الفصل الثاني: دار الأيتام من جديد.

1.2K 74 12
                                    

أنتم تستمتعون بالرواية... وأنا أستمتع بردود أفعالكم عليها.

____________________


-"ليس مجددا".
بدأ الامر بشهقاتٍ متباعدة ثم تحوّل لبكاءٍ مكتوم، كيف لم تفكر في الأمر؟، بالطبع كان ليضعها ذاك الزعيم في دار الأيتام... أين يتوفّر التعليم والإقامة والمأكل والمشرب والملبس والحماية في مكان واحد.
هو يظنّها بأمان هناك، لكنها ليست كذلك حقا... ليس نفسيا على الأقل. هي لا تزال تتذكر اليوم الذي أحرقت فيه مطبخ الميتم عن طريق الخطأ وتمّت معاقبتها من قبل المستشارة العجوز بالبقاء طوال الليل في مخزن المؤون القديم، أين قضت أسوء ليلة في فترة طفولتها على الإطلاق... أين كانت تشعر بأقدام الفأران والصراصير تمشي فوق أقدامها الصغيرة دون أن تراهم، بعد أن أطفأت المشرفة الأنوار عنها، تسمع حركاتهم في أكياس الحبوب القديمة... أين أمضت ثمانِ ساعات من الليل دون أن يفارق الارتجاف جسدها الصغير، دون التوقّف عن البكاء والتوسل طلبا للرحمة، دون أن يفارقها الإحساس بالخوف... بالذعر... الوحدة... الضعف والعجز.
لم تلاحظ تيزيري لكم من الوقت بقيت تبكي بتلك الطريقة، لكن اكسيل لاحظ... هو لم يعرف ما يحدث داخل رأسها لكنه شهد انهيارها، سمع ترديديها لجملة 'ليس مجددا' ولم يكن من الصعب الاستنتاج انها كانت يتيمة قبلا ولم تحظى بوقت جميل أثناء ذلك.
راقبها تنظر لكل مكان ترفرف برموشها تمنع الدموع المحبوسة من النزول، كأنها تريد أن ترتدي قناع القوة حتى في أوقات انهيارها... كأنها تحاول منع نفسها من الانهيار أمامه هو والمديرة التي كانت ترمق تيزيري بقلق وتمد يدها لها تحاول لمسها ومواساتها، ثم تتردد وترجع يدها في آخر لحظة لتعود وتنظر له بقلق وتساؤل.
لا يعلم اكسيل ما اللعنة التي جعلته يشعر بالمسؤولية تجاه تيزيري التي لم تنفكّ عن شتمه منذ أن رأته لكنه فعل، تعاطف معها بشكل ما وأحسّ كأنه يرى أخته الصغرى في مشكلة عويصة، رغم أنه لا يملك أختا حتى وتيزيري أكبر منه بثلاث سنوات لكن كان ذلك ما شعر به في النهاية.
لذا قرّر أن يساعدها، لكن بطريقته... وقف من مكانه فجأة بعد أن كان جالسا يباعد بين ساقيه ويشبك يديه لصدره بنظرة تبدوا كأنه يكره جميع من حوله، ويبدوا أن المديرة وتيزيري معا تفاجؤوا من وقفته تلك دون استئذان لأن الاثنتان توقفتا عمّا كانا يفعلانه ونظرا له بقليل من الغرابة.
نظر لتيزيري من مكانه هو واقف وهي جالسة وكانت تبدوا له كقزمة خرجت من قصص الأطفال المصورة، ثم ودون سابق إنذار أمسك بساعدها وأجبرها على الوقوف يجرّها وراءه للخارج، وما إن أصبحا خارج المكتب حتى دفعها بعنف وبسرعة لم تستوعبها ثم ألصق ظهرها بالحائط ووضع خنجرا على رقبتها.
وضع ساعده على طول أكتافها فوق صدرها وركبته على أحد أفخاذها يمنعها من الحراك الذي امتنعت عنه هي أصلا حين أحسّت بشيء حاد على رقبتها، شهقت تيزيري وتسمّرت مكانها من الرعب ثم حرّرت دموعها بصوت مكتوم أخيرا، أما هو فاقترب منها أكثر ليمنع اليتامى المارّين على الرواق من رؤية الخنجر.
"كفّي عن التدلّل واسمعيني جيدا"، لاحظ ارتجافها من الخوف ومحاولتها للمس الخنجر بأصابعها لتتأكد من وجوده هناك كأنها لا تصدق الأمر لكنه فقط أكمل يخبرها بهمس حاد ونبرة قاتلة:
-"إن أردتِ العيش والنجاة في عالمنا فعليكِ أن تعرفي كل شيء عنه... على الأقل كل شيء عن هذه القبيلة".
توقّفت أصابع تيزيري عن محاولة الوصول للخنجر وهدأ ارتجافها قليلا قبل أن ترفع عيناها لاكسيل الذي عرف ما تفكر فيه من ردة فعلها تلك، لذا تابع:
"أجل... أمغار أخبرني كل شيء عنك وعن سرّك، لا أعرف ما الذي يجعلك تخافين دار الايتام لهذه الدرجة ولا يهمني حقا، لكنها ستساعدك على فهم القبيلة وكيفية سير الأمور هنا. ستتعلمين طرقا وحتى بعض الأشغال اليدوية التي يمكنك استثمار أموالكِ فيها".
ولأنه لم يجد أي رد فعل منها اقترب منها أكثر واشتدّ غضبه، لا يعلم إن كان غاضبا منها أو من نفسه لأنه يشعر بضرورة مساعدة فتاة سليطة اللسان لم يعرفها سوى منذ ساعات، لعق شفته السفلى يحاول تهدئة نفسه وأشاح بنظره عنها لحظة ليتنهّد قبل أن يعيد أعينه الخضراء لها:
-"واجهي الحقيقة تيزيري، أنتِ تحتاجين هذا المكان أكثر من أي شيء آخر الآن، ويبدوا أنه عليّ تذكيركِ أن إقامتكِ فيه ليست دائمة"، هنا فقط لاحظ اختلاف نظرة تيزيري له كأنها بدأت تهتم لما يقوله أخيرا... كأن الفهم بدأ يدخل لعقلها وهذا ما جعل غضبه يهدأ قليلا لأن جهده العقلي الذي بذله من أجل ذلك لم يذهب سدى.
-"كلما بذلتِ جهدا أكبر وتعلمتي أسرع كلما كان خروجكِ من هنا أقرب".
تذكّر اكسيل خوف تيزيري الذي لا يعرف سببه فأراد طمأنتها ببعض الكلمات قبل أن يذهب:
-"لن يتجرأ أحد على لمسكِ هنا تيزيري، كان ايصالي لكِ لهنا أمام أنظار الجميع أمرا من أمغار لفهموا أنكِ مهمة له... أنه مسؤول عنكِ وأنكِ تحت حمايته، وإلا لمَ يجعل أكبر ضبّاطه يوصل مراهقة مجهولة الهوية لدار أيتام؟".
انغماس اكسيل وتركيزه في محاولة مساعدة تيزيري على تخطي خوفها ورعب الأخيرة جعلهما يغفلان عن وضعيتهما التي تبدوا حميمية للجميع من بعيد، أحد أكبر الضباط يحصر مراهقة بحجم صغير ولباس غريب بين جسده والحائط يضع يدا فوق صدرها وأخرى على رقبتها بينما ركبته تثبت قدمها وشعرها الطويل الفحمي يتناثر في كل مكان حولهما ولم تغب عليهم الصبغة البنفسجية الغريبة عليه.
توقف كل الأيتام المارين من ذاك الرواق وأيضا بعض العاملات يحملقون في ذلك المنظر بذهول، كان وجه ضابطهم المعروف بكونه أصغر ضابط لهذا العقد يكاد يلتصق بوجه يتيمة جديدة، يقسمون أنهم يتنفسون نفس الهواء وقد يقبلان بعضهما في أي لحظة كقبلة وداع.
تعالت همسات الجميع حولهما، البعض ظهرت عليهم علامات الإعجاب والبعض الآخر لم يحب الأمر بتاتا، وكل من لم يعجبهم الأمر كانوا مراهقات معجبات بالضابط حتى الموت، ومنهن كانت فتاة بعينين بنيتين وشعر أسود مموج قصير تقف في زاوية في آخر الرواق تنظر لهما بهدوء.
لو رأوا الخنجر الذي يدسّه اكسيل في رقبة تيزيري وسمعوا همسه لتغيّرت فكرتهم عن الثنائي تماما، لكنهم لم يفعلوا، وكهذا بقيت فكرة الثنائي الرومانسي الجريء تدور في عقولهم.

الرجوع لزمن البرابرةWhere stories live. Discover now