أوفى الأوفياء

2.7K 210 12
                                    

لم أنم ليلتها حتى جاوز الليل منتصفه، ففي الصباح ينتظرني أمر جلل لطالما ارتقبته، كنت حينها في السابعة من عمري، وغداً هو أول يوم في دراستي على الإطلاق. استيقظت على صوت أمي وقد جهزت ملابس الدراسة وحقيبتي التي رصصت فيها دفاتري وأقلامي. انطلقت نحو المدرسة مع تباشير الصباح الباكر، وقد سبقني الكثير من رفاقي من هم في نفس عمري. دخلت البوابة الرفيعة للمدرسة واصطففنا في طابور الصباح لتجري الطقوس الدراسية التي أعرفها للمرة الأولى، كان الفرح مسيطر على كل ذرة في جسمي مع شيء من القلق والخوف كون ذلك أول تجربة لي، ولجنا إلى الصف الأول الابتدائي، ثم قعدت في مقعدي بانتظار المعلم الذي سأراه لأول مرة. كنت أحدق في جدران الفصل التي زُينت بالصور والحروف الملونة المنمقة، فجأة دخل علينا من باب الفصل كلبي المسمى "نازك" كلب أبيض كبير كان يرافقني من صغري في كل مكان أذهب إليه، ويبدو أنه تبعني إلى المدرسة ولم أنتبه له، ولم أعمل حساباً لذلك. ضجّ الفصل بصراخ الطلاب فهم يعلمون مدى شراسة نازك، نهضت بسرعة وحاولت إخراجه، لكن مدير المدرسة كان قد وصل حينما سمع الجلبة القادمة من الفصل التي أحدثها الطلاب، فقال بصوت أجش: إبراهيم أنت مطرود من المدرسة لمخالفتك سلوك الدراسة ومرافقتك كلبك إلى داخل الفصل..! حاولت أن أبرر له لكنه لم يسمعني. أخذت حقيبتي وخرجت، ولعلكم تدركون مدى حزن وإحباط طفل مثلي يُطرد من أول يوم دراسي لا سيما أنه انتظر هذا اليوم بفارغ الصبر.
كان الحزن والأسى يعتريني وأنا عائد إلى بيتنا ولا فكرة تجول في رأسي سوى إني حُرمت من سنة دراسية. بلغ غضبي على نازك مبلغ الجبال والبحار، نهرته وشتمته وصرخت في وجهه، وبيّتّ النية على الانتقام منه..
بدا لي أنه أدرك خطأه من خلال سلوكه وحزنه لكنه يأبى أن يفارقني، لاحظت تودده إلي حتى أصفح وأعفو عنه، لكن هل مدير المدرسة سيعفو عني؟
زادت آلامي حينما أرى رفاقي يذهبون صباحاً في خط طويل ومبعثر نحو المدرسة، كم بكيت وشكيت لكن الخطأ كان أكبر من أن يُغفر. في ذلك اليوم وضعت خطة الانتقام من نازك حتى أنهي حياته لعل ذلك يخفف شيئاً من قهري، اصطحبته إلى أحد الحقول البعيدة ثم أخذت صخرة كبيرة وهممت برميها على رأسه، وللحق أنه لم يهرب أو يجبن بل تمدد أمامي وكأن لسان حاله يقول "إفعلها يا صديقي وأرحني، إن كان موتي يريحك". لم أجرؤ على فعل ذلك وترددت في الإقدام على ارتكاب جريمة قتل حيوان بهذه الطريقة البشعة، فرميت الصخرة جانباً وركلته وأنا أصرخ في وجهه إذهب إلى الجحيم ولا ترني وجهك ثانية فكل شيء بيننا انتهى..
يغيب نازك أياماً لكني شاهدته يتسلل ليلاً نحو بيتنا لعله يظفر برائحة من صديقه تطفئ لهيب شوقه إليه، وما يلبث أن يعود ويجول حول بيتنا لكنه يتحاشى النظر في عيني مباشرة. أخبرتني جارتنا أن كلبي يطلق صياحاً أليماً في غسق الدجى لعله يعيش أسوأ أيامه بعد أن سيطر الأسى عليه عقب ما ارتكبه من خطأٍ في حق رفيقه، وأخبروني أن سلوكه أصبح شرسا مع الكلاب الأخرى، حتى بدا يهاجم أفواجاً من الكلاب ، وحسب معرفتي الوثيقة بسلوك الكلاب أنها لا تفعل ذلك إلا حينما تريد الانتحار.

في إحدى الليالي خطرت لي فكرة لوضع حدٍ لحياة نازك، فنار الانتقام لم تزل تحرق في قلبي، أخذته ذات صباح معي إلى البحر وقد نويت على إغراقه، ظن هو أن الأمور قد عادت إلى طبيعتها، لكنه لم يعلم أني سأغدر به، وصلنا إلى البحر وأدخلته معي المياه، وهذا شيء قد فعله معي في الأيام الخوالي، فلطالما ذهبنا إلى البحر ومرحنا وسبحنا، ولكن هذه المرة أخذته بنية القتل وليس المرح، حاولت ملاعبته حتى وصلنا إلى عمق غزير وراء الأمواج، وهناك أظهرت له وجهي الحقيقي وفعلي العدواني، أمسكت به وحاولت إغراقه في الماء، كان مستسلما لقدره، لعله يقول أن موتي سيزيل ذنبي، وفجأة هاج البحر وتلاطمت أمواجه، وأخذنا التيار الجارف إلى العمق، تركته وحاولت ساعتها إنقاذ نفسي، لكن البحر كان أقوى من سواعد فتى في السابعة من عمره ، أدركت أن موتي محتم فقد تشنجت عضلاتي وأُرهقت يداي. استطاع نازك النجاة فالكلاب سباحة ماهرة،  أما أنا فقد كنت أغرق في اليم وهو يقف في البر على الساحل ينظر إلي، كنت أريد إغراقه فغرقت أنا. بدا لي كل شيء انتهى فأنا الآن بين الماء والسماء والموج قد غمرني وكدت أفقد أنفاسي الأخيرة، وفي موقف لن أنساه ما حييت، نازك يشقّ عباب الموج ، يكسر مياه البحر يمرق الماء كسهم خارق وهو يتجه إلي، وصلني وكنت على وشك الموت، تمسكت به فتارة يسحبني وتارة يدفعني وأنا لا أقوى على شيء، لحظات ووجدت نفسي مدداً على الساحل، لقد أنقذني من موت محقق، إعتقد أنني ميت فقام يلعق جسدي ليعيد إليّ الحياة، فتحت عيني وها أنا ذا ما زلت حياً، ونازك قد رمى بنفسه عليّ، حضنته وبكيت، يا لك من صديق وفي يا نازك. لتذهب المدرسة إلى الجحيم وما عليّ منها إذا كنت أملك صديقا بهذا الوفاء، عادت حياتنا إلى سابق عهدها ، مرحنا ولعبنا وبنيت له بيتاً صغيراً.

عدت إلى المدرسة لاحقاً بعد أن رتّب والدي الأمور مع المدير، وأكملت دراستي سنين عدداً، لكن للحق والحق أقول ما سمعت من أفواه المعلمين ولا قرأت في المناهج والكتب وفاءً كالذي رأيته من نازك صديقي.

في ليلة باردة من شتاء عام 1996م استيقظت آخر الليل من شدة البرد، فخرجت لأتفقد صديقي نازك وقد أخذت بطانية لأقيه برد تلك الليلة، وجدته جسداً بلا حراك، حاولت إيقاظه مراراً ولم يستجب. لقد مات نازك، مات كما يموت العظماء، لم ينبح ألماً من وجع الموت، فقد فضل الرحيل صامتاً، في الصباح حفرت له قبراً ودفنته في مراسم جنائزية لم يحضرها إلا أنا، ووضعت صخرة شاهداً على قبره وكتبت عليها "هنا يرقد أوفى الأوفياء"

 متع عقلكWhere stories live. Discover now