمستوى أعلى من مقامه.. أنتِ مجرد تسلية.. حاجة تروّح عن النفس وتروقني.. غير كذا ما لك اي لزمه في حياتي.. هو صحيح يحق لك تكابرين مو لأن يحق لك شخصيًا بل لأن لسانك خاطب لسان عمك.
يتأمل بتلذذ آثم وسيادة الذعر الطافح من عينيها الصبابة كحنفية على خديها.. ألم هائل يُلمُّ بها، تشعر بأن الدمع أن لم يسقط سيحرق محاجرها من شدة حرارته.. ما كان للإنسان في كل أوان أن يحدس ما يتجاوب في قلوب الناس من أصداء الأحاسيس المختلفة الخلجات المتنوعة.
ببحة بكاء تنزف صوتًا متحجرج داخلها كما لو أن احبالها الصوتية قد فُصمت: لـ.. ليش.. ليش تقول كذا.. أنا ايش سويت لك.. بس عشان ذيك الايام! كل ذا شايله في قلبك علي.. أنا.. أنا يا عبدالاله...
قاطعها بخبطه قويه على الجدار المستنده عليه.. فأصمتتها، وتكلم باشتداد: تخسين تردفين بأسمي من غير القاب.. انا العم عبدالاله يا خدامه.. مو شايل في قلبي على وحده نكره بس ابي اعرفك على مكانتك اللي نسيتيها ذيك الايام وترفعتي وحسبتي نفسك محدن قدك.. هالحين جاي لجل اوضح لك من انتم ومن حنا يا مجهولين النسب.
يبدو أن الحقيقة التي لا مراء منها، هي أنه كان يُريد توضيح الفروقات التي لازمتها طوال عمرها الخمسة والعشرون.. ما أكثر ما فعلته كلماته الشديدة الباطشة جاعلة جسدها يرتجف من العبرات ووقع المشهد على قلبها الحساس.
خرج سؤالها مرتعشًا، بكلمات متفرقة، لا تقوى على استجماع شتاتها لتُنظمها في جملة واحدة. السؤال نفسه هزّها، شتتها، وكأنه يصدر عن فتاة أخرى غيرها، لكن لا مجال للخطأ، الصوت صوتها، والسؤال سؤالها. تجمعت لهفة عينيها ورجاؤها ليتعلقا بشفتاه: ليش؟ أنا.. أنا حبيتك ليش تسوي فيني كذا.. كل ذا عشان كلام زل لساني به وقت عصبيتي.. عبد.. اغمضت عيونها بصدمة وإرهاق بالي، ثم أكملت كلماتها بشهقات تطعن كلماتها الصريحة ممنوعة من التفسير بغير الشفقة: لا تكسرني تكفى قول انك تمزح.. ارجاك لا تقول كلمة تجرحني.. سألتك بالله ترحمني.. وترحم حاجتي لك.. ليش أنا من بين كل البنات اللي حبيته قسى علي.. ليش ما كملت جميلك وتركتني في حال سبيلي بدل ما ترمي علي كلماتك اللي توجع وتطعن كل دواخلي.. لا تقول بنت حرام هالكلمة بالذات ما قدرت اتخطاها وقت ما رميتها علي ذاك اليوم.. عبدالاله. قالتها بترجي واضعه يدها على ساعده.. الإ انه نفض مسكتها كما لو أنها داء، أو نجاسة لا يُريد أن تعلق فيه.. وبشدة منطوقه المتعجرف: دامك مو قد كلامك ليش تهرجين به.. بنت حرام هاللي تتحاشين سمعها هي أنتِ.. انا ما جبت شيء من راسي.. وان تبيني اتغاضى واصفح عنك تعذري من عمك واطلبي السماح.. ابي اشوفك تبكين قدامي عشان اعرف بصدق اعتذارك ونواياك.. لجل مرتن ثانية ما تتطاولين على اسيادك.. وتعرفين مين حنا ومن انتم.
