الجثة المفقودة

2.3K 153 8
                                    

الجثة المفقودة..

كنا صغاراً نلعب الكرة بين بيوت القرية، في ساحة ضيقة يقبع في طرفها بيت غامض لعجوز قبيحة وشريرة لم نرها تبتسم يوماً، وكانت الغربان السود دائماً ما تعشعش في أركان وسطح بيتها، لذلك كنا نطلق عليها اسم الساحرة، وكانت هذه العجوز منطوية على نفسها، لم تقم صداقات مع نساء البلدة، ولا تستقبل أحداً في بيتها ولا تزور بيوت جيرانها ولا تتعامل معهم وهم لا يتعاملون معها، وليس لديها عائلة فهي تسكن وحيدة في منزلها منذ زمن طويل، فكل ما سمعناه من الناس أن زوجها هاجر إلى الخارج منذ فترة بعيدة ولم يعد..!

وكانت لا تسمح لنا باللعب جانب بيتها وكثيراً ما كانت تلاحقنا لتضربنا وكنا نهرب منها، ونقول "الساحرة أتت.. الساحرة أتت" وهذا كان يزعجها ويغضبها كثيراً، كانت تتسلل إلينا في غفلة منا ونحن منهمكون في اللعب، فتظهر لنا فجأة وتأخذ الكرات وتخفيها في بيتها، سلبت منا كثيراً من الكرات وكلما اشترينا كرة قدم جديدة لا تدوم معنا سوى أيام ثم ينتهي بها المطاف في بيت العجوز ولا نستطيع استردادها. حتى ذلك اليوم..

اتفقنا أنا وصديقي أن نتسلق جدران بيتها ونسترجع كراتنا كلها، فلا بد أن هذه العجوز تحتفظ بها في مكان ما في منزلها المريع. بعد الغسق..

انطلقنا أنا وصديقي وتسلقنا حائط بيتها من الخلف وقفزنا إلى الداخل، ونحن لا نعرف متاهات هذا الدار، فلم ندخله أو يدخله أحد غيرنا، مشينا بحذر لكيلا نصدر أي صوت قد يفضح أمرنا فلا بد أن هذه العجوز ستقتلنا إن وجدتنا في منزلها..

ونحن نسير في ممر بين الغرف كنا نشاهد بذهول رسومات لقطط وغربان وأفاعي قد رُسمت على الجدران بالفحم الأسود، واصلنا السير حتى صادفتنا نافذة على إحدى الغرف، نظرنا منها فإذ بالعجوز نائمة على سريرها  وتحيط بها العديد من القطط السوداء، كان المشهد مخيفاً، فارتعب صديقي وهمس بأذني "دعنا نخرج" فقلت له "هي نائمة سنبحث عن الكرات ونخرج بها" مشينا بهدوء إلى المطبخ فتحتنا بابه فإذ بنا أمام مجزرة من الديوك والدجاج قد ذُبحت وعلقت بخيوط في سقف المطبخ والدماء تقطر منها على أرضيته. خرجنا بحذر؛ والخوف قد فجع قلوبنا، فتوجهنا إلى غرفة أخرى تشبه الخزانة وكانت مليئة بملابس وأحذية رجالية قديمة، وحزم من الشعر مربوطة على الحائط، بحثنا عن الكرات ولم نجدها، حينها قررنا الخروج من المنزل.. ونحن في طريقنا رأينا باباً فقلت لصديقي دعنا نتفقده..

فتحناه فإذ به يؤدي إلى درج سفلي يقود الدرج إلى قبو تحت المنزل، دخلنا إليه فوجدنا به أشياء عتيقة منها ألعاب قديمة لأطفال، بحثنا في القبو ولم نجد الكرات، فأشار صديقي إلى صندوق كبير في ركن القبو، ذهبنا إليه وفتحناه، فارتعشت أجسادنا واختلت عقولنا وتقطعت قلوبنا من الرعب، لقد كان بداخل الصندوق جثة محنطة لرجل لم نعرفه ولم نشاهده من قبل، وكانت تنبعث رائحة كريهة ومنتنة، ومن شدة الخوف تركنا باب الصندوق فجأة فانغلق بقوة وأصدر صوتاً، فسمعنا مواء القطط في الخارج، ثم خطوات أقدام آتية إلينا، فاختبأنا خلف بعض الألواح والطاولات المتراصة هناك..

سمعنا باب القبو يُفتح، ثم رأينا ظل إنسان يدخل إلى الداخل، فإذ بها العجوز ومعها قططها السوداء، وكانت تحمل طعاما بيدها، ذهبت إلى التابوت وفتحته، ثم أخذت ملعقة من الطعام وقدمتها إلى الجثة وهي تقول: "كل يا عزيزي هذا عشاء أعددته لك، فلا بد إنك جائع" ظلت تتوسله أن يأكل وهي تدس الطعام في فمه، ثم قالت: "يا لك من عنيد فأنت لم تذق طعاماً منذ 27 عاماً".

أغلقت التابوت وهمت بالخروج وقططها تتبعها، وحين كادت تقفل الباب وراءها، كان صديقي على وشك أن يعطس، كنت أرى فاه ينفتح ويشفط الهواء استعداداً للعطس، وأنا أقول في نفسي "هذا ليس وقته" فوضعت يدي على فمه لأكتم صوته، لكنه رغم ذلك أصدر صوتاً لفت انتباه العجوز فعادت إلى القبو..

كانت تنزل الدرج وتجول بنظرها، فأخذت منجلاً كان معلقاً بالجدار وبدأت تفتش المكان، همست لصديقي سنهرب الآن.. قفزنا من مكاننا واتجهنا هاربين نحو الباب، لكن العجوز تمكنت من صديقي بعد أن رمته بالمنجل فتعثر، وأنا نجحت في الخروج من القبو، فتتبعتني تركض خلفي لتمسك بي بعد أن أغلقت باب القبو من الخارج على صديقي..

كنت أجري في دهاليز منزلها وهي خلفي تحمل منجلها، وصلت إلى الباب لكنني لم أجد الوقت الكافي لفتحه فهي تكاد تصلني، فتركت الباب وعدت أركض إلى داخل منزلها، أدخل في غرفة وأخرج من الأخرى، حتى وصلت إلى باب قادني إلى السطح، كنت أنظر إلى مكان مناسب حتى أقفز إلى الخارج، فإذ بالعجوز قد وصلت إلى السطح وأغلقت الباب خلفها، كانت تقترب مني ومنجلها مصوباً نحوي، فأغمضت عيني وقفزت من أعلى السطح فوقعت على زريبة أغنامها وسط كومة من القش، لم يصبني شيء، نهضت وركضت بعيداً عن بيتها..

توجهت إلى أحد الدكاكين حيث الناس هناك يسهرون، فأخبرتهم بكل شيء، اجتمع الناس وقرروا دخول بيت العجوز يتقدمهم والد صديقي، قرعوا الباب مراراً ولم يتلقوا رداً، فتسلق أحد الشباب البيت وفتح الباب من الداخل، توجهوا مباشرة إلى القبو، فوجدنا صديقي ينزف دماً من شدة الجراح لكنه حي، ثم فتح الرجال التابوت وفجعوا بالجثة المحنطة فيه، فتعرف أحد كبار السن على صاحب الجثة إنه زوج العجوز التي أوهمت الناس أنه مسافر في الخارج حتى تحتفظ بجثمانه.. أما العجوز فقد اختفت بعد افتضاح أمرها، بحثوا عنها ولم يجدوها.

في صباح اليوم التالي، قاموا بدفن الجثة في المقبرة، ومنذ ذلك الحين كثرت مشاهدات الناس لعجوز تقف عند القبر ليلاً ثم تختفي في الغابة ذات الأشجار الكثيفة التي تقبع في الوادي خلف المقبرة، بعد مرور سنين اجتاحت المنطقة أمطار غزيرة نجمت عنها سيول جارفة، وبعد انقضاء المطر بأيام وجدوا جثة امرأة منتفخة ملقية بين الأشجار كان السيل قد جرفها، ولم يعد أحد بعد ذلك يرى زائرة المقابر في الليل البهيم.

 متع عقلكWhere stories live. Discover now