الفصل التاسع والاربعون (الجزء الأول)

ابدأ من البداية
                                    

****

قصر خالد آل مسفر
- قسم المها –
وفق بروتوكولات منمقة ومحددة تربى جميع أبناء خالد آل مسفر عليها، منذ المهد تقدم إليهم المربيات ذوات الخبرات والمؤهلات العالية للإشراف كما باقي أبناء هذه الطبقة. لعل طفلًا يبلغ من العمر سنتين يمتلك قائمة ممنوعات ومسموحات، ففي هذه الفترة قد يتم منعه من تناول أكبر من القدر المسموح من الشوكولا رغم أن متعة الأطفال في هذه الوجبات إلا أنه يحرم منها لأنها ببساطة تجاوز صريح لجدوله الذي يتم تحريره كل شهر. المنهجية والالتزام من الأساسيات التي يحرص خالد على توفيرها لأبنائه وأحفاده. لنصعد إلى ذلك الطابق المتواجد في فيلا المها وتحديدا جناح العم عبد الإله، تجلس رئيسة الخدم السابقة -شمّه- في الكنب الوفير ذا اللون السماوي والمنقوش عليه بخليط فاتن من درجات الرمادي، قدمت منذ نصف ساعة في مهمة قد وكلها خالد إليها كونها الوحيدة التي ستتمكن من التعامل مع ملك. ولكن الأخرى تأخرت أو إن صح التعبير تعمدت في التأخير عنوة. كانت شمّه تجلس بصرامة تشابه إدارتها لتلك الفتيات واصطبرت على السكون كيلا تثير ضجة وسط الفيلا، تعلم تماما أنها لو افتعلت شجارًا مع ملك بسبب تأخرها في الحضور ستعلو الأصوات في مكان يمنع لغير أهله الصخب. نظرت إلى ساعتها التي تشير إلى مضي تسعة وثلاثون دقيقة على مجيئها، إذًا تبقت إحدى وعشرون دقيقة على الساعة المخصصة للمهمة. رفعت أنظارها إلى ملك التي دخلت للتو، زمّت شفتيها وكانت كعادتها بلا تعابير، رغم احتقانها من تصرف ملك والموقف الحرج الذي ستوضع فيه أمام الشيخ كونها لم تنجز المهمة، ولكنها افتعلت الهدوء.. فلا ضجيج سيقام بسبب تهاون ملك عن الالتزام بالموعد المحدد، تجيد شمّه حياة الأغنياء بإتقان مشاهد لا بأداء ممثل، فلا تحرك ساكن من شأنه أن يزعج رؤسائها في العمل. اتخذت ملك من المقعد المقابل مكانا لها للجلوس، قالت شمّه بنظرات متفحصة: من يوم الإثنين بتجي المربية الخاصة بعيال العم عبدالإله، تتابع معاهم وضعهم الصحي وترتب مواعيد التطعيمات وأمور كثيرة كان ودي اشرحها لك بس الوقت ما يسعف عشان ساعتي بتنتهي بعد شوي، المهم المربية ما بتقعد معاكم على طول لكن بتتردد كل يوم........
قاطعتها ملك بسخرية لاذعة: ليش ما بتقعد؟ خايفين من ولدهم يغتصبها هي الثانية بعد!
تمّت ترمقها بنظرات لاهبة، تتفادى التصادم مع ملك فتلك لا تحسن الانصات ستحدث جلبة لا محالة، أكملت حديثها بمحاولة لاقتصار الحديث: أنا هنا يا ملك عشان ابلغك بإن عيالك بيتربون مثل أهلهم.. لاتحاولين تسببين مشاكل مالها داعي.. ماراح يضرك إن يكون لهم اهتمام...
وقبل أن تكمل سلسة حديثها نبذت الاستمرار بصوت حانق: ماراح يضرني؟ أنا تضررت وانتهت حياتي خلاص.. عايشة لله.. للآخرة اللي بتعوضني عن هم الدنيا.. حتى عيالي ماهم عوضي.. لأنهم بيكونون منهم وفيهم.. إذا من صغرهم وبدوا يتحكمون بكل صغيرة وكبيرة تخصهم أجل لو اكبروا وش بيصير؟ اطلعي يا شمه دورك انتهى في حياتي.. اطلعي ولا تصيرين بجيحة تعرفين بفعول عمك وولده ولك عين توصلين لي الأوامر.
ردت بلا تردد: انهيتي حياتك وحياتنا معك يا ملك.. وش ذنبي وذنب البنات اللي توزعوا على دور الأيتام؟ كنا عايشين بخير الله ثم بخير الشيخ خالد.. لكن الطالح يغلب الصالح وشرك ماهوب عليك بس.. شملنا كلنا.. اللي صار لك ماضي ولا اعتراض على قدر ربك لكن لا تنسين إن عيالك هم أحفاد الشيخ شئتِ أم أبيتِ هم بقدر عالي ما توقعتي يحضى فيه أطفال من رحمك.. واستخدمي عقلك بدال عاطفتك هالمرة بس.. واعرفي ان كل خير بيجي لعيالك هو من صالحك.
نفت برأسها بنفور وعدم تقبل: ما ارجى من عيالي خير دامهم بيتربون وسط أهلهم.. ولا عاد لي حاجة عند عباد الله على أرضه.. أنا حاجتي عند رب العباد.. هو اللي بياخذ حقي من كل ظالم جار بظلمه علي.. طرفت بنبرتها بهزء لحال شمة التي تترقب عقارب الجقائق: اطلعي يا شمه ساعتك خلصت قبل لا يقشونك من البيت عشانك تأخرتي دقيقة زيادة.. أنتِ جايه تعطيني خبر مالي حيلة اعترض او ارفض.. بس عشان الشيخ يسكت ضميره ويظهر بهيئة الملك الصالح قام رسلك لي.
ناءت بجانبها.. فالوقت محدود وهذه المرأة ساخطة حتى من ذريتها.. وقفت مغادرة المكان..
وما أن خرجت تخطو بخطوات متباعدة مستقيمة لا اعوجاج فيها كما تعلمت وعلمت.. تباطأت قدميها واشبكت يديها ببعضها.. هدلت جفنيها لأسفل باحترام وتوقير أول ما ران اليها قدومه.. بصوت كله تقدير: مساك الله بالخير ياعم.. مبارك قدوم مصعب ومسفر.. الله يرزقك برهم.
على خطى موازية لموقعها.. يقف عبد الإله بالقرب من جناحه.. شارد الذهن وناقم بطبيعة الحال.. لم يلتقط أيًا مما تقول حتى خُيِّل إليها لا مبالاته من التهاني والدعوات التي رددتها أمامه.. قالت بانسحاب: كنت في زيارة لأم مصعب والمعذرة اني طولت واخذت من وقتك.. لو تسمح لي يا عم اقدر امشي؟
ساد الجمود على ملامحه وطرفت عيناه جانبًا بتملل لوقوفه الطائل.. شد على طرف الجاكيت الأسود الذي يرتديه على ثوبه البني.. نطق بسير أحرف شُكِّلت على لسانه بتملص: قبل تروحين اصعدي للوالدة وخذي حقك وحق بناتك.
اومأت بموافقة: كثر الله خيركم ياعم.
أدار بجسده صوب جناحه فأشرع الباب معلنًا دخوله لأول مرة منذ مدة، هذه المدة التي قضاها منفيًا بعيدًا عن عائلته.. عقابًا على خطيئته، وإنها نوائب الدهر التي قضت أن تنقله من غربة الأهل إلى غربة الذات.. عاد إلى أحضان أسرته وجدران غرفته فاقدًا ذاته وهويته.. عاد إلى المكان نفسه حاضرًا جسده غائبةً روحه.. غادرت بلا رجعة.. لم ولن ترجع، فتلك الروح المتغطرسة قد انكسرت وتذللت، حُكِم عليها بالانسلاخ قِسرًا.. فلتنسلخ وتوادع.. كما وداعه الأبدي لذريته، إلى إشعارٍ آخر، تحت مشيئة الله.. وحين أوصد الباب خلفه.. خذته خطواته إلى الغرفة التي يظهر عليها من الخارج أنها تخص أبنائه، كان يحاول أن يظهر الجبروت في مشيته، ينازع بشدة ألّا يفقد قوته.. وكأنما القوة في غرورٍ وعلو.. كان هذا معتقده.. وصل إلى السريرين اللذين تحوفهما الزينة الفاخرة.. اختلس بالنظر إلى أحد أبنائه.. بدأ يتأمل هذا الصبي بتقطع، لئلا يطيل بالنظر.. تذكر وصف إحدى أخواته أن ابنه مسفر يمتاز ببشرة فاتحة ويمتلك ملامح أخف حدة من أخيه. حوّل بالنظر إلى الآخر والذي لم يبقَ أي خيار سوى أنه مصعب. توأم غير متطابق، أخذوا الكثير من ملامح عائلته.. لم تكن بتلك الدرجة من الوضوح بعد ولكنها بالطبع ليست مبهمة. سمع خطواتها السريعة، إنها تشاركه المكان.. التفت ناحيتها وكانت واقفة بالفعل على مشارف الحجرة. تقف ملك التي قدمت لما شعرت بصوت في الجناح، علمت أنه حضر.. كان لديها خبر مسبق، قالت باستنكار: وش جابك تشوف عيالي اللي ما تفتخر فيهم! تذكر وش قلت عنهم؟ قلت ذولي عيالك وحدك متبري منهم لأنهم عيال حرام مثل أمهم. أجل ليش جاي؟ ولا اهلك اللي راسلين لي شمّه تعلمني إن مستوى تربيتكم يا عيال الحمايل يختلف عن مستوى تربيتنا. توقفت كي تستعين بجزيئات الهواء لتعبر رئتيها.. بينما ظل عبد الإله يحدق إليها بصمت.. بوهن وعجز، ماذا لو عرفت بمصابه؟ هذه المرأة الساخطة ستلقى مبتغاها.. لم يكن قادمًا لرؤية أبنائه فحسب.. بل ليخبرها بحقيقته.. راغبًا أم كارهًا فالأمر سيّان في النهاية تبقى زوجته.. هي تنهل عليه بعبارات المقت والبغض وهو يواري سوءته.. ولما جال السكون اندفعت بهجوم: مدري وش السنع اللي فيكم عشان تفطرون عيالكم على نفس التربية.. الله ساتركم لكن اللي ولده مغتصب وحده الله يعلم وش الباقي.. اكيد عندكم الزاني وراعي المخدرات واللي ياكل أموال الناس بغير حق ولا استثني ابوكم كبيركم....
جلجلت كلمتها بأذنيه، فصُمّ عن كل حديثها.. وخالف سياق فكره الذي كان تائهًا بين أذيال خيبته إلى غضبٍ جام يلح في الأرجاء.. تقدم باندفاع لا يعرف الخنوع، امسك بزندها بلا سبيل للمقاومة.. جُن جنونه لما لفظت لسانها ذكر أبيه.. كيف تجرؤ على المساس بسيرته.. اشتدت تعابيره وعقد حاجبيه فركز أنظاره بمركز بصرها، وطغت الوحشية تعبر عن قهر خلّفه حديثها: ابوي ما نزل لمستواك لجل تصعدين لذكره.. خلك في أرضك واتركيه في سماه.. ما رفعك لهالمكانة اللي أنتِ فيها ونزّل من قدره إلا أنا.. كلامك معي وكل بلا يجي منك أنا تحملته وبتحمله أما أبوي وأهلي ما لك شغل فيهم.
رمشت بألم ليس لشدة مسكته ولكن لنار قربه وسوط تحذيره الذي يشهره علنًا.. إنه حقًا يشعر بالندم من أجل نفسه.. ألم يدرك أنه عبث بعمرٍ كامل! أكان من الإنسانية شعوره بالذنب.. ولكنه متأسف وجدًا لحاله.. همّت بتبادل النظرات معه، فردت بصلابة وتمرد عقب هشاشة وتردد، كانت ضعيفة لا تقدر على رد الأذى بالاستنكار سرًا واليوم تجابه الظلم بالعصيان جهرًا: كل كلامي صح لو جزء منه غلط ما كان صحيت فيك نبض من القهر.. بس الواضح إني قهرتك وجعلي دايم اقهرك.. وباقي ما شفت ربي عاقبك.. يا كم احتري اليوم اللي تتلوى فيه من الضنك وما تحصل منهو دواك بيده.. آخخ لو تدري إني مع كل ركعة ارفع ايديني ادعي عليك.. أنت حطمتني وكسرتني ووسمت على مستقبلي بأثرك.. حملت عيالي منك يا ظالم.. متأكدة إن البؤس اللي انت فيه ولا شي بالنسبة للي قاعدة امر فيه.. الله يقسم لك من الشقاء ضعف ما سببته لي.. لأنك أنت الجاني والبادي.
خفف من حدة نظراته بصدمة من هول خطابها.. إنها ستتغنى بشماتة على حاله، بدا أن عقوبته هي العزاء الوحيد لها.. فقد خسرت كل شيء وباتت خسائره مكسبًا لها.. غزى الدمع محاجره.. كانت في نظراته براءة طفولية تشابه تلك النظرات التي أعجبت بها يومًا.. وبهت صوته بخفوت: اعوذ بالله من سواد قلبك.. اكسبيني دامك خسرانة كل شيء.. اكسبيني عشان عيالنا.. بس واضح ان حقدك معمي قلبك وبصيرتك.
رمقته بنبذ يستعصي الغفران أن يمحي ظلمات الذنوب.. لم تعد تتعجب منه.. بل أن حديثه يزيد من رغبتها في استطعام شعور الفوز على حساب إذلاله.. تفوهت بقهر: ربي ما يظلم عباده.. وأنا دامني للحين بحسرتي يعني باقي ما لقيت حتفك ومصيرك اللي بيكون أشد وأقسى.
تبسمت تعابيره بسخرية ولم تنفرج شفتيه.. يبدو أنه سيلقي عليها بالخبر كجائزة ومكافأة لترقبها بانهياره.. هاهو يجر خيباته ويلقي برهن رجولته أمامها.. رمى بعبارته التي كانت كفيلة بصدمتها: لقيت حتفي وعقابي خذيته.. ارتاحي يا أم مصعب ومسفر عقب عيالك مالي عيال من أنسيّة.
علا صوت الحق، ناشرًا نداءاته التي تتموج داخل القلب في محاولة لإضاءة قتام الروح فيحبس هناك. وتظل الحسرات والعبرات تعصف كعصفِ الهوائي الشديد الإعصارِ.. فتتسع دوائر الحزن والآهاتِ.. لا مهرب من جحيم ملأ المسالك، وأفرط في انشغاب السُبل وسد كل الجهاتِ.
كل ما ينطق بالأسى المرير.. قد شكل في هذه اللحظة.. وخيم على هذا المكان.. وكل ملامح الكلمات استعصيت على الوضوح.
ها هي تبلع ريقها من جفاف حلقها المخنوق.
وهو متصلب بجمود، حطم الجبروت، والحصون فقد نزعت الدموع من كوامنه.. واستعصمن خلف ثباته!
انهارا تمامًا، لم تتكهن لمرة أن تجتمع به في مثل هذه اللحظة تحديدًا..
عيونهم تتبادل الانكسار وحمحمة الروح تصهل، وتذوي. كل ما بينهما يتقطر ماء أجاج، سال من كل فجوات الجسد.
وقروح الجسم تستجير من الصديد.. سجالا وأرقا واحتباسا.. وفدت من دنفٍ ذوي من عناقيد حملت الفؤاد مضغة وأشعلت النيران الملهبة.. ولم تخفف من سعيرها بل تمادت واستطرت.
وحين أسدل الستار على هزيمته.. انسحب من أرض القتال.. وتركها تحتفل بالانتصار.. يا لها من دعوات أجيبت ورجاء لم يخيب.

لا تحملني خطا ما هو خطاي..لو أنا المخطي كان والله اعتذرتحيث تعيش القصص. اكتشف الآن