ردت بصرخة حارقة نابعة من اعماق جذور احاسيسها اللهيفة المُدله، بحنق لا تجهد لإخفائه.. واصبحت تضربه على صدره بكل ما أُوتيت من قوة مع كل كلمة تردف بها، حتى ان حجابها سقط ارضًا من تحركاتها المخفوقة: ايه عرفت من انتم ومن حنا.. انتم ناس واطيه وسخه.. حثالة.. عديمين شرف وبلا ذمة وضمير.. مجهولين النسب هذول اشرف منك ومن اللي خلفك يا معقد يا مريض.. يا مخنـ... قاطعها بصفعه حاميه جاعلتها تسقط ارضًا، من شدتها تسمعت لطنين أذنها، وما حولها يلف ويدور.. طنين حاد يثقب مسمعها، حتى ران اليها صوته الكريه وهو ينخفض على ركبتيه، ممسكها من عضدها يرفعها من على الارض بملامح تقزز واشمئزاز: هذا الكف لجل وقاحتك يا **** وهذا.. ناولها صفعة اخرى حتى نزفت شفتها وانفها، وتراجعت ساقطة ارضًا وهي تئن من الألم: لجل ذيك المرة.. كافي ولا بعدك.. ها! اردف بأخر كلماته بصرخة.. مخلل يده داخل شعرها شاد عليه بقوة لدرجة تشعر بأنه سينتزع فروة رأسها.. تصرخ بألم ويديها على قبضته الموثوقة: اعتذري يا كلبة.. ابغى اسمع ترجي وتضرع.. ولا والله ما يفكك مني شيء.. هز أكثر برأسها وقبضته تزداد توغل حتى صرخت بقولها المترجي الواهن: تكفى يا عبــ... قاطعت توسلها بصرخة متألمة نازفة حين اثاره قولها.. رادًا عليها: مين عبدالاله! انا عمك يا ****.
هزت رأسها بتسرع: ايه عمي.. تكفى اترك شعري والله يوجعني.. راسي يعورني.. واللي يسلمك اتركني.
ولا زال يتملك شعرها بقبضته المجرمة، مقترب منها بنظرات متعالية متملكة سادية، قاسية.. رافع رأسها لمستوى نظرة: انتِ وش؟!
بمنطوقها الراجف المشكك تنظر في عينيه بلا فهم، وما الإجابة التي سترضي غروره وتغطرسه: أنـا.. أنا خدامتك..
قاطعها: وايش؟!
شهقة قاسيه تخللت كلماتها الراضخه الخانعة، خرجت من اعمق بؤرة داخليه لها تستغيث فلا مجيب سوء كبرياء وإذلال متبختر: عبدتك.
إنكفت يده من على شعرها بطريقة غثيان وتقرف، وقف وهو يسير لداخل الغرفة.. ثم جلس فوق السرير بينما ينزع الـ "جاكيت" ملقيه فوق السرير.. قال بنبرة إلزام، ويحرك يده بطريقة استصغار وكأنه يصوّت على كلبه: تعالي.
رفعت بصرها بضعف وألم يوخز كامل بدنها.. لبثت مكانها وهي تنظر اليه بإرهاق. ليصرخ أمر: قلت تعالي هنا.. ما راح اعيد مطلبي اسرعي.
ما اقسى ما فعله في فؤادها الذي احضتنه بكل ما نال من قوة.. رفقًا بما تبقى منها!
وضعت يدها على الحائط في محاولة لأن تجلب صلابته حتى يمكنها الوقوف فأقدامها تعجز عن حملها.. واهنة هي وازداد وهنها كسره لدواخلها، وسيظل هذا الخدش في ذمته دائمًا.
تقدمت حتى انحنت مستويه على الارضية بالقرب من أقدامه.. كما أشار لها بأصبع سبابته.. عيونها لأسفل.. رجفت شفتها فزمتها حتى لا تصدر نحيبها الضاج داخل بلعومها.
تأكد أنني لن انسى بشاعة ما اشعرتني به. وهطلت دموعها متزامنه مع يديه الناثرة حزمتان من الاموال من فئة الخمسة مئة.. كما لو أنها عاهرة، فاجرة.. وهو يقول بثقه مسمومة: اعتبريها حصتك لليوم.. وان تبين زيادة فتبشرين بما أنك وسعتي صدر عمك تاج رأسك.
واكمل بنثر الاموال فوق رأسها حتى اسقط حزمة ثالثة فوق فخذها.. وهو يقول بصوت ماكر خادع: الا صحيح.. اذكر ذاك اليوم قلتي تبين تعرفين ان كنت رجال او... قاطعته صارخه وهي تلتفت بكامل جسدها واضعه يدها فوق ركبته بترجي وتوسل، بينما هو رسم على معالمه إبتسامة وضيعه، حقيرة.
-ما قلت كذا.. والله ما قلت.. امسحها في وجهي واللي يخليلك اهلك.. انا ما اقصدها.. سامحني يا عمي.. الله يسعدك.. قطعت كلماتها بأنين مغلوب.. واضعة رأسها فوق ركبته بعجز وإنكسار.
ازدادت الابتسامة على محياه بخبث منحرف.. وهو يمسد شعرها بيده كما لو أنها حيوانه الاليف.
-تؤ.. تؤ لا ما عرفتك.. وين ذيك اللي يلعلع صوتها ولا خلت احد من اهلي الا وسبته.. ابي اشوفها هاللي رافعة خشمها فوق ولا تناظر احد.
عاجلت بقولها، مرتكزه على ركبتيها، ممسكة بكفه الذي كان يمسد به شعرها وهي تلثمه بينما تركها تفعل ما يحلو لها، بل أنه تبسم بتشفي وخيلاء: ابوس يدك تخرجني من هنا.. والله ما اعيدها.. توبة ارفع صوتي عليك.. الله يخليك يا عبــدالـ.. يا عمي.. ترجعني.. يمكن البنات او شمه يعرفون اني مو موجودة..
قاطعها وهو يخفض ذاته ليمسك بذقنها، مقترب منها وعيونه في عيونها المكحلة كما طلب منها في ذاك اليوم: خليهم يعرفون..وش فيها.. وحدة عند عمها تلبي له رغباته ومتطلباته.. فيها شيء ذي؟!
وانكمشت على نفسها، وأغمضت عينيها، وأجهشت، ثم استخرطت في البكاء. اخذ الصعداء بتملل من سماع بكائها المستغيث.. وما إن حاول مسك ساعدها حتى تراجعت للخلف على عجل وهي تقول بإندار رافعه سبابتها بينما تتسحب للوراء: لا تقرب مني.. ولا يمين بالله لاشتكي عليك!
ضحكة ساخرة صدرها وهو يتقدم بأقدامه ببطء مستمتع: جد! طيب انا ابيك تشتكين.. ودي بهالشيء من زمان.. بس لحظة من اللي بتشتكين عنده!؟
وقفت بتسرع مهرولة ناحية باب الغرفة وهي تحاول فتح المقبض.. صارخة بأعلى صوتها: افـــتـــحـــوا الـــبـــابـــــ.. قطع كلماتها سحبه لها، حاملها فوق ذراعيه.. بينما كانت تنازع بأقدامها لفك استحكامه.. ويدها تلكم ظهره.. وما لبثت الا وهو يرميها فوق السرير.. وقبل ان تنهض كان ماثلٌ فوقها.. معتليها خالع بلوزته راميها ارضًا بتسرع.. وبنظرة احتقار ساحقة.. كبل يديها بكلتا يديه.
بنبرة ممتهنة نغلة، وانفاسه تتخبط على سماتها: احمدي ربك انك اول مره راح المسها.. انا ادري انك تبين هالشيء من زمان لجل كذا اركدي ما ابي اسمع صراخ حتى ما اذيك.
من بين دومعها ونشيجها المترجي: تكفى لا.. تكفى.. ابوس رجولك يا عمي.. تـــــــكفــــى.... آآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآه.
صرخة اعتلت فجلجلت اركان المبنى المهيب.. ولم يجب قلبه الجلف.. فلا رادع لهذا البركان الهائج المدمر لكل ما حوله بلا استثناء.. فتتسع بقعة الظلام في هذا الليل المشؤوم ومع عتمة الروح تزداد العملية قسوة ووحشية.. فجور هالك وغيمة دعجاء حاوطت هذا المكان.. النازف لروح فتاة عُقبة من أجل حب واهم.

{ فَأَمَّا ٱلْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ }

Continue Reading

You'll Also Like

1.1M 86.9K 77
‏لَا السَّيفُ يَفعَلُ بِي مَا أَنتِ فَاعِلَةٌ وَلَا لِقَاءُ عَدُوِّيَ مِثلَ لُقيَاكِ لَو بَاتَ سَهمٌ مِنَ الأَعدَاءِ فِي كَبِدِي مَا نَالَ مِنَّيَ م...
714K 10.4K 44
روايه اعجبتني ف حبيت اشركها معكم للكاتبة }{!Karisa!}{
5.1M 151K 103
في قلب كلًا منا غرفه مغلقه نحاول عدم طرق بابها حتي لا نبكي ... نورهان العشري ✍️ في قبضة الأقدار ج١ بين غياهب الأقدار ج٢ أنشودة الأقدار ج٣
7.2M 356K 71
" سَــتَتركينَ الـدِراسة مِــن الــغدِ.. لَــقد سَـحبتُ مـلفاتكِ مِــن الـجامعةِ بـالفعل ..! " " مـالذي تَــهذي به..!؟ " " هــذا مــا لَـدي... لاتَ...