رسالة من فتاة مجنونة-الفصل الرابع

192 14 0
                                    

بداخل عينيك أرى الدفء.. الذي تخفيه بالقسوة..
لا تحاول إبعادي.. واستمع فقط لبرهة..
عيناي تخبرانك بما لا يملك لساني بوحه..
كلانا نرى العالم قاسي.. فلا تكن مثله..
*****
-:"ركزي معي ريم!"
قالها بحدة علها تترك دارين واللعب معها وتلتفت له وللدراسة قليلاً.. لكن دون جدوى بقيت تلاعبها وتصدر أصواتًا غريبة.. فتنهد بنفاذ صبر وأغمض عينيه محاولاً تمالك أعصابه حتى لا يغضب منها.. فإن صرخ عليها ستغضب ويبدآن بشجارٍ طويل ويتعطلان أكثر.. ومع ذلك الهاجس قرر أن الحل الأمثل هو إعادة دارين لوالدتها.. صحيحٌ أنه سيتلقى توبيخاً لمقاطعته جلستها مع شقيقتها لكن على الأقل سيتمكنا من الدراسة وليتعامل مع غضبها بوقتٍ لاحق..
-:"عند تفاعل الأحماض مع القلويات تنتج الأملاح"
التفت لها بينما تحمل دارين عن الأرض وتكمل: "والأملاح متعادلة لكن بعضها يميل للحامضية.. والبعض الآخر للقاعدية.. ويمكن التفريق بينهم بمقياس الحامضية"
ابتسم بفخر قبل أن يقول ببعض التأنيب: "أحسنتِ.. والآن تخيلي ما سيحدث لو منحتني بعض التركيز"
تحركت لتجلس على مقعد طاولة الطعام المقابل له وسألته: "هل سمعت ما قالتاه هند وهنا بينما تهبطان الدرج؟"
لم يرد فقد كان يخشى أن تفتح معه ذاك الموضوع.. بالتأكيد هو علم تمامًا ما كانتا تتحدثان به من تمتمتهما الحانقة أثناء هبوط الدرج وتمنى أن ريم لم تسمعهما.
-:"ترى هل يتحدثان عن بيتهما الثاني؟"
-: "ربما.. لا شأن لنا بالأمر"
قالها بهدوء وتنهيدة خفيفة كونها لم تدرك ما يقصدونه ثم نظر لها بحزم قائلا: "الآن اتركي دارين وركزي معي ريم"
نظرت له بحنق ثم تأففت ونهضت تقول: "سأذهب وأعطيها لخالتي نادية يا كاره الأطفال"
ابتسم بسخرية ثم حمل كوبي الشاي خاصتهما ونهض هو الآخر قائلاً: "سأعد لنا بعض الشاي"
خرجا من غرفة المائدة ليجدا فاطيمة تجلس أمام التلفاز فسألتها ريم: "فاطيمة أين خالتي؟"
-: "تجلس مع خالتي شكرية بغرفتها"
ارتفع حاجبيها باستغراب والتفتت له فعلم أنها مستغربة لجلوسهما وحيدتين ففي الغالب تجلسان بغرفة الاستقبال لتشاهدا التلفاز.. لكن هو لم يعرها اهتماماً وتحرك نحو المطبخ بينما عادت هي تقول لفاطيمة: "هلا أخذتِ دارين فنحن نذاكر"
-: "لا بالطبع لن أفعل.. أنتِ تعلمين كم هي شقية ولا يمكنني الاعتناء بها وحدي.. كما أن علياء ذهبت لوالدتك لتجلس معها في..."
-: "كفى!"
هتفت بها ريم لتوقفها عن الثرثرة.. فزرعت ابتسامة على ثغره بينما يسمعها تكمل بتوبيخ: "أنتِ حقاً ثرثارة وشكّاءة.. أتفهم الآن لم مؤمن دائماً يعاني من الصداع"
ثم سمع صوت خطواتها ومرت أمام المطبخ وهي تهمس: "كان الله بعونك سيد شفيق"
ضحك بخفة ثم خرج يتبعها.. وما أن وصل لها همس: "هاتي الصغيرة واذهبي انتِ لإعداد الشاي"
التفتت له وهزت رأسها ب لا بينما ترد: "لا بالطبع أنا من ستدخلها"
ثم عادت تتجه للغرفة.. ففهم أنها ستدخلها حتى لا يتعرض هو للتأنيب من خالتها.
-: "يبيعون البيت؟!"
وأمام عينيه تجمدت ريم بمكانها ما أن سمعت ذاك الهتاف من زوجة والده.
: "أنتِ بالتأكيد تمازحينني شكرية.. أعني لقد اشترينا الشقق.. لقد بعت كل ذهبي لأشتري هذه الشقة!"
اقترب من ريم بينما يسمع رد أستاذته: "لا تبدئي بالذعر نادية واجلسي لنحاول إيجاد حل"
-: "أي حل أنا لن أرضى بهذا.. أنتِ تعلمين كم عانيت وكم تشاجرت مع زكريا حتى لا..."
-: "وقد عانت أختنا الكبرى الأمرين ليكون لها ولابنتها بيتًا يأويهما"
تراجعت ريم فاصطدمت به.. ورغماً عنه أحاط خصرها لتبقى واقفة بينما أستاذته تكمل بهدوء يغلف غضبها: "لو علمت سامية سيتحطم قلبها.. أنتِ لديكِ مكاناً غير هذا.. لديكِ إرث تستندين عليه بيومٍ ما.. لكن سامية لا تملك سوى ابنتها"
نظر لريم التي التمعت عيناها بالدموع قبل أن تبدأ دارين لحظتها بالبكاء.. فخرجت زوجة والده عندها التي بدا عليها التوتر.. بينما تلتفت لشقيقتها التي أسرعت نحوهما وسألت بحدة: "هل تتنصتان علينا أيها الأحمقان؟"
حاول صياغة جملة مفيدة حتى يشرح أنهما لم يقصدا التنصت..
-:"كنت أحضر دارين لنتمكن من الدراسة"
ردت بها ريم بينما تطرق.. فاقتربت زوجة والده تأخذ منها دارين بعد أن دفعته بعيداً بقسوة ثم منحت الصغيرة لشقيقتها قبل أن تنحني بجذعها تنظر لعينيها وتبتسم بهدوء بينما تقول: "عزيزتي لا تخافي"
نظرت لها ريم برعب فأكملت: "هم لن يأخذوا بيتنا نحن ابتعناه ولدينا عقود.. لن يتمكنوا من فعل أي شيء"
ثم اقتربت تقبل رأسها وتحتضنها بينما تردف: "لكن لا تخبري والدتك حتى لا تخاف دون داعي.. اتفقنا؟"
راقب مقلتيها تتخبطان قبل أن توميء بطاعة وترد: "حاضر خالتي"
بدأت تمسح على شعرها وتهمس ببضع كلمات.. فالتفت هو عائداً للمطبخ ليقوم بصب الشاي.. فعلى الأقل ساعدتها لتسترخي قليلاً..
-: "مؤمن"
التفت لأستاذته التي قالت: "تعال وخذ ريم واذهبا للدراسة"
أومأ لها وخرج.. ثم التفت ناحية ريم التي لازالت تقف مع زوجة والده ورغماً عنه خرجت الكلمات ببعض الحدة: "ريم هيا لنكمل المذاكرة"
-:"لا تصرخ عليها يا هذا!"
كان هذا الرد من زوجة والده.. بينما أسرعت ريم تلتفت له وتقول: "هو لا يقصد.. لدينا اختبار وأنا كنت أتكاسل منذ أتيت وقد عطلته بالفعل"
-:"وما المشكلة إن عطلتيه؟.."
قالتها برفق بينما تربت على رأسها ثم استقامت وهي تلتفت له وتكمل بسخرية: "كأنه سيتمكن من تحقيق شيء!.."
وبعد لحظات من النظرات المستهزئة من طرفها والباردة من طرفه ربتت على كتفها بابتسامة حانية ثم قبلت جبهتها وهي ترد: "اذهبي وأنا سأحضر لك حلى اللبن التي تحبينها اتفقنا"
أومأت لها ثم سارت نحوه واتجها معاً إلى غرفة المائدة.. ورغماً عنه سمع حديث أستاذته مع زوجة والده: "توقفي عن معاملته بتلك الطريقة نادية.. على الأقل أمامنا.. أنتِ تجرحين مشاعره وتحرجيه أمام الفتاة"
ضحكة هازئة صدرت عنها بينما ترد: "لا أهتم بمشاعر ذاك المغرور المتعالي.. ولن أسمح له بمعاملة ريم بتلك الطريقة.. إنه تماما كجده ووالده متحجر القلب.. والآن لنعد لموضوعنا"
وصلا للغرفة وجلسا جوار بعضهما وبدت ريم بعقلٍ غائب كلياً.. ففتح الكتاب أمامها وقال بحدة: "الآن ركزي معي ريم"
اقتربت من الطاولة وابتلعت لعابها قائلة: "الأحماض تتراوح بين واحد وسبعة على مقياس الحامضية.. بينما القلويات تتراوح بين ثمانية وأربعة عشر"
-:"أحسنتِ والآن لنحل بعض المعادلات.. اتفقنا؟"
قالها وألقى كل تركيزه على الدراسة بينما هي تتجاوب معه.. كان يعلم أن تركيزها معه رغبة منها بالتهرب مما سمعته.. قضيا ساعاتٍ بالمذاكرة ثم غادرت لشقتهم.. وبعدها اتجه هو فوراً لغرفته برفقة دارين.. ليجالسها حتى نامت وبدأ هو بالدراسة.. ومع سماعه صوت خطوات والده لم يحاول النهوض هذه المرة.. فقد احتاط لذلك وأغلق الباب.. توقفت الخطوات المتعثرة أمام الباب للحظات.. قبل أن يسمع ضحكته الهازئة ثم تحرك.. تنفس عندها بعمق وألقى برأسه على المكتب ثم جلس لثوانٍ يفكر بما سمعه..
-:"هل علي إخبار أمي؟"
كان هذا السؤال الذي طرحته عليه قبل صعودها.. وبالتأكيد هو رفض أن تخبرها حتى لا تتلقى توبيخاً أو تتسبب بشجار بين والدتها وخالتها.. لكنه تمنى أن تفعل.. فبين الشقيقات الثلاث كانت والدة ريم الأكثر هدوءاً وقدرة على حل الأزمات.. لكن لا يجب عليه أن يتدخل فالأمر لا يعنيه.. سواء باعوا البيت أو تركوه لن يمثل هذا فارقاً بالنسبة له..
لكن لا يمكنه منع نفسه من التفكير بالخالة سامية..
همسها بينما يدفن رأسه بذراعه مفكراً أن أستاذته على حق والدة ريم لن تتحمل خبراً كهذا.. وريم أيضاً.. التفت ينظر لصورتهما معاً الموضوعة على المكتب وابتسم.. كانا وقتها بالثامنة.. ووالد ريم هو من التقط تلك الصورة لهما أثناء جلوسهما على الشاطئ.. لقد كانت صورة تصف تناقضهما الواضح الذي يلحظه أي شخص فهو يجلس بتجهم بينما يرتدي نظارته بشكلها القبيح.. وريم تضع ذراعها حول كتفه وتبتسم بعفوية كما كانت ترتدي ملابس السباحة الطفولية التي كانت تحبها للغاية.. وما هي إلا ثوانٍ وتجمدت ابتسامته ليمتلئ رأسه بأفكاره الخاصة.. مع استرجاع ما حدث طيلة اليوم.. ثم أمسك بالإطار يقربه منه.. وقتها كان لا يزال صغيراً.. كان يخدع نفسه ويكرر يومياً أن والدته ستأتي بيومٍ ما لتنقذه وتأخذه معها لمكانٍ يعيشان به بسعادة أخيراً.. وقتها كان ما يحزنه شيئاً واحداً فقط يحاول تجاهله منذ نضج وقرر مساره الخاص.. ومع هذا الهاجس همس بألم: "ليتنا بقينا صغارًا وحسب"
*****
-:"هل تظن أنهم سيطردونا من بيتنا حقا؟"
سألته بينما يقف أمامها على درج مبني صفوف المرحلة الثانوية.. ممسكًا بكتاب الرياضيات.. مجدداً كان يحاول تجنب الحديث معها بالأمر فهو لا يمكنه تجميل الحقائق.. لكنها كانت مكتئبة بالفعل منذ الصباح ولم يستطع تركها وحدها.. لكنه لن يتمكن من الكذب عليها فتنهد بينما يرد: "إن وجدتا طريقة فلن تتهاونا عن فعلها"
اتسعت عينيها بصدمة وسقطت يدها الحاملة للشطيرة بجوارها.. بينما تطالعه منتظرة أن يتراجع.. لكنه ادعى الانشغال بحل مسألة حسابية.. قبل أن يكمل حديثه بهدوء وبرود معتاد: "كلتاهما تملكان طمعًا لا حد له.. وطموحاً لا تسمحان لأي إنسان بالوقوف أمامه.. وبمعرفتي البسيطة بهما ستحاولان بشتى الطرق الاستيلاء على المنزل"
علم أنها شعرت بالغيظ والغضب ولكنها لم تقدر على الصراخ.. فقط أطرقت وهي تكبح دموعها بينما تهمس بسؤال يحيرها: "لماذا.. لماذا تفعلان هذا؟"
-:"لأنه وعلى ما يبدو شخصًا ما عرض عليهما شيئًا لا يمكن رفضه.. صفقة رابحة تدغدغ طموحهما لذا ستسعيان بشتى الطرق أن يتم طردنا"
كان رده بارد بالنسبة لها لكن عملياً بالنسبة له فلا يوجد أي فرصة للكذب أو الإنكار بتلك الحالة.. كان يستطيع قراءة انفعالها دون التفات حتى.. كانت غاضبة منه لأنه يتقبل الأمر بشكل لا تفهمه.. بينما هي تتخبط حزنا وقهرا مما سيحدث إن صدق حديثه.. لذا بالتأكيد ستقررالصمت أولاً.. ثم ستحاول نسيان الأمر ثانياً.. لكن بالتأكيد ستلوح ببالها صورة والدتها وهي تجلس أمام الشرفة على أريكتها الخاصة تشرب القهوة وتطالع صورة والدها الراحل بحنين وابتسامة.. فقد رافقته تلك الصورة منذ سمع حديث هند وهنا لكنه استمات لتجاهلها.. وقد نجح بالكثير من الطرق التي لن تجيدها ريم.. فريم ستتخيل تبخر كل هذا ولن تقدر على تحمله لذا لن تقاوم وفي النهاية ستعود لتسأله: "لكن ماذا سيحدث لنا؟. أعني هل سيتركوننا هكذا دون مأوى؟"
كان يدرك حماقة ما ينطق به.. وقد التفت لها ليجد الخوف والقلق يرتسم على ملامحها اللطيفة.. ورغم اقتناعه أن خوفها لا مبرر له.. إلا أنه قرر التخفيف عنها ووجد نفسه يقول: "لا تحزني ريم"
رفعت عينيها له فأكمل: "إنه بيت مهترئ وقديم بكل الأحوال.. وستحصلين على مبلغ مناسب مقابل تلك الشقة لتعيشي بأمان"
-:"لا أريد!"
همستها باختناق دموع البكاء ثم أكملت: "أنا أحب بيتنا كما هو ولا أريد تغييره"
قالتها بحزن حقيقي وقد علم أنها وأخيراً بدأت التفكير بنفسها.. تتخيل خروجها من منزلها الآمن بشرفته المطلة على السماء الواسعة.. مع رائحة البحر والمطر التي تصلها لتنعش روحها.. كان هذا الوصف الذي تكرره بلا توقف.. كانت تلك الشقة تعني لها الكثير.. وكان هذا الوصف الباعث للسعادة مع تخيل ابتسامتها ونظرتها للسماء يوصل الكثير من المعاني.. وقد كان يدركها كلها.. لكن ما العمل.. بعض الأحلام لا تتحقق.. فبتفكيرها البريء الساذج سيكون لسان حالها أنه لا يمكنهما فعل هذا بها أو بخالتها.. بعد كل ما أنفقته من عمرها وصحتها لأجلهما.. كيف تكونان بهذا الجحود.. لطالما رأى أنها لا تناسب العالم اللذان يعيشان به.. فمساحتها الآمنة قريباً ستتبخر وسيكون عليها مواجهة العالم.. وتتلقى الكثير من الصدمات المؤلمة ولن يتمكن أي شخص من دفع الألم عنها.. وكان موقناً أن هذا ليس عدلاً.. وعندها وجد نفسه يقول: "سأشتري لك بيتًا آخر"
التفتت له وظهرت المفاجأة على ملامحها بينما يتحرك ليجلس بجوارها.. ناظرًا للبعيد وهو يكمل مع شبح ابتسامة نادرة تلوح على شفتيه.. كان يتخيل ما يقوله أمام عينيه.. يتخيل أنه هو من سيشرف على بناء كل قطعة منه: "لا بل سأبني لك واحدًا بعيدًا عن المدينة الصاخبة.. بأضوائها المزعجة التي تمنع عنك رؤية النجوم.. يطل على السماء الواسعة كما تحبين.. والبحر بهوائه الطلق ورائحته المنعشة تصلان لتداعبان أنفك الصغير"
لم تتمكن سوى من الابتسام.. وقد رأى وجنتيها تتدرجان بحمرة دون سبب بينما تنظر له.. ثم التفت ينظر للبعيد.. ينظر كالعادة لمكانٍ لن تراه ريم مهما حاولت.. كان يعلم أنها ستلتفت لموضع نظره ولن ترى سوى فناء المدرسة.. حيث يجلس الطلاب بوقت الاستراحة مع الصخب المعتاد.. لم يكن ذاك ما يتطلع له بل كان ينظر لما هو أبعد.. ومع مرور الثواني عاود الإحباط والحزن ملء قلبها بينما تقول: "لكن هذا بيتنا.. به ذكرياتنا وطفولتنا.. كل ما مررنا به معاً كان بين جدرانه..."
-:"هو ليس بيتنا ريم.. ليس بيتي على الأقل"
التفتت له بصدمة وقد علم أنها لا تصدق ما سمعته.. لكنه كان يعني جملته فعلا.. كانت المرة الأولى التي يصرح لها بحقيقة شعوره تجاه ذاك المكان.. هو لم يعتبر ذاك البيت أبدًا بيته.. لقد كان دومًا يمثل له شيئا يكرهه.. شيئًا لا يحبه ويتمنى التخلص منه وهو ما سيحدث.. ولكن ريم لا ذنب لها بهذا.. إن كان هناك شيء يسعده بذاك البيت فستكون تلك الساعات التي يقضيها معها هي ووالدتها.. ابتسامتهما الحانية.. صخب ريم ولطافة والدتها.. طعامهما اللذيذ والحلوى التي تعدها ريم له خصيصاً بكل ليلة يقضياها بمتابعة التلفاز.. تلك الأشياء البسيطة التيلن ينساها أبداً.. سيكون ممتناً لهما للأبد لأنه لولا وجودهما ما كان ليمتلك ذكرياتٍ جميلة تهون عليه..
لذا ابتسم بلطف والتفت لها يربت على رأسها وهو يكمل: "كما أن الذكريات تبقى بعقولنا.. لا علاقة للأماكن بها.. تجاوزي الأمر وتوقفي عن النظر لكل شيءٍ حولك بطفولية"
كان يعلم أن جملته الأخيرة ستجعلها تستشيط غضباً لكن لم يتمكن من منع نفسه بينما هي نهضت تهتف به: "لِم تتقبل الأمر بهذه البساطة.. لِم لا تشعر بحجم المصيبة؟!"
بقي ينظر لها لثوانٍ كأنه يتأملها وقد كانت نظرته مليئة بالأسف وقد تقصد أن يصلها ذلك بوضوح.. ولكن على ما يبدو هي كانت مستغربة لذا تنهد قبل أن يغلق الكتاب وينهض قائلاً بعملية: "لأني لا أرى أي مصيبة.. بكل الأحوال أنت ستغادرين ذاك البيت"
انعقد حاجبيها فأكمل بعملية: "أنتِ فتاة.. لا تزالين صغيرة لكن بعد بضعة أعوام ستتزوجين وتضطرين لمغادرة ذاك البيت.. وعندها لن يكون بيتك سيكون مجرد مكان تزوريه لأجل والدتك.. لا لأجل الذكريات"
اقشعر جسدها فعلم أنها لازالت مصدومة من حديثه بينما يردف: "قد أبدو قاسيًا بنظرك.. لكن أنا لا أرى عيبًا بالطموح.. في نظري الأمر كله مجرد صفقة.. إن كان أصحاب البيت جادين باسترداد المنزل وإعادة بيعه فهذا يعني أنكِ أنتِ ووالدتك وخالتك ووالدي لستم صفقة رابحة بالنسبة لأصحاب البيت.. لذا فقد بحثوا عن فرصة أخرى لاستغلال أملاكهم ووجدوها.. بمعنى أدق وجدوا صفقة رابحة لذا لا داعي لمواجهة ما لا يمكن إيقافه.. لا يعقل أن منزلا بهذا الحجم ستقبل هنا وهند أن يُباع لكم بتلك المبالغ الزهيدة ودون علمهن.."
-:"وهل هذا خطأنا؟"
سألته بحدة فأجاب ببساطة: "ليس خطأ أحد سوى والدهما الراحل بنظري.. فقد كان عليه أن يكون صريحاً معهن من البداية بأمور حساسة كتلك.."
رفعت يديها بتلقائية تضعها على صدرها وهي تسأل بغضب: "ماذا عنا؟.. ذكرياتنا وكل ما عشناه.. ألا نعني لهم أي شيء؟"
-: "لا!"
كان رده قاطعاً ولم يحاول أن يفكر قليلا حتى قبل أن يكمل: "أنتِ وذكرياتك لا تعنين شيئا لهم"
ثم اقترب منها قليلا وأردف: "أنتِ وذكرياتك لن تمثلوا صفقة رابحة"
أطرقت عندها ووجدت نفسها تتساءل بذهول: "وهل تُقايَض الأحلام والذكريات بمالٍ مؤمن؟!"
وعندها أتى الرد البارد ليجبرها على الصمت وابتلاع الألم بينما تنتظر مصيرها..
-:"أجل.. إن كان الثمن ملائما فذكرياتك بلا قيمة بالنسبة للعالم من حولك"
جلست بعدها بقربه وهو يعلم أنها بالتأكيد كرهته لكنه بقي يكرر: (لن أُجَمِل لها الواقع)
-:"الآن توقفي عن التلكؤ وتناولي طعامك فعلينا أن نذاكر"
قالها لإغلاق الموضوع وتبديله بينما سمعا خطوات على الدرج تقترب منهما.. قبل أن يجدا الأحمق يقف أمامهما ويقول: "كيف الحال؟"
-:"ماذا تريد أكمل؟"
سأله بحدة وهو يقبض يده كابحًا نفسه بصعوبة عن النهوض ولكمه.. بينما ذاك الأحمق المتعجرف يبتسم بطريقته الغبية.. وبطرف عينه تبين ريم التي تنظر للأرض بخجل.. رفع الأحمق كفيه كالعادة بمهادنة بعد سؤال مؤمن الحاد قبل أن يرد: "لا داعي للغضب.. أنا هنا لأدعوكما على حفل عيد مولدي"
ردت البلهاء بهدوء: "كل عام وأنت بخير أكمل"
اتسعت ابتسامته قليلا وهو يرد: "شكراً ريم.. سأنتظركما الليلة عند السادسة بنادي المهندسين.."
وعندها تمنى النطق بلفظٍ بذيء لكنه ألجم نفسه.. بينما التفت الأحمق مغادرًا وكالعادة رفع كفه ليقول: "أراكما لاحقا"
ورغم كل ما حدث وكونه متأكد بأن والدتها أنبتها لتمنعها من الحديث معه.. رفعت البلهاء يدها تودعه دون أن يراها حتى.. وما أن اختفى قال بشكلٍ قاطع: "لن نذهب"
-:"أنا سأذهب"
التفت لها بحدة وقبل أن يتحدث نهضت هي تكمل: "سأذهب مع صديقاتي لقد أخبرنني في الصباح وقد أصررن أن أذهب معهن ولا يمكنني الرفض"
ثم غادرت تاركة إياه وقد علم أنها بالتأكيد رفضت.. لكن بعد حديثه معها بتلك الطريقة التي تكرهها قررت أن تذهب لتضايقه وحسب.. فهي في الغالب ستجلس وحيدة طيلة الحفلة ولن تحاول الاقتراب منه لكنها ستذهب لتعانده..
تأفف بضيق قبل أن يهمس: "يا لك من بلهاء.. ماذا أفعل بك؟"
****
ما أن عاد للبيت سمع صوتا يمقته يقول: "تعال يا ولد"
تنهد بملل فهذا بالضبط ما كان ينقصه.. فبعد أن تشاجر هو وريم تجاهلته للمتبقي من اليوم وقررت السير مع صديقاتها للبيت وهو لم يحاول منعها وعاد وحيداً للبيت.. تحرك نحو الشرفة ليجده جالسًا بعنجهيته المعتادة مستندا على عصاه بينما زوجة والده تقف بجواره بخضوع ورهبة.. كان لا يراها بتلك الحالة إلا أمامه.. كانت نادية دائماً جريئة ولا تهاب أحداً.. لكن ذاك الرجل يرعب كل من حوله فقط لأنه يملك الكثير من المال..
-:"مؤمن تعال وسلم على جدك"
قالتها بصوت مرتعش فتحرك نحوه وبقيا ينظران لبعضهما ببرود قبل أن يقول: "مرحباً"
مد الرجل السبعيني يده نحوه ليقبلها فنظر لها باستهزاء ثم نظر لعينيه.. وعندها أتى صوت زوجة والده المضطرب والمليء بالغضب بينما تقول: "مؤمن قبل يد جدك!"
-:"لم قد أفعل؟"
لم يلتفت لها بينما يقولها فما كان ليبعد ناظريه عنه فغروره وعنجهيته سيجعلانه يخال به الضعف.. لكنه شعر بالغضب وهو يراه يبتسم باستفزاز قائلاً: "تعبيرا عن الامتنان"
ابتسم بذات الطريقة وسأله: "ولم قد أكون ممتنًا لك؟"
-:"مؤمن.."
-:"اخرسي يا امرأة"
هتف بها جده قبل أن يلتفت لها ويكمل بأمر قاطع: "لا تتدخلي بحديثنا.. لا تنسي نفسك أيتها الحمقاء"
شعر بالأسف عليها لثانية لا أكثر وهو يتخيل بناتها يستمعن لتوبيخها من قبل ذلك العجوز المتعجرف لكن سرعان ما تبخر شعوره مع التفاته نحوه.. مط بعدها شفتيه ورد ببساطة: "لولا إنجابي لوالدك ما كنت لتقف أمامي بتبجح يا فتى"
ابقى على ابتسامته وهو يقترب منه بينما يقول: "الإنجاب يا جدي هو نعمة إلهية.. الله شاء أن تنجب ابنك ثم ينجبني ابنك.. وحتى إن كان كلامك صحيحًا.. فأنا لا أذكر أني طلبت منك إنجابه.. ولم أطلب منه إنجابي لذا فلا شيء أدين به لكما.."
-:"أنت فظ ومتعجرف"
قالها بهدوء قبل أن يمسك رقبته على حين فجأة.. ويسحبه ليقترب منه ونظر له بابتسامة يكرهها.. ابتسامة انتصار مستفزة بينما يكمل: "تمامًا مثله ومثلي.. لكنك تمتلك لسانًا فصيحًا تماما كوالدتك"
ثم خفف قبضته بينما يلتفت لزوجة والده ويقول بحدة: "على الأقل اكتسب أحد أحفادي شيئًا يذكر.. على عكس عائلة الفشلة التي بليت بها"
ابتلعت لعابها وأطرقت.. بينما التفت هو معاودًا النظر له قائلا: "لا تظن أني لا أعلم ما تنتويه"
ابتسم بسخرية ورد: "وهل ستحاول منعي؟"
ضحك بشدة قبل أن يتراجع ناظرًا له بذات الطريقة المستفزة قبل أن يقول: "ولم قد أفعل يا فتى؟"
ثم نهض بعدها قائلا: "عليكم أن تأتوا لحضور سنوية جدتك بعد غد"
-: "هل ستغادر بهذه السرعة عمي؟.. أنت لم ترى الفتيات حتى"
التفت لها بحدة وقال بصلف: "ولم قد أراهن.. لقد شبعت من رؤية البنات.. لا أحد منكم يمكنه إنجاب فتى واحد.. مجموعة فشلة!"
ثم تحرك ليغادر بينما يكمل: "أخبري الفاشل العربيد ألا يتأخر وإلا لن أسمح له بدخول البيت"
-:"سينهي عمله ويأتي بعدنا بالتأكيد"
سمعها تقولها بينما تتبعه.. لكن فجأة التفت جده وضحك بشدة بينما يقول: "يا لكِ من امرأة غبية.. زوجك قد فصل من عمله منذ شهور"
نظر له وعلى ما يبدو كان ينتظر رؤية ردة فعلٍ لكنه لم يجد فابتسم ليساهم بتفاقم غضبه مع هذا لاذ بالصمت.. فهو لا ينوي الجدال معه أكثر.. التفت بعدها ليغادر بينما يتمتم: "أنا محاط بمجموعة حمقى!"
ثم غادر صافقًا الباب بعنف.. ومع مغادرته التفتت له زوجة والده.. وعلم عندها أنها ستفرغ شحنات غضبها عليه.. لذا التفت وغادر نحو غرفته بلا التفات.. غمس نفسه بالمذاكرة بساعات ومع دقات الساعة الخامسة وجد نفسه ينهض بتلقائية.. سحب منشفة من خزانته وأخرج بنطالاً بلونٍ أسود مع سترة شتوية بلونٍ رمادي داكن واتجه بعدها للحمام.. وبعد الاستحمام غسل أسنانه وارتدى ثيابه ثم وضع قليلاً من العطر ونظر للزجاجة التي على وشك الانتهاء وهو يهمس: "لقد اشتريتها منذ ستة أشهر.."
فكر قليلاً قبل أن يكمل: "لن أشتري واحدة إلا بعد شهر من الآن"
قام بعدها بتسريح شعره ثم نظر لنفسه لثوانٍ ثم تنهد قائلاً: "أنا وغد بالفعل.."
****
سمع خطواتها تهبط الدرج بينما يقف متكئاً على الحائط.. وما أن وصلت لأعلى الدرج التفت لها.. كانت ترتدي ثوباً بلون أزرق داكن طويل.. مع حذاء خفيف بالإضافة لحزام يحيط بخصرها من اللون الأسود مع حقيبة ورباط شعر بذات اللون.. ويبدو أنها تضع شيئاً ما على شفتيها.. مرطب أو ما شابه.. كانت بسيطة ولطيفة تشبه الدمى.. لكن عيناها كانتا حكاية أخرى.. ريم لا تجيد إخفاء غضبها.. يمكنك ببساطة رؤية تلك النظرة بعينيها التي تهتف: "انصرف من أمامي قبل أن أقتلك"
لكن ما كان لينصرف.. الآن على الأقل..
ابتسم لها بينما تهبط الدرج وقد قررت أن تحاول تجاهله.. لذا قال باستفزاز: "كيف وافقت خالتي على نزولك؟"
-:"أمي تثق بي وتعلم أني لن أفعل شيئا يغضبها"
قالتها بينما تلتفت له بحدة.. ثم أكملت بغضب بينما تقترب منه: "ثم ماذا تعني بسؤالك هذا؟"
ابتسم لها ثم سبقها بالحركة فسألته: "إلى أين تخال نفسك ذاهبًا؟"
-:"أنا أيضا تلقيت دعوة ألا تذكرين؟"
قالها بينما يسير أمامها فلم تجد بدًا من اتباعه.. تحركا نحو الشارع الرئيسي وما أن وقفا أمام الشاطئ التفت لها.. وجدها تنظر للبحر بسعادة قبل أن تلتفت له.. علم أنها تريد قول شيء ما لكنها تراجعت.. وهي تذكر نفسها أنها غاضبة منه.. ثم التفتت مجددًا تنظر للبحر وهي تقول: "لنستقل سيارة أجرة حتى لا نتأخر"
-:"لم لا نستقل شيئا أكثر متعة؟"
قالها بينما ينظر للحافلة الحمراء ذات الطابقين التي أتت حديثًا لمدينتهم.. وهي كانت تتمنى ركوبها لكنه كان يرفض بسبب الزحام.
-:"وما هو هذا؟"
قالتها بينما تلتفت وتوقفت ما أن رأت الحافلة.. ثم نظرت له تكمل: "لا أملك المال الكافي"
-:"سأدفع أنا هذه المرة"
ابتلعت لعابها فعلم أنها تحاول الرفض: "أنت تكره الزحام"
التفت ينظر للحافلة ثم قال: "لا تبدو لي مزدحمة الآن"
كانت ستعترض مجددًا لذا سحبها قائلا: "هيا الآن.. أنتِ تتوقين لهذا"
ثم صعدا للطابق الثاني وسمح لها بالجلوس على أحد المقاعد المطلة على البحر.. كانت سعيدة بينما تنظر للبحر والسماء التي بدأت تظلم.. وهو خلفها يتطلع لها بجلستها الطفولية وشعرها الذي لم تنسى عقده برباطٍ قاسي لكنه كان يتطاير وتصطدم خصلاتها بوجهه لتملأ صدره برائحة الورود التي تحبها.. ريم كانت سعيدة بالفعل بتلك اللحظة.. وهو كان أسعد منها فعلى الأقل أنساها صلفه وكلماته التي ألقاها في الصباح..
التفتت له حينها وقالت: "أخبرتك سيكون ممتعاً"
أومأ لها ورد: "يمكننا ركوبه لنهاية الرحلة ثم نستقل أي وسيلة مواصلات للنادي.."
ما كانت لترفض أبداً فهو واثق أنها نسيت تماماً الحفل.. أخذا الرحلة كاملة ثم عادا للهبوط وركوب سيارة أجرة للذهاب إلى نادي المهندسين المطل على البحر حيث يقيم الأحمق عيد ميلاده.
التفت لها ما أن هبطا أمام النادي.. فنظرت له بسعادة ثم مطت شفتيها وقالت: "حسنا سندخل ونقول كل عام وأنت بخير ونترك له الهدية.. ثم نغادر هل من شيء آخر؟"
-:"تمنحينه أنتِ.. أنا لم أحضر لذاك الوغد أي شيء"
تنهدت ثم سبقته ليدخلا.. وكما توقع كان الأحمق يستعرض بذخ عائلته.. بكل ركن من الصالة المطلة على البحر التي يقيم بها عيد مولده.. كان يجلس على أحد المقاعد البيضاء المحيطة بالمنصة التي يقفون عليها التفت لريم التي كانت تراقب المكان من حولها بانبهار.. بينما صديقتها السخيفة تجلس بجواره بثوبها الباهظ المتكلف وتبرجها.. كانت تلائم تمامًا للحفلة التي يحضرونها.. كلاهما سخيف!
-:"أتمنى الحصول على حفل ميلاد كهذا"
بالطبع تتمنين يا مصاصة الدماء.. قالها بسره بينما يلتفت لريم التي ابتسمت لهما معا وقالت: "سأحب فقط أن أكون بين أشخاص يحبوني ويتمنون لي حياة طيبة"
اقتربت سوزان من الطاولة وهي ترد: "وما الفارق بين أمنيتك وأمنيتي؟"
التفتت ريم تنظر للمنصة.. حيث يقف أكمل بين معجباته ومجموعته الفاسدة وقالت بأسى: "أنا أشعر بالحزن لأجله.. فمعظم من حوله لا يكنون له سوى الكره والحسد"
التفتت تنظر لسوزان وأكملت: "وهذا ما لا أتمناه"
-:"أنتِ بلهاء وحسب"
قالتها ثم التفتت تنظر لمؤمن وأكملت: "وأنت مؤمن ألا تتمنى حