الفصل الثلاثون والأخير

142 6 0
                                    

مهلًا مهلًا يا بُشرى
كم أطلتُ لكِ صَبرا
شوقًا لفرحتكِ الكُبرى
فتهادي بالبهجة سَيرا

هرولت في ردهة المشفى ممشطة بعينيها المذعورتين كافة الأرقام المعلقة على الأبواب بحثًا عن الغرفة التي تنشدها ..
لمحتها منة من نهاية الردهة فهمست متفاجئة :
_نبراس!
نهضت تقابلها بذهول، فبادرتها نبراس قلقة بمجرد أن وصلت إليها بصوتٍ مختنق :
_ماذا حدث لأمي؟
ترددت منة قليلًا وما زالت تسيطر عليها الصدمة وهي تقف في مقابلة شقيقتها الكبرى لأول مرة منذ حين .. لا سيما وقد نعتتها لمرةٍ نادرة بـ"أمي".. ثم أجابت باهتزاز بعد أن ابتلعت غصة مؤلمة :
_هي بخير.. سـ .. ستكون بخير.
تكاثفت العبرات بعيني نبراس فحجبت عنها الرؤية الواضحة لأختها .. فردت مستنكرة بخوفٍ ظهر عميقًا في مآقيها وقد ازداد اختناق صوتها بالدموع المحبوسة :
_إنها في العناية المركزة!
سحبت منة شهيقًا قويًا لترد بنبرةٍ حاولت إطغاء الثبات عليها :
_لقد مرت بنوبة قلبية مفاجئة، وهي أسفل العناية حتى الآن.. لم يحن موعد الزيارة بعد.
ثم استطردت كمن تبث الاطمئنان لنفسها قبل شقيقتها، بينما ماجت العبرات بعينيها وصوتها :
_لكنها ستكون بخير.. بمجرد أن تستفيق وتراكِ أمامها ستكون بخير.
رعبهما الدفين أثار بكليهما رجفةً خفية سيطرت على خلجاتهما، فيما اهتزت مآقيهما في ذلك اللقاء الفريد بينهما بعد طول غياب ..  فسحبت نبراس شقيقتها الصغرى لأحضانها سامحة لعبراتهما بالهطول .. وكأن كل منهما تلوذ بالأخرى لتخطي تلك المحنة .. كل منهما تبث في الأخرى أمنًا ودعمًا هي في أمس الحاجة إليهما .. وكم آلم كل منهما اختضاض الأخرى بين ذراعيها وكأنها ورقة في مهب الريح ..

ورغمًا عنها بشعورٍ متأصل داخلها منذ نعومة أظافرها بالمسؤولية تجاه أختها الصغرى، كانت نبراس أول من تبتعد لتضم صدغي منة براحتيها قائلة بتماسكٍ هش :
_ستكون بخير  بنا لأجلنا، أنا .. أثق .. بذلك.
تقطع كلماتها كان خير نقيض ليدل على كذب كلماتها .. أو رعبها من ألا يتحقق ما تأمله ..
تراجعت بعدها خطوة لتسأل :
_متى يحين موعد الزيارة؟
أجابت منة وهي تجفف وجنتيها بمحرمة ورقية أخرجتها للتو من حقيبتها الصغيرة :
_بعد نصف ساعة من الآن .. لم يستطع أي منا الدخول قبل ذلك رغم محاولاتنا المستميتة مع طاقم التمريض، لكن هذا أمر مشدد من الطبيب المباشر.
انتبهت نبراس مع كلماتها إلى أدهم الجالس على بُعد خطواتٍ منهما، ويجاوره والده على مقعد آخر، وقد بدا أنهما تركا أعمالهما على وجه السرعة فور تلقيهما الخبر من منة التي عجزت لأول وهلة عن التصرف بمفردها في المنزل .. يخيم عليهما الجمود، بينما تضج أعينهما بقلق بيِّن لمن يجيد الملاحظة ..
رفع مختار رأسه إليها قائلًا ببعض الإنهاك :
_حمدًا لله على سلامتك يا ابنتي.
انتابها الحرج، فردت باقتضاب مرتبك :
_أشكرك.
لم ينبس أدهم ببنت شفه .. ظل على جموده محدقًا أمامه في اللاشيء .. بينما عاد مختار للقراءة في مصحفٍ صغير لم تلحظه نبراس لأول وهلة ..
التفتت الأخيرة إلى فريد الذي أوصلها ورافقها حتى هذه اللحظة .. فاقتربت منه ببطء متعب قبل أن تقول ببعض الحرج :
_يمكنك المغادرة إن أردت، لديك ما يشغلك بما يكفي كي لا تبقى هنا حتى الآن .. أنا آسفة.
بدت كمن على وشك العودة للبكاء، فسأل فريد بهدوء ظاهري :
_علامَ تتأسفين؟
ازدردت غصة في حلقها لتجيب بصوتٍ خرج بصعوبة من قلبها المثقل :
_على كل شيء .. كل ما نحن فيه الآن بسببي .. لو كنت قد تجرأت ولم أهرب من البداية لما حدث أي من ذلك...
قاطعها مانعًا إياها من الاستكمال :
_لا لا.. اهدئي واسمعيني جيدًا.. لا تحملي نفسك فوق طاقتها.. تعرفين جيدًا أن ذلك كان سيحدث لأي سبب من الأسباب، إنها أقدارنا يا نبراس.. ليس وقتًا لحمل الذنوب، كلانا متعبين بما يكفي الآن.. لكننا مررنا بالكثير.. وسنمر بالمزيد ما دام بداخلنا نفس يتردد.

هان الودحيث تعيش القصص. اكتشف الآن