1. ليلة المفاجآت

1.3K 24 0
                                    

لقد وجدها!
اوقف الأمير ماكسيمو دواكيلا سيارته المرسيدس تحت عمود مصباح مكسور فى الشارع, و حدق بمحطة الوقود المضاءة. الأضواء المشعة من النافذة تنير الليل البارد المثلج و كأنها اللهب فى الظلام, مُظللة الفتاة التى تعمل هناك بمفردها.
لوسيا فيرازى!
حفيدة عدوه, و الحبيبة السابقة لمنافسه فى العمل.

فكر و هو يمسك بقوة عجلة القيادة , إنه القدر! القدر بعد كل هذه السنوات من البحث عنها. كيف يمكن له ان يجد تفسيراً آخر؟
رن جرس هاتفه. ارمانو, احد الحراس الذين ينتظرون فى السيارة المتوقفة وراء سيارته, و قال كلمة واحدة: "سنيور!"
"انتظر تعليماتى."
اجابه ماكسيمو باللغة الايطالية, ثم اقفل هاتفه.
راقبها لمدة خمسة دقائق أخرى. إنها الساعة العاشرة و هذه ليلة رأس السنة. على المتجر ان يكون مليئاً بالمشترين الذين يبحثون عن الشراب و السكاكر, لكن الناحية الجنوبية من ضاحية شيكاغو منطقة مظلمة و مهجورة بسبب تساقط الثلج الكثيف.
ابتسمت الفتاة الجالسة خلف الصندوق الوحيد ابتسامة خجولة, وجها النظيف الخالى من اي مساحيق تجميلية جعلها تبدو اصغر من سنين عمرها الواحد و العشرين, كما ان نظارتيها اللتين تحيطان بعينيها البنيتين الواسعتين, تضيفان على ملامحها نظرة فتاة مولعة بالعزلة و المطالعة, و عديمة الاهتمام بأناقتها.
فكر فى انها ستسقط بين يديه بسهولة قصوى.
غادر الزبون الوحيد, و توقفت سيارة قرب مضخة الغاز. خرج رجل نحيل منها. حدق بالفتاة, و ضخ رزاز منعشاً للانفاس فى فمه, ثم بدأ بالسير نحو المتجر. رأى ماكسيمو الحذر فى عيني الفتاة, و من طريقة قضمها لشفتها النامة و هى تراقب الرجل المتجه نحو الباب, ادرك انها خائفة منه. سمح ماكسيمو لنفسه بالابتسام. فهى لا تدرك ان عالمها قد تغير بالفعل. منذ لحظة فقط, اصبحت تحت حماية ماكسيمو, و قبل ان تعلن الساعة منتصف الليل, ستصبح عروس له. هكذا سيتمكن من الانتقام بشكل مطلق. اما بالنسبة للمسألة الأخرى... ابعد تلك الفكرة عن رأسه كلياً. سيتم الانتهاء من كل شئ. سيأخذها, و فى غضون ثلاثة اشهر, سيصبح حراً... حراً من كل شئ.
همست لوسي آبوت بصوت عالى: "آهـ, لا!"
سمع صدى صوتها فى المتجر الخالى, فيما مالت برأسها إلى الزجاج, لتراقب مديرها المغرور يتجه نحو الباب. صلت كى لا تراه هذه الليلة, آملة ان يكون لديه موعد ما, حفلة, أو اى شئ يبقيه بعيداً, و يمنعه من القدوم إلى هنا ليتأكد من سير عمل المتجر.
اسبوع واحد بعد! ذكرت نفسها و هى تتنهد بعمق أسبوع واحد بعد تتحمل فيه نكات داريل السمجة و نظراته الوقحة, و هو ينظر بوقاحة إلى جسدها المغطى بثوب العمل الفضفاض, و يلامسها بين الرفوف الضيقة للسكاكر و الحلوى.
تقدمت لوظيفة مساعدة المسؤولة فى المتجر المجاور, و هى بحاجة لشهادة مؤهلات جيدة منه بعد انتهاء عملها هنا فى الأسبوع القادم, عندها ستتمكن لوسي من توديعه إلى الابد.
فوق ذلك, ستحظى بعلاوة على اجرها, و هذه هى المرة الأولى منذ ولادة طفلتها, التى ستتمكن فيها من الإكتفاء بعمل واحد بدلاً من ثلاثة, و ستتمكن من العمل لمدة اربعين ساعة فى الأسبوع بدلاً من ستين, و ستتمكن ايضاً من تمضية بضعة ساعات ثمينة مع طفلتها كل يوم.
طفلتها؟! كليون لن تبقى طفلة, غداً عيد مولدها الأول, بالكاد تستطيع لوسي تصديق ذلك, فمع صراعها الدائم لدفع بدل الإيجار و فواتير الدواء و العناية بابنتها, فاتها الكثير من مراحل تطور نمو ابنتها فى سنتها الأولى. لم ترها لوسي و هى تحبو لأول مرة, و تجلس بمفردها للمرة الأولى, كما فاتها الكثير من ابتسامتها الغير محددة و صراخها و كلماتها المتلعثمة.
آمرت نفسها بقوة: توقفى عن ذلك! غضبت من نفسها لأن دموعها كادت تنهملا. عليها التوقف عن ذلك عل الفور. دخل داريل عبر الباب كالعاصفة فـ علا رنين الجرس بقوة, فإندفعت نفحة من الريح و الثلج وراءه.
قال و هو يبتسم ابتسامة ممطوطة: "مرحباً, لوسي! عام سعيد."
تمتم: "عام سعيد لك ايضاً."
شعرت بالكره نحوه لأنها ناداها لوسي, فذلك يُذكرها بالرجل الذى احبته و كان يناديها لوسي.
"هل كانت الليلة مليئة بالعمل؟"
"اجل, كثيراً."
كذبت رغم الغصة فى حلقها.
"دعينى أرى."
حاولت لوسي ان تبتعد عنه, لكنه تمكن من ملامسة ظهرها و هو يمر وراءها ليصل إلى الصندوق المالى. ضغط عدة ازرار على الآلة, ثم رأى الدولارات القليلة فى الداخل. رمقها بنظرة اتهامية, و قال: "لماذا تسخرين منى يا صغيرتى."
تظاهرت انها تضحك, و ابتعدت عنه قائلة: "جاء الكثير من الزبائن, حقاً! ألا ترى الأرض المطلية بالوحل و الثلج؟ من الأفضل ان احضر الممسحة."
"تعملين دائماً كـ النحلة الصغيرة."
منعها من الذهاب بسده القوية بارزة العظام, و تابع بسخرية: "انت حقاً تعتقدين انكِ افضل منى, أليس كذلك؟"
"لا! بالطبع, لا! انا...."
امسك داريل بثوبها الأزرق الفضفاض. نظر إلى وجهها و هو يتنفس بصعوبة, ثم قال: "سئمت من معاملتك بلطف مقابل لا شئ."
سمعت الجرس يرن من جديد فوق الباب, لكن قبل ان تتمكن من النظر, امسك بها داريل من مؤخرة رأسها, و احنى رأسه محاولاً تقبيلها.
"ما الذى تفعل؟ دعنى و شأنى...."
"تتصرفين كأنك متحفظة, فيما لديك علاقات سابقة, و لديك طفلة, أليس كذلك؟ و أنا اعلم انكِ تريدينى."
صرخت: "لا!"
حاولت ان تتخلص من قبضته, و هى تدير رأسها بعيداً عنه.
صرخ داريل ما ان امسكت يد كبيرة بكتفه, و ادارته بسرعة, ثم جذبته إلى الوراء كأنه مجرد حيوان صغير.
صخرت لوسي ما ان شاهدت لرجل الضخم يمسك بمديرها فى موضع العلامة المسجلة على سترته. قاوم داريل بدون جدوى, لأن الرجل رفعه عاليا عن الارض, فهو اطول منه و اقوى.
لاحظت لوسي ان عينى الرجل سوداوان و قاسيتان. بصوت بارد منذر بالتهديد, صرخ الرجل بـ داريل: "اخرج حالاً!"
شهق داريل قائلاً: "حسناً!"
رماه العملاق ارضاً, فارتطم الأرض كأنه حبة فاكهة تسقط عليها, و نهض بسرعة على قدميه واسرع مغادراً. توقف عند الباب. نظر إلى لوسي, و قال بنبرة ساخطة: "أنتِ مطرودة من العمل!"
ثم اسرع بالخروج إلى الليل المثلج. أدار محرك سيارته الرمادية القديمة, و انطلق عبر الشارع المظلم.
مطرودة؟! هل تم طردها؟ شعرت لوسي بقلبها يدق بعنف فى صدرها. نظرت إلى منقذها تحت الضوء المشع فوق رأسه.
بادلها الغريب النظرات, و عيناه المعبرتان تتفحصانها. لم يلمسها, لم يكن هناك من داع لذلك, فالحرارة المنبعثة من نظرته جعلتها ترتجف تحت اعماقها, و كأنه ايقظ شيئاً ما عميقاً فى داخلها.
"هل اصبتِ بسوء ما, سنيوريتا؟"
بدا صوته عميقا ذا لكنة غريبة.
احتاجت لوسي إلى التراجع قليلاً, لتتمكن من روية وجهه. إنها طويلة القامة, لكن ما زال الرجل يطل كـ برج عليها بكتفيه العريضتين و معطفه الأسود الطويل الأنيق, و وجهه ذى الأنف الرومانى, و خديه المرتفعتين, اما عيناه الرزقاوان فتبرزان بقوة امام بشرته السمراء, و شعره الأسود المتموج, فيما ذقنه مغطى بلحية سوداء, قد ظهرت تجعيدات حول عينيه. لابد انه فى الثلاثينات من عمره, لكنه حبس انفاسها بطؤيقة إنقاذه لها , و بنظرته إليها الآن. لم تعرف لوسي يوما رجلا و سيما جدا و قويا ايضا فى الوقت نفسه. إنه اشبه بأمير وسيم قادما من حلم طويل منسي.
"سنيوريتا؟"
حدق الرجل بها بقوة, و هو يمد يده ليلمس خدها, و يتابع:
"هل سبب لك الآذى؟"
ارسلت لمسته الرقيقة إنفجاراً من الأحاسيس فى جسدها.

روايات عبير / الاميرة الشريدهWhere stories live. Discover now