البارت 9

8 0 0
                                    

الفصل التاسع

ذهب الى المحكمة التى كانت تضج بالصحفيين فمحاكم الجنايات هى اكثر المحاكم التى تضج دوما بالمراسلين الصحفيين يتسابقوا فى صيغ خلاصة مرافعات المحامين وحكم القاضى على جانب اخر يطيلون فى سرد احداث القضية ويضيفون ويحذفون بحسب اهواءهم او ميولهم او حتى بحسب فهمهم للقضية برمتها وتكون الجلسات اكثر ضجيجا ان تعلقت باحد المشاهير و رجالى الاعمال
قبل ان يبدا اولى جلساته اتاه موظف من المحكمة سلمه ظرف جاءه فى البوسته من وزير العدل فوقع خالد عليه بالاستلام ولم يرد ان يفتحه حتى لا ينشغل باله بما هو مدون فيه ويؤثر فى سير الجلسات
ما ان اعتلى المنصة وبدات النيابة بعد تقديم المحامين اوراقهم  بسرد وقائع القضية وما الت اليه التحقيقات والصمت كان يعم القاعة الا من صوت وكيل النيابة رن الهاتف الجوال الخاص بعضو اليسار فتوقف تلقائيا وكيل النيابة عن الحديث ونظر خالد شزراً لزميله ولم يتفزه بحرف فى حين كان عضو اليسار قد احمر وجهه من الخجل ومن هذه الغفوة منه فقد ترك جواله مفتوحا فى الجلسة وهذا ممنوع البتة بل ممنوع ان يعتلى المنصة بهاتفه من الاساس وهم ان يعتذر بصوت خافت الا انه لم يعلم انه بصدد جلسة يراسها المستشار خالد مكرم ومجرد تدوين اسمه فى الاوراق كان كفيلا بان يفهم ولكن حظه العسر هو من اوقعه فى تلك العثرة
فجاة اشار خالد بحزم للحاجب بان يعطيه ورقة وبالتالى ظل وكيل النيابة على وضعه صامتا منتظر الاشارة له من رئيس الجلسة  ليكمل مرافعته
الكل كان متوتر يراقب ما سيفعله خالد
دون خالد فى الورقة عقابا بالمخالفة قدر قيمها بخمسمائة جنية على عضو اليسار ودسها فى اوراقه الخاصة التى فى دفتره الموضوع امامه وقال بصوت مسموع لصاحب العقاب: ان تكرر هذا ستنزل درجة فى الترقيه فاما ان تعلم بقدسية المنصة واما فلا تصارع غيرك عليها فامور الناس فيها ما فيها من معضلات لا تنتظر رنة هاتفك حتى تقطع عنا مناقشتها فمصلحة هؤلاء وهو يشير على طرفى الخصومة اولى
كاد المستشار ان ينصهر من شدة صرامة خالد وقسوة كلماته ولكن لا مفر من ان يومىء بنعم ويكرر الاعتذار
اشار خالد للنيابة بمعاودة الدفاع
انتهت الجلسة فى المحكمة ولكنها لم تنتهى من افواه الخصوم ومن المصورين ولا حتى من النيابة نفسها فاصبح الكل يتحدث عن هذا القاضى الصارم الذى اصبحت كل المحاكم باختلاف دوائرها تهابه واصبحت قلوب المحامين على اختلاف درجاتهم يخشون وقوفهم امامهم فهو لا يعطى اى دليل على الاقتناع بادلتهم او بدفوعهم فقط  ملامحه دوما باردة لا يسهل على احد التنبوء منها باى علامة من علامات الرضا او لرفض
ذاع صيته مرة اخرى بالاضافة الى حديثه السابق واصبح هو اساس حديث القنوات
................
انتهت الجلسة وفتح ذاك الظرف فوجده طلب بالذهاب لوزير العدل لاستلام قرار والتوقيع عليه
انقبض عقله فقد شعر انها النهاية
فى المساء عاد الى بيته وهو متجهم الملامح شارد الذهن ولاول مرة طلب من مودة اعفاءه من مشاركتها الطعام وفضل ان ينزوى بنفسه فى صمت
شعرت بالقلق فاتصلت بكلا من موسى ويونس وشحت لهما ما وجدت منه طالبة من كلاهما ان يتصلا به ليفهما ما الم به فهى لم تود ولن تستطيع ان تقتحم خصوصيته ولكنها قلقة بشانه وتريد ان يطمئنها احد وليس هناك اكثر قربا منهما اليه وبالالى هم اكثر من سيرفون بسلاسة سبب ما الم به
اتصلا به موسى وكان لا يزال فى اجازته بينما اخبرهما يونس انه فى طريقه للقاهرة وتواعدها على الاجتماع كما كانوا سابقا بعد ساعتين
تواعدوا رغم ان كلا منهما لم يساله عن شىء بل اكتفوا ان يوافق على المقابلة اولا ومن بعدها سيعلمون السبب وبالفعل خلال ساعة اجتمع الرفاق من بعد تفرقهم مرة اخرى
ما ان خطت اقدامى اول درجات السلم حتى شعرت بحنين لرفاقى رغم ان مدة غيابهم عنى ليست بالطويلة الا انها بالنسبة لعمر صداقتنا فهى قرون من الزمن فقد كنا لا نفترق ابدا ليل نهار الا فى اوقات نومنا وحتى هذه كنا فى الغالب نتشارك فيها فكان بيتنا وبالاخص غرفتى تحتوينا وتشهد جدرانها على ذلك فدوما ما كانت الاستضافة عندى لان شقيقاتى تزوجن مبكرا لم يتبقى سواى اما هما فكان لديهما شقيقات بالاضافة الى انهما كان يرغبان فى ذلك لان ابى كثيرا ما كان يساعدنا فى المذاكرة فى مهدنا ومن بعد الكبر ظل يتابعنا بملاحظاته ونصائحه فاصبح وكانه لديه ثلالثة من الابناء وليس انا فقط
حتى هذا النادى لم يخلو من ذكريات رفقتنا يوميا منذ ان كنا وكلاء للنيابة حتى اصبحنا آباء وقضاه
الان ومع اول خطواتى فوق اول درج اكاد اقسم انى اسمع همساتهم واشتياقهما لمقابلاتنا واسمع ايضا رائحة انفاسهم التى تفوح بالحنين انهما رفيقاى ما اصدقهما ومن لى غيرهما يعيننى على تلك الحياة
الصداقة الحقيقية كالعلاقة بين العين واليد اذا تالمت اليد دمعت العين وان دمعت العين مسحت عنها اليد فاصدقائى كانوا كثيرون ثم قليلون فقليلون حتى انهوا لرفيقاى لانهما كانا الاصدق هما من يحتاجهما عقلى وقلبى فليس هناك من يقدم لى طمانينتى سواهما ففى اوقات الحزن يعرفان كيف يكون السبيل الى العون والتخفيف ولا سيما ان الظروف تجود بالحزن اكثر من غيره ولهذا فلهما عندى رصيد من الحب لا ينتهى . علاقتى بهما دوما كانت عبارة عن مسئولية متبادلة ولم تكن ابدا تبادل فرص . الان اعترف انى قد حظيت بحظ نادر من ظوظ الدنيا وهما رفيقاى فكل ليلة لا اغفو مطمئن الا وانا مطمئن عليهما ولهما وبهما ما عرفنا يوما طريق لكلمة الفراق او البعد وانما نؤمن فقط بكلمة احاية المعنى الا وهى البقاء للابد وليس للاقوى
اخيرا وصلت ولكنى وعلى غير عادتى تعمدت ان اصل بعدهما لارى نظرة الشوق التى طوقت اليها فى اعينهما فهما كالعادة اعتقدما انهما سيجداننى جالس قبلهما انتظرهما لانى احب الوصول مبكرا عن موعدى عن الوصول فى التمام ولكنى اليوم كسرت لهما القاعدة لافوز بنظرة الاشتياق والقلق
لمحتهم من بعيد فور ولوجة من بوابة الزاوية التى نجلس فيها على الدوام على ضفة النيل مباشرة ولوحوا لى ورايت فى اعينهما نظرة الاشتياق ولكنى لمحت فيهما ايضا نظرة جديدة لم اتوقعها الا وهى نظرة القلق على حالى فعلمت ان مودة قد اخبرتهم بتعكر مزاجى فابتسمت لطيبة قلبهما وطيبة قلبها وهل هناك من كان محظوظ اكثر منى ابى سند لى وينصحنى ويعبر بى دوما الى بر الامان وام لا تكف ابدا عن الدعاء ليل ليل نهار وشقتان يفتخران انى سند لهما وانى فى حياتهما وزوجة امينة رحيمة محبة وطفل من صلبى يشبهنى واخيرا رفيقان يحبانى كما يحبان نفسيهما
اقتربت نحوهما وكنت على بعد خطوات معدودة فوجدت النادل قد اتى وبدا فى وضع اطباق الطعام على الطاولة فعلمت ان ظنى ارتقى لليقين وان مودة اخبرتهما عن عدم تناولى للطعام وها هما اول شىء فعلاه ان طلبا الطعام حتى من قبل ان اتى ليطعمانى اه من قلبيكما الرقيق
ما ان اصبحت امامهما حتى قاما كليهما فاتحا له ذراعه واستقبلانى وكانى بطل حفل
تبادلنا الاخبار السريعة العامة المتعلقة بالقضيا ذات الصيت ولم يحاولا ان يتاقشا معى فى اى شىء حتى اجبرانى على الطعام
العجيب انى استجبت لهما واكلت بنهم فمجرد رؤيتى لهما وعودة جلستنا بدفئها اذهبت عنى اى بأس وفتحت شهيتى كما لو كنت لم اتذوق لطعام منذ زمن
وفى اعماقى امتننت لمودتى فهى السبب الذى جمعنا فى تلك الامسية
كلانا كان لا يريد الحديث عن العمل الذى بسببه تفرقت جلستنا هذه الا انه لابد من الحديث وكما كانا قلقين بشانى انا ايضا كنت اود ان اعرف اهم اخبار ايامهما لانى قلق عليهما مثلهما علي
موسى وهو يضرب على عضدى وكانه يعطينى قوة الحديث قبل ان يبدا : ما حل بك صديقى؟
نظرت له وكان النادل يحمل الاطباق من فوق الطاولة فاستوقفته وطلبن لثلاثتنا القهوة التى يحفظها عن ظهر قلب
وما ان انتهى من تنظيف الطاولة ورحل حتى اخرجت علبة الغليون واشعلت واحدا رغم كرهى لما اعتدت عليه الا انه يبدوا انه لا محال منه
كانا يراقبننى فى صمت وانا اعلم
نفثت الدخان بقوة وقولت لهما وانا حاد البصر نحو مياه النيل التى عكست السماء ظلامها على مياهه كما عكست ضى نجومها على سطحه فبدت كما لو كانت لالىء لقد دث لى مثلما حدث معكما
موسى محاولا التهوين والتخفيف : يالك من رجل اهلكت قلوبنا وعقولنا فى التخمين
نظرت لهما بابتسامة لانى تاكدت ان مودة هى من اخبرتهما وهما لم ينكرا ذلك ولم يحتاجا فى الحقيقة الى ذلك
اكمل موسى: لقد كنت متاكد من هذا ولكن هذا مر لابد منه كما هو الزواج وضحك محاولا ان يضفى المرح على الموقف بينما يونس كان يراقبنى وهو مبتسم بدفء وقال: انت بالاخص دوناً عنا لا تقلق ولا تحمل هم
نظرت له وسالته بعينى ولم انطق حرف : لما؟
اجابنى رغم انى لم اسال من الاساس قائلاً: انت دوننا محظوظ لان زوجتك لازالت صغيرة فى السن وقد طوعتها وكيفتها على طباعك وليس لديكما اطفال فى المدرسة لتحمل هم التعليم او نقل ملفاتهم
موسى متمما على رايه: فى هذا انت محق يا يونس واضف على هذا ان زوجته ليست محبة للحياة حتى تقبل عليها بلهفة كزوجتك ولا هى من امثال تلك اللاتى يرتبطن باهلهن وصديقاتهن فيصعب عليها الانتقال بعيدة عنهم كزوجتى
نظرت لهما ولم اعترض لانى من الاساس مقتنع برايهما لكنى ايضا غير مقتنع بنقل مودة معى فقولت لهما ولكنى لست على استعداد بنقلها معى لان طفلى لازال حديث الولادة هذا اول وثانيا فقد تم نقلى الى عمق الصعيد الى قنا وهناك الصحة والرفاهية ليست مثل هنا بالطبع ولهذا اخشى على طفلى من قلة الرعاية واخشى على زوجتى من الملل وقلة الحيلة اما عن ثالثا فالطريق ليس بالسهل لاذهب فى الصباح واعود ف المساء الى بيتى فى القاهرة
موسى: بالطبع هذا صعب فمدة السفر بين العاصمة وهناك حوالى اثنى عشر ساعة او اكثر
اومات بنعم دون ان ابدى اى راى اخر
يونس : لا تقلق ولا تفعل مثلما فعلنا وخذ من تجربتنا خبرة لك فقد اخطانا بأخذ زوجانا معنا وكان من الافضل ان نجمع موعد جلساتنا فى يومين فقط وهذ يكفى على ان نكون بقية ايامنا فى القاهرة مع زوجاتنا وهذا شىء سهل
موسى : بالفعل وانا افكر ان اقضى فترة انتدابى كما انا على الا اكرر نفس التربة فى اى انتداب اخر فطبيعى انى ارت ام ابيت سانتقل الى اى محافظة اخرى ووقتها سافعل مثلما يقول يونس
خالد: ولكن لا تحسبن الامر هكذا بالهين لان هذا يتطلب النسيق السنوى لتواريخ وجودنا فى المحافظة ومن ثم النسيق مع السكرتير حتى يراعى هذا فى عمله عند اعطاء تاريخ الجلسات فلا نريد لكى نريح انفسنا نرهق غيرنا
يونس وهو يضرب على كتفى متعجبا من حملى لهموم غيرى
قولت لهما لقد قررت الا اصطحب مودة وسافعل ما اقترحتماه
قضيت امسيتى معهما وقد زال عنى همى وعدت كلى طاقة ونشاط
..........
نزل الخبر على مودتى كالصاعقة ولاول مرة اجدها متورة هكذا بل وشعرت انها ترتعد فاقتربت منها فقد خشيت عليها فهى لازالت فى حكم النفساء رغم انتهاء المدة الا انها لازالت ضعيفة فنا ارى جسدها منذ ولادتها وقد اصبح هزيلا ولكنها تعاند نفسها وتستقوى لاجل الا تهمل فى شىء مما كانت تفعله حتى لا اشعر ان هناك فرق بين ما كانت تفعله قبل الولادة عن بعدها
طيبة صغيرتى مودة وقلبها ابيض برىء كالملائكة لم تعلم انها قد دخلت قلبى واستحكمت منه ولم اعد بمقدورى ان ارى منها اى نقص
اقتربت منها وقولت لها مراوغا : اشعر ان جسدى منهكا فانا لم استرح منذ الصباح فما رايك ان تسبقينى الى الفراش وانا ساعد الينا كوبين من اللبن الدافىء؟
نظرت الى وقد شعر انى كالابله لم اكمل الحديث معها واكتفيت بالقاء الخبر كالصاعقة وعدت الى السكوت وكان الامر عادى ولكنى ابتسمت لها بدفء لاهون عليها الامر واومأت براسى انه نعم وافقى فوافقت ولم تستطع ان تفعل سوى رسم ابتسامة هادئة بادلت بها ابتسامتى وبدات اول خطواتها نحو الغرفة فعدت انادى عليها كنوع من الدعابة: تاكدى من ان ذاك الطفل المزعج نائما لانى اود ان اهنأ بجلسة رومانسية برفقتك
شعرت رغم ان ابتسامتها اتسعت انها متعجبة من تصرفى وانها لا محال الان تتسائل كيف له ياخذ الامر هكذا بتلك السهولة وهو الذى كان فى حالة اخرى منذ ساعات قليلة ولكنها لم تعلم ما بداخلى ولكن ما بى حيلة وما اصعب رؤيتى اياها هكذا وهى قلقة وحزينة
ولجت للغرفة وتحركت انا نحو المطبخ واعددت لها كوب من اللبن لدافىء ومعه قطع البسكوت بالشيكولاته التى تفضلها بينما اعددت لنفسى القهوة وما ان دخلت الى الغرفة وانا احمل الصينية واضعها على الكمود كانت هى تغطى طفلنا النائم فى سرسره بالقرب منا وما ان وقعت عينيها على الصينيه حتى قالت: لقد خدعتنى ولم تعد لنفسك اللبن كما ذكرت
جلست بجوارها على السرير وحاوطتها وقولت لها مناغشا : لم اخدعك صدقينى بل وذهبت لاعد اللبن كما وعدتك ولكنى وجدت علبة البن تناغشنى وتراوغنى وبالفعل نجحت فى اغوائى فقد نفثت رائحتها فتخللت انفى فلم اقاوم
ضحكت ضحكة عالية على وصفى وقالت لا تترك لى اى مجال للانتصار عليك فدوما لديك الحجج والبراهين ولا اعلم من اين تاتيك المخارج
كان دورى لان اضحك بعمق وكان ليس بى اى هموم وقول لها : تاتينى المخارج من كثرة ما تعودت على البث والمحيص فى اوراق القضايا والتعمق فى مشكل الناس يا حبيبتى
اقتربت منى ففتحت لها ذراعى فالتصقت فى صدرى واعطيتها كوب للبن فشعرت وكاننى اضم ابنتى
قالت لى بتحذير: اياك ان تشعل اى غليون فاصبح لدينا ضيف لا يهوى رائحة الدخان وعود نفسك من الان انه لا غليون بعد اليوم ف البيت
رفعت يدى كالذى يستسلم للشرطة وقولت لها مناغشا : انه له الحكم على فى ارضه فقط فى الجزء الذى يملكه اما فيما عدا ذلك فليس له شان ولى الحرية المطلقة فالمكان متاح للجميع
نظرت لى ولم تفهم ما اقصده فضحكت وفسرت لها قائلا: اقصد بارضه التى يملكها هى غرفة نومنا يا حبيبتى فقد اصبح هو مالكها الن اما غرفة مكتبى وما عداها فهو لازال ملكا لى
قالت تراوغنى هى الاخرى : ولكن غريمك سيكبر وسيحبو ويمشى وسيحتل ارض لبيت كله فما تصرفك وقتها ؟
رفعت يدى كعلامة استسلام للمرة الثانية وقولت : لن افعل اى شىء وساستسلم بالطبع
سالتنى على غرة حتى لا تترك لى فرصة للهروب من الحديث : ماذا قررت؟
حاوطتها بقوة وقبلت راسها وقولت لها بهدوء: لقد قررت ال اصطحبك حتى لا اكهلك بسفر وبحياة ليس بمقدورك التاقلم عليها بسهولة وحتى تكونى بجوار والديك ووالدى ان احتاجتيهم فى شىء لبوه لك على وجه السرعة
قالت وقد شعر بدقات قلبها وهى تعلو وتزداد وكانها فى سباق ركض لمسافات طويلة : وهل ستغيب عنى كثير ؟
مسحت عن شعرها وقولت لها: فى الاسبوع يومين او ثلاث وربما تزداد يوما فى فصل الصيف لزيادة عدد القضايا وبقية الايام ساكون هنا معك انتى واحمد
عادت تسالنى وحالها كما هو من القلق والتوتر : الى اين وقع انتدابك؟
قولت لها دون ادنى لحظات للتفكير: قنا
رباه انها بيعدة هل هذا حقا جدا قالت هذا وكانها لا تصدق ما قولته 
لا تنزعجى فهى مهما بعدت داخل حدودنا هكذا رددت عليها مناغشا وكانى اسخر من تصورها لبعد المحافظة انها مهما بعدت فهى قريبة
................
اليوم هو اول ايام سفرى الى محافظة قنا باريس الصعيد كما يلقبونها
كان يوم صباحه مرير فلم أهنأ بنوم لا انا ولا مودتى فكلانا يفكر كيف سيعتاد المعيشة بمفرده حتى ولو مجرد ايام .
كنت حزين لانى ساغادر طفلى الرضيع وكيف خابت احلامى وانا اتخيلنى اراقب نموه يوما يخلفه يوما واتابع تطورات نموه تارة ونمو حركاته وصوت بكاءه وضحكاته تارة اخرى .
لم اجهز نفسى نفسيا لاستقبال هذا الخبر رغم انى كنت اعلم بانى ساخوضه لا محال شئت ام ابيت وكانى كنت احاول ان اعيش يومى واهنا به دون اى منغصات .ومن الطبيعى وككل اى شىء جديد يطرا على حياتى  لابد ان اركض نحو ابى اقص عليه آخذا نصيحته ومشورته واول ما اشار على به انه قص على عادات اهل قنا واهم عائلاتها موضحا لى ان هذا اول شىء يعيقنى ان لم افهم عاداتهم وتقاليدهم لان اى فعل يخالفهم يعتبرون فاعله عدو وجب عليه الحد
فى تلك اللحظة ضحكت ساخرا على دقة ابى فى الحديث وتعمقه مبررا انى لن اتعمق ولن احتاج الى المعاملة معهم عن قرب ومالى وشانهم ؟
لن انسى نظرته لى بصدمة على سطحية فكرتى وقال لى دون ان يشركنى الضحك ككل مرة : ان لم تعلم بعاداتهم ستتعامل بفطرتك القاهرية وكل محافظة ولها تقاليدها يا بنى وربما ما تعتبره هنا فطره يكون هناك جرم فربما تتسبب فى الاصطدام معهم بدون قصد هذا اولا اما عن ثانيا فلانك ان درست عاداتهم وطبيعة معيشتهم فهمت قضاياهم واستعبت التمحص فيها فهل ان اتتك قضيه تعدى صياد على مكان صيد صديقه هل كنت ستحكم بالعدل الا بعد ان تعرف تقاليد الصيد فى السواحل خاصة ان عرفت ان من طبيعتهم وعرفهم الا يتعد صياد على مساحة صديقه التى وقف يصطاد فيها وهى محددة عندهم؟ ربما للوهلة الاولى ستحكم بعدم احقية المدعى لان البحر للجميع ولكن ان علمت عرفهم لحكمت لصالح الاخر وهكذا فى الصعيد ربما ان اتتك قضية قتل زوج تزوج من انثى على سنة الله بغير رضى اهلها لكون الفتاة ليست بالقاصر فستحكم بصحته شرعا وقانونا وتحكم عل القاتل ربما بالاعدام ولكن ان علمت ان فى قواعدهم الاساسية والعرفية والتى اقرها لهم القانون هى ان اهل البلدة لا يزوجون بناتهم الا لابناء عمومتهم لادنت الفاعل وحكمت لصالح القاتل بالرافة
وقتها فهمت مقصده وعلمت انى المقصر فى حق نفسى
نظرت فى ساعتى فوجد انه لم يمر من زمن السفر المحدد سوى ساعتين فزفرت بضيق وملل وكنت قد استقليت قطار النوم فاضجعت متسطحا تلك الاريكة وفتحت الحاسوب وبدات اتصفح لاعرف اهم العادات عن تلك المحافظة حتى لا اصطدم معهم فى اى تصرف يصدر منى دون قصد وتذكرت عبارة ابى عندما قال لى : لامحال ستتعامل معهم فانت ستعيش هناك وستتعامل مع الباعة ومع المارة وحتى الجيران او مع المزارعين الخلاصة انك ستكون بينهم كما العود فى وسط الحزمة
بدات اتصفح اول المعلومات فعلمت ان محافظة قنا يلقبونا بباريس الصعيد واخذت اقلب فى الصور هالنى الجمال الذى رايته ايعقل ان تلك لمناظر الخلابة فى صعيد بلدى ولم اره من قبل؟
واول معلومة قراتها عن مدينة قوص مركز المحافظة والتى كانت عاصمة الصعيد برمته وقت الفراعنه ومن بعدها كانت تعتبر ممر للحجاج للبحر الاحمر
قرات عن اهم تقاليد وعادات شبابها فعلمت انهم ينقسموا الى ثلاثة مجموعات صنفوا بحسب تمسكهم بالعادات والاصول او بحسب تمسكهم وميولهم للتقدم والتحضر
المجموعة الاولى هم شباب متمسكون بالعادات تمسك بحت لا جدال فيها ولا نقاش دون التفكير ان كانت تلك العادات من الاساسة موافقة للشرع ام لا وهذا الصنف خشيت ان اتعامل معهم او اصادفهم فى طريقى لانى تخيلت صعوبة التعامل معهم فمن اغلق فكره عن قبول اى افكار اخرى غير تلك لتى يعتقدها يعد هذا بمثابة يوم قيامة المعترض
اما الصنف الاخر وهم على النقيض التام من السابقين فهم من اصابهم الانفلات الاخلاقى وقرروا التمرد على العادات والقيم فاصيبوا بالانحراف البحت وان ذكرتهم بالمجموعة الاولى امامهم وصفوهم بالمتخلفين ولم يعلموا ان كلاهما متخلف فليس التمسك بالعادات عن جهل يحمد ولا المنحرف عن التقاليد يحمد انما ما اجمل التنوير والتفهم ونضج العقل ومجاراه التقدم وهم اصحاب المجموعة الثالثة المتوسطة بين الاولى والثانية وهم من يتطوروا ويحاربوا الجهل والسلبية لكنهم لازالوا متمسكين بعاداتهم الطبيعية الاصيلة كالرجولة والنخوة والكرم والدين فلا هم متسيبين ولا هم متشددين
قولت فى نفسى بالتاكيد المجموعة الاولى هؤلاء من لم يصبهم نصيب من التعليم ولم يخرجوا طيلة عمرهم خارج حدود محافظتهم ولك يختلطوا بغيرهم بينما المجموعة الثامنية فربما هم من اصابهم النصيب الاكبر من التعليم والحرية فخرجوا ليس خارج حدود محافظتهم فحسب بل ربما خارج حدود الوطن فضاعت منهم تقاليدهم وتوطنت فيهم تقاليد وعادات الغرب الغريبة فاصبح بالنسبة لهم العرف والتقاليد سمة تخلف وتعنت
بينما ارى ان تلك المجموعة الوسطية هى تلك التى تعلمت وتطلعت ولكن الله كان فى معيتهم فلم يتبعوا هوى الشيطان ولم ينخلعوا عن اصول تربيتهم ودينهم ولم يدعوا للحرية المطلقة التى لا حازم لها ولا رابط
اخذت اصول واجول فى مختلف مواقع النت وعرفت حتى اسماء اكبر عائلاتهم " الهوارة . الاشراف البحرية والشرقية والغربية والقبلية . الاميرية . والاوسط . ابنود. ابو تشت
 
واثناء ما انا منهمك شعرت ان حركة القطار قد توقفت فلمت اننا فى محطة ما ولكن ما هى لم اعلم لانى لم اتابع فقد استغرقت فى القراءة ول اعلم كم من الوقت قد مر علي وانا بهذا الوضع فنظرت فى ساعتى فوجدت ان الوقت قد داهمنى او ربما انا من داهمت الوقت بالتعمق فى القراءة ولكن على اية حال فانا بقدر ما صدمت من الوقت الذى مر الا اننى قد سررت فقد اكلت الملل الذى كنت اتوقع ان اعيشه فى خلال تلك الساعات الطويلة وانا وحدى
لقد مر حوالى ثمانية ساعات زفرت نفس قلق فلازال هناك متسع من الوقت طويل فهل سيصيبنى الملل رغم كل فعلته لئلا اشعر به ؟ وماذا على ان افعل فقد قرات كل شىء عن قنا وعن اهلها حتى شعرت انى قد ترعرعت فى ارضها من كثرة تعمقى وشعرت انى من اهلها من شدة تعمقى فى عاداتهم التى قرات عنها
تركت الحاسوب على المقعد الذى امامى ووقفت على قدماى لاخفف تشنجات ساقى من طول الجلوس واخذت احرك فى اصابع كفاى فلازلت اشعر انها هى الاخرى كقدماى متشنجة ولكنى شعرت ان جسدى كله نفس الحال رباه ما هذا فانا اكره تلك التشنجات فما كانت يوما  الا خيانة للجسد حين بذل مجهود او ربما كانت تبيه له عند كسله وهى الان تنبهنى انى لاول مرة ابدوا كسول ولكنها لم تفهم انى اجبرت على هذا الكسل بسبب طول فترة السفر
تحركت نحو الشباك وقد شعرت بحركات عجلات القطار وسمعت صفارته تعاود السير وبدا الطريق يسير بطيئا فى البداية ورايت اشجار النخيل تمد سعفاتها مرحبة بالعائدين وربما هى على الجانب الاخر تودع الراحلين
ومن خلفها امتد شاطى الترع وعلى جانبيها الحشائش القصيرة وبدت البيوت والطرقات تتسلى بترقيص الاضواء على الظلال الملقاه فى اللجة
عدت الى الحاسوب لعلنى اجد الجديد لاقراة لاقتل البقية الباقية من الوقت وسالت نفسى هل يقرا الانسان لينسى ؟ ام ليتذكر؟ نظرت فى ساعتى مرة اخرى فضحكت على نفسى فساعة يدى التى كنت انسى انى ارتديها من الاساس اصبحت الان اطل عليها فى كل لحظة وكانها تعلن انها من الان ستصبح هى رفيقة دربى . وجدت ان الوقت لازال مبكرا فقد استقليت القطار منذ منتصف الليل وها هى الان فى بداية الصباح وبالتاكيد مودة لازالت نائمة فقد شعرت باشتياق للحديث معها لاجد ما يؤنس وحشتى فابتسمت وانا اتخيل الصغير يبكى وكان صراخه يشق اذنى وانا انسجم معه وكانه الة موسيقية فسبحان الله وعلى الحب الذى يزرع فى قلوبنا فور ميلاد ابنائنا
وفى النهاية قررت ان اغلق الحاسوب نهائيا وارحم عقلى وجسدى ولو للحظات وقمت ومددت جسدى فوق الاريكة للمرة الثانية وانا انوى عناد عقلى وان اجبره على النوم لعل قليلا من الغفوة يرحمنى من تلك الوحدة المميتة وبالفعل وجدتنى وبكل سهولة استسلم للنوم وكان عقلى كان لا يعاندنى وانما انا الذى كنت اقسو عليه بمحاولاتى المميته لجعله يقظاً
وجدتنى استيقظ  بسبب شدة الحرارة مددت كفى اتحسس جبينى فوجدت ان العرق قد غمرنى فتعجبت فالمبرد كان يعمل فهل حدث عطل ؟ وهممت ان استدعى احد من العاملين لافهم السبب وفتحت باب الغرفة فوجد ان الممر خاليا وهدوء تام يعم المكان فتحركت قليلا بضعة خطوات فشعرت بحالة من الارتباك وصوت مناوشات فى العربة ولكننى لم افهم شىء فتحركت مسرعا نحو العربة التى تليها لعلى افهم ما السبب فوجدت كثير من الركاب مغادرة القطار ومنهم من يسب ويلعن ومنهم من هو فى حالة غبطة
عدت لغرفتى لعلنى اتصل باحد من المسئولين فى المحافظة او المحكمة لافهم السبب وما ان دلفت من الباب فلاحظت ان الركاب يتناوبون فى النزول من العربة ويقفون على جانبى القطار وان هناك لافتة مدون عليها محافظة قنا على بعد ... كم  فتعجبت وشعرت اننى  فى غفلة من الزمن ايعقل انى غفيت  ما يقرب من الثلاث ساعات ؟ وكنت اشعر اننى لم اغفو من الاساس
عدت افرك جبينى لانشط ذهنى لاتفهم الموقف عن قرب  فقررت ان استمع لما يقولونه الركاب الذى نزلوا قبل ان اتصل باحد  فوجدت انهم منقسمين بين من هو رافض للاعتصام ومن هو مؤيد فجحظت عيناى وقولت فى نفسى اعتصام ؟ يا لها من بداية ايام عسيرة
عدت استمع فخلصت بعد ما يقرب من الربع ساعة وانا استمع الى كل الاطراف والاراء لافهم فاول ما استمعت وجدت شيخاً بدا انه من ائمة المساجد يقول نحن نعلن اننا لسنا من الموافقين على الاحتجاج وان كنا نرفض المحافظ لان الاحتجاج بهذه الطريقة ترفضه الشريعة الاسلامية
قولت فى نفسى: اذن الوضع احتجاج واضراب ويخص محافظ قنا رباه اهكذا اعيش اول صباح لى فى هذه البلدة؟ عدت استمع لاكمل معلوماتى فوجدت الاراء المتضاربة منهم من يقول لا نريده ونريد ان تستجيب لنا الحكومة وتعين من هو ادرى بمصلحتنا ولا تعين من هو سمعته ملوثة باخذ الرشاوى وشهوته النسائية فلا نريد من لا ناتمنه على اعراضنا
فى حين ان الراى الاخر يقول وهل كلما اعترضتم على شخص مسئول قطعتم الطرق فما الفارق بينكم وبين الارهابيين فضيعتم حقكم بالغوغائية
قال احدهم من هؤلاء اصحاب الراى الاول: انت متبلد المشاعر فاقد للنخوة فكيف لك ان رضى بمثل هذا بيننا الا تخشى على عرضك؟
قال الثانى: كيف اكون فاقد النخوة وانا مثلكم لا اريده ولكنى اعترض على الاسلوب
هنا قولت فى نفسى اذن كل الاطراف مجتمعة على نفس الراى وان اختلفت طرق التعبير واخيرا قررت ان الملم حاجياتى وانزل وسطهم لافهم الموضوع عن قرب ولكن لفت انتباهى الحديث عن الطريق الذى قطعوه فعلمت انهم قطوا شريط القطار وشلوا الحركة تماما واقاموا سرادق كبير على طول الطريق بداية من مدخل المحافظة عدت وجلست فوق الكرسى افكر فنحن الان على بوابة المحافظة ولم ندخلها بعد ثم ان اول محطة للقطار فى عمق المحافظة كانت تبعد عن مكان الاستراحة التى ساقطن بها حوالى النصف ساعة اواكثر زفرت بضيق رباه ما الحل اذن فهكذا بينى وبين الاستراحة مالا يقل عن الساعة او اكثر بالسيارة فما العمل الان ؟
شعرت انه لا داعى للاتصال لمعرفة السبب ولكن على ان اتصل لعلنى اجد استغاثة تنتشلى من منتصف الطريق هذا وتقلنى الى المكان المقصود اغلقت الحاسوب وانا اسخر من نفسى فلم اقرا من بين ما قراته عبارة تفيد انهم قاموا بالاعتصام او قطع الطرق من قبل وقولت هامسا يبدوا انى ساشاهد اشياء وعادات لم اقرا عنها وعلى ان اتعامل معهم لافهم طبيعنهم على الحقيقة
امسكت بهاتفى لاتصل فوجدته فارغ الشحن فاصيبت بالشلل فكيف نسيت وضعه على الشاحن كم انا احمق فربما انسانى توترى ان افعل هذا
وبلا حيلة لملمت حقيبتى بعدما حزمتها جيدا ونزلت من العربة وانا افك عن عنقى رباطها ولو قليلا فالوضع اصبخ خانق حقاً
وقفت بين الناس وشعرت ان الوقت قد طال على رغم انى لم امكث سوى اقل من ربع الساعة بعد وبدا من الى انى غريب عنهم لاننى انزويت لانى لا اود ان اتشارك مع احدهم فى اى حديث فربما لم يعجبهم كلماتى فينقضون على وانا هنا وحيد وهم قطيع متحد
عدت اسب نفسى فكيف اتخيل هذا فهم اولا واخيراً ابناء وطنى ونانا منهم وهم منى ولكن الوضع جعلنى اهذى باى شىء غير مرتب
نظرت فى ساعتى ثم عدت ارقب الطريق لعلنى اجد حل وانا استمع الى كلماتهم ولم افهم لما رافت بحالهم فهم اولا واخيرا لا يطالبون الحكومة بشىء غير معقول كل ما فى الامر ان المحافظ المذكور له عندهم سابقة اخلاق غير محمودة وهذا شىء لا نستطيع ان ننهرهم على وهل منا من يكره الاخلاق ويخاف على عرضه ووجدتنى للمرة الثانية اسخر من نفسى ويبدو انى ساسخر اكثر من مرة فشعرت انى ولمجرد لحظات مكثتها بينهم اصبحت افكر بنفس طريقتهم
وجدت احد الشيوخ يقترب منى وبيده زجاجة من المياة المعدنية المثلجة وقدمها لى فنظرت له واخذتها دون اى اعتراض فحقا كنت اشعر ان حلقى قد جف فالشمس هنا قاسية ولا يوجد اى ستار يحمينا منها واقرب مكان يمكننى ان استظل به اراه على بعد امتار ليست بالقريبة ثم انى فضلت ان اكون بينهم لعلنى احتجت لمساعدتهم
شكرت الشيخ وشربت حتى فرغت الزجاجة عن بكرتها فابتسم لى وقال يبدو انك قسيت على جسدك فجف
اومات بنعم وعدت انظر فى ساعتى فشعر ان التوتر يعتلينى فسالنى من اى عائلة انت ؟ فقد ظننى اننى منهم فقولت انا لا انتمى الى قنا ولكنى قاضى منتدب وهذا اول يوم لى هنا
ابتسم الشيخ وقال : مرحبا بك وسط اهلك ولا اريد ان تاخذ عنا فكرة سيئة
قاطعته قائلا: اعلم ذلك واتفهم موقفكم ولكن التعبير عن الراى والاحتجاج لا يكون بهذه الطريقة
جاء دوره ليقاطعنى قائلا: نحن كأئمة مساجد نرفض الاحتجاج واعلنا هذا ولكن رغم هذا نعلم نه ما باليد حيلة لهم فى فرض رايهم فمن عينته الحكومة جميعنا نخشاه على ابناءنا وعرضنا ونخشى بطشه لاننا لن نتقبله وربما بسببه قامت حرب اهلية لن يطفئها الله الله وحده ونحن لا نريد هذا بدا
اومأت بنعم ولم استرسل معه فى الحديث فما بى لا يحملنى على احتمال اى حديث ولكنى مع ذلك طلبت منه ان اشحن هاتفى فعلى الفور لبى لى طلبى بعدما نادى على احد الشباب فاتى لى بوصلة باسلاك طويلة ربما اعدوها هكذا للطوارىء ولم اهتم بل وضعت هاتفى يشحن وظللت على نفس الوضع من الصمت اراقب فقط
كنت اجلس على حقيبتى وشعرت انى اريد ان اغطس فى ماء النيل و حتى فى تلك الترعة التى تبتعد عنى مجرد امتار فقد اعلانى عرق وترب جعلنى اكره جسدى برمته
جائنى اول اتصال مع بداية شحن الهاتف فرددت على عجلة فقد كان سكرتير الجلسة يهاتفنى لاننى تاخرت واول جلسة بعد نصف ساعة
سمعنى الشيخ وانا اطلب الغاء رول الجلسات اليوم على ان يعطى تاريخ المعاودة مطلع الاسبوع القادم 
انهيت معه المكالمة لاجد رئيس المحكمة يتصل بى ويعتذر لما اصابنى فهو بالطبع علم بما حدث لى
قولت له : لا تعتذر فالامر ليس لك فيه ذنب ولكن ما احزننى اننى لاول مرة اتاخر عن موعد جلساتى فحتى المرة الاولى طلبت يها التاجيل كان من قبلها بوقت كافى وكان يوم ميلاد ابنى وفيما عدا هذا انا لا احب ان اعطل مصالح المدعين فامورهم متعلقة برقابنا وانا لا اريد ان تنادينى جهنم من اوسع ابوابها
انهيت معه المكالمة ولم انتبه ان العجوز كان يراقبنى وينصت لى فوجدته يبتسم لى وربت على كتفى واعتذر لى مرة ثانية
مرت ساعة اخرى وانا على نفس وضعى وبدا كامل جسدى يصيبه التشنج وفجاة وجدت ان السرادق الذين اقاموه قد افترشوه بالطاولات والكراسى وغطوا سقفه بالعروش ووزعوا زجاجات المياة بطول الطاولات التى رصت بكامل السرادق
وجدت النساء توالين تحملن الصوانى فوقها اشهى الطعام من مختلف الانواع
شعرت وكاننا امام مائدة رمضانية ووجدت العجوز ينادى فى الشباب ان بيننا طبيب وقاضى منتدبان وكلاهما جاء لمصلحتنا فيجب علينا اكرامهما وعدم تعطيلهما عن العمل فاضطربت واخذت استكشف من هو ذاك الطبيب الذى شاركنى بلوتى فوجدت ان الشباب يقتربون منى ومنه فرايته وعرفته وجميعهم بين معتذر وبين مقدم لنا يد العون وسحبونا جبراً نحو السرادق واقسموا لناكل ونشاركهم الطعام ولم اجد بد من القبول فالرفض فى عرفهم غير مقبول من الاساس فجلست بجوار الطبيب المنشود وتوالت علينا الاطباق من حيث لا ندرى
رحب بنا الجميع حتى الاطفال وغمرتنا اعتذاراتهم حتى شعرت بطيبة قلوبهم والامتنان لهم  وما ان انهيت طعامى الذى لم يكن الا عبارة عن لقيمات قضمتها ليس لجوع بقدر ان اتقوض بها ورايت ان الشباب ينهالون علينا مرة اخرى جميعهم طلبوا اما توصيلنا لمكان سكننا او لاستضافتنا فى بيتهم حتى باكر
شكرتهم وقبلت دعوتهم لتوصيلى الى مقر الاستضافة لانى حقا اريد ان اخذ قسطا من الراحة قبل ان اراجع اوراق جلسات الغد
ودعنا اهل الساردق داعين لنا بالسداد ولم يكفوا عن الاعتذار لنا بعد
غمرتنى الفة طيبة ونقاء قلوبهم ونسيت تعبى وهمى واثناء ما كنت فى طريقى الى السكن وجدت هاتفى يعلن اتصل من مودتى فابتسمت لاسمها وما ان جاءها صوتى حتى انهالت على بالدمعات تستحلفنى ان اعترف ان كان قد اصابنى شىء فهى من قبل ان اسافر وهى جلست تتخيل حتى طال مدى خيالها للدرجة التى تخيلت فيها  انه ربما رصاصة ثأر غادرة تستقر فى صدرى
ضحكت عليها وقد تذكرت عباراتها وهى تحكى لى خيالها فقولت لها مهلا يا مودتى فانا ها اتحدث ولم تصيبنى رصاصة غادرة
بكت اكثر وقالت : لا تقل هذا ارجوك
قاطعتها لاخفف عن كاهلها وقولت لها : طمنينى عن حالك واعتذر لانك اتصلتى كثيرا وكنت خارج نطاق التغطية ولكن جوالى نفذ شحنه ولم انتبه الا منذ لحظات
اخذت نفس راحة وراحت تنهال مرة اخر باسئلة اطمئنان ولم اخبرها عم حدث وقولت ساحدثها نه فيما بعد حتى لا اخيفها واقلقها اكثر
اخيرا وصلت الى السكن فنظرت له باشتياق وكانى على صداقة به من قبل رغم انى لم اره بعد ولكن تعبى وارهاقى جعلانى اتوق اليه
شكرت الشاب الذى اوصلنى فقال لى معتذرا عما تسببه هو وابناء قريته لى وخلال طريقى علمت من دردشته ان مزارع ولم يكمل تعليمه بد والاعجب انى علمت ان زوجته طبيبه  فتعجب فكيف لها ان توافق على شخص لم يكمل تعليمه فى حين انها طبيبه ولانه علم ما بى من اندهاش فاجابنى دون ان اساله فانا وبالاخص بعدما رايته منه من قطعهم للطريق علمت بحميتهم التى لا يعررفوا لها مدى ولهذا ام اتطرق بالديث الى زوجته من الاساس رغم ان فضولى كان يلتهمنى تطويقا لمعرفة الكيفية خاصة انى من حديثه علمت انه على انسجام ووفاق مع زوجته
قال لى بالنص ( لعلك تتعجب ان زوجتى رضيت بى وهى الطبيبة وانا المزارع وانا لا اتعجب من تعجبك لانى اعلم ان اهل القاهرة ليسوا مثلنا ولكن نحن هنا نهتم بتعليم البنت ولكن لاجل ان تعلم ابناءها وتفيدهم وتتعلم كيف تدير بيتها وفى النهاية ليس لها غير الدار والاولاد وتعلم كيف تخبز وكيف تغسل وكل شىء ولن امانع من عملها مادام لا يؤثر على بيتى ولا على رجولتى هذا اولاً اما ثانيا فبناتنا منذ ولادتهن وهن يعلمن انهن محجوزين لابناء عمومتهن فبناتنا لا تخرج عنا حتى وان صارت مجرد زوجة ثانية هذا ارحم من ان تخرج عن ابناء عمومتها )
شعرت ان عقولهم و تقاليدهم لازالت متحجرة بعض الشىء رغم ما رايته منهم من شهامة وثقافة وانه ابعد شىء ان يرى احدهم ان بنت عمه تنكشف على غيره من ابناء عائلة اخرى ولا يستصيغ ان تخرج ارضهم عنهم
اخيرا وصلت للسكن ورايت ان هناك اخر ينتظرنى وسلمنى مفتاح السكن واخبرنى انه قام بتنظيفه وتجهيزه
شكرته واذنت له بالرحيل واغلقت الباب واول شىء القيت بحقيبتى فوق الاريكة باهمال وبحثت عن الحمام وخلعت عنى ملابسى المتعرقه ووقفت تحت رشاش الماء لعل الماء يطفى ما لحق بى طيلة اليوم ونصف من مشقة
وما كدت استرخى تحت الماء البارد متناسيا بقدر استطاعتى ما لحقنى حتى انتبهت على صوت الطرقات المتتالية على الباب تاففت وقولت فى نفسى رباه ما هذا اليوم العجيب الغريب وكان تلك المحافظة تابى ان انعم باى قسط من الراحة حتى ولو كانت مجرد لحظات تحت الماء
اغلقت الرشاش وجففت جسدى فى عجالة وارتديت ملابسى بعفوية ووضعت الفوطة على كتفى وخرجت لافتح بسرعة
وما ان فتحت حتى وجدت نفس الشاب الذى اوصلنى بسيارته جائنى بسرعة وهو يرفع على كتفه صينيه بها اشهى الطعام
صعقت بما رايت فلم اعتاد على مثل هذا الكرم من قبل وقال لى وهو يبتسم وكانه اراد ان ينفى عن ابناء محافظته ما اعتقدته عنهم : زوجتى اعدت لك الغذاء فانا اعلم انك تعطلت فى مدخل المحافظة وجميعنا هنا اقمنا على خدمة من ياتينا من هناك فقد قسمنا نفسنا الى قسمين قسم هناك قاطع للطريق للاحتجاج وقسم هنا  قائم على حراسة وخدمة البقية
لم اعرف بما اجيبه ولم يكن بوسعى الا ان افسحت له الطريق وانا ممتن
وضع الصينية فوق الطاولة التى تتوسط الصالة وقال اعلم ان لديك ساعى قائم على خدمتك ولكن لا تعتمد عليه وساتيك انا بالطعام كل يوم انت وزميلك الطبيب ولا تحملا هم شىء فانتم فى بلدكم وكلنا فى النهاية مصريين
لم يعطى لى اى مجال لزيادة الشكر فوضع الصينية ورحل فى غمضة عين
.............
لم تمر على اول ليلة بسلام بسبب الناموس وشبكة الانترنت السيئة والوحدة القاتلة ولكنى تقبلت الوضع ليس اجبارا وانما ما رايته منهم جعلنى اتقبل اى شىء وكاننى بدات اتقالم من اول دقيقة على الوضع
فى النهاية استيقظ مبكرا واتصلت على ذاك الساعى المفترض انه قائم على حاجتى وطلبت منه ان يوفر لى سيارة للمحكمة فقال لى ان على منتظرنى فسالته من يقصد فعلمت منه انه نفسه الشاب فابتسمت وشكرته وما ان انهيت ارتداء بذلتى وخرجت وركبت مع على وقبل ان يلقى على تحيته قولت له: انا ممنون لك جدا ولكن هناك شىء لابد ان تنتبه له انى لن اقبل اى مساعدة اخرى لان الدولة عينت لى من هو مختص بخدمتى وعل العموم فلقاضى مركزه حرج ولا يقبل اى مساعدة او اى نوع من الخدمة  فلا تثقلنى بما تقدم لى حتى انفى عن نفسى ما لحق بغيرى
ففهم انى اقصد الرشوة فاعتذر وقال مبررا انه ما فعل هذا الا لينفى عنى ما اعتقدته عن محافظته
ابتسمت له وقولت له: اعلم ان اهل الصعيد فيهم من الكرم ما يفوق اى كرم مثلهم مثل اهل مكة فى كرمهم على الحجاج واكثر ولكن ترفق بحالى ايضا فوضعى حساس فربما عرضت على قضية انت طرف فيها او احد يخصك ووقتها ربما تعشمت انت فى وانا لا اخاف احد الا الله
شعرت انه امتن لصراحتى معه فقال لن اتيك مرة اخرى ولكن على الاقل اعتبرنى اخ وصديق وان اردت اى شىء فبامكانى مساعدتك بقدر استطاعتى فانت بيننا هنا كانك بين اقرانك فى القاهرة
تعرفت عليه وعلى اسمه وعنوانه وافراد عائلته وتعرف عل كذلك فالطريق كان طويل واطمئن على لانى من الغد ساستقل سيارة الدولة التى خصصتها لخدمتى

وللجلاد أيضاً دموع Where stories live. Discover now