8. وحيدة في الظلام

Start from the beginning
                                    

لكن عندما اصبحت كليو المشاكسة بين ذراعي لوسي, لم تبدو سعيدة على الإطلاق. راحت تنظر من وراء كتف لوسي, و تمد ذراعيها نحو ماكسيمو, وتهز حصانها بإتجاهه. بدت لوسي خائفة حتى من النظر إليه. خشيت إن نظرت إليه ان تصرخ به لتخرج من داخلها كل الألم المسيطرين عليها, او تركض عبر القاعة لتقف على رؤوس اصابعها, او ربما تصعد على كرسي لتصفعه على وجهه. لكن لماذا؟ لماذا تشعر بهذا الألم؟ كيف يمكنها ان تشعر انه خانها, و هى تعلم منذ البداية انها لا تستطيع الوثوق برجل يبدو جيداً و رائعاً لدرجة لا يمكن معها ان يكون حقيقياً؟
"يا للطفلة الرائعة!"
قالت ايميليا ذلك بنعومة, و هى تملس شعر كليو, و هما تغادران المكان إلى قاعة الاستقبال الأخرى, ابتسمت و هى تتابع: "يعتقد ماكسيمو اننى اضيع وقتى فى الجامعة. يقول لىّ دائماً انه يجدر بىّ ان اجد شاباً لطيفاً كى اتزوج و استقر. و كنت اقول له إن عليه ان يتزوج اولاً, و الآن وجدك, فلم يعد لدى اى عذر!"
قالت لوسي بضيق: "حباً بالله! ابقى فى الجامعة, فالحب يدمر كل شئ!"
وقفت اميليا على الدرج امامها, و نظرت إليها بدهشة قائلة: "لكنك تحبين ابن خالى, و من المؤكد انك لن تسمحى للحظة من الغضب ان تُنسيكِ ذلك؟ ماكسيمو رجل رائع, و ان بدا مسيطر فى بعض الاحيان, فذلك فقط كى يحمى اولئك الذين يحبهم. مهما كان ما فعله و ازعجك, انا متاكدة انه فعله لانه يحبك, لوسيا."
شعرت لوسيا بالغصة تكبر فى حلقها, و تكاد تخنقها. إنها تحسد هذه الفتاة على طيبة قلبها. اميليا تحب قريبها و تثق به, تماماً كما كانت لوسي تثق بالناس من قبل. لكنها لا تستطيع ان تشعر بالثقة نفسها تجاهه. تابعت سيرها و هى تقول: "اخبرينى عن الفيلا."
"انظرى إلى هذه الغرفة اولاً."
توقفت اميليا امام الباب الثالث من جهة اليسار فى الطابق الثانى, و تابعت: "حجرة نوم الأطفال."
لم تستطيع لوسي ان تصدق ما تراه عيناها. البارحة فقط, كانت تعتقد ان فندق درايك يملك اكثر غرف نوم اناقة و فخامة. لكن غرفة نوم الأطفال هذه حلم خيالى مبالغ فيه. نوافذ واسعة تطل على الأفق الوردى اللون, حيث الشمس تغيب وراء البحيرة و التلال البعيدة. فُرشت الأرض بسجادة سميكة ذات لون زهرى, بدت مثالية ليحبو عليها الطفل الذى على وشك ان يتعلم السير, اما السرير الصغير فلونه ابيض و عليه غطاء زهرى اللون ايضاً. على الجدار البعيد, وضعت رفوف بيضاء مليئة بمئات كتب الاطفال, و ظهرت العاب جديدة فى خزانة بيضاء خاصة, اما فى الخزانة الاساسية, فـ وُضعت بعناية كل ثياب الاطفال الرائعة التى اشترتها فى ميلانو.
رأت كليو الالعاب, و بدأت بالتحرك بكل ما لديها من قوة, فهى تريد ان تُضع ارضاً لتزحف نحوها, و تكتشف كل لعبة بنفسها. شعرت لوسي بألم فى حلقها, غرفة الأطفال هذه هى ما تستحقه كليو, و كل ما تمنت لوسي يوماً ان تؤمنه لها. إنها غرفة الأحلام. تمنت بيأس لو انها قادرة على اعطاء ابنتها مثلها..... آهـ! بلى يمكنها ذلك ان بقيت متزوجة من ذلك الشخص الرهيب. لكنها بذلك ستصبح هى ايضاً رهيبة, تسبب الآذى للناس فقط من اجل تأمين حياة رغيدة مليئة بالألعاب و الرفاهية لطفلتها.
همست و هى تضغط بخدها على رأس طفلتها: "آسفة! لا استطيع ان امنحك هذه الحياة."
بدأ الظلام ينتشر بسرعة, فـ أنارت اميليا الضوء. إنبعثت الأنوار من ثريا مصنوعة من حديد, مصابيحها مزيج من مجموعة من الازهار ذات اللونين الابيض و الزهرى. مدت ذراعيها نحو كليو, و قالت: "هل نستطيع ان نلعب قليلاً؟ إنها قريبتى الآن, و يجب ان نتعارف جيداً."
هزت كليو حصانها بإتجاه اميليا بشوق و حماس. تعلم لوسي انه لا يُفترض بها ان تجعلهما صديقتين ولو للحظة. عليها ان تغادر هذا المكان, و تخبر الجميع انها ليست لوسيا فيرازى. لن تتمكن من قبول تلك الرشوة التى عرضها عليها فى ذلك العقد, فضميرها لن يسمح لها بقبض ذلك المال. ستعود مع ابنتها إلى شيكاغو.... إلى شقتها القديمة الباردة, و إلى السجادة الممزقة و الثياب المستعملة. ستعود إلى العمل المضنى و اليأس و هى تلهث وراء اعمال لا تنتهى, و هى تصلى ان تمهلها صاحبة الشقة الوقت الكافى لتتمكن من دفع الإيجار. أن توسلت إلى داريل, لربما يسمح لها بالعودة إلى عملها فى محطة الوقود....
"لوسيا!"
قاومت بشدة كى لا تنهمر دموعها, و هى تعطى كليو إلى إيمليا من دون ان تتفوه بكلمة. قالت الفتاة و هى تؤمى برأسها نحو الباب فى الجهة الأخرى للغرفة قبل ان تجلس على الأرض قرب الألعاب: "تلك غرفتك."
ابتسمت الفتاة للطفلة, و هى تعرض عليها بيانو كبير للاطفال, ثم تابعت: "يعلم ماكسيمو انكِ تريدين ان تكون غرفتك متصلة بغرفة كليو, لذلك عمل على تجديدها من اجلك."
اهناك غرفة خالية من اجلها ايضاً؟ علمت لوسي انه لا يجدر بها ان تنظر إليها.... يجب ألا تفعل. لماذا تمنى نفسها بشئ لن تحصل عليه ابداً؟ بعد عدة ساعات ستعود إلى شيكاغو, إلى الحياة الحقيقية التى رسمها لها القدر. لماذا تسمح لنفسها برؤية ما خسرته؟ لماذا تسمح لقلبها بالشوق إلى الأحلام و الخيال؟ الباب المغلق.... آهـ! عليها ان تنظر, حتى لو شعرت بالألم. لا تستطيع ان تمضى ما تبقى من حياتها و هى تتساءل.
تركت اميليا و كليو تلعبان بالالعاب على السجادة, و دفعت الباب. الظلام يملأ الغرفة, و ليس هناك اى ضوء إلا الأنوار المنعكسة من غرفة كليو. لاحظت الثريا المصنوعة من الكريستال و المعلقة فى السقف العالى, و رأت الستائر الداكنة اللون المنسدلة على النوافذ. بدا السرير كبير جدا, عليه قماش من التل الازرق و الأبيض, كأنه قطعة صينية نادرة. فى الزاوية البعيدة رات طاولة للزينة من الخشب الداكن اللون, من الواضح انها قطعة اثرية, و مكتبة مليئة بالكتب المغلفة بالجلد على الجدار المواجه.
سارت اكثر عبر الغرفة. دخلت إلى الخزانة الكبيرة, و رأت الثياب الرائعة و الأحذية التى اشترتها فى ميلانو موضوعة بعناية و ترتيب. فى الجهة الأخرى من الخزانة هناك بذلات رجالية و احذية. هذه الغرفة الرائعة ليست لها لوحدها!
سمعت صوتاً منخفضاً, لكنه حازماً من ورائها: "لم تطيعينى من جديد."
ماكسيمو! ما ان استدارت لتواجهه, حتى اغلق الباب, و هكذا غرقت الغرفة فى الظلام من جديد. سمعت وقع قدميه الثقيلتين على السجادة, و سمعت دقات قلبها المتسارعة. شهقت قبل ان تقول وهى تحاول جاهدة ان تعرف اين هو: "انت كاذب, و انا اريد العودة إلى شيكاغو."
رفر ماكسيمو بضيق, و فجأة اصبح قربها. ضمها إليه بقوة, فشعرت بحرارة جسده فى الظلام.

نهاية الفصل الثامن

روايات عبير / الاميرة الشريدهWhere stories live. Discover now