التوأم

2.5K 211 10
                                    

شمال مدينة المكلا الواقعة على ساحل حضرموت وفي منتصف الخط الذي يربطها بمدينة سيئون في الصحراء الشاسعة، تتناثر عدد من القرى القديمة في الوادي العتيق، في إحدى هذه القرى وفي زمن ليس بقريب، سُمع ذات نهار في أحد البيوت صراخ طفلين، فهرول الأهالي مهنئين جارهم الذي ولدت له امرأته لتوها بنتين توأمين.

عاشتا الأختان في كنف العائلة التي رعتهما كما يرعى أي أب وأم فلذات أكبادهما. ترعرعت الفتاتان وكبرتا في حب ووئام، وكانتا تلعبان وتمرحان طوال الوقت مع بعضهما، فهما ليستا مجرد أختين بل صديقتين لا يفرقهما إلا النوم.

وحين بلغت الفتاتان سن العاشرة كانت أمهما ترسلهما لرعي الأغنام في الوادي المجاور، وهذه عادة كل الناس في تلك ناحية من البلاد، فالبنات أول ما يقمن به هو رعي أغنام أهلهن. مرت الأيام والشهور والسنين وكل شيء يمر على طبيعته حتى تلك الليلة، حين عادت الأغنام بعيد المغرب لوحدها إلى القرية، ولم تعد الراعيتان، فخافت الأم على بناتها واشتد قلقها، وانتابها شعور بالخوف وبدأت الهواجس تشغل عقلها وكل تفكيرها لعل شيء قد حدث لبناتها، فخرجت في إثرهما..

والأم تمشي في عجلة على حصى الوادي وبين شجيراته وقلبها يخفق كما لم يخفق من قبل، سمعت بكاءً يشق هدوء الوادي الفسيح، تتبعت الصوت ورجلاها تكاد لا تحملانها من شدة الخوف، وحين اقتربت رأت إحدى بناتها جاثمة وتنوح بالبكاء الذي يقطع القلب ويعصر الكبد من  ألمه..

كانت الفتاة تجثم بحزن على أختها التي فارقت الحياة، وقفت الأم وهي مذعورة لا تدري أتوقظ ابنتها الميتة، أم تحضن الأخرى المرعوبة انتشلت الأم ابنتها الميتة وجرت بها تحملها إلى القرية في ظلام الغسق فقد كان الوقت حينذاك عشاءً..

تجمع الأهالي حول بيت العائلة المكلومة، بغية معرفة الخبر، حيث الطبيب في الداخل يعاين ابنتهم الفقيدة التي يرقد جثمانها في إحدى الغرف، أكد الطبيب حالة الوفاة، وكتب في تقريره "ماتت بسبب سم قاتل".

وبعد أن زالت الصدمة قليلاً عن الأم الموجوعة واسترجعت شيئاً من عقلها الذي تشتت من هول المصيبة، تنبهت إلى ابنتها الأخرى والتي ظنتها أنها عادت معها من الوادي، فبحثت عنها في أرجاء البيت لكن لم تجدها، فتشت عنها في كل مخابئ البيت لعلها اختبأت مفزوعة في مكان ما بعد الصدمة التي عصفت بقلبها، لكن دون جدوى، قام الناس بالمساعدة وذهبوا يفتشون القرية بأكملها بحثاً عن الفتاة، ثم خرجوا أفواجاً يحملون المشاعل وهم متجهون إلى الوادي حيث وقعت الواقعة

قارب الليل منتصفه ولم يجدوا الفتاة وحار الناس أين ذهبت هذه البنت، أما والديها فقد أصبحت مصيبتهما مصيبتين، كاد الصباح أن يطلع ولم يعثر أحد على الفتاة الضائعة..

في البيت الحزين كانت تتم طقوس تجهيز جنازة الفتاة الفقيدة استعداداً لدفنها..

وقبل أن تخرج الجنازة دخلت الأم لتلقي النظرة الأخيرة على ابنتها المسجية في غرفتها، فرأت ما يشبه كيان فتاتها الضائعة تقف على رأس أختها المتوفية، لكن قبل أن يرتد إليها طرفها اختفت البنت فجأة. فأخبرت المرأة زوجها بذلك فقال لها: هذا مجرد خيال بسبب الصدمة والإرهاق الذي تمكن من عقلك فصنع لك تخيلات لا وجود لها..

دُفنت الجنازة، ثم توالى البحث الفردي والجماعي عن الفتاة المفقودة حتى امتدت عملية البحث إلى القرى المجاورة، لكن دون فائدة فلم يجدوا الفتاة، وسلّم أهلها بالأمر الواقع وظنوا أن الوحوش أكلوها حين بقيت لوحدها في الوادي، أما الأم فبكت كثيراً وحزنت طويلاً على فقدها المؤلم لابنتيها..

في ليلة شديدة السواد كانت الأم تجلس في غرفتها حزينة كئيبة، وفجأة نظرت في إحدى النوافذ، فرأت خارجها فتاتين تشبه توأمها تنظران بحزن إليها، هبت من مكانها تناديهما، لكن الفتاتين غادرتا واختفتا في الظلام، في الصباح أخبرت زوجها بما حدث، لكنه كرر نفس كلامه "مجرد خيال"

تغيرت النظرة وأصبحت أكثر جدية، عندما أدعى عدد من البدو الرحل الذين يسكنون في كهوف الوادي أن فتاتين  تترددا عليهم في أوقات مختلفة، واحدة منهما ناضرة الجسم بصحة جيدة، وهي تطلب الدواء لأختها المريضة ضامرة الجسد وذابلة. فذهب والدا الفتاتان إلى هؤلاء البدو يسألون عن أوصاف تلك الفتاتين، وكان الوصف يطابق أوصاف ابنتيهما إلا أن أحدهما كان جسمها ضامر وكأنها عائدة من عالم الأموات.

وبعد أن ترددت مشاهدة الفتاتين قررت العائلة نبش قبر الفتاة، وقد تم بحضور عدد من الشيوخ والوجهاء، حُفر القبر وحين وصلوا لعمقه وفتحوا اللحد، لم يجدوا إلا "عقد فضي" كانت الفتاة تلبسه في عنقها وقد دفنوه معها، أما جثتها فلا وجود لها.. اختفت من قبرها.

مرت أعوام طويلة والناس حائرون في أمر هاتين الفتاتين، لكن مع مرور الزمن كل شيء ينسى، وقد نسي الناس هذه القصة، ومات بعد فترة والد الفتاتين ثم لحقت به زوجته.. وأتت أجيال تلو أجيال

يحكي سائقو الشاحنات الذي يقودون سياراتهم ليلاً على الطريق الرابط بين مدينتي المكلا وسيئون أنهم يصادفون في عمق الليالي فتاتين تعترضهم، وحين يقفون لهما، تتوسل أحدهما السائقين باكية أن يعطوها علاجاً أو دواء  لأختها التي معها. وكثير من الناس ما شاهدوا الفتاتين التوأم في الوديان وعلى الطرقات وكذلك الفلاحون أدعو برؤية فتاتين تلعبان وتمرحان في الحقول ليلاً.

يقال أن ما حدث في تلك الليلة حين كانتا الفتاتان ترعيان الأغنام في الوادي، مازحت إحداهن أختها الأخرى فقالت لها: هل تحبيني؟ فأجابت الأخرى: نعم. فقالت لها: أثبتي حبك لي بالبرهان؟ فقالت الأخرى: وبم أثبت لك؟ فردت مازحة: اقتلي نفسك ثم ضحكت.. لكنها لم تدرِ أن أختها أخذت الأمر بجدية وأرادت أن تثبت حبها لها، فراحت تبحث عن نبتة سامة كثيراً ما يحذر البدو منها، فهذه النبتة لطالما تسببت بقتل الماشية في وادي حضرموت. وفي تلك الليلة تكلم أحد البدو أنه مر بفتاة تقطف نبتة سامة فحذرها منها، ويبدو أن الفتاة قد أصرت على تجرع السم لتقدم البرهان في حب أختها، وحين أكلتها ماتت من فورها فلما علمت أختها بذلك ورأتها ممددة أمامها ميتة، ندمت وحزنت ودعت على نفسها بالتيه في الزمن، فتاهت روحها وهي تقترن بروح أختها الميتة التي قد نبشت قبرها في ليل لم يقبل بعده صباح، ليل حالك السواد تتوه فيه أرواح الحزانى، فلا تطلبوا من أحبائكم أموراً فوق طاقتهم، فتصبحوا من النادمين

🔼🔼🔼🔼🔼🔼🔼🔼🔼🔼🔼🔼

لقد قمت بإنشاء كتاب جديد

إسمه Learn English لمن يريد أن يحسن من مستواه في اللغة الإنجليزية و لمن يواجه صعوبة في فهم قواعد اللغة الإنجليزية

ستجدونهما في بروفايلي.

دمتم سالمين.

 متع عقلكWhere stories live. Discover now