رسالة من فتاة مجنونة - الفصل الثاني والأربعون

93 5 0
                                    

الرسالة الأربعون
قلبكِ العاصي لن يردعني..
وعقلكِ القاسي لن يوقفني..
أنتِ لي حتى نهاية الأمدِ..
أنتِ لي فلا تبكي ولا تبتئسي..
****
الرسالة الحادية والأربعون
يا فتاة.. أتسعين للنيل مني؟!..
ستنال منكِ شياطيني أولاً.. فانتبهي..
****
&&&&
:"هل تعلم أنك تعطل حياتك لأجل فتاة لا تستحق.."
تنهد بملل وهو يشعر بالندم لأنه استسلم لها عندما عاودت الاتصال به وقرر أن يأتي لقضاء بعض الوقت معها وقبل أن ينهض ويتخلى عن تلك الجلسة وجدها تمسك بيده وهي تكمل: "جوان كانت تجلس معي قبل قليل"
:"وكيف يمكن ألا ألاحظ وجود الآنسة المصون جوان؟!"
طرح السؤال بسخرية فهو بمجرد دخول منزلهم رآها جالسة مع والدته في الحديقة وقد أصرت أن يسلم عليها..
أزعجه الأمر كثيراً فمنذ مغادرة إسلام للشركة وهو لا يطيق الاجتماع بها وقد فرضها والده عليه بإلزامه نور تدريبها حتى إذا ما غابت تحل جوان مكانها..
وهو بدوره طلب من نور أن تمنعها من دخول مكتبه وتبعدها عن طريقه كليًا.. لكن السخيفة المملة كانت تتحين أي فرصة لتتقرب منه..
وقد كرهها أكثر بسبب خنقها له بتصرفاتها..
كان يشعر بالإحباط منذ تركت إسلام الشركة..
لم يكن العمل هو متنفسه الوحيد..
بل إسلام من كانت متنفسه الوحيد..
ومنذ رحيلها هو يشعر بالاختناق..
لن يسامحها أبداً على تركه بتلك الحالة..
:"لا أعلم لم تكره جوان لهذه الدرجة؟!.."
عاد يطالع والدته وهو يفكر بردٍ لسؤالها.. هو لا يدري صراحة هل السبب أنها تكره إسلام؟!..
أم أنه شعوره الدفين بأن لها يد بإبعاد إسلام عنه؟!..
هو لا يعلم لكنه بالفعل لا يطيقها..
ولن يخبر والدته بتلك الحقيقة ليجنب نفسه عناء الدخول بنقاش لا طائل منه..
فهي حتى لا تذكر إسلام باسمها وتكتفي بكلمات مثل
(تلك الفتاة.. عديمة الأدب.. قليلة التربية..)
وهو لا يمكنه الرد طبعًا فالسبب بهذا كان تصرفها الأهوج الأحمق..
وذلك الشعور بالعجز أمام رد غيبتها كان يغضبه منها أكثر وأكثر..
:"دعك من جوان وأخبرني.."
قالتها ثم ابتسمت بطريقة جعلته يتمنى ألا تتابع حديثها بسبب ذلك الشعور بأن ما سيسمعه لن يعجبه..
:"هل تعلم أنها ذاهبة لحضور حفل بمنزل ذلك الرجل المدعو مهاب الورداني وأنه تبعها لشركتها الجديدة ليحصل على خدماتها بتنفيذ أحد مشاريعه"
&&&&
لم يتوقف عن التحرك بعصبية داخل غرفة المعيشة بمنزله الشاطئي..
كان غاضباً ومغتاظاً..
حمل الهاتف للمرة التي لم يعد يحصيها مطالعًا رقم هاتفها..
لقد فكر بالاتصال بها وسؤالها فهو يعرف مصدر تلك المعلومة التي منحتها له والدته على أمل أن تدفعه للتوقف عن التفكير بالفتاة التي تكرهها حاليًا أكثر من أي شيء..
جوان اللئيمة المزعجة..
وهذا يجعل المعلومة مشكوكٌ بها..
لكن من أين تعرف جوان ذلك العجوز الخرف من الأساس؟!..
لقد أتى للشركة وغادرها قبل تعيينها فلا يُعقَل أن تكون التقت به..
ألقى الهاتف بكل قوته بعيدًا وسمعه يتحطم دون اكتراث بينما يحادث نفسه بعصبية: "ماذا سأخبرها؟!.. مرحبًا حبيبتي التي هجرتني هل أنتي الآن بحفل الرجل الذي حذرتكِ مرارًا أن تقتربي منه"
جلس على مقعد ليحاول أن يهدأ ويفكر بروية وتعقل ممنيًا نفسه بالعثور على طريقة ما أن يهدأ..
لكنه لم يقدر..
كيف له أن يقدر؟!..
كل ما كان يلوح بباله هو صورتها وهي نائمة وذلك الوغد يقرب كفه منها ليلمسها..
لا يمكنه أبدًا نسيان هذا اليوم..
كانت منهكة ومتعبة.. سألها قبل أن تغادر لموقع تنفيذ مشروع الورداني إن كانت بخير وهي ابتسمت بهدوء كعادتها ونفت حدوث أي شيء ونسبت مظهرها المُرهَق لكونها مصابة ببعض الزكام..
كان يعلم أنها تكذب كالعادة لكنه تركها على راحتها..
بعد مغادرتها بساعة اتصل به المشرف على العمال وأخبره أنه أُغشِيَ عليها وعندها تحرك فورًا للذهاب للموقع..
ما أن وصل توجه للغرفة التي تركوها بها لترتاح فوجدها نائمة على الأريكة بإنهاك وذلك المتحرش الوغد كان يحاول ملامسة وجهها..
كاد يقتله بين يديه يومها لكن حالة إعياءها هي ما أنقذته فقد تركه لينقلها للمشفى..
منذ ذلك اليوم منعه من دخول الشركة وقطع كل صلة بينه وبين عائلته حتى أنه دفع الشرط الجزائي لتنفيذ المشروع من ماله الخاص حتى لا يثير ريبة والده..
لكنه استمر بالإلحاح للحديث معه وهو رفض تمامًا الاستماع لذلك المختل..
فرك رأسه محاولاً أن يهدأ وعندما فشل ضرب جبهته عدة مرات حتى آلمته قبل أن يريح ظهره على الأريكة مطالعًا الفراغ بصمت..
لم يكن قد أخبرها بأيٍ من هذا فقد خاف أن يتسبب لها بمشكلة نفسية وهو الآن نادم لأنه لم يخبرها..
لم يتحمل أكثر وتحرك ليغادر المكان بأسره عالمًا وجهته جيدًا..
***
:"أنا سيء الحظ أو أن القدر يمنحني انتقاماً لائقاً بسبب ما اقترفته!"
همس بها وهو يحاول التحكم بغضبه لكن كان هذا مستحيلاً..
الوغد الخائن كان يغني ويعزف بينما يطالعها..
يغني ويعزف لها بتلك الكلمات التي كانت تصف حالته ومشاعره تجاهها..
:"ذلك الوغد الحقير!"
ضغط على أسنانه بغيظ وهو يحاول إبعاد ناظريه عنه لكنه التفت لريم ليجدها تعقد كفيها معاً وتضمهما لصدرها بينما تطالعه..
شعر أن صاعقة ضربته وجعلته يتحجر بمكانه..
ريم أبداً لم تنظر له بتلك الطريقة..
لم قد تنظر لذلك الأحمق الفاشل بكل هذا الفخر ؟!..
لقد كانت تُظهر له دومًا سعادتها بما حققه حتى لو كانت تكره ما دفعه مقابلاً لكل تلك الأحلام التي حققها لكنها أبدًا لم تفكر بالتطلع له بذات الفخر الذي تطالع به فادي..
لم يتحمل التفكير دون صوت أكثر واقترب منها ثم سحبها من ذراعها لتواجهه صُدِمَت في البداية ثم انعقد حاجبيها وهي تسأل: "ماذا بك؟!"
فتح فمه ليجيب ثم أغلقه وكرر الأمر عدة مرات دون أن يقدر على النطق بأي كلمة..
فاكتفى بالنظر لعينيها غير قادراً على تفسير ما حلّ به..
لا يمكنه أن يتحدث ويهتف بها ألا تطالع فادي بتلك الطريقة لأنها لن تستمع له وإن استمعت ستكون كارثة..
فعندها ستسأل لماذا؟!..
وهو يفضل الموت على إخبارها السبب..
توقف العزف وتعالى التشجيع في المكان وعندها التفتت ريم وبدأت التصفيق بحماس.. كان متأكدًا أنها نسيته ونسيت ما فعله تواً ولم يكن يعلم هل عليه التنهد بارتياح أم بإحباط..
تحركت نحو فادي الهابط عن المسرح وهو بدون تفكير سار خلفها فما كان ليتركها وحدها معه..
:"هل تحاول منافستي يا فتى؟!"
:"وهل يستطيع أي أحد منافسة الفتاة الذهبية؟!"
رد على سؤالها المليء بالحماس بابتسامة ونظرات منصبة عليها وحدها.. نظرات تفضح اشتياقه لها الواضح.. نظرات جعلته يتمنى تزيين وجهه بلكمة أخرى في منتصفه لكن هذه المرة سيشوهه تمامًا حتى يكون من المستحيل ترميمه او التعرف عليه حتى..
:"لقد رأيتك هناك في المسرح لماذا لم تنتظرني؟!"
سألت ريم وهي تقترب وعندما كان على وشك سحبها وتثبيتها بجواره بينما يتعامل مع ذاك الوغد.. وجد فادي يتراجع خطوتين ليبقي مسافة بينه وبينها.. لثانية تفاجأ ثم تذكر حديث هيثم وحديثه هو نفسه معه بتلك الليلة الكارثية..
صدق حينها أنه بالفعل لا يقدر على التطلع لها أو تخيل أنها قد توافق عليه..
وللحظة قصيرة جداً شعر بالشفقة عليه..
تخيل ما مر به لسنوات ليصل به الأمر لتلك الحالة التي أصبح عليها..
هو كان دومًا طموحًا.. واقعيًا لحد الكآبة لكنه كان طموحًا.. وهو الآن يواجه مشكلة عويصة بتخيل ما أصاب شخصًا ليصل للحالة التي عليها فادي..
:"أنا رأيت عائلتك ولم أجد إسلام أو هيثم لذا قررت أن أغادر فوراً"
رد بها بهدوء لكن ريم بدت مستغربة للرد قبل أن تقول: "ما هذا الذي تقوله أنت أيضًا من العائلة"
لمحة من الحزن مرت على صفحة وجهه قبل أن يسألها: "دعك من كل هذا لم أنتِ هنا؟"
التفتت تنظر له ثم ردت: "مؤمن من أحضرني لقد أراد أن نخرج جميعًا بعد الحفل مباشرة لكن ساندي قررت المغادرة لأن لديها عمل مهم في الغد وخالتي غادرت هي الأخرى.. "
ابتسم لها وعندها فقط نظر له فادي فتلاشت كل الشفقة وتزين وجهه بابتسامة هازئة ومليئة بالشماتة لكن تلك الابتسامة اختفت بمجرد أن أكملت ريم: "فادي هو من عرفني على ذلك المغني وقد ذهبنا للكثير من حفلاته معًا"
قالتها ثم عادت تطالع فادي وقبل أن تكمل حديثها تدخل شخص أنقذ فادي من الموت على يديه..
:"كيف الحال يا ريم؟"
نظرت لها ريم باستغراب أولاً ثم ردت بأدب: "أنا بخير الحمدلله ريهام"
اقتربت تقف بجوار فادي وقالت: "عذرًا لأني أخذته منكم لكني خفت أن تبدأ الحفلة ونتأخر عن الدخول.."
بدت ريم مصدومة فأكملت بتفسير: "إنه عيد ميلادي وبدلاً من قضائه وحدي طلبت من فادي القدوم معي لهذا الحفل"
أومأت ريم بتفهم وكانت تلك هي اللحظة الملائمة تحرك يقترب منها وقال: "لنذهب الآن فالمكان ازدحم كما أني وعدت خالتي ألا أؤخركِ"
التفتت له وقبل أن تعترض تدخل فادي قائلاً: "نحن أيضًا سنغادر.."
عادت تطالعه فابتسم لها وأكمل: "اذهبي وسأحادثك ما أن أصل للبيت"
قبض كفه بغضب ولم يتحمل أكثر فسحبها وأمسك كفها بإحكام وهو يقول: "نراكما لاحقًا"
وشكر الله أن الحشد من حولهم كانوا صاخبين ومنحوه حجة لكي لا يستمع لاعتراضها..
****
كانت تشعر بالسعادة..
رغم أنها نالت من والدتها توبيخًا ما أن علمت بسرقة هاتفها وحتى قررت أن تذهب لتنام بغرفتها وقد كانت متأكدة أنها ستعيد توبيخها في الصباح ولعدة أيامٍ قادمة لكنها لم تكترث..
هي سعيدة ولا شيء سيفسد شعورها ذاك..
ليس فقط لأنها يمكنها شراء هاتف غيره ببساطة..
بل لأجل تلك الزيارة التي قامت بها أثناء ساعة الغداء ما أن سمعت محادثة نور مع إسلام في الصباح والتي بدت منزعجة منها لأنها ستذهب لحفلة ذلك الرجل المدعو مهاب الورداني وفهمت أن السبب بذلك هو كره هيثم له وأنه حذرها مرارًا بالابتعاد عنه..
لم ترد تضييع أي وقت وذهبت فورًا لوالدته التي بدورها هي الأخرى أظهرت سعادة بالغة وقررت أنها ستخبره ما أن يصل وهو ما حدث فأثناء خروجها كان هو يدخل المنزل..
ابتسمت بسخرية مفكرة أنه بالتأكيد لن يسامحها هذه المرة بل وسيطردها من حياته ويتوقف عن التفكير بها..
هي ليست حمقاء وقد فهمت بسهولة أن الأمر لم ينتهي مع خروج تلك الغبية من الشركة فقد استمر بتجاهلها والتعامل ببرود معها..
لذا كان عليها أن تؤثر على شخص يمكنه إقناعه وقد كانت تعلم مدى حبه لوالدته..
والدتها أخبرتها من قبل أنه لولا السيدة أليسار ما كان هيثم تسلم العمل أبدًا من والده ولهذا هي كثفت زياراتها واتصالاتها بها خلال الفترة الماضية..
لم تترك أي مناسبة تدعو للحديث معها ولم تنتهزها..
ولأنها سيدة طيبة وتحب أبنائها كثيراً كان من السهل اكتساب صداقتها وهو ما حدث..
تنهدت براحة وهي تستلقي في الفراش بهدوء مفكرة أنها على بعد خطوة واحدة..
خطوة واحدة فقط وستصل لهدفها!..
*****
&&&&
:"إذاً ما رأيك سيد مهاب؟"
سألت الرجل الذي كان يطالع التصاميم وقد طال صمته لكن ابتسامة الرضا والإعجاب المرتسمة على محياه طمأنتها قليلاً.. كان هذا الرجل من أغرب الناس الذين تتعامل معهم ولولا طريقته المهذبة بالتعامل معه لصدقت حديث هيثم عنه..
:"التصاميم جميلة جداً كالعادة"
رد بها وهو يطالعها فابتسمت بوجهه وتنهدت براحة قبل أن ترد: "سعيدة بأنها أعجبتك"
أومأ لها ثم نهض قائلاً: "مساء الليلة سأقيم حفلاً بأحد الأماكن المطلة على البحر.. المهندس ياسر سيحضر وسأكون سعيداً بقدومك"
فكرت بأن ترفض لكنها وجدت نفسها توميء وهي ترد: "سآتي بالتأكيد"
&&&&
بالطبع ما أن أخبرت نور اعترضت وطلبت منها ألا تذهب حتى لا تثير حفيظة هيثم لكن تلك الجملة جعلتها تعاند وتصر على الذهاب فهي لليوم لا تفهم السبب بكرهه لذلك الرجل..
ولا تعلم لماذا تشعر الآن أن الأفضل كان الاستماع لنور..
مبدئيًا ياسر لم يحضر واعتذر لسببٍ ما..
وهي الآن تجلس وحيدة على إحدى الطاولات بحديقة قصر السيد مهاب..
بالطبع حاول الكثيرين الحديث معها لكنها كانت ترد بأدب واختارت مكاناً بعيدًا لتجلس به وقد كان الفضل بهذا للفستان الذي كانت ترتديه..
لو كانت ريم هنا لأخبرتها أنها تمادت قليلاً بالعناد أما ساندي فقد كانت ستطالعها بغضب ثم تسحبها وتخفيها عن أنظار الجميع..
لقد اختارت أكثر فساتينها عريًا لترتديه الليلة..
فستان من الجلد الأحمر الضيق الذي بالكاد يصل لركبتيها مع فتحة طويلة من الخلف تبرز ساقيها عدا عن كونه يظهر نصف ظهرها تقريبًا..
لقد تمادت كثيرًا بتمردها هذه الليلة وربما كان السبب ببكائها المرير البارحة وحدها دون أن تملك أي شخص لتتحدث معه..
فكرت أن هذا سيسعدها وسيشعرها أنها حرة ويمكنها فعل ما تريده..
لكنها الآن نادمة كثيرًا وتأكدت مما لا يدع مجالًا للشك بأنها ستقضي هذه الليلة أيضًا بالبكاء المرير وربما أسوأ من كل الليالي السابقة..
تنهدت بملل وعدم راحة وفكرت بالنهوض والمغادرة ببساطة قبل أن تجد السيد مهاب يقترب منها ويقف بجوارها قائلًا: "لا يبدو أنكِ تستمتعين بالحفل يا إسلام"
لم تستطع الكذب وقررت منح تبرير وهمي وحسب لذا ردت: "أنا فقط متعبة بسبب العمل طيلة اليوم"
أومأ لها بتفهم قبل أن يقول: "لم لا تنهضي معي سأريكِ شيئًا"
ترددت في البداية لكنها قررت أن تنهض حتى لا تحرجه.. قادها للداخل ووصلا عبر الشرفة الخارجية لغرفة واسعة بها أثاث أبهرها..
بدا الأثاث ملوكيًا كالأثاث الذي تراه في قصور الأفلام.. سارت خلفه ليشير هو نحو أحد الحوائط..
كان هناك صورة غريبة لرجل وامرأة يعانقان شكلاً غريبًا بدا وكأنه وردة أو حلزون لكنه بدا منفرًا ومقبضًا..
:"هذه اللوحة رُسِمَت لي خصيصًا.."
التفتت تنظر له بينما يكمل: "تدعى الخيانة.. أخبرتني الفنانة التي رسمتها أنها تصف تصورها للخيانة بأنها كيان مشوه ينفر منه أي شخص يراه من بعيد.. لكن أولائك الذين يمارسونها يرونها شيء جميل ويتغاضون عن مظهره المربك ويعانقونه بحب.."
نظر لها بعدها ثم سألها: "أخبريني ما رأيكِ بالخيانة؟"
كانت متأكدة بعد تلك النبرة المتأثرة التي تحدث بها أنه تعرض للخيانة بالفعل فابتسمت بينما ترد: "أراها كما تراها تلك الرسامة.. كيان مشوه منفر.. أنا في رأيي لا يوجد أي مبرر للخيانة"
:"حقًا؟!"
سألها بابتسامة فأومأت وهي تجيب: "أجل.. الخيانة لا سبب لها فإن كنت تكره شخصًا أو تعبت من وجوده بحياتك عليك تركه ببساطة.. أيًا كان الألم الذي سيعقب تركك له سيكون أرحم ألف مرة من أن تخونه.. فالمرء عندما يُخان يرى نفسه أدنى من جميع البشر.. قلبه يتحطم وعقله لا يرحمه من الأسئلة التي لا نهاية أو إجابة لها.. ومن الصعب أن يُشفى من الجرح الذي ستخلفه تلك الخيانة بقلبه"
اتسعت ابتسامته لكن تلك الرجفة التي علت لشفتيه لبضع ثواني جعلتها تشفق عليه وتندم لأنها أسهبت بالرد.. كان عليها الاكتفاء بإخباره أنها أمرٌ سيء وحسب..
لعنت لسانها الثرثار وفكرت بأن تعتذر لكن بنفس اللحظة تعالى صوت لحنٍ بالخارج فتنهد ومد يده لها وهو يسأل: "هل تسمحين لي بهذه الرقصة؟!"
مجددًا ترددت ولكنها قررت ألا ترده خائبًا ما أن تذكرت تلك النظرة التي علت وجهه مع حديثها فابتسمت ووضعت يدها بكفه وقد أسعدها حرصه على ألا يلمسها أو يلصقها به هو فقط وضع كفها بكفه ويده الأخرى تركها معلقة بالهواء خلف ظهرها دون أن يلمس ظهرها..
بدأ التحرك بها بهدوء وانسيابية ولسببٍ ما تلك الرقصة أدخلت بهجة لا توصف لقلبها لقد شعرت بسعادة شديدة وعندما قال: "أنتِ راقصة بارعة!"
ردت بحماس: "جدتي كانت تصر علي أن أتعلم التانجو والڤالس.. كانت تخبرني أن الفتاة الأرستقراطية يستحيل ألا تجيدهما"
رفع حاجبيه بدهشة قائلًا: "تبدو لي وكأنها امرأة من العصور الذهبية"
ابتسمت تستحضر صورتها وهي تعلمها الرقص عندما كانت مراهقة ثم ردت: "لقد كانت كذلك بالفعل.. رحمها الله كانت رقيقة ومليئة بالحيوية ولآخر لحظة بحياتها كانت راضية ومبتسمة وسعيدة رغم كل ما ألمّ بها!.."
ارتجفت شفتيها لكنها تنفست بعمق لتمنع دموعها ثم نظرت له وقد بدا متأثرًا بحديثها الذي لم تفهم سبب عدم قطعها له مع تلك النقطة..
:"لو كانت لا تزال على قيد الحياة ما أصابتني كل تلك المشاكل أو على الأقل كانت لتخفف عني"
توقف عن الرقص ومد كفه يلامس ذقنها قبل أن يرد: "أي مشاكل تزعجكِ يمكنكِ قصها علي وأنا أعدك بحلها"
كان من المفترض أن تنزعج من تصرفه وقربه الشديد منها..
لكنها لم تفعل..
لسببٍ غريب لم تنتفض كما كان يحدث ما أن يقترب منها أحد ولم تكشر عن أنيابها وتتحداه أن يقترب منها مجددًا..
كانت هادئة بطريقة غريبة ومستسلمة..
لا هي لم تكن مستسلمة.. لكن شيءٌ ما حيال ذلك الرجل بدا صادقاً ومطمئناً وأرغمها على الصمت..
:"وما مقابل حلّك لتلك المشاكل؟!.."
شهقت بفزع ما أن سمعت الصوت الذي اقترب منهما بينما الغضب والتوعد يملئان وجهه قبل أن يصل لهما ويوجه حديثه للسيد مهاب..
أمال رأسه للجانب وأظهر تعبيراً مفكراً بينما كانت بالكاد تحافظ على وقوفها باستقامة لكنها كانت واثقة بأن الدماء قد هربت من وجهها وتركته شاحبًا كوجوه الأشباح..
:"أحاول تخيل ذلك المقابل ولا يمكنني الوصول سوى لشيءٍ واحد قد يرغبه وغدٌ مثلك"
همس بها قبل أن يمسك بتلابيبه ويسدد جبهته على أنفه مباشرة وعندها أسرعت هي تسحبه وتمنعه عن ضربه بينما تقف بوجهه قائلة: "توقف في الحال هيثم أنا..."
لم ينتظر أن تكمل حديثها فقد أمسك بكفها وسحبها ليغادروا المكان وهي لم تستطع سوى اتباعه..
****
لم يعلم السبب باتباعه لها لهذا المكان..
تنهد بانزعاج وهو يطالع الجمع المخمور الراقص في الملهى الليلي الذي أحضرته ريهام إليه..
لقد تركها تقوده مع خروجهم من ذلك الحفل الكارثي..
لقد غنى لريم تلك الأغنية التي طالما سمعاها معًا وقد كان مؤمن هناك ورغمًا عنه تجاهله وهو يغني مطالعًا إياها.. وحتى عندما نزل عن المسرح استمر بالحديث معها هي حتى اضطر أخيرًا للنظر له ليرى ذلك التوعد بعيناه أنه سيقتله لو لم يبتعد في الحال..
وقد أتت ريهام وأبعدته بالفعل..
في الحقيقة لولا حديث ريهام ما كان ترك ريم وغادر..
لقد اشتاق لها بالفعل فعلى مر سنوات كانا يتحدثان كل يوم والآن هو بالكاد يمكنه الحديث معها أو رؤيتها..
وبعد تلك النظرة على وجه مؤمن فهو واثق أنه سيبعدها عنه كليًا..
شعر بشخصٍ يجلس بجواره ثم أتاه صوت ريهام يقول: "لم لا ترقص معنا؟"
:"أنا لا أحب الرقص.."
رد بها بتنهيدة مملة ثم نظر لها وهو يكمل: "ولا أحب هذه الأجواء فهي تصيبني بألم الرأس"
ابتسمت له وهي تسأل: "هذا فقط؟!.."
التفتت تخرج من حقيبتها شريطًا للحبوب وأخرجت منه واحدة ثم منحتها له وهي تكمل: "تناول هذه وستكون بخير"
نظر للحبة بريبة ثم لريهام التي تنهدت وقالت: "هي ليست مخدر لا تقلق.. إنها مجرد حبوب تتناولها وتدفع عنك الاكتئاب والتوتر"
ضحك بسخرية ثم اقترب منها وهمس بجوار أذنها: "هذا هو التعريف الحرفي للمخدرات يا ريهام"
ترك الحبة أمامها وعاد يطالع انعكاسه على المرآة التي تحتل الحائط أمامه..
فكر أن يغادر لكن نفس الهاجس الذي دفعه للخروج معها في الأساس عاد يملؤ رأسه مجبرًا إياه على الاستسلام للواقع..
هو لا يريد العودة للمنزل ليغرق بالتفكير في ديونه وإيجار شقته المتأخر مع عدم عثوره على عمل ثم يختم ليلته السيئة المقررة عليه منذ فترة بتذكر نظرة مؤمن واستحضار صورة ريم التي فقدها للأبد..
لقد فكر جديًا أن ينهي حياته ويرتاح..
وللآن لا يجد سببًا لكونه لم يفعلها..
:"أرأيت؟!.."
التفت لريهام التي أكملت: "أنت متوتر ومكتئب وحزين وبحاجة للمساعدة.."
نظرت حولها ثم ضحكت بسخرية وهي تردف: "العالم لا ينصفك ولا يمنحك أي سعادة ودومًا يظلمك قاطنيه.. لا أحد يشعر بك وأنت لا تستطيع الشعور بأي شيء سوى الألم والخزي والوحدة.."
لقد تجاهل النبرة التي تتحدث بها وأسرته الكلمات التي نطقت بها..
ريهام وصفت شعوره بمنتهى السلاسة والهدوء..
تحدثت بالأشياء التي يصعب عليه قولها وهو من كان يتخيل أن ريم فقط القادرة على فعلها..
التفتت له وابتسمت قبل أن تدفع الحبة وتضعها أمامه ثم تميل عليه وهي تهمس: "لهذا اخترعوا تلك الأشياء.. اخترعوها لتساعد المرفوضين أمثالنا أن يتقبلوا كونهم مرفوضين"
ابتلع لعابه ببطء وحمل الحبة بيده..
ريم كانت تتعامل مع كل ما يصيبها بالمثابرة والصبر وتلك هي الطريقة التي اتبعها فقد سار على نهجها كل تلك السنوات والآن هي بعيدة عنه وقد فشلت طريقتها بحل مشاكله.. فلماذا لا يجرب طريقًا آخر؟!..
لماذا لا يجرب طريقة ريهام لحل مشاكلها؟!..
*****
ما أن عادت للمنزل وجدت خالتها تجلس بغرفة المعيشة تنتظرها فاتجهت إليها وجلست بجوارها وهي تقول: "مساء الخير!"
:"مساء النور.."
ردت بها خالتها بينما خلعت هي حذائها وجلست بجوارها براحة بينما تتنهد بتعب..
:"ما كان علي الموافقة على طلب ذلك الولد فأنتِ تبدين متعبة"
قالتها خالتها فابتسمت بينما تطالعها وهي ترد: "لا داعي لقد استمتعت وقابلت فادي هناك.."
التفتت لها بكامل جسدها فأكملت تفسر: "كان يعزف مع المغني لولا هذا ما كنت رأيته.. وقد حضر للمعهد كما أخبرتك لكنه لم ينتظر وغادر فورًا"
فضلت ألا تخبر خالتها بشأن ريهام فقد حذرته من رفقتها وستغضب منه كثيرًا لو علمت أنه لم يستمع لها..
لكن حاجباها انعقدا قبل أن ترتاح بجلستها قائلة: "لا أعلم لم شعرت أنه ومؤمن متخاصمان"
ارتفع حاجبا خالتها وسألتها: "لم انتابكِ ذلك الشعور؟!"
هزت كتفيها وردت: "حديثهما كان مقتضبًا جدًا.. بل هما لم يتحدثا وما هي إلا ثواني وغادر فادي بذات اللحظة التي سحبني بها مؤمن لنغادر"
طالعت خالتها الفراغ بتفكير وقبل أن تسألها وجدتها تهز رأسها ثم قالت: "دعكِ من هذان الشقيان.. ودعيني أخبركِ بما حدث.."
أصغت لها بانتباه بينما تكمل: "هنا عادت لزوجها"
شهقت ريم بصدمة قبل أن تسأل بحدة: "بعد كل ما فعله بها؟!"
أومأت لها وهي ترد: "هند اتصلت بي وأخبرتني أنها فضلت العودة له بعد أن منحها عرضًا بأن تتخلى عن القضية وهو سيمنحها شقة في بنايته الجديدة ويبقيها على ذمته ويمنحها مصروفًا شهريًا على ألا تسأله أبدًا عن علاقاته أو زيجاته"
:"وهي وافقت؟!"
سألتها باشمئزاز فتنهدت وردت: "أجل وافقت.. وقد ذكرني هذا بتصرف إحداهن قبل زمنٍ بعيد"
كانت تعلم أنها تقصد خالتها نادية التي كانت تسكت على ضرب وإهانة وخيانة زوجها لها فقط لأجل المال الذي تحصل عليه..
:"لقد اتصلت بي"
:"تعنين خالتي نادية؟!"
سألتها فأومأت بإيجاب وضحكت باستهزاء قبل أن ترد: "كانت مكالمة طويلة جدًا تشتكي لي بها من عناد ابنتيها وإصرار حماها على عدم منحها أي نقود.. ثم بدأت بوصم مؤمن بأسوأ الصفات لأنه سيحصل على تركة جده له وحده دون اكتراث لأخواته الثلاثة.. وأنهت حديثها بإخباري أنها ستتزوج ذلك الشاب الذي يعمل معها ما أن ينتهي موسم الأعياد.."
قالت جملتها الأخيرة بتنهيدة متعبة آلمتها وأحزنتها بالذات مع إردافها: "تحدثت معي ما يزيد عن الساعتين لدرجة أن المكالمة انقطعت أكثر من مرة وهي عاودت الاتصال وبين كل هذا لم تحاول السؤال عن دارين وعندما سألتها أنا عن عليا وفطيمة إكتفت بإخباري أنها لم تعد تهتم بأمرهما لأن عليا تبكي طيلة الوقت ولا تتوقف عن النظر لها باتهام وفطيمة تتجاهلها"
اقتربت منها واحتضنتها بقوة لثوانٍ في محاولة للتخفيف عنها قبل أن تتراجع وتطالعها بينما تقول: "لا تحزني خالتي!"
التفتت لها وابتسمت وهي ترد: "أنا حزينة عليها.. ستندم يا ريم.. أنا واثقة بأنها ستفعل.. وأثق كذلك بأنها ستندم بعد فوات الأوان وستعيش مع الألم والخيبة للمتبقي من عمرها"
بقيت تطالعها قبل أن تقول: "خالتي.. أنتِ من علمني أننا لا نملك تغيير العالم أو البشر.. فالعالم لا يتغير إلا بمشيئة رب العالمين.. والبشر كذلك لكن يجب أن يرغبوا بالتغير أولاً ويسعون للتخلص من آثامهم التي لا يتوقفون عن ارتكابها"
ابتسمت لها وربتت على ذراعها الممدود على كتفها قبل أن ترفع وجهها وتعود لطبيعتها وهي ترد: "وقد كنت محقة طبعًا يا فتاة"
ضحكت بخفة قبل أن تقترب منها قائلة: "ما رأيكِ أن ننسى مشاكل العالم والبشر ونعد جريمة آخر الليل"
التفتت لها بابتسامة وهي ترد: "كبدة اسكندراني وسجق اسكندراني!"
:"مع البطاطس المقلية والمخلل والمياه الغازية!"
همست بها بصوتٍ مسموع قبل أن يتعالى صوتٌ من خلفها..
:"وحواوشي.."
التفتت تطالع دارين التي اقتربت منها وهي تقفز أمامها تكمل بحماس: "أريد حواوشي يا ريم رجاءًا"
:"يا فتاة ظننتكِ نائمة!"
خاطبتها خالتها بلوم فارتبكت دارين وهي تدخلت سريعًا لتنقذها وهي ترد: "تعلمين كنت سأحتاج يد العون وأوقظها على أي حال"
بقيت تطالعهما بذات النظرة للحظات قبل أن تبتسم وتنهض ليتجهن إلى المطبخ ويعددن جريمة آخر الليل..
***
كان يجلس أمام حاسبه يحاول إلهاء نفسه بالعمل لكن أي شيء لم يجدي نفعًا لينسى تلك الأغنية السخيفة ونظرات الوغد لريم ونظراتها هي له..
فرك ذقنه عدة مرات بينما يطالع الخارج من شرفته..
كل شيء كان هادئًا والمنظر رغم قتامته إلا أنه يدعو أمثاله من العاشقين للألوان الداكنة للهدوء والسكينة..
وهذا لم يحدث..
لطالما سخر من ريم لتعلقها الغريب بالبحر رغم كونهم حرفيًا يرونه كل يوم..
لكن بداخله هو الآخر كان يحب الجلوس أمام البحر فقد كان يهدئه ويصفي ذهنه ويساعده على التفكير بتمهل..
لكن في هذه الليلة فشل البحر بفعل أيٍ من هذا..
لقد فكر بالذهاب لفادي وتزيين وجهه باللكمات وتحذيره لآخر مرة أن يقترب من فتاته.. لكنه تراجع مع شعوره أن الأمر لن ينتهي ببضع لكمات هذه المرة بالذات لو رد عليه الوغد كما فعل بالمرة الماضية..
فكر بتلبية دعوة جده لتناول العشاء معه هو وعائلته لكنه تراجع وفكر بما سيعقب ذلك العشاء من حديثٍ سخيف لا طاقة له به..
فكر بالبقاء مع ريم لكنه لم يقدر.. إن بقي مع ريم أكثر سيتهور إما بحديثه أو أفعاله وفي الحالتين سيكون الخاسر لهذا أعادها لبيتها وقطع الطريق على الشيطان بداخله..
وأخيرًا فكر بالذهاب لجده صلاح لكنه علم أنه سافر للبلدة لمباشرة عمله فقرر أن ينتهج طريقه ويدفن نفسه بالعمل..
والآن ها هو جالس وحده.. الأفكار تتصارع بداخله والغضب يتصاعد ليبلغ رأسه دون أن يجد حلًا..
وبينما يقلب عينيه في المكان سقطتا على صندوق رسائل ريم وابتسم فورًا قبل أن ينهض ويتجه إليه..
لقد حاول تحطيم الصندوق وحفظ محتوياته بشيءٍ آخر لكنه لم يقدر على تحطيم هديتها له وقرر أن يتجاهل حقيقة من صنعه..
أخرج مذكراتها وقرر أن يلهي نفسه بقراءة رسائلها وما هي إلا دقائق غرق بعدها كليًا بين سحر كلماتها وهو يتخيلها أمامه جالسة على مكتبها ومنكبة عليه بينما خصلات السماء الداكنة تتدلى وتخفي رأسها الصغير بين ثنياتها وهي تكتب..
وكان هذا هو الشيء الوحيد القادر على طرد الغضب خارج صدره..
***
دفعها بعنف ما أن فتح الباب قبل أن يغلقه بعصبية..
وقف أمامها بينما هي تطالعه بتحدي لقد كانت تصرخ به طيلة الطريق أن يتوقف وينزلها لكنه لم يستمع لها ولم يلتفت لهتافها الغاضب..
كان لا يعلم كيف من المفترض أن يفكر أو يشعر..
هو غاضب وذلك الشعور يجتاحه ويؤثر حتى على رؤيته..
للحظات تخيل أن تلك التي كانت ترقص مع ذلك العجوز المتصابي ليست إسلام وصوت بداخله ردد أنها بالتأكيد فتاة أخرى لا يعرفها..
لكنه ما كان ليخطئها..
كانت هي إسلام.. فتاته اللطيفة المجنونة الهادئة العنيدة وقد كانت ترقص بين أحضان شخصٍ غيره..
حاول التنفس بعمق لكن حتى رئتاه كأنهما توقفتا عن العمل فجأة..
:"هل فقدت عقلك؟!"
صرخت به فتحرك نحوها ووقف أمامها مباشرة وهو يرد: "كنت على وشك طرح نفس السؤال عليكِ إسلام.. هل فقدتِ عقلك؟!.."
ثم أمسكها فجأة وهزها بعنف هاتفًا بها بغضب: "كيف تسمحين لذلك الوغد بملامستك بتلك الطريقة؟!.. كيف؟!"
:"هذا ليس من شأنك.."
ردت بها بتحدي فتجمد وهو يطالعها غير مصدق لردها..
لقد ظلّ يحاول طيلة الطريق إخبار نفسه أنها بالتأكيد تصرفت بطبيعتها الساذجة الحمقاء ورأت أن ذلك الرجل لا يشكل أي خطر وحسب..
وفي الغالب ستحاول شرح وجهة نظرها كما كانت تفعل دومًا..
لكنها لم تفعل..
هي فقط تطالعه بتحدي وغضب وتعانده لتثبت أنها كانت مدركة لملاطفته المقززة لها..
كان المشهد بشعًا وتفسيره أبشع واستحضاره بذاكرته وإدراك تلك الحقيقة صدمه وألجمه لثوانٍ استغلتها هي بالإفلات والابتعاد عنه بينما تكمل: "إن كان يلامسني.. يلاطفني.. يتحرش بي حتى.. فالأمر لا يخصك هيثم.. لقد انتهينا أسمعت؟.. لا شيء يجمعني بك ولا شيء يربطك بي.."
ثم أكملت تشدد على كل حرف: "وأنا الآن حرة ويمكنني فعل ما يحلو لي"
ومع هذه الجملة شعر أن شخصًا ضربه بعنف فوق رأسه لينقله من حالة الصدمة للغضب.. بل الاشتعال حرفيًا بالغضب الذي أعمى عيناه وعقله فاقترب منها ومنعها من الحركة نحو الباب لتغادر..
سحب خصرها بكفه بحدة وثبتها بمكانها..
:"لن أصدق أن ذلك العجوز المتصابي يعجبكِ.."
قالها بهدوء أصابها بالتوتر وقد رأى هذا بوضوح على ملامحها التي شحبت لكنه لم يكترث واستمر بإلصاق جسدها بجسده وهو يكمل: "إنه لا يملك أي شيء يلفت نظرك.."
أمسك بذقنها وقد تذكر اللحظة التي رأى بها الوغد يمسكها منه فازداد غضبه واشتدت أصابعه عليه ثم اقترب يهمس بجوار أذنها: "لابد أن ماله هو ما يغريكِ لتقبله"
:"توقف هيثم"
قالتها وهي تحاول دفعه ليبتعد لكنه لم يمهلها وأمسك بكفيها معًا فوق رأسها بيد ودفعها لتلتصق بالجدار خلفها ثم انحدر باليد الأخرى على جسدها ببطء فأغمضت عيناها وازدادت حدة أنفاسها قبل أن يهمس: "يمكنني منحك المال وأشياء أخرى مسلية ستحبينها"
صرخت بوجهه: "قلت لك توقف وأفلتني في الحال"
لم يكترث لها فقد رفع كفه لأعلى ظهرها ليمسك بسحاب فستانها وهو يهمس بغضب: "لن أفلتكِ ولن أتوقف فأنا أعلم كيف أرغمكِ على الخضوع لي للأبد.."
فتحت عيناها تطالعه بارتباك وخوف وغضب ومجدداً حاولت الإفلات منه عندما شعرت بنزعه لسحاب فستانها لكنه لم يسمح لها وأكمل: "أنا أعرفكِ أكثر من أي شخص بهذا العالم"
وعندها تحولت نظراتها المرتبكة لأخرى شرسة وهي ترد بهمسٍ حاد: "أنت لا تعرف أي شيءٍ عني أيها المدلل!"
أنفاسها الساخنة الغاضبة المختلطة بعطرها الناعم أذهبت المتبقي من عقله وسريعًا كانت شفاهه تعانق شفاهها..
جسده كان يحترق غضبًا ورغبة بها لكنه كان يتنهد بارتياح بين قبلاته الجامحة لفمها الشهي..
لقد اشتاق لها وقد تأكد بتلك اللحظة أنه لن تكون له أي راحة بعيدًا عنها..
وهي كانت تتحكم به كاللعبة بين أناملها الصغيرة التي يعشق لعقها..
قبل لحظاتٍ أغضبته بتصرفاتها الرعناء وكلماتها الوقحة والآن تجبره على الاستسلام لسحرها الأخاذ وقبلاتها الشهية ولمساتها الساذجة..
رفع كفه ليدفن أصابعه بشعرها وبذراعه الأخرى أنزل قطعة الفستان التي تغطي عنقها ثم تحرك يدفن أنفه بخصلاتها العسلية الناعمة وهو يهمس كالمخمور: "لقد تركتِ شعركِ يستطيل أخيرًا.."
همهمت بكلماتٍ لم يحاول تفسيرها وتحرك بلسانه على أذنها ثم قضمها برفق فشعر بيدها تتشبث وقد توتر جسدها فاشتعلت نيران رغبته به أكثر وتحرك بشفتيه لعنقها الذي قبله بعمق ليسمع تأوهًا خافتًا يصدر من بين شفتيها دون أن تشعر بينما كفيها يتشبثان به أكثر وعندها وجد أصابعه تتحرك بتلقائية لتدفع فستانها للأسفل أكثر بينما يعبث ببشرتها الناعمة باستخدام أطراف أصابعه..
:"هيثم توقف.."
تلك الهمسة صدرت منها لكنه لم يستمع.. تراجع يطالعها بعيون غائمة ثم اقترب من شفتيها وهو يهمس: "أنتِ قاسية إسلام.."
:"هيثم رجاءًا كفى"
لم يستمع لتوسلها وطبع عدة قبلات رقيقة على شفتيها قبل أن يكمل: "أخبريني لم أنتِ قاسية معي؟!.. أنتِ لستِ الفتاة التي تحاولين ادعائها!"
بدأ بالتهام شفتيها بقبلاته الشغوفة مجددًا وقد شعر بأنه لن يوقفه أي شيءٍ الآن بضع خطوات وتصبح له للأبد.. لكن ذلك الطعم المالح الذي ملأ فمه كان له رأيٌ آخر..
ابتعد عنها يتابع أنهار الدموع التي انفجرت من عينيها وشعر بالحنق والضيق..
هزها بعنف وهتف بها: "ماذا بكِ؟!.. أخبريني فقط ما الذي أصابكِ؟!.."
استمرت بالبكاء دون ردفرفع وجهه بعنف ثم أكمل بعصبية: "أخبريني لم ترفضيني هااه؟!.. ما العيب بي؟!"
:"لا شيء.."
همست بتلك الكلمة بين دموعها التي حاولت إيقافها لكنها لم تقدر فاكتفت بابتسامة من بينها وهي تربت على وجنته بحنان كما كانت تفعل دومًا بينما تكمل: "لا يوجد أي عيبٍ بك.. أنت رجل لا مثيل له"
بقي يطالع عيناها باحثًا عن الخدعة لكنه كالعادة لم يجدها..
إسلام بالفعل صادقة فيما قالته..
شعر بأنه سيفقد عقله.. إن كان لا يملك أي عيب فلماذا ترفضه؟!..
إن كانت عائلتها السبب فلم لا تخبره عنه الآن بعد أن تركتهم وتركت منزلهم؟!..
لم هي مصممة على إخفاء الحقيقة عنه؟!..
ولم بحثت عن غيره ليحل لها مشاكلها؟!..
كان يعلم أن لا أحد سيرد عليه غيرها..
لكنها لن تجيبه وبرؤيتها منهارة وتبكي بذلك الشكل لن يقدر على إرغامها أو القسوة عليها..
لا يمكنه تحمل رؤية دموعها..
لهذا السبب تركها فسقطت على الأرض فورًا وزاد بكائها وعندها هو حمل سترته التي خلعها أثناء تلامسهما الجامح ثم أخرج المفتاح وغادر بعد أن أغلق الباب بإحكام عليها..
***
تحركت تخرج من المصعد وهي تحاول موازنة جسده ليسيرا باستقامة..
فادي بدا لها من بعيد شخصًا هزيلًا لكن ثقل جسده الآن يسخر منها وهي تسنده ليحاولا الوصول لشقتها..
كانت قد أخرجت المفتاح في سيارة الأجرة فقد دعمته ليخرج من الملهى وعلمت بأنه سيكون من الصعب فتح حقيبتها بينما تدعم جسده..
:"يبدو أنكِ تنالين الكثير من المتعة؟"
لم تنتفض أو تلتفت وتنهدت بينما ترد: "ماذا تريدين سوزان؟!"
نهضت من على الدرج المجاور لشقتها والذي كان مظلمًا بتلك الساعة المتأخرة فهي تقيم بالطابق الأخير.. عليها الاعتراف أن جرأة تلك المعتوهة نادرة.. والشكر لها فتلك الجرأة بالتعاون مع غرورها هما ما أوصلاها لما تريد..
:"ألا تخافين أبدًا؟"
التفتت تنظر لها بعد أن فتحت الباب وابتسمت بسخرية فقد فهمت أنها كانت تنتظر إفزاعها بخروجها من تلك العتمة وعندها همست بتحدي: "ولم لا تقولين أن شياطيني أخبرتني أنكِ تجلسين بين الظلمات في انتظاري"
ضحكت سوزان بسخرية وهمست باستهزاء: "شياطينك!.. حقًا؟!"
أشارت لموضع قدمها وقالت: "ابقي هنا ولا تدخلي"
أغضبها ذلك الأمر لكنها لم تكترث وتحركت تدخل بفادي الذي كان غائبًا تمامًا عما يحدث حوله.. ساعدته ليستلقي على الأريكة برفق ثم عادت أدراجها لتقف أمام الباب وسألتها ببرود: "لم أنتِ هنا؟!"
نظرت خلف ظهرها حيث تركت فادي ثم لها وبابتسامة ردت: "لم أشعر بأنكِ منحتني تلك المعلومة لتنالي جائزتك وحسب يا ريهام؟!"
:"مخطئة.."
قالتها وهي تستند بجسدها على إطار الباب قبل أن تكمل ببساطة: "أنا فعلت هذا لأنال جائزتي وبنفس الوقت لأتسلى برؤيتكِ تُسحَقين على يد الفتاة التي تحتقرينها.."
مالت للأمام وهمست لها: "كما تعلمين أنا لم أنسى أبدًا الطريقة التي عاملتني بها أنتِ ووالدتك بعد وفاة أبي لذا..."
ثم مطت شفتيها بطريقة ذات معنى وابتسمت بشر فبادلتها سوزان الابتسام بنفس الطريقة قبل أن تقترب منها بشكلٍ خطير وتقول بخفوت: "ما فعلته أنا وأمي في الماضي سيكون لا شيء أمام ما سأفعله بكِ لاستغلالي بتلك الطريقة"
تراجعت وهي ترد بهدوء: "افعلي ما يحلو لكِ.. لكن انتبهي.."
ثم رفعت عينيها وتخيلته بمظهره الذي لا يخيفها يقف خلفها..
شيطانها ورفيقها الذي آنس وحدتها ورسم معها خطتها..
كان يقف خلف سوزان ويطالعها بشر فابتسمت لها بنفس الطريقة بينما تكمل: "شياطيني ستلاحقكِ إن آذيتني يا سوزي"
ثم أغلقت الباب في وجهها بهدوء..
التفتت ببطء واستندت على الباب للحظات تستمع لخطواتها الغاضبة التي تحركت بها قبل أن تختفي كليًا.. وعندها ابتسمت بسعادة ثم تحركت نحو الأريكة التي يستلقي عليها فادي..
جلست على الأرض بجواره واستندت برأسها على يده القريبة من وجهه.. تتبعت بطرف إصبعها حد ذقنه..
:"أنت لا تشبه أي شيء موجود هنا.."
همست بها ثم حركت أناملها على خصلات شعره بينما تكمل: "أنت لا تشبه أي شيء في عالمي فادي.."
اقتربت منه بعدها وطبعت قبلة على شفتيه فابتعد بوجهه وسمعته يهمس بكلمات لم تفهم منها سوى ندائه باسم ريم..
ابتسمت بسخرية ثم عادت تستند على ذراعه وهي تهمس: "مؤمن له كل الحق بكرهك ولكمك فأنت فعلًا تحب حبيبته.. لكن دعنا من كل هذا.."
مررت يدها على صدره ثم تحركت بها أسفل سترته بينما تطالعه بعيون غائمة بالرغبة قبل أن تقترب من أذنه هامسة: "الآن وقد أصبحت كلك ملكي.. يا ترى ماذا أنا فاعلة بك؟!"
****
لقد مرت ساعة منذ أن غادر وتركها وهي من حينها جالسة على الأرض..
لم تفعل شيئًا سوى رفع سحاب فستانها وإعادته لما كان عليه لكنها بقيت على الأرض تعقد ذراعيها أمام صدرها وتنتظر عودته..
كان من الغباء أن تعانده بتلك الحالة التي كان عليها!..
هي تعرف هيثم..
لقد أفقدته عقله بكلماتها الغبية وهو الآن بالتأكيد سيتجه للسيد مهاب ويفتعل شجارًا آخر معه..
من البداية الخطأ عليها ما كان يجب أن تذهب للحفل وما كان عليها قبول دعوة الرقص وما كان عليها تركه يلامس ذقنها بتلك الطريقة..
حتى لو بدا أنه لا يقصد التحرش بها مع هذا كان عليها ألا تسمح له..
لقد فكرت بالنهوض والاتصال به لكن حقيبتها كانت بسيارته وهو أغلق الباب عليها وحبسها..
تنفست بعمق ورفعت يدها تلامس موضع قبلته على عنقها..
للحظة كانت ستستسلم وحسب علّ هذا يريحها لكن مع تلك الجملة التي نطق بها تذكرت أن جدتها أخبرتها بها من قبل بل وكانت تصر أن تكررها على مسامعها
:"أنتِ لستِ الفتاة التي تدعينها!"
كما تذكرت وعدها لوالدها..
رغم قسوته وتصرفاته التي يصعب عليها نسيانها إلا أنها وعدته ولا يمكنها التخلي عن ذلك الوعد..
مع هذا لم تستطع إبعاد هيثم.. لم تستطع أن تؤلمه أكثر..
إن كانت هي ضحية والديها وعائلتها والمجتمع كله.. فهيثم هو ضحيتها الوحيدة..
لقد عذبته وزعزعت ثقته بنفسه..
ما كان ليسأل أي أحد عن عيبه الذي دفعه لرفضه وكأنه يتوسله النفي والبقاء بجواره..
ما كان ليضم فتاة أهانته هو وعائلته بتلك الطريقة الفجة أو يفكر بها حتى..
لقد تمادت كثيرًا وسمحت لكل شيء بالخروج عن سيطرتها وخسرت بسبب خوفها أصدقائها وحبيبها..
سمعت صوت مفتاح الباب ثم رأته يدخل فنهضت فورًا عن الأرض وسألته: "أين ذهبت؟"
لم يرد فقد تحرك يضع المفاتيح جانبًا ثم وقف أمامها وبقي يطالعها بطريقة غريبة فارتعبت أن يكون أصاب ذلك الرجل بمكروه وقد كانت أعصابها قد تلفت بالفعل..
:"هيثم رد علي أين ذهبت و...."
:"هل ظننتِ أني لن أعرف حقاً؟!"
توقفت عن الهتاف والحركة..
توقفت حتى عن التفكير والتنفس..
صمت مقيت أسود حل فجأة وأغشى المكان بكآبة أكثر مما كان عليه..
تراجعت لخطوة وهي تترنح وسألت بهمس مليء بالخوف: "عن ماذا تتحدث؟!"
كانت مرعوبة أن تكون إجابته هي نفسها ما يرعبها منذ سنوات.. ولفترة شعرت أنها كانت بطول تلك السنوات ظل هو صامتاً ولا ينطق قبل أن ينحني ويهمس بنبرة مليئة بالاتهام: "أتحدث عما أخفيته عني لسنوات.."
عيونه الزرقاء كانت تنبض بالغضب وقد جعل الخزي يملؤها بتلك الطريقة التي طالعها بها قبل أن يمط شفتاه ويكمل ببرود: "هل تخيلتِ لثانية أني بالفعل سأتقبل فتاة لا أعرف نسبها.. هل تصورتِ أني سأتزوج منكِ بعد أن أعرف بماضي والدتك المليء بالعار"
أنفاسها كانت تخرج من صدرها كأنها خناجر تجرحه وتطعن قلبها..
نبضات قلبها الهادرة صمت أذنيها لكنها لم تغيِب عقلها بل آلمته كحال كل جزءٍ من جسدها وروحها..
عقلها استمر بالعمل ليعذبها أكثر وأكثر..
رددت لثواني داخل نفسها أن هذا ما تخيلته وتصورته لسنوات..
أن عليها ألا تبكي أو تحزن..
لقد تخيلت كل يوم أن تسمع منه تلك الكلمات وأخبرت نفسها أنها لن تلومه ولن تبكي..
ستتركه وتغادر..
وعندما حدث ما تخيلته لسنوات لم تقدر على تنفيذ تلك الحركة البسيطة..
لم تقدر على السير مبتعدة..
لقد بدأت عيناها تذرفان الدموع فوراً..
أصوات شهقاتها العالية ملأت المكان..
ورفعت كفيها تضعهما على موضع قلبها الذي شعرت بأنه سيخرج من صدرها..
كان قلبها يحمل أعظم ألم..
من العار أن تبدو بهذا المظهر المزري أمامه بعد تلك الكلمات القاسية..
لقد سمعت تلك الكلمات آلاف المرات من أسلم.. لكن سماعها من هيثم كان قاتلاً لها..
سماعها منه كان يفوق كل قدرتها على التحمل والصبر..
لكنها لم تقدر حتى على الهرب والركض بعيداً وحتى البقاء واقفة على ساقيها كما كانت تفعل دوماً أمام أسلم أصبح مستحيلاً..
شعرت أنها فقدت كل قوتها وطاقتها وبلحظة هوت ساقيها كأنها تغوص بين ظلمات بئر عميق لكن قبل أن تسقط شعرت بيده تحيط بها وتدعمها حتى لا تسقط..
صوت يهدر بداخلها (لماذا أنا؟!.. ما ذنبي أنا؟!)
أسئلة ليس لها أي إجابة..
أسئلة خُلِقَت ليزداد عذابها وحسب..
فكرت بأن عليها أن تدفعه بعيدًا وتصرخ به ألا يلمسها أبدًا بعد الآن لكنها لم تكن قادرة..
لم تكن تريد الابتعاد عنه لأول مرة..
لا.. هي كاذبة..
فبكل مرة كانت تجبر نفسها على الابتعاد عنه وتركه..
لطالما رغبت بالبقاء جواره وعدم تركه أبدًا..
لكنها فشلت..
وها هي الآن تفشل بإنقاذ المتبقي من كرامتها التي دعسها الجميع حتى هيثم..
وبدلًا من الابتعاد عنه دفنت رأسها بصدره وهي تبكي ألمًا وقهرًا..
شعرت بيده تسحب وجهها برفق ليقابله وهي امتثلت بصعوبة..
طالعته لترى تلك الملامح الهادئة التي ستُحرَم منها.. تخيلت أنه سيلقيها خارجًا بعد ثانية واحدة لكن فجأة صمت كل شيء حتى بكائها ما أن سألها: "إسلام أخبريني متى كانت المرة التي سألتكِ بها عن والدتك؟!.."
تجمدت كليًا بينما هو استمر بسؤالها: "متى كانت المرة التي أظهرت لكِ بها أني أهتم بنسب عائلتك أو نسبكِ أنتِ؟!.. أنا لا أذكر سوى أني أحببتك أنتي وارتبطت بكِ أنتي ورغبت بالزواج بكِ أنتي.."
اقترب منها أكثر وانتظر منها ردًا لكن ما كانت لتتكلم أو تنطق حتى.. هي كانت تطالعه وحسب محاولة تصديق أسئلته والمعنى الذي وصلها منها وعندما طال الصمت تنهد وأكمل: "أنتِ لن تجدي إجابة لأن هذا لم يحدث أبدًا.."
عادت للبكاء مجددًا وفتحت فمها لتقول: "أنا..."
:"أنتِ غبية إسلام.."
قاطعها برفق ثم أمسك كتفيها وهو يكمل: "لقد أضعتِ كل تلك السنوات منا لأجل لا شيء.."
شهقت وازداد بكائها وهي لا تعلم أكانت تبكي حزنًا أم فرحًا لكنها ارتاحت..
لأول مرة منذ سنوات تشعر بهذا الارتياح..
أحاطها بذراعيه واحتضنها بقوة ثم همس بغضب ولأول مرة غضبه لا يخيفها أو يضايقها بل يملؤ قلبها بالسعادة مع سماع وعده: "سأتزوجكِ رغمًا عنكِ وعن أفكارك الغبية وعن عائلتك وعائلتي.. لا شيء سيمنعني عنكِ.. لا أحد سيأخذكِ مني أبدًا"
*****

رسالة من فتاة مجنونة Where stories live. Discover now