الفصل التاسع والعشرون

115 4 0
                                    

عهدي إليكَ سكينًا على نحري
ألَّا تشقى بهمٍ والأوجاع تلاقيها
إن كان أملي بقُرب الفرجِ يُنقذني
فاللَوعة بصدري ماذا يداويها؟
أن أخطو إليكَ مُناصرًا فساعدني
خذ بيدي لا تدع العقبات ترميها

كانت تلك الجملة كصاعقةٍ سقطت فوق رأسه مفجرة نبضات هادرة إثر صدمته .. غير أن حدسًا داخليًا لديه أكد له أنه لا وقت لاستيعابٍ أو استفسار .. وسبحان من بث فيه ذلك الثبات ليرد مستأذنًا في بضعة دقائق لتبديل ملابسه ..

تحاملت جود على وهن جسدها ناهضة عن الفراش بهلع وهي تتقدم من زوجها سائلة :
_هل ما سمعته صحيح؟؟ أنا لا أفهم شيئًا.. لمَ قد يتم اتهامك أنت؟
شرع هاشم في تبديل ملابسه بشكلٍ آلي ملتقطًا هاتفه بسرعة لإجراء مكالمة طارئة بينما يرد محاولًا لملمة أعصابه لاستيعاب الأمر برمته :
_لا أعرف يا جود، أنا مثلكِ تمامًا لا أعرف شيئًا سوى صدور أمر بضبطي وإحضاري لقسم "..." هلا هدأتِ؟ لا بد أن هناك خطأ ما ..
هول الموقف أخرسها .. فشُلت أطرافها عاجزة عن إبداء أي رد فعل يُذكر، بينما عينيها الجاحظتين يفشيان رعبها بوضوح..
حين جاء رد الطرف الآخر دون تأخير، بادر هاشم بالحديث قائلًا بقوة رغم عدم علو نبرته :
_اسمعني جيدًا يا خطاب ولا تستفسر، فلا وقت لديَّ للشرح ..  اتصل بالمحامي فورًا والحق بي إلى قسم "...".
ثم استطرد دون أن يعطي لصديقه فرصة للرد :
_وإن تأزم الأمر اتصل بفريد .. هل تسمعني؟ اتصل بفريد.


قبل قليل ..
دلف خطاب إلى منزله مساءً بعد أن قضى يومه بين العمل والصالة الرياضية .. متحاشيًا تفقد هاتفه وكأنه ينعزل عنها كليًا لبعض الوقت ..
وهل راقه الأمر؟
أبدًا لم يرقه .. ورغم خمود غضبه تدريجيًا خلال اليوم، إلا أن شعورًا أصيلًا بالضيق والاستياء رافقه على مدار يومه، حتى استسلم نهايةً لأمر قلبه وهو يخرج هاتفه راضخًا لما يمليه عليه بإلحاح من رغبة في الاطمئنان عليها .. فتقافزت أمامه رسائلها الغير مقروءة ..

"أين أنت؟"
"خطاب، أجبني من فضلك!"
"هل حقًا تغيب عن المنزل رغبةً في الابتعاد عني؟"
"خطاب!"
"حسنًا، كما تريد .. إن كان البُعد رغبتك .. لكَ هذا."

وجدير بالذكر أنه جاء مسيرًا .. استدل بلهفة نابضه وشعور ندمٍ بزخ بداخله على حين غرة .. فسار خلفهما قاصدًا أية وجهةٍ تودي به إليها..
ولن ينكر إحساسًا خفيًا بالخوف تسلل إليه فجأة باعثًا البرودة في أطرافه، لا سيما حين استوقفه والده قُبيل الدرج قائلًا باستنكار :
_هل عُدتَ لتوك منذ الصباح؟
التفت إليه خطاب مجيبًا بترقب :
_نعم .. هل حدث شيء؟
حرك شكري رأسه بحيرة، ثم رد :
_لا أعرف، قبل أن آخذ قيلولتي أخبرتني بليسيكا أنها رأت زوجتك تجمع حاجياتها متعللة بذهابها لقضاء بضعة أيام مع والدتها لأنها اشتاقت إليها...
_أتعني أنها رحلت؟
سأل خطاب مقاطعًا والده، فأجاب الأخير بهدوئه المعتاد :
_لا أدري، لكن على الأرجح غادرتْ منذ وقت.
لم يرد خطاب، وسرعان ما استدار قاطعًا الدرجات في ثوانٍ معدودة متجهًا إلى الجناح ..
رحلت!
تركته ورحلت!
لم يكن طلبه الابتعاد بإشارةٍ للبُعد ..
لمَ يسير الأمر بصورةٍ عكسية؟
كمن قبض فوق كومة وفيرة من الرمال آملًا في الحفاظ عليها، ليجد حباتها تتسرب من بين أصابعه رُويدًا!

تسارعت خطواته بعقلٍ يزداد تشوشه بين الثانية والأخرى..
نبضاته تهدر .. قدماه تتسابقان فيما بينهما، وبلا شك قد فاز قلبه بالسباق مهرولًا في المقدمة.
اقتحم الجناح حتى وصل إلى الغرفة، فتوقف أمام بابها للحظة .. لحظة لم يتصور بها أن يفتحه ليجد الغرفة خالية منها .. ربما كان الأمر أكثر بساطة لو لم يتحامل عليه عقله بأبشع الذكريات والأفكار .. ربما لو لم يكن...
قطع أفكاره مديرًا مقبض الباب دون انتظار، وتوقف عنده لاهثًا كمن عبر مضمارًا للتو..

كم كان الله رحيمًا به!
حيث وقع بصره فور أن دلف إلى الغرفة عليها في جلستها على طرف الفراش بترقب، فخمن أنها راقبت وصوله من الشرفة..
بمجرد أن رأته، استقامت في مئزرها الأبيض الطويل مقابلة إياه على الطرف الآخر من الغرفة، عاقدة ذراعيها أمامها وتعلو ملامحها أمارات الانزعاج، وشرعت تتحدث أمام صمته بجدية :
_انظر، هناك عدة طرق للمناقشة ومحاولة الوصول إلى أرضٍ وسطى، لا يمكنك إقصائي عن أمورك خاصةً حين أكون طرفًا أساسيًا فيها، أنا لا أقبل بهذا الأسلوب ولا أستسيغه، أين كان تفكيرك وأنت تأمرني بالابتعاد؟ هل حقًا ظننت أنني سأرضخ وأنفذ بصمت!
صمتت لثانية، ثم عادت لتستطرد بعبوس مَن على وشك لكمه بحنقٍ شديد من فرط قلقها ولهفتها عليه :
_ولا أهتم بالمناسبة إن كنت ترى أنني بهذه الطريقة أحدثك كمتهم وليس كزوج، فشعوري بالإهانة كان أقوى بكثير وأنا أراك تنفر من لمستي وتهدر بي أن أبتعد، وشعوري بالإحباط كان أقوى وأنت تطالبني أن أتحاشاك عند الغضب.. وشعوري بالغضب أقوى بكثير حين تركتني وذهبت لأكثر من أربع عشرة ساعة بعيدًا عن المنزل دون أن تأبه بمن بقيت بمفردها عاجزة عن التصرف أو التفكير، لا تعرف حتى إن كنت ستعود الليلة أم أنك آثرت الابتعاد عنها بنفسك حين رفضت هي....

لم تتوقف عن حديثها المنفعل بعينين معاتبتين بحدةٍ هشة .. إلا حين دنا منها بخطوات واسعة مطوقًا جذعها ليسحبها إلى صدره بغتة بقوةٍ لم تؤلمها .. لم ينبس ببنت شفه .. وابتلعت هي كلماتها المتبقية إثر مداهمته، فاتسعت عيناها بدهشة مستشعرة نبضات قلبه الهادرة باضطراب ..
عاد إليها القلق، فرفعت كفها إلى رأسه سائلة بحنوٍ رُفعت عنه القشرة الصلبة :
_هل أنتَ بخير؟
صمت قليلًا حتى ظنته لن يجيب .. إلا أنه نطق بعد برهة من فوق كتفها بصوتٍ اختنق بلُجة شعوره :
_ظننتكِ رحلتِ.
رق قلبها إليه، لكنها حاولت التحلي ببعض السيطرة للملمة نبضاتها التي بعثرها عناقه المباغت، فردت بجدية زائفة لم تدرِ أنها انتقت فيها من الكلمات أكثرها حنانًا :
_لا، لم أفعل .. لم أفكر أصلًا.
ثم تنهدت بتذمر مكملة :
_لم تهُن عليَّ.

لانت ملامحه متراجعًا عنها ذلك الغضب الذي كساها منذ وقت .. وأحاط بقلبه دفء محبب، فارتسمت ابتسامة عذبة على وجهه .. قبل أن يتنهد مصرحًا :
_أنا آسف..
تراجعت خلفًا برأسها لتقابل مقلتيه وهي تسأل مستنكرة بلوم :
_على ماذا؟ على صراخك في وجهي أم لأنك تفصلني عن شؤونك وكأننا مجرد شريكي منزل ولسنا شريكي حياة؟
أومأ نافيًا مع كلماتها وكأنه ينفي عنها ذلك التفكير برمته، ثم رد مصححًا :
_آسف لأنني سببتُ لكِ هذا الشعور.. أنا لم أقصد أيًا من ذلك .. كل ما أردته هو أن أحميكِ.
عقدت حاجبيها بعدم فهم، ثم سألت :
_ممَ تحميني يا خطاب؟
بسرعة لم تتوقعها جاء رده دون مواراة مدينًا نفسه :
_مني! .. من غضبٍ لا أستطيع التحكم به، ولا أريده أن يتحكم بي خاصةً أمامكِ أنتِ ..
لا أريد أن آذيكِ .. لن أحتمل .. جديًا لن أحتمل.

لانت نظراتها المهداة إلى عينيه، وافترق ثغرها ببسمة صغيرة غير مصدقة ..
يظن أنه قادر على إيذائها، وهو الذي حين اشتدت قبضته سهوًا فوق معصمها انتفض هلعًا كمن ارتكب جرمًا ..
وهو الذي حين تكاتف عليه الشعور وهام على وجهه تائهًا، منفعلًا، خائفًا .. هرع ليرتكن إليها وكأنه يلوذ بها من نفسه ..
وكأنها حبل النجاة الوحيد في بحرٍ عريض لا يُرى من بينه يابسة .. كلما تمسك بها أكثر .. غرق فيها حتى أذنيه.
آثرت تغيير دفة الحوار لبرهة في تلك اللحظة أمام عينيه المعذبتين، فقالت مستجلبة بعض المزاح وهي ترفع أحد حاجبيها باستهجان :
_بغض النظر عن مقدرتك وقوة احتمالك، هل تظنني سأصمت أو سأشرع في البكاء مثلًا لو حاولت إيذائي؟
فطن إلى ما تحاول فعله، فرسم ابتسامة صغيرة مجاريًا :
_في الحقيقة فكرت في ذلك للحظة، لكني أرجح أنكِ حينها ستضعين سلاحك أسفل الوسادة تحسبًا لحالات الطوارئ.
اصطنعت الذهول وهي ترد :
_ليس إلى هذه الدرجة، أنا لا أضع سلاحي أسفل وسادتي!
ثم لملمت ابتسامة ملحة وهي تمصمص شفتيها بحنين مكملة :
_كان ذلك أيام المباحث ..
ضرب كفًا بكف ضاحكًا بخفة، وابتسمت هي لضحكته.. قبل أن يتجاوران في جلستهما على طرف الفراش، ليسأل خطاب منتبهًا :
_لكن أبي قال أن بليسيكا أخبرته أنكِ كنتِ تجهزين حقيبتك للذهاب إلى والدتك!
عقدت حاجبيها بتعجب، قبل أن ترد بتفكير :
_أظن أنه استطاع تخمين أننا تشاجرنا صباحًا ففضل أن يقلقك قليلًا.
ناظرها بعدم اقتناع بكون والده لاحظ ما يجري بينهما، فاستطردت مستنكرة بغيظ :
_لا أعلم كيف استطاع التخمين .. ربما من خروجك غاضبًا وبقائك خارج المنزل طوال هذه المدة مثلًا؟ لا سيما أنني استأجرت سيارته للذهاب إلى العمل.
رد باقتناع معقبًا :
_معكِ حق .. لا بد أن بيليسكا نفسها علمت بشجارنا.
تعجبت من تعامله مع الأمر بلامبالاة، فقالت بتهكم :
_تقولها بمنتهى البساطة وكأنها علمت بمجموعك في الثانوية العامة!
رد بنفس البساطة :
_لقد شهدتْ عددًا لا بأس به من الشجارات منذ عملت في هذا المنزل، حتى إن لم تكن أمينة وتحفظ الأسرار كانت ستمل من إفشائها ..

استرعت انتباهه إحدى الكلمات التي ألقت بها بمنتصف الجملة، فاتسعت عيناه قائلًا :
_مهلًا .. هل قلتِ أنكِ "استأجرتِ" سيارة أبي؟
نظرت إليه بامتعاض زائف وهي تجيب :
_نعم، لم يقبل أن يجعلني أستعيرها إلا في مقابل أن أملأ السيارة بالبنزين وأحضر له نوعه المفضل من البن، سآخذ ثمن البنزين والبن منك بالمناسبة.
اتسعت ضحكته مندهشًا من صداقتها الوليدة والعجيبة بأبيه، لكنه لم يعقب .. فابتسمت إلهام قائلة :
_طالما أنك ضحكت أخيرًا، فلنجري حوارًا جديًا بين شخص وزوجته.
ضغطت على كلمتها الأخيرة فابتسم، قبل أن تستطرد سائلة :
_لمَ ظننتَ من الأساس أنك قد تؤذيني؟
تنهد خطاب صامتًا لوهلة .. قبل أن يتكلم ممهدًا :
_مَن ينشأ على رؤية الأذى .. لن ينضج إلا على شيء من الاثنين .. إما أن يستهويه الأمر ويأذي من شاء وقتما شاء دون شعور بالذنب .. أو أن يصبح معقدًا .. يكره كل صورة للأذى وينفر منها تمامًا ...
ثم استطرد شارحًا بانزعاج من ذكرياتٍ تمنى مرارًا لو انمحت من رأسه للأبد :
_أنا لا أذكر لحظة هادئة بين أبي وأمي .. لا أعرف إن كانت الحياة بينهما مستحيلة إلى تلك الدرجة، أم أن ذاكرتي لم توثق إلا ما كان أشد وقعًا وتأثيرًا عليَّ حينها .. كنت أعيش هلعًا متكررًا .. وحتى الآن لا أستوعب كيف لطفلٍ في السادسة أن ينام مرتعبًا من أن يستيقظ على إحدى صرخات أمه ذات مرة فيجد والده قد قتلها!

اعتصر قلبها الألم، فدنت منه بعض الشيء محيطة كتفيه بذراعيها بحنان، ولوهلة ندمت على سؤالها .. بينما انغلقت ملامحه ساحبًا نفسًا عميقًا ليكمل ببعض الخزي :
_وكنتُ أنا صورة حية من الأذى لسنواتٍ طويلة، ومنذ طفولتي .. لا أعترف بشيء يدعى التسامح ولا أغفر لشخصٍ أبدًا .. كل من كان يفكر في مضايقتي ينتهى به الحال معي في عراكٍ يفوق سننا بالكثير والكثير .. لا أذكر كم مرة تمت إحالتي لمجلس تأديب .. وكم مرة عدت لمنزلي بملابسٍ دامية حتى نهاية المرحلة الثانوية ... وكم مرة بعد ثورة هائلة أطحت فيها بكل ما حولي انتهى بي الحال بغرفتي باكيًا، حتى ظننت أن دموعي قد نضبت مبكرًا، وكبرت على ألا يبكيني شيئًا .. ولا أشعر بشيءٍ أبدًا .. حتى الشجارات زهدت في افتعالها ككافة شيء يتطلب الشعور بأي شيء.. إلى أن قابلتكِ ...
كان معكِ حق.. ظللت كثيرًا أفكر فيما أخبرتِني به صباح اليوم، لكني لم أجد إلا إجابة واحدة لأسئلتي .. ابتسامتي تتلاشى، ومرحي يسقط .. فلمَ حبكِ ثابت في قلبي كالطود؟ لمَ حين شعرت بالخوف لأول مرة منذ زمن طويل كان لأجلكِ ولم أطمئن إلا بين ذراعيكِ!
صمتت مشدوهة دون قدرة على الرد، غير أنه أعفاها منه حين استكمل مجيبًا نفسه :
_ربما الاطمئنان شعور لا يحتاج المعرفة كما أخبرتكِ من قبل .. لكني أحتاجكِ أنتِ.

ساد الصمت لبرهة ..
لم تخلُ من نظراتٍ متبادلة بلمعة واضحة ..
إلا أنها قطعته حين أشاحت بعينيها مدندنة فجأة :

_يا روحي تبكي .. دنيتنا بخير
هات يلا ايديك .. يلا نعيش
قلبي نور يحميك من الخوف والليل
أنا وياك ما تبكيش!
ابتسم خطاب بتأثر لتلك الأغنية من فيلمه المفضل .. وخُيل إليه أنها استشفت في تلك اللحظة سبب تعلقه اللا إرادي منذ الطفولة بذلك الفيلم ..
فيما نهضت هي بخفة عن جلستها مقتربة منه وهي تكمل بمرح لفض ما خيم فوقهما من كآبة :
_يا ضي العين محتاج لحنان .. وأنا حضني كبير مليان دفى وأمان.
استندت جالسة إلى ركبتيه وهي تضمه إليها بحنوٍ حقيقي مكملة بصوتٍ لا يمت للعذوبة بصلة :
_هتعيش هنا في القلب
من اليوم ده هكون وياك ومعاك على طول
حب يعيش في القلب مهما قالوا كلام
حب يعيش هنا في القلب .. دايمًا

ضحك محيطًا إياها بذراعيه .. فيما استندت برأسها إلى كتفه .. لحظات متخمة بالمشاعر مرت بهما في سكون ..

إلا تلك اللحظة التي انتفضت فيها إلهام مبتعدة عنه شاعرة بنغزة حارقة بين ضلوعها.. قبل أن تضع راحتها فوق صدرها هامسة بصوتٍ مبهوت :
_هاشم!
عقد خطاب حاجبيه بتوجس، فيما نهضت هي مسرعة إلى هاتفها تشرع بالاطمئنان على توأمها، حين رن هاتف خطاب مضيئًا باسمه!

~~~
_أربعة أيام على ذمة التحقيق.
قالها المحامي عقب خروجه من غرفة مكتب الضابط المختص إثر خروج هاشم مع أحد الجنود بصمت لم يخاطب فيه أي من الواقفين سوى بنظرات محددة، وللعجب أن كل منهم فهم مقصده .. أو شعر به!
تبادل الواقفون النظرات القلقة، قبل أن يستطرد المحامي :
_سيتم عرضه على النيابة العامة مساء الأربعاء.
راقبت جود الموقف بهلعٍ داخلي جمدها تمامًا عن التعبير .. فيما تماسكت إلهام بصعوبة في وقفتها بجانب زوجها الذي وقف صامتًا بجبين مقطب .. فيما عاد المحامي ليسأل باهتمام موزعًا نظراته بين ثلاثتهم :
_هل لي أن أعرف أين كان السيد هاشم وقت وقوع الجريمة؟
قابله الصمت للحظات تبادل ثلاثتهم النظرات بحاجبين معقودين كمن يحاولوا التذكر.. إلى أن نطقت جود بثبات طفيف تستدعيه :
_كان معي .. تقابلنا يومها على بُعد شارع واحد من محل سكنها.
أومأ الرجل برأسه كمن فهم أمرًا ما للتو، فقال خطاب مستفسرًا :
_نحن لا نفهم شيئًا يا سيد إلياس، ما الأمر بالضبط وما الذي جعله محل إتهام الآن؟
رد إلياس بعملية :
_ظهر شاهد بشكلٍ مفاجئ يقول أنه رأى السيد هاشم يصعد إلى منزل المجني عليها قبل وقوع الجريمة بوقت قليل .. فوجب إحضاره للتحقيق في ذلك الأمر.
سأل خطاب بعدم استيعاب :
_ومن ذلك الشاهد؟
رفع المحامي عينيه إليه مجيبًا باقتضاب :
_حارس العقار.
ازداد اندهاش ثلاثتهم، فيما ختم المحامي حديثه قائلًا قبل أن يتركهم مغادرًا :
_على كل حال سأبدأ في دراسة ملف القضية .. يبدو أن السيد هاشم لا يرغب في توريط زوجته معه بأي شكل، فرفض الإفصاح عن محل وجوده آنذاك، وهذا بلا شك زاد من صعوبة موقفه ..
طالما المتهم بريئًا بالفعل، فسنجد طريقة ما لإثبات براءته بإذن الله.

التفتت جود إلى إلهام سائلة بترقب قلق كمن على وشك البكاء، وكأنها ترجوها أن تؤكد كلماتها :
_هاشم لن يبقى في الحبس الاحتياطي لمدة أربعة أيام .. صحيح؟
أومأت إلهام برأسها نافية ببعض الانفعال وهي تجيب بحمائية :
_بالطبع لن يحدث، سأتصرف مهما كلفني الأمر، لن يبيت في الزنزانة أبدًا.
ختمت كلماتها ببعض العنف رغم عدم علو نبرتها، ثم تحركت في الطريق الذي سار به أخيها برفقة الجندي منذ دقيقتين .. لا تنوي شيئًا سوى أن تسير في الأمر بما يضمن لأخيها أقل الخسائر الممكنة ..
ستخترق القانون ..
وما الجديد؟
فبمجرد دخول أحد إخوتها في الحسبة، يفر ضميرها المهني هاربًا .. وإن بقى .. تقتله بنفسها.

وفي تلك اللحظة .. أخرج خطاب هاتفه دون تردد .. واتصل بفريد.

~~~
أغلق مكالمة ما، ليقبض على هاتفه بتأهب مسرعًا إلى غرفة مكتب والده .. لم يأبه أدهم بالطرق وهو يدير المقبض دالفًا دون استئذان ..
عقد مختار حاجبيه سائلًا بريبة :
_ماذا هناك؟
أجاب أدهم على الفور :
_ظهر جديد في قضية ضحى .. يتهمون شخصًا بريئًا.
اتسعت عينا مختار بصدمة، وعجز عن التفكير لوهلة .. قبل أن يقول محذرًا :
_لا تخبر أي من أمك أو منة بهذا الأمر، إن علمت إحداهما سيزيد الأمر سوءً..
أومأ أدهم برأسه مؤكدًا كلمات والده، فيما رفع مختار هاتفه قائلًا بحسم :
_سأتصل بنبراس.
ضغط الأمر بالاتصال، ثم نظر إلى ابنه سائلًا باستفسار :
_مَن الذي تم اتهامه؟

بعد قليل .. وعلى الجانب الآخر..
أغلقت نبراس هاتفها بأصابع مرتعشة .. وقد هربت الدماء من سائر جسدها فأضحت كجثة هامدة .. لم تتوقع أن ابتعادها قد يخلف عليها كل ذلك ..
لم تكن تعلم أن هروبها من الماضي لن يطلق عليها سوى ذكريات وعوائق تطاردها بلا كلل .. وها قد لحقت بها الذكريات حتى كبلتها بطوقٍ حديدي شائك، وعرقلتها العوائق فوق منحدر .. فباتت في لحظة واحدة تحمل ذنب شخص آخر في رقبتها .. وليته أي شخص!
عند تلك النقطة .. رن جرس منزلها بقوة فانتفضت مذعورة في مكانها .. غير أنها نهضت بسرعة عالمة بهوية القادم .. وبمجرد أن أدارت مقبض الباب وفتحته، ثبتت صحة تخمينها، وتجمدت مكانها بهلع .. فقد وقف أمامها فريد بملامحٍ قاتمة .. صدره يعلو ويهبط بقوة وكأنه جاء الطريق بأكمله من منزله ركضًا دون انتظار .. لينطق بعدها مقتضبًا بعينين كساهما جمود يواري خلفه انفعالاتٍ عنيفة :
_إلا أخي يا نبراس .. إلا أخي.

~~~
هدرت الطرقات بعنف على باب المنزل الصغير بالطابق الأرضي بالبناية .. تلك البناية التي شهدت كل شيء منذ بدايته .. وربما كان لينتهي الأمر برمته لو كان بإمكانها النطق .. والإفشاء بسرٍ تحمله في رحمها منذ ما يقرب العامين ..
هرع الرجل إلى باب منزله المتهالك ليفتحه بفزع .. فوقف حمزة أمامه سائلًا دون مقدمات :
_هل أنت حارس هذه البناية الذي شهد ضد هاشم العمري في قضية مقتل ضحى الفقي؟
لم يجب الرجل لثوانٍ .. قبل أن يومئ برأسه مؤكدًا وهو يرد بارتباك واضح :
_نعم.
باغته خطاب بالسؤال التالي قائلًا بحدة :
_من دفع لك لتشهد زورًا؟
تراجع الرجل وهم بإغلاق الباب قائلًا بصرامة يواري بها توتره :
_أنا لا أعرف عما تتحدث، ولا أقبل بهذا السؤال، بهذا الشكل أنت تشكك في ذمتي.
تمسك كل من حمزة وخطاب بثباتهما بصعوبة كي لا يقتحما ذلك المكان الصغير مراعين حُرمة المنزل ..
شرع خطاب بإسناد الباب قبل الإغلاق، فدفعه مرتدًا إلى الحائط بقوة أحدثت دويًا أجفل الرجل في وقفته المضطربة .. فيما أمسك به حمزة من ياقته بصلابة هادرًا في وجهه :
_من دفع لك لتشهد زورًا ضد هاشم العمري؟
ارتجف الرجل برعب، فيما لطمت زوجته _الواقفة بزاويةٍ ما بداخل المنزل تتابع ما يحدث_ فوق وجهها بصدمة ... فأجاب الرجل مستسلمًا بخنوع بعد لحظات :
_قالت أن اسمها نارين حكيم الألفي.
تبادل كلا من خطاب وحمزة نظرة مرتابة، وقد اعترت كلاهما صدمة لحظية لتعرفهما على هويتها، قبل أن يهتف خطاب في الرجل بتهديد :
_جلسة التحقيق ستكون مساء يوم الأربعاء في سرايا النيابة، بالطبع سيستدعونك للحضور .. إن لم تغير أقوالك وتُبطل شهادتك حينها .. لا تلومن إلا نفسك.
أكمل له حمزة قبل أن ينفض يده عن ملابسه :
_من الأفضل لك ألا تستهين بنا .. صدقني ستندم.

رحل كلاهما مشيعان الرجل بنظرات نارية مهددة .. فأغلق الباب مستندًا إليه، بينما يضرب جبهته بكفه بعدم حيلة جالسًا أرضًا بانهزام..
تقدمت منه زوجته مبهوتة .. ولم يسعفها عقلها أو حتى مساحة المنزل القليلة أن تبعد ابنتهما الصغيرة عن مسار حديثهما .. فوقفت أمامه مرددة ما سمعت بعينين متسعتين :
_شهادة زور يا حمدي؟
لم يرفع رأسه إليها، ولم يبرح موضعه .. فكررت وما زالت تؤثر عليها الصدمة :
_شهدتَ زورًا مجددًا يا حمدي؟
ثم استطردت بصوتٍ ارتفعت نبرته صارخة به وهي تضم ابنتها إليها :
_ألم تحلف بحياة ابنتك أنك لن تكررها؟
استقام واقفًا أمامها بخزي، لكن شيء ما دفعه ليومئ برأسه نفيًا وهو يرد :
_لم أفعل، أنا لم أشهد زورًا .. ما الذي يؤكد لكِ إلى هذه الدرجة أنني لم أرَ حينها ذلك الرجل بالفعل قادمًا لزيارة خطيبته رحمها الله ....
قاطعته زوجته بقوة شاعرة بنفور من حديثه :
_لا تأتي بسيرتها على لسانك هذا .. أنت السبب من البداية في إهدار دمها .. لقد رأيت ذلك الرجل بنفس عينك المدنسة التي حُجبت عن رؤية عاصم الفقي ذلك اليوم .. حسبي الله ونعم الوكيل فيك ..
بعت عينيك، وبعت ضميرك، وبعت دم الفتاة والقسم بحياة ابنتك بثمنٍ بخس .. حسبي الله ونعم الوكيل.

حاول أن يرد .. أن يجيب بأية حجة .. إلا أن لجامًا حط على لسانه فجأة .. فأطرق برأسه مهزومًا .. فيما تحركت زوجته مسندة بطنها المنتفخ بكفها وهي تكمل :
_لن أبقى في منزلك لثانية أخرى ما دام ذنب شخص بريء برقبتنا يا حمدي ... لن أقبل أن تنزل جوفي أو جوف ابنتي ولو لقمة واحدة من مالٍ حرام .. إلى أن تنير بصيرتك وتنقذ ذلك الرجل من عقابٍ لا يستحقه سواك وأمثالك ممن يستحلون أرواح غيرهم .. أنا في بيت أهلي.

~~~
فتحت نارين الباب، ففوجئت بثلاثة نساء أمامها .. تعرفت بدايةً على جود ونادية صديقة أختها ولم تتعرف على ثالثتهن الشقراء رغم ألفة مظهرها بالنسبة إليها، لكنها عقدت حاجبيها بتوجس داعية إياهن للدخول بأدب ..
_تفضلن.
ردت عليها إلهام بعد أن تقدمن جميعًا إلى داخل المنزل :
_نحن آسفات للقدوم دون موعد، لكننا لم نأتِ للضيافة.
سألت نارين وقد زادت ارتيابها تلك الكلمات :
_إذًا هل لي أن أعرف فيمَ ترغبن في هذا الوقت الباكر من الصباح؟
تحدثت جود تلك المرة مصرحة دون تمهيد، فقالت بإعياء :
_قبضوا على هاشم مساء أمس بتهمة قتل ضحى؛ لأن حارس العقار شهد زورًا برؤيته تلك الليلة قبل حدوث الجريمة ..
جحظت عينا نارين، فيما أكملت لها إلهام مفسرة :
_وحين استطعنا سؤال الحارس عمن دفعه لفعل ذلك .. قال أنها فتاة تُدعى "نارين حكيم الألفي".
سقط الاسم على رأس نارين برتم بطيء كدلو من الماء المثلج .. فازداد هلعها وهي تومئ برأسها نفيًا هاتفة :
_أنا لم أفعل شيئًا، هذا كذب!
ردت نادية موضحة عدم توجيههن إتهامًا لها :
_نحن نخبرك بما قاله حارس العقار.
قالت جود بتفكير مستبعدة صدق تورط نارين في ذلك الأمر :
_طالما أن حارس العقار قد ذكر اسمك تحديدًا، فلا بد أنكِ على الأقل لديكِ طرف الخيط الذي علينا السير خلفه.
سألت إلهام تلك الواقفة أمامهم داعمة فكرة جود :
_هل لديكِ عداء مع أحد؟
خرجت يسرا من غرفتها لتجاور شقيقتها المرتعدة في وقفتها، ثم قالت بحمائية وهي تحيط بكتف الأخيرة :
_مهلكن عليها، هي لم تفعل شيئًا.
ردت نادية عليها بعد تنهيدة متعبة لبقائهن طوال الليل دون راحة :
_لا تؤاخذينا يا يسرا، لكن .. إنه أخي!
نظرت إليها يسرا بقوة مجيبة :
_وهي أختي ... هي لم تفعل شيئًا .. لكننا نعرف من فعلت.

بعد دقائق .. كانت يسرا قد سردت عليهن ما حدث وحديث روز السابق لشقيقتها .. فسألت جود نارين إن كانت ما زالت روز تحمل نفس رقم الهاتف وتسكن بنفس المكان منذ الجامعة .. فأملتها الأخيرة كل ما طرأ من تحديثاتٍ تخصها ... إلى أن نهضت ثلاثتهن شاكرات بشدة، قبل أن تلتفت إلهام سائلة يسرا في محاولة لضمان كافة أطراف القضية لصالحهم :
_هل تعرفين عنوان فيلا الرشيد؟

بعد قليل ...
توقف خطاب بسيارته أمام بوابة فيلا الرشيد .. وآثر البقاء مع حمزة في السيارة، بينما دلفت الثلاث نساء مصرحين برغبتهن في مقابلة السيدة صفا لأمر عاجل .. وبعد دقيقتين .. تقدمت إليهن صفا نازلة الدرج وهي تطالعهن بفضول .. فيما ظهرت من خلفها ابنتها التي بدا أنها مستعدة للخروج إلى الجامعة .. فصافحتهن صفا برقي بينما عرفت كل منهن نفسها إليها، فقالت مرحبة رغم عدم فهمها لسبب الزيارة :
_أهلًا بكن، تفضلن في الصالون.
ردت نادية بلباقة شاكرة :
_شكرًا لكِ سيدة صفا، نحن آسفات لقدومنا دون موعد لكننا في الحقيقة لم نأتِ للزيارة ..
عقدت صفا حاجبيها باهتمام، فيما استكملت إلهام :
_كنا نود سؤالكِ عن ابنتك .. نبراس.
تسلل القلق إليها، فردت ببعض الحدة :
_ما بها نبراس؟
ردت إلهام بإرهاق واضح على ثلاثتهن :
_نحن من نسألك عنها يا سيدتي .. أين هي؟
التقطتا أذنا منة سيرة شقيقتها في الحديث .. فعادت أدراجها لتجيب هي بحمائية نيابةً عن والدتها التي تجمدت بريبة دون رد :
_نبراس خارج البلاد منذ ما يزيد عن العام، ماذا تريدون منها؟
أجابت إلهام محاولة انتقاء كلماتها كل لا يخلف الأمر أثرًا عكسيًا :
_بشأن قضية ضحى ابنة عمها ...
قاطعتها صفا بحدة في رد فعل لم يزد ظنونهن إلا تأكيدًا :
_نبراس لم تفعل شيئًا، ولا دخل لها بالأمر برمته .. لا علاقة لها بأي شيء يخص مقتل ابنة عمها.
تدخلت جود مهادنة، فقالت بهدوء استدعته رغمًا عنها :
_اهدئي سيدتي، نحن لم نوجه لها أي اتهام .. كل ما نقصده أنها طرف أساسي في القضية، بل أنها الوحيدة التي في يدها مفتاح حل هذه العقدة .. ساعدينا أرجوكِ، حياة شخص بريء متوقفة على ظهورها!
نظرت منة إلى والدتها بعدم فهم .. فيما نهضت الأخيرة قائلة باندفاع :
_إن عادت نبراس سيطلقون سراح ذلك الشخص ويزجون بها في السجن.
ردت إلهام بفطنتها العملية محاجية تلك المرأة :
_أي أنكِ تعلمين أن ارتباطها بالقضية وثيقًا .. أنا آسفة لكن لا تقنعيني أن فتاة تشاركها نفس المنزل ونفس الغرفة يُلقى بها من الشرفة دون حتى أن تشهد هي الأمر!
تراجعت صفا في وقفتها بأنفاسٍ لاهثة بانفعال معلنة نهاية الجلسة القصيرة وهي تقول بنبرة أودعت بها كل ما لديها من تماسك :
_نبراس تركت البلد بأسرها منذ وقت .. ولم تفعل شيئًا لأحد .. اتركنها لحالها من فضلكن .. لا أظن أنني بإمكاني المساعدة.
انسحبت الثلاثة عائدات بخفي حنين .. فأمسكت جود على عبراتٍ منهكة تنوي الهطول بتعب ..  ووارت نادية إحباطها بتماسكٍ هش .. فيما ارتدت إلهام قناع الثبات رغم أنها تشعر بنصفه بات مكشوفًا للعراء .. كمن شُطرت روحها إلى نصفين لم ينفصلا منذ قدما إلى هذه الحياة .. ولم يترك أحدهما يد الآخر حين احتاجها أبًدا ..
فخرجت نادية بروح مثقلة، تستند إليها جود بإعياء شديد متحسسة ذلك الألم أسفل بطنها .. وتجاورهما إلهام تمسد موضع قلبها بقبضتها، عل أجزائه تذوب في بعضها، فلا يعلم أحدهم أيهم المفقود!

تسمرت منة في وقفتها مبهوتة مما سمعت .. ثم التفتت إلى والدتها قائلة بذهول :
_أي أن نبراس سافرت هربًا من ....
قاطعتها والدتها بانفعال يزداد :
_أختكِ لم تفعل شيئًا خاطئًا لتهرب من عواقبه.. نبراس مظلومة.. طوال حياتها مظلومة.. اتركوها وشأنها .. اتركوها ..
اقتربت منة من والدتها بقلق .. لا تعرف إن كان عليها أن تعاندها ملحة عليها بالتدخل لإنقاذ شخص بريء .. أم تؤازرها دون وضع شقيقتها بين شقي الرحى.
فيما كانت صفا بذاتها تدور بها ذات الأفكار كأمواج تتلاطم بين ثنايا رأسها .. أتحاول حماية ابنتها التي قاست الكثير منذ جاءت بها إلى هذه الدنيا؟ أم تنقذ روحًا معلقة بين كفيها؟
لمَ دومًا عليها الاختيار؟ ولمَ دومًا تكون نبراس في الكفة الخاسرة لمن يفكر في الأمر لمرتين!
اختياراتها شاقة .. وجُل ما مرت به قد شق عليها بالكثير .. هي لا تحتمل .. لم تعد تحتمل.
اعتراها الوهن نائية عن تلك الأفكار وقد سحبتها الموجة الأخيرة فاستسلمت إليها دون مقاومة تُذكر..

فصرخت منة بهلع ملتقطة جسد والدتها الذي ارتخى فجأة :
_أمــــي!

~~~
أسقطت جود رأسها بين راحتيها بوهن .. تسحب أنفاسًا عميقة وتخرجها بهدوء لتسيطر على رغبة عاتية داخلها بالبكاء ..
منذ تلك اللحظة التي غادر بها المنزل وشعرت بها ببرودة شديدة تكتنفها .. كمن تجردت من قوتها وشجاعتها فجأة شاعرة بالعجز وكأن أطرافها قد بُترت مرورًا بقلبها ..
واستكانت إلهام جالسة على ذلك المقعد بجانبها في منزل والديها .. وقد تركت شرودها الحزين ليسحبها معه أينما شاء ..
بينما رفعت نادية رأسها إلى السماء مناجية برجاء شديد كأمٍ مكلومة ..
وتشاركت ثلاثتهن تلك الغلالة الرقيقة التي غلفت مآقيهن .. فإحداهن تحرص ألا تبكي أو تضعف كي لا تغفل لحظة قد يمر بها الفرج من أمامها  .. والأخرى قد تخلف عبرة واحدة منها شلالاتٍ من الدموع دون قدرة على التماسك .. أما الثالثة فقد تعهدت إلى نفسها ألا تحرر دموعها قبل أن تصل بأخيها إلى بر الأمان، ليس قبل أن ينال حريته أولًا.

كانت جلسة تضم الجميع في نهاية اليوم .. متعبين .. مهمومين .. يجلس كل منهم ورأسه لا تبرح التفكير للحظة ..
حتى فريد كان قد عاد على أول طائرة .. وبرفقته نبراس .. والتي صُدم الجميع برؤيتها وهويتها بدايةً .. إلا أن الموقف لم يكن مناسبًا لطرح الأسئلة والاستفسارات، أو حتى ترك الصدمة لتقودهم .. فبعد سويعات بدأ يألفها الجميع .. حتى أنها لم تترك للحرج فرصة ليجتابها .. فجلست معهم تفكر وتطرح أفكارها للمساعدة ..
فرغم كل ما يفعلونه ويحاولون فعله، ورغم ضمانهم لوجود نبراس كشاهدٍ أساسي .. إلا أن إحتمالية عدم رضوخ حارس العقار لرغبتهم واردة .. فستتقابل الشهادتين .. ناهيك عن أنهم لا يأمنون إن كانت تلك الفتاة قد أوصت غيره للشهادة ضد هاشم!
ربتت نادية على كتف جود قائلة بشفقة :
_أنتِ متعبة بشدة يا جود، يجب أن ترتاحي قليلًا .. هذا ليس جيدًا لأجلكِ!
ردت جود نافية باختناق :
_لا أريد .. لن أقدر من الأساس.
التفتت إليها إلهام قائلة بإلحاح :
_نادية معها حق، أريحي جسدكِ حتى وإن لم تنامي، هيا اصعدي وارتاحي بغرفة هاشم.
وضعت جود كفًا فوق موضع قلبها شاعرة بالعبرات تغلبها .. فازدردت غصة في حلقها قائلة بمهادنة :
_ربما بعد قليل.

خيم الصمت الكئيب على جلستهم .. فوقف فريد بأعصابٍ مشدودة منذ بداية اليوم مفكرًا، وكأنه يخشى أن تفوته ذرة قد تساعد في خروج أخيه .. فقال معددًا ما لديهم ليطمئن نفسه قبلهم :
_لقد ضمنا جانب الحارس .. لا أظنه سيصر على موقفه .. كما أننا علمنا بكل ما يخص تلك الفتاة التي تدعى روز.
ثم حرك عينيه إلى نبراس التي ناظرته ببعض التوتر، واستطرد بثقة لا يعلم إن كان يستدعيها لنفسه أم يبثها فيها :
_ومعنا نبراس كشاهدة أساسية.
ثم أكمل بنبرة اهتزت قليلًا باختناق :
_إذًا لمَ تخيم علينا الكآبة هكذا؟ نستطيع أن نصل لمئة دليلٍ ودليل لإثبات براءته ..

تبادل كل من حمزة وخطاب النظرات بصمت، ثم التفتا إليها مومئين برأسيهما بتأكيد لما يقول متبادلين بث الدعم في نفوس بعضم البعض.. فيما استطرد فريد بانفعال كمن يقر بحقيقةٍ ستحدث مهما حدث :
_انظروا ... سيبدأ التحقيق النيابي مساء الأربعاء .. لن يأتي صباح الخميس إلا وهاشم في منزله.
لحقوا كلماته بالدعاء .. وانتشرت بعض التمتمات الداعمة فيما بينهم .. إلى أن دلف صلاح مطمئنًا إياهم بعد عودته من عند المحامي .. مؤكدًا على أبنائه ألا يخبر أحدهم والدته بما يحدث مع بكريها رغم شعورها الفطري بأنه غير مرتاحًا دون إلمامها بأية تفاصيل .. حتى أنهم أرجعوا عدم وجوده بينهم لرحلة سفر طارئة تابعة للعمل، ويشك جميعهم إن كانت قد صدقت من الأساس وهي ترحل عن جلستهم داعية له بتيسير الحال والتوفيق ..

ابتعدت نبراس قليلًا عن الجمع تجيب هاتفها الذي أضاء باسم السيد مختار .. فرفعت الهاتف إلى أذنها قائلة برسمية :
_نعم يا سيد مختار.
جاءها سؤال منه، فأجابت بعد تردد :
_أنا في مصر ..  منذ بضعة ساعات.
صمتت لثانيتين مستمعة إلى ما يقول، قبل أن يشحب وجهها فجأة هاتفة بهلع :
_ما بها أمي؟

هان الودWhere stories live. Discover now