12. معاهدة غريبة

542 21 0
                                    

وصلوا إلى مطار خاص فى جنوب صقلية قبل غروب الشمس بوقت قصير. نزلت لوسي من الطائرة و هى تحمل كليو بين ذراعيها. بدا الطقس دافئاً, فتركت معطفها فى حقيبتها, و هى ترتدى الآن قميصاً قطنياً, و سروال جينز اسود اللون, و تنتعل حذاءاً مريحاً. عقدت شعرها الأسود بشريط من الحرير الأخضر اللون, فراح يتطاير على وجهها بسبب الهواء الدافئ, و هى تنزل الدرج نحو المدرج.
آهـ... صقلية! تنفست لوسي بعمق, أخيراً, ها هى فى إيطاليا الدافئة التى دغدغات احلامها منذ وقت طويل. لم تر سيارة بانتظارهم. السيارة الوحيدة المتوقفة قرب الرصيف الصغير, هى مجرد شاحنة قديمة. نظرت بارتباك إلى الجهة اليمنى ثم إلى اليسرى, و قالت: "اين السيارة؟"
اخرج ماكسيمو الحقائب من الطائرة بنفسه. اوما برأسه بإتجاه الشاحنة القديمة, و قال: "إنها هناك."
"اتعنى تلك؟ إنها حتى بدون سطح!"
"فيها غطاء قابل للطىّ. إنها ممتازة و تقليدية الطراز."
هزت لوسي رأسها و اشارت إلى الشاحنة قائلة: "ما دمت تحب الاشياء القديمة, كان عليك الأحتفاظ بسيارتى الهوندا القديمة."
تنهد بسخرية, و علق: من المؤسف اننا قدمناها لدور الاحسان."
وضعت لوسي ابنتها فى مقعد الأطفال, الذى حُشر وراء قضيب معدنى فى الخلف, ثم صعدت إلى الشاحنة لتجلس قرب ماكسيمو.
شغل ماكسيمو المحرك, و قاد الشاحنة من المطار عبر طريق ملئ بالحصي. استطاعت لوسي رؤية مياه البحر الزرقاء, تشع تحت المنحدرات الصخرية, و رأت اشجار النخيل تتمايل مع النسائم الدافئة. تطاير شعرها فى كل الاتجاهات لأن الشاحنة مكشوفة, فشعرت كأنها فى فصل الربيع. نظرت إلى ماكسيمو, و ابتسمت له. تذكرت كلماته, فشعرت بجسدها يرتعش. الليلة.... قرر انه يغويها الليلة.... لكنها ستقاومه. عليها ان تفعل ذلك.
بالرغم من انه يعاملها بشكل رائع, لكنها لو سمحت لنفسها بإقامة علاقة معه, فستُغرم به, و ستنهار دفاعاتها مثل قطع الدومينو.

"يجدر بك ان تسامح جدى. مهما كان ما فعله, انا متأكدة ان ذلك حصل بالصدفة, او بسبب سوء تفاهم. انا متأكده انه لا يمكن ان يسبب الأذى لأى كان."
علق بهدوء: "انتِ دائماً تُحسنين الظن بالناس. انت لا تعرفينه, لوسي!"
قطعا عدة اميال من دون ان يتبادلا اى كلمة. فجأة نظرت إليه قائلة: "ناديتنى لوسي, و ليس لوسيا. لماذا؟"
رفع ماكسيمو كتفيه, و اجاب: "لأن هذا ما تفضلينه."
شعرت بالغضب من نفسها, لأن هذا الإعتراف البسيط اسعدها. إنها مبادرة لا قيمة لها. مجرد جزء من عملية الإغواء التى يقوم بها. دفعت شعرها بعيداً عن عينيها, ثم نظرت إليه و هى تبتسم قائلة: "لم أرك مرة هكذا.... ترتدى سروال جينز, و تقود سيارتك بنفسك."
حدق إليها للحظة بنظرة جانبية و قال: "أنا فى شهر العسل الآن."
ها هو يؤكد لها ما يقصده بكل وضوح. شعرت لوسي بالقشعريرة بالرغم من الشمس الدافئة. ما إن بدأت الشمس بالمغيب وراء الأفق, حتى انعطف ماكسيمو عبر طريق ملئ بالغبار, ماراً امام حقل من اشجار الزيتون. فى نهاية الطريق, هناك كوخ صغير من الحجر يقع على حافة منحدر يصل إلى البحر, محاط بسياج من خشب الزان, تزينه أنواع من الورود المتفتحة, و الأنوار تشع من كل نافذة فيه.
"أهذا هو فندقنا؟"
قال بإختصار: "هذا ليس فندق. انا عشت هنا."
"اعتقدت انك ولدت و كبرت فى أكيلينا."
"بقيت هناك حتى اصبح عمرى اثنى عشر عاماً. بعد وفاة والداىّ و اختى, تخلت عمتى عن فندقها و احضرتنى مع إميليا إلى هنا, لتعيش قرب عائلة زوجها."
حدقت لوسي به بدهشة. ذكر من قبل ان ليس لديه عائلة, لكنها لم تعرف...
"والداك و اختك توفوا جميعاً؟ يؤسفنى ذلك." توقفت عن الكلام لتعض على شفتها, ثم سألته: "ما الذى حدث؟"
شعرت بخوف مفاجئ قبل ان تُكمل: "لا علاقة لـ جدى بالأمر, أليس كذلك؟"
اوقف ماكسيمو الشاحنة, و قفز منها. حمل الأغراض من الصندوق, ثم وضعها فوق ظهره, و قال: "تأخر الوقت. علىّ ان ابدأ بتحضير العشاء, قبل ان تشعر كليو بالتعب, عندئذٍ لن ترغب فى تناول الطعام."
فتحت لوسي عينيها بإستغراب, و قالت: "انت.... ستُحضر العشاء؟"
"قلت إنك لا تريدين الخدم, لذا انا الوحيد الموجود هنا, لكن ما زالت استطيع إحضار يختى من شواطئ الأنثيبز, إن كنتِ ترغبين بذلك. سنحصل حينها على فريق عمل من عشرين موظفاً و مربية اطفال بدوام كامل. يمكننا ان نبحر إلى سواحل سميرالدا, تونس و مصر, او اى مكان تريدينه. فقط تلفظى بكلمة واحدة.
عضت على شفتها, و عكس صوت فى اعماقها يحذرها: اختارى اليخت!
هذا الكوخ الصغير المحاط بالورد قرب البحر خطر عليها. انه يختصر كل ما حلمت به يوماً, و كل ما يحتاجه هو عائلة سعيدة فى داخلله, ليصبح كاملاً و مثالياً. هذا الكوخ يغويها لتتذكر آخر احلامها. إلا انها لم تستطيع المقاومة.....
سألت, ما ان دخلت إلى الكوخ: "من ترك الأنوار مضاءة؟"
مع ان المفروشات فى الداخل مصنوعة من المعدن, بدا الكوخ مريح و مرتباً. كما ان النار تتأجج فى المدفأة الحجرية القديمة.
"و من اشعل النار لنا؟"
"عمتى. انها تعيش فوق التلة."
وضع ماكسيمو الحقائب قرب باب غرفتى النوم, و تابع قائلاً: "لم ترغب فى مغادرة صقلية, حتى عندما قدمت لها فيلا أيشلو, لذا اشتريت لها كل الأراضى المحيطة بأرضيها, و بنيت لها قصراً. لديها الكثير من الخدم الآن, لكنها مازالت تهتم بىّ بنفسها, عندما آتى إلى هنا."
ابتسم قبل ان يتابع: "من الصعب تغيير العادات القديمة.... على ما اظن."
قالت لوسي بحزن: "لابد ان النساء اللواتى عرفتهن احببن هذا المنزل."
"النساء؟!"
"اجل! النساء اللواتى احضرتهن إلى هنا."
"لم احضر يوماً عشيقة لي إلى هنا."
نظر إلى عينيها, و تابع: "انتِ فقط."
أهى المرأة الأولى التى احضرها إلى منزله هذا؟ هزت نفسها على الفور, لا تشعرى بالإطراء و الإغواء, و لا تشعرى بالشوق إليه, لإعتقادك انك مميزة بالنسبة إليه!
بعدئذٍ اعدّ ماكسيمو عشاء بسيط من الباستا و البروكولى, و حضر زجاجة حليب لـ كليو, و شراباً مميزاً لهما, فشعرت كأن الهواء يضح بالتوتر الحسي بينهما. شربت لوسي كوباً من الشراب, و اخذت تأكل ببطء, محاولة ان تطيل مدة وجبة الطعام بقدر ما تستطيع. اخيراً اخذت كليو تتثاءب, و كادت تغفو على الكرسي الخشبي القديم المرتفع. كانت لوسي قد اخذتها إلى الحمام, حيث غسلت جسمها الصغير بالصابون المعطر, وجففتها بمنشفة قطنية سميكة, ثم البستها بيجاما جديدة ناعمة. و بينما كان ماكسيمو راكعاً امام المدفأة الحجرية, ليضع المزيد من الحطب, حملت لوسي ابنتها الشبه نائمة إلى غرفة النوم الصغيرة. قبلتها متمنية لها ليلة سعيدة, و وضعتها فى المهد, ثم غطتها بغطاء دافئ سميك.
إتكأت على الباب, و اخذت نفساً عميقاً, و هى تتمرت على ما ستقوله: ماكسيمو! لا استطيع ان استسلم لإغوائك, فأنا لست مثلك. لا استطيع ان امنع قلبى من التورط. سيستمر زواجنا لمدة ثلاثة اشهر فقط, و من المفترض ان يكون صورياًً!
ضمت يديها بقوة مستجمعة كل ما لديها من قوة. عليها ان تكون حازمة, و عليها ان تقاوم! ما إن غادرت الغرفة, حتى رأت ماكسيمو يقف امام النار, و عيناه تشعان بالشوق إليها. بالكاد اغلقت باب غرفة نوم كليو, حتى سار نحوها و حركة جسده القوى تجعله يبدو كـ قناص يتربص فريسته. قالت و هى تبتلع غصة بصعوبة: "ماكسيمو! لن استطيع...."
هذا كل ما تمكنت من قوله قبل ان يضمها إليه, و تحيط ذراعاه بها بقوة. عانقها بشدة, و كأنه يحاول إقناعها بما يفكر به, ضاغطا جسدها إلى صدره, فتحولت اعتراضاتها إلى تنهدات, و هى تشعر بعناقه يجرفها. همس فوق بشرتها: "لوسي! تى دسيدرو.... سي بلسيما...."
شعرت بيده تتحرك ببطء على بشرتها, مسببة حرارة اجتاحت جسدها, حرارة لا علاقة للنار بها. بلطف رفعها ماكسيمو عن الأرض و حملها نحو الأريكة الموضوعة امام المدفأة الحجرية القديمة. حدقت لوسي به, و كادت تفقد قدرتها على التنفس بطريقة عادية. انحنى فوق الاريكة, و قبلها. آهـ! هى لم تختبر مثل هذا الشعور من قبل. إنها تتوق إليه ايضاًً... تريد ان تضمه إليها, و تعانقه, و تغيب معه فى لحظات لا تُنسي من الحب....
احتاجت إلى كل ما لديها من قوة لتتمكن من دفعه. التقت نظراتهما, فقالت و هى تلهث: "لا استطيع ان افعل ذلك. مهما بدا لك ذلك سهلاً, فهذا سيجعلنى اتورط معك عاطفياً."
"بالطبع, نحن مرتبطان عاطفياً, كارا!"
بطريقة بدأت تربكها. توترها الشديد جعل الدموع تطفر من عينيها. قالت بحيرة و حزن: "لا استطيع.... انت لا تدرك ما الذى يفعله هذا بىّ."
قال و هو يلامس وجهها, ليرفع ذقنها, كى تحدق به: "دعينا نلعب لعبة."
بدا لها ما يقوله بريئاً جداً, فسألته: "و ما هى تلك اللعبة؟"
ابتسم ماكسيمو لعينيها, و قال: "سأحاول جعلك غير قادرة على مقاومتى, و انت تحاولين العكس تماماً."
رأت غيمة على القمر فى الخارج, و للحظة لم تعد ترى إلا ظل وجهه, او تسمع إلا صدى ضربات قلبها. همست: "وان تمكنت من مقاومتك؟"
"سأقبل طلبك بأن يكون زواجنا شكلياً فقط."
اخفض يده على وجهها ليمسك بيدها. قبل راحة يدها برقة, ثم رفعها إلى صدره, و هز يتابع: "لكن ان جعلتك تتأوهين بين ذراعي, ستصبحين لىّ طوال اشهر زواجنا الثلاثة."
من نظرة عينيه, علمت انه لا يتوقع الخسارة.
"كم ستدوم هذه اللعبة؟"
"اربعة و عشرون ساعة."
حدقت به و قد اتسعت عيناها من الدهشة.
"تبدأ من الآن. هذه هي شروطى. هل توافقين؟"
وقف و مد يده ليساعدها كى تنهض.
حدقت لوسي فى يده الممدودة. هل يمكنها ان تحمل هذا الاعتداء على احاسيسها لمدة اربعة و عشرون ساعة, من دون ان تستسلم؟ هذا امر مستحيل! مع ذلك, فالجائزة تلمع امامها: ستتمكن من العيش طوال الثلاثة اشهر القادمة من دون ان تُسلم جسدها و روحها له. إنها تدرك لماذا اغرم عدد كبير من النساء به, لكنها لا تستطيع السماح لنفسها بأن تفعل مثلهن. اربعة و عشرون ساعة! هل تستطيع القيام بذلك؟
ادركت لوسي ان ليس امامها اى خيار آخر. أتراها ستستسلم خلال اربعة و عشرون ساعة, ام ستنتظر منه ان يغويها, و يتودد إليها خلال الاشهر القليلة القادمة, فى اى وقت و فى اى مكان؟ هذه هى فرصتها الوحيدة للنجاة. انفاسها و هى تضع يدها بيده, و تقول: "موافقة."
شدها ماكسيمو لتنهض عن الاريكة, ضغط بجسدها على جسده, و همس لها: "بانى.... حسناً!"
لامس خدها بحنان, و عانقها. عناقه جعلها تشعر بالشوق من اعماقها. اعادها إلى الأريكة بلطف, فشعرت بلمساته تدغدغ ظهرها. ادركت لماذا لم تستطيع اى امرأة مقاومته من قبل. قالت لنفسها بيأس: يمكننى تحمل ذلك! لكن جسدها راح يتلوى من الشوق. شعرت كأنها تذوب مع كل ضمة و لمسة, و انها تكاد تفقد صوابها. اصبح من الصعب عليها اكثر فأكثر ان تتذكر لما لا ترغب فى الاستسلام له. زفرت بصعوبة, و هى تنظر بيأس إلى الساعة القديمة المعلقة فوق المدفأة. كم من الوقت تحملت حتى الآن؟ عشرون دقيقة؟
تأوهت بصوت عالى, ما ان عانقها من جديد, ثم.... من غرفة النوم الصغيرة, صرخت كليو صرخة رعب. إنها تستيقظ احياناًً فى الليل و تعود مباشرة إلى النوم, لكن لوسي اعتبرت ما حدث هدية من ابنتها. كليو, و من دون إدراك منها, تحمى امها من ضعفها. فكرت فى ذلك بإمتنان و هى تشكر ابنتها, و تبتعد بسرعة عن الاريكة.
"غلى اين تعتقدين انكِ ذاهبة؟"
قالت و هى تُسرع نحو الغرفة: "وافقت على رهانك, لكن لا تتوقع منى ان ادع طفلتى تبكى."
"لـــــوســـــي!"
"أنها خائفة من النوم بمفردها فى مكان جديد, و هى تشعر بالوحدة."
اردفت بسرعة: "سأراك عند الصباح."
تجنبت ذراعيه, و هى تركض نحو غرفة النوم الصغيرة.
اغلقت الباب وراءها, ثم إتكأت عليه و تنفست بهدوء و ارتياح. نظرت إلى السرير الصغير, فإذا بـ كليو مستغرقة فى نومها. فكرت و هى تبحث فى الظلام عن حقيبتها, مع القليل من الحظ ستنامان حتى ساعة متأخرة من صباح يوم الغد. عندها ستبقى لديها اثنتى عشرة ساعة لتقاوم ماكسيمو الوسيم. بحثت داخل حقيبتها, فوجدت بيجامتها. ارتدتها بسرعة, و صعدت إلى السرير الحديدى بجانب المهد.
اثنتا عشرة ساعة؟!
إنها بحاجة إلى معجزة لتتمكن من النجاح فى هذه الحرب المرعبة و المغرية فى آن معاً

انتهى الفصل

روايات عبير / الاميرة الشريدهWhere stories live. Discover now