8. وحيدة في الظلام

561 19 0
                                    

لوسيا فيرازى؟!
كادت لوسي ان تشهق بصوت عال. فيرازى؟! تماماً مثل حقائب فيرازى؟! تماماً مثل الشركة التى يحاول ان يستولى عليها من خلال مؤامرة ما؟!
نظرت إلى الرجل الذى بدا لها منذ لحظات قليلة رائعة جداً, لدرجة انه لا يمكن ان يكون حقيقياً. الامتنان و الفرح اللذين شعرت بهما منذ لحظات تبخرا كـ الدخان.
"لوسيا فيرازى!"
انطلق الحاضرون الذين يناهز عددهم الخمسين او الستين فى التحدث بحماس باللغتين الانجليزية و الايطالية قائلين: "لوسيا فيرازى!"
انفجرت امرأة عجوز بيضاء الشعر تقف فى الزاوية بالبكاء, و هى تقول: "بامبينا ميا!"
شعرن لوسي بالحزن لأجلها, فقالت من بين اسنانها, و هى تحدق بغضب: "اريد التحدث إليك على إنفراد ماكسيمو, و الآن."
ابتسم لها ماكسيمو ابتسامة كبيرة ساحرة, و قال: "سنتحدث فى ما بعد. الآن سلمى على ضيوفك و اصدقائك. بعضهم انتظر رؤيتك منذ عشرات السنين."
"لكننى لست....."

شهقت عندما تم سحبها بعيداً عنه و عن كليو. راح العديد من الاشخاص يعانقونها و يضمونها بلهفة. رأت الدموع فى عيونهم و هم يتلفظون باسمها, لكن هذا ليس اسمها. أنها لوسي آبوت. إنهم يبكون و يتعجبون, و كأنهم اصيبوا بصدمة و الذهول. لوسيا فيرازى! هذه معجزة بالفعل! هذا ما راحوا يكررونه مرة بعد مرة, وهم يضمومها إليهن بحماس. حدقت لوسي عبر القاعةنحو ماكسيمو, فرأته يبتسم و يضحك مع الأطفال القرويين. إنه يبدو وسيما رائعاً لدرجة انها شعرت بـ ألم فى قلبها. بعد قليل جلس بهدوء على الأرض واضعاً كليو فى حضنه ليساعدها على فتح اول هدية. نزع ورقة ذات اللون الزهرى التى تغلفها, ثم وضع الطفلة على الارض لتتمكن من مد يدها و الامساك بالهدية. وجدت كليو قطاراً مع سكة فى العلبة, و ضحكت ابتهاجاً, فرفع ماكسيمو نظره إلى لوسي, وابتسم.
شعرت بالكره نحوه بقوة و شراسة. اقنعها انه رجل صادق نزيه, لكنه فى الحقيقة كاذب و مخادع. الأمير مجرد مخادع, محتال و وغد.
رمت المرأة العجوز صاحبة الشعر الابيض ذراعيها حول لوسي, و هى لا تزال تبكى. كادت ان توقعها ارضاً و هى تضمها إلى صدرها. شهقت و هى تقول: "ميا بامبينا! شي ميرافيغليوزو نوتيزيا!"
غدت عيناها حمراوين من البكاء. حاولت لوسي ان تتخلص من ذراعى المرأة التى استمرت فى الثرثرة باللغة الايطالية. مع ان لوسي تتحدث الإيطالية, فهى لم تتمكن من فهم كلمة مما تلفظت بها المرأة و هى تشهق. رمتها المرأة بسؤال, و عيناها تتوسلانها ان تجيبها. هزت لوسي رأسها, قائلة: "أنا آسفة! لا اجيد اللغة الايطالية, و لست من تعتقدين."
سمعت صوت يقول من ورائها باللغة الانجليزية: "آنانزيتا هى مربيتك."
نظرت لوسي إلى الوراء, فرأت فتاة لا تتجاوز الثامنة عشرة او التاسعة عشرة من عمرها. فتاة نحيلة ذات بشرة سمراء. تابعت الفتاة: "إنها تسألك إن كنت سعيدة فى حياتك. تقول انه بعد إختفاءك و انت طفلة, راحت تصلى كل ليلة آملة ان تكونى قد نجوتِ من النيران. و الآن بعد ان رأتك, علمت ان معجزة حدثت و انك ما زالتِ حية."
"اى نار؟ عم تتحدثين؟"
تساءلت لوسي إن كانت الفتاة إحدى عشيقات ماكسيمو. حاولت ألا تفكر بالأمر, لأنه, و لسبب ما, يجعلها تشعر بالألم. ضعفت المرأة العجوز بسرعة, و ضمتها من جديد. بعدئذٍ و كما لو انها لم تعد تستطيع تحمل العواطف التى تجيش فى صدرها, اسرعت بالمغادرة, و هى تنتحب بصوت عالى. اتسعت عينا الفتاة الزرقاوتان من التعجب, و هى تقول: "ألا تعرفين ذلك؟ انتِ مشهورة هنا. كان عمرك سنة واحدة عندما انزلقت سيارة والدك عن منحدر صخرى, و انفجرت. توفى والدك على الفور, لكن لم يعثر عليكِ احد. كل شخص هنا اعتقد انك ميتة, ماعدا جدك."
كررت لوسي و هى تشعر بالارتباك: "جدى؟"
ابتسمت الفتاة و قالت: "سي! مع انه من انه فى الشهر الماضى قدم للمحكمة وثيقة تفيد انكِ ميتة, لكن اعتقد ان سبب ذلك حاجته إلى المال و ليس لاعتقاده.... إلى اين تذهبين؟"
قالت لوسي و هى تضغط على يديها بقوة: "لأقتل زوجى."
شهقت الفتاة و قالت: "ماذا؟"
أولاً امرأة عجوز لطيفة, و الآن جد؟ كم عدد الاشخاص الذى يريد ماكسيمو ان يسبب لهم الآذى كى يتمكن من السيطرة على شركة فيرازى؟
ضغطت لوسي على اسنانها, و قالت: "سأذهب لأبعد ابنتى عن ذلك الكاذب."
الفتاة امسكت كتفي لوسي بيديها: "هل قلت شيئاً ازعجك؟"
ضاقت نظرة لوسي و هى تنظر إلى زوجها, و قالت: "لا! قلت لىّ بالتحديد الكلام الصحيح المناسب."
بدا ماكسيمو وسط الحشد مميزاً بوسامته و قامته الفارعة و سمرته الجميلة. من الواضح ان الجميع هنا يعتمدون عليه, و انهم معجبون به. إنه يفوق اليكس الاشقر النحيل وسامة, كما انه يفوقه كذباً. اكلما ازداد الرجل وسامة, اصبح اكثر انانية و قساوة؟ تساءلت لماذا انقذها من شتاء شيكاغو البارد, و الآن اصبحت تعلم. لابد انه وجد فيها بعض الشبع بأولئك الناس, فعمل على استغلالها ليتمكن من السيطرة على شركة فيرازى. اعتقد انه يستطيع خداعهم, كى يُصدقوا انها الطفلة المسكينة المفقودة. اشخاص مثل تلك المربية العجوز المحطمة القلب, و مثل جد الطفلة, الذى قاسي بلا شك حزنا لا يمكن وصفه او تخيل. عندما يكتشفون الحقيقة, سيكون الأمر بالنسبة إليهم كـ فقدان الطفلة من جديد. لكن زوجها لن يهتم بالطبع, ما دام سيحصل على ما يريده! التقت نظراتها بنظرات ماكسيمو, فابتسم لها ابتسامة رائعة. ارتجفت لوسي من اعماقها, لكنها اجبرت نفسها على التماسك. إن كان يعتقد انه قادر على إقناعها بالصمت بفضل وسامته تلك, او شراء نزاهتها بسلطته و ثرائه, فهو مخطئ تماماً.
تنفست لوسي بهدوء. بالطبع هو مخطئ. هى وافقت على بيع ثلاثة اشهر من وقتها من اجل ابنتها, و هى جاهزة للقيام بأكثر من ذلك. فهى لا تهتم بحياتها. مصلحة كليو هى كل ما تهمها. من اجل ابنتها هى مستعدة للتضحية بأى شئ, حتى بحياتها. لكن ان تسبب الآذى و الألم لـ اشخاص ابرياء من اجل مصلحة طفلتها, فهذا امر مختلف جداً. هذا عمل شرير, و هى لست شريرة. هناك امور اكثر اهمية من الأحساس بالامن الاقتصادى. امها علمتها ذلك. اخذت نفساً عميقاً, و قالت: "سأذهب لأخبر الجميع ان اميرهم مجرد كاذب كبير."
"لا! لا يمكنك ان تفعلى ذلك!"
رفعت لوسي كتفيها, و قالت: "اسمعى! انا متأكدة من انك تحبينه مثل اى امرأة اخرى فى هذا العالم, لكن الحقيقة هى..."
قاطعتها الفتاة, و كأنها شعرت بالاهانة: "انا لست عشيقته. اسمي إميليا, و انا قريبته, لكننى احبه حقاً. فـ ماكسيمو اعتنى بىّ و بي امى كثيراً. لا اعرف سبب غضبك, لكن يجب ان تحترميه على الأقل, و تكلميه على انفراد و ليس امام الجميع, فهذا واجبك كـ زوجة له!"
"واجبى كـ زوجة له؟!"
كررت لوسي ما سمعته فاغرة فمها من الصدمة. هل سافرت إلى بحيرة كومو مستخدمة آلة الزمن, فعادت بها إلى القرن التاسع عشر؟
بحركة مُعبرة اشارت الفتاة إلى زينةالحفلة, و قالب الحلوى و الهدايا, ثم إلى الأطفال و هم يضحكون و يتراقصون, و علقت: "لا شك ان قريبى مغرم بك, لذا سيسامحك."
شهقت لوسي مصعوقة: "يسامحنى؟!"
"إنه رجل فخور بنفسه, إن سببت له الإذلال امام القرية كلها, فزواجك لن يبقى على حاله. لا تفسدى حياتكما معاً حتى قبل ان تبدأ."
رأت لوسي توسلاً فى عينى إميليا. إنها لا تعلم ان علاقة لوسي و ماكسيمو هى مجرد زواج توافقى, و اعتقدت ان ماكسيمو تزوج لأنه يحب زوجته بالفعل. هذا بالتحديد ما يريد ماكسيمو من الجميع ان يصدقوه. فكرتت لوسي بذلك, و هى تشعر بالمرارة و الألم. لكن ما ان نظرت حولها, و رأت العيون المشرقة و سمعت الضحكات السعيدة للاطفال, حتى تنفست بعمق, و قالت لنفسها, إنها سوف تتماسك من اجلهم لا من اجله. قالت بإنزعاج: "حسناً! لكن لا تتوقعى ان اقف هنا لأستمع إلى هذه الاكاذيب."
اقترحت اميليا بفرح و ابتهاج: "دعينى آخذك فى جولة فى الفيلا, و سأحضر لكِ طفلتك."

روايات عبير / الاميرة الشريدهحيث تعيش القصص. اكتشف الآن