الفصل التاسع : ..طيــــف

191 1 0
                                    


اللحظات السعيدة في هذه الحياة البائسة ليست سوى مجرد فواصل إعلانية قصيرة جداً أما الأصل فهو ما تحويه الحياة من لواث و وعثاء .. حان وقت رحيلي ..بعد يوم حافل مميز لن ننساه أبدًا ما حيينا لا أنا و لا سلمى .. قبيل رحيلي صارحتُ سلمى :
- تعرفي ؟ هذا أحسن يوم في حياتي، أحلى تشويف شفته في عمري كله هو اللي شوّفتي لي اليوم !
كلماتي هذه فاجأت سلمى بالطبع، إذ بادرَتْ بكيل الأسئلة لي عمّا تشويف ؟؟ أخذتُ أشرح لها تفصيلا ما هو و كيف بدأ هذا اللفظ مع جارتي الصغيرة ثم تطوّرمعناه مع قريبتي جيهان دون سبب محدد و حتى صار له عندي معنىً واضحا وأخذتْ تسألني عمّا إذا ما كنت لا أزال أفعل هذا معها - أي جيهان - و حلفتُ لها أني لم يعد بيني و بينها أي اتصال إذ إنها تسكن بعيدا في مدينة أخرى و لا مجال لأن نلتقي و حتى إذا حدث فإنّي لن أفعل هذا الأمر معها وهي كذلك، لاعتباراتٍ كثيرة وأنه ليس عندي نيّة أصلًا لفعل هذا معها مرة أخرى..أعجبها كثيرًا هذا الاصطلاح "تشويف"! لأنه يختصر وصف جلسات مثل التي فعلناها اليوم في لفظ واحد و له معنىً لا يفهمه سوانا :)
صحبتني سلمى نحو الباب، طبعتْ على خدّي قبلة حانية لا أزال إلى يومي هذا أجد بردها على وجنتي كلما تذكرتها (لست أنساها أصلاً!) .. أمسكَتْ يدي لتضع في راحتي قطعة البطاطا التي احتفظت بها دون أن تقليها ، اقتربَتْ بشفتيها نحو أذني اليمنى حتى كادت تلامسها، حتى كدت أجفل لولا أنها كانت تقترب منّي مبتسمة ابتسامة ملائكية فيها التماعةٌ لا تقاوَم..همَسَتْ : الليلة الساعة عشر بالضبط بستنّاك ..اجلس فوق فراشك لحالك .. أني بشوِّف لك في نفس الأماكن اللي أشوّف لك فيبهم دايما و كمان اللي شوّفت لك فيهم اليوم .. بيوجعك زبّك زي ما وجعك المرة الأولى .. ما فيش لك فكّة من أظافري! .. زبّك هذا حقي وحدي .. أني أقدِر أشوّف لك حتى و أني بعيدة منك .. .. بالتخاطر!
طرقتْ كلماتها الهامسة أذنيّ كالصاعقة حتى أحسستُ بقشعريرة و رجفة في كل جسدي .. سالت على جبيني حبيبات عرق و بلعتُ ريقي بقوة حتى إن سلمى سمعتْ صوته و رأت حركة بلعومي من فرط ذهولي .. هنا اطمأنّتْ أنّي تحت سيطرة تعويذتها التي ألقتها عليّ فترَكتْ يدي مع حركة سريعة من أظافرها لتترك عليها آثار خدوش بيضاء خفيفة ثم فتحت لي الباب موّدعة لأجدني أمشي بحركة روبوتية خارجا من شقتها ترنّ همساتها في أذني و لم أفق إلّا و أنا أمام باب البيت أسمع صوت الحاج ناصر مؤذن مسجد الحي معلنا وقت صلاة المغرب ..
أتذكّر أني مرة حدّثْتُها عن مقال قرأْتُه يحكي عن التخاطر الذهني بين بعض البشر، حيث يمكن لبعض البشر التواصل من خلال هذه القدرة مهما كانت المسافات بينهم و على الرغم من عدم وجود أبحاث مؤكدة حتى وقت كتابة المقال (و حتى يومنا هذا فيما أعلم) فإن بعضا من الحوادث المسجلة لا تزال محل الكثير من التساؤلات و الجدل، بل إن التراث الإسلامي أيضا لا يخلو من حوادث مسجلة و متواترة من أشهرها ما حدث مع الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه -الذي وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه إن كان في الأمة محدّثون (أي ملهمون) فعمر! - و سارية بن زنيم أحد قواد المسلمين في فتوحات العراق و فارس سنة 23 للهجرة و ذلك عندما صرخ عمر و هو على المنبر مقاطعا خطبته أمام الناس : يا سارية !..الجبل الجبل! في لحظة كان الفرس يستعدون لتطويقهم .. سمع سارية نداء عمر يرنّ في ذهنه و انحاز إلى الجبل، ما جنّبهم هزيمة أكيدة .. ما حيّرني فعلا هو أن سلمى - و على عكس ما كنت أظن، أكانت حقا تصغي إليّ و تهتم بحديثي معها ؟! كنت أجزم في بعض أحياني معها أنها لم تكن تفعل!! عندما كنا نجلس لنتحدث كانت تحب أن نتبادل النكات أو الأحاجي أو أن نتحدث في الأمور الغريبة و خوارق الطبيعة أو نتحدث عن الأفلام لكن أثناء الحديث لا يقرّ لها قرار في مكانها ولا تهدأ، تشغل نفسها دوما أثناء حديثنا إما بالدوران في الحجرة التي نكون بها أو بالذهاب والإياب و في يديها شيء أخَذَتْه من هنا أو هناك أو أن تتجه نحو طاولتها و تبدأ بالعبث بالأشياء أو أن تأخذ في النقر والطقطقة المتواصلة عليها ما يجعلني في حالة هستيرية سيئة جدا من التوتّر و فقد التركيز حتى إني أحيانا أقذف أثناء حديثي معها و هي تبتسم ابتسامة رضا لئيمة إذا لاحظت ذلك، لكنها غالبا لا تعلّق بشيء و نواصل حديثنا فقط ! أو تقوم فجأة لتحضر معها شيئا نأكله .. كعكا، حلوى، فاكهة أو شيئا من المقرمشات التي عادة ما تكون متواجدة أسفل طاولتها تفجأني أحيانا برمي شيء ممّا أحضرَتْ بين يديّ أو في حِجري بينما تأخذ هي كذلك في الأكل و الكلام معا، فأجدُني أكتم رغبتي في الضحك عليها .. أو أجدُها قد أخذتْ بين يديها ما تجده من أشياء أمامها تعبث بها أمامي تطقطق بها بأظافرها، أو ورقة ً تأخذ في تمزيقها بأظافرها أمامي حتى أجدَني وقد انشدهتُ أمامها و تلعثمَتْ كلماتي و أخذتُ في بلع ريقي أو حتى ارتجفتُ قاذفا لتبتسم ابتسامتها الماكرة المعتادة ثم بنبرة طفولية مصطنعة : كمّل كلامك.. مالك؟! ..سلمى حقا لم تكن فتاة عادية أبدا!!

!سلمى و أنا .. و الأظافرWhere stories live. Discover now