16. -لن اسامحك..... أبداً

607 19 1
                                    

شهق ماكسيمو عندما رأها!
وقفت اميرته على الجانب الآخر من الممر. شعرها الأسود مرفوع إلى قمة رأسها, و مُضوع عليه تاج ماسي لا يُقدر بثمن, و يناسب تماماً العقد الذى فى عنقها. ثوبها الأبيض ذو كمين ضيقين طويلين, اما الجزء العلوى من الفستان فيُظهر جمال صدرها و خصرها و تتدلى منه تنورة واسعة طويلة فضفاضة. شفتاها مطليتان بلون احمر يناسب تماماً الورود الحمراء فى الباقة التى تحملها.
فى لحظة انسجام واحدة, نهض الضيوف و هم يشهقون إعجاباً. اثرياء العالم و المشاهير اجتمعوا فى الكنيسة الصغيرة الخاصة. حتى مشاهير السينما المميزين, و الامراء و رؤساء الوزارات و السياسيين.
بدت لوسي كـ الرؤية و الحلم فى تلك الكنيسة القديمة, التى اضيئت بمئات الشموع فى تلك الليلة الباردة الماطرة. تحت كل شمعة وُضع طبق من الورود الحمراء القانية كـ الدم.
إنها إلهة الشتاء, فكر ماكسيمو و هو يحدق بها شاعراً كأن قلبه يتمدد فى صدره. دونا مولتا بيلا! إنها جميلة جداً, لدرجة انه لا يستطيع إبعاد عينيه عنها.
لوسي!!!!
ما الذى فعله فى حياته كلها ليستحقها زوجة له؟ هو لم يعرف يوماً امرأة كـ لوسي. جميلة جداً, حنونة جداً ذات قلب برئ كـ قلب طفل. جعلته لوسي يري كم يمكن للعالم ان يكون غنياً و عميقاً, و هو يحبها كثيراً....
ادرك ماكسيمو ذلك بصدمة.
انه لا يريد فقط ان يبقى قربها كل ليلة, بل يريد ان يستيقظ معها كل صباح لما تبقى من حياته. يريدها إلى الأبد. ديو سانتو!
كم يحبها!
لم يراوده يوماً مثل هذا الشعور, و لم يتخيل ابداً انه قادر على الإحساس بالحب تجاه اى امرأة. لكنها اميرته, و عروسه, لوسي. حدق بها محاولاً ان يُظهر لها الحب الذى يغمر قلبه.
لوسي, تى يامو!
تزوج ماكسيمو بها ليسيطر على شركة فيرازى و ينتقم من الرجل العجوز. تزوج بها ليتخلص من إحساسه بذلك الذنب القديم. و ليعطيها الأمان الذى فقدته و هى طفلة, و هكذا يتخلص من الأحساس بالندم بدوره.
لكن اعجوبة حدثت بعد ذلك, إنه يحبها!

هو الذى لم يتعلق يوماً بأى امرأة, و الذى لم يعيش للحظة تجربة القلب المحطم, يشعر انه مأسور و بشكل من قبل زوجته.
لم تنظر لوسي إلى عينيه. كلما اطال النظر إليها, كلما ادرك ان شيئاً ما يشغلها.... شئ سئ جداً, تساءل لِمَ لا تنظر إليه؟
حاول ان يُقنع نفسه بأنه ليس هناك اى خطب. ما يرأه سببه وميض الشموع, او الوشاح على وجهها. لقد تحدث إليها هذا الصباح, و تذكر دفء صوتها و هى توبخه عبر الباب, فما الذى حدث منذ ذلك الوقت؟
للمرة الأولى, رأى الرجل الذى يسير خلفها كـ الشبح: غوسبي فيرازى!!
اجتاحه إحساس قوى بالكراهية منعه من الحركة او النطق.
كيف تمكن فيرازى من الوصول إليها, مع كل الحراس المحاطين بها؟
سارا عبر الممر القصير, و بعد قليل جلس الحضور, و هم يتمتمون بكلمات الإعجاب و التقدير للعروس و جمالها المذهل, و لم تكن لديهم اى فكرة عما يمكن ان يشاهدوه بعد قليل.
لكن القرويين فى آخر القاعة علموا الذى سيحدث. رأى ماكسيمو الذهول على وجوهم, و اتساع عيونهم. أما إميليا التى تحمل كليو و تجلس فى الصف الأمامى, فبدا وجهها شاحباً و ابيض كـ الثلج. كيف يمكن لذلك ان يحدث؟
هناك تفسير واحد لما حدث: لوسي تحدته متجاهلة أوامره. خاطرت بكل شئ و ذهبت لزيارة الرجل العجوز خفية.
هكذا لم يعد هناك غير سؤال واحد كئيب: ما الذى اخبرها به فيرازى؟
ما إن وصلت لوسي إلى جانبه, حتى مد يده بلطف ليرفع الوشاح عن وجهها. نظر إلى وجهها الجميل, و عرف الإجابة, فيرازى اخبرها بكل شئ.
خفت النور الذى كان يشع من عينيها البنيتين المعبرتين, لقد رحل ذلك الدفء. تذكر ماكسيمو ذلك اليوم الذى اقتلعها فيه من محطة الوقود فى شيكاغو, و اجبرها على ان تُصبح عروسه. اراد ان ينقذها, لكنها انقذته من حياة باردة مليئة بالثأر و الأنتقام و العلاقات الفارغة السطحية.
لماذا تحدثت مع فيرازى اليوم من بين كل الأيام؟ كان بإمكانهما ان يعيشا بسعادة بعيداً عنه. قال بصوت منخفض لا يسمعه سواها: "لماذا فعلت ذلك؟ لماذا تحديتينى؟"
لم تنظر لوسي إليه, بل قالت بنبرة خاوية: "لأننى احببتك."
احببتك..... بصيغة الماضى....
بدأ الكاهن بالمراسم. تحدث اولاً باللغة الإيطالية, ثم باللغة الإنجليزية. تجاهل ماكسيمو الرجل, تجاهل الثمانين ضيفاً الذين يراقبون ما يجرى باهتمام و شوق, و امسك بكتفى لوسي بقوة. حدق بوجهها الملطخ بالدموع و قال: "لوسي!"
نظرت لوسي بتحدٍ نحو نافذة المعبد المظلمة. إنه يريدها.... ليس فقط بجسدها, بل ايضاً بروحها. يريدها ان تنظر إليه تماماًً كما فعلت البارحة. لم يدرك حتى الآن كم كانا سعيدين فعلاً.
"لوسي, انظرى إلىّ!"
"لا!"
لمع وميض الشموع على وجهها البارد.
قال ماكسيمو بصوت كـ الرعد: "انظرى إلىّ!"
استدارت لوسي. لمعت عيناها البنيتان بشدة. صرخت به: "لماذا؟ ألكى تستعمل سحرك علىّ, و تجعلنى انسي انك اختطفتنى و انا طفلة, و انك قتلت والدىّ؟"
ساد الصمت فجأة فى ارجاء الكنيسة, و كأن الجريمة حدثت للتو. استطاع ماكسيمو ان يسمع تساقط المياه جراء ذوبان الثلج فى الخارج و صوت الريح الباردة تعصف عبر البحيرة.
وقف غوسبي فيرازى وراءها, و حدق به بعينين تشعان حقداًً و مكراًً هذا هو إنتقامه الأخير. هذا الرجل العجوز المريض لا يهتم مطلقاً اى حياة اخرى سيدمر, حتى لو كانت حياة حفيدته. هو يريد الانتقام و الثأر بأى وسيلة كانت, و مهما كان الثمن. تماماً كما كان ماكسيمو قبل ان يقع بغرام لوسي.
"كارا, بارفافورى."
ضغط بيده على كتفها, و تابع: "ليتنى استطيع ان اتحدث إليك على انفراد."
قالت بصوت مرتجف: "لا!"
سحبت ذراعيها بعيداً و هى تتابع: "كذبت علىّ كل هذا الوقت. كنت اعلم.... كنت اعلم ان هناك سبباً آخر لهذا اللطف و المعاملة الجيدة التى تحيطنا بها."
هزت رأسها, و انهمرت الدموع على خديها, لكنها اكملت: "لكن لم افكر للحظة ان السبب هو احساسك بالذنب."
"لنذهب من هنا, و نتكلم."
"لا!"
تراجعت إلى الوراء خطوة, ما إن حاول ان يمد يده نحوها. "هنا, و الآن, ماكسيمو! اخبرنى الحقيقة كلها."
نظر ماكسيمو حوله فى القاعة.... إلى اصدقائه, و إلى منافسيه فى عالم الأعمال, و إلى الاشخاص الذى يحترمهم و يكن لهم الإعجاب من كل انحاء العالم. إنهم جميعاً يراقبون ما يجرى بذهول و رعب. المصورون فى الناحية الأخرى من القاعة يلتقطون الصور كـ المجانين. زفاف المجتمع لهذا الموسم تحول إلى مسرحية تراجيدية, قد تجعل بيع الصحف يفوق كثيراً ما هو متوقع.
الاحساس بالذل و العار فى تلك اللحظة طغى عليه. اراد ان يندفع بقوة, او يصرخ معبراً عن إحباطه, و الأكثر من ذلك اراد ان يلطم الرجل العجوز على وجهه, لكنه لم يفعل اياً من ذلك.
هذه هى فرصته.... الفرصة الغالية الوحيدة ليقاتل من اجل المرأة الوحيدة التى احبها.
ضغط على يديه و كورهما لتصبحا قبضتين من فولاذ, ثم رفع ذقنه لينظر إلى وجهها.
قال بهدوء: "لم اسبب اى اذى لوالديك. كان قد توفيا عندما وجدت سيارتهما عند المنحدر. لم يصدق جدك ذلك ابداً. لكن تلك هى الحقيقة.... الحقيقة."
كرر ذلك بصوت قاسي. و نظر إلى فيرازى من فوق رأس لوسي, و تابع: "عندما ضربنى رجالك طيلة يومين بعد تلك الحادثة ارادتنى ان اعترف بأمر لم افعله ابداً. لقد توفيا قبل ان اصل إليهما."

روايات عبير / الاميرة الشريدهWhere stories live. Discover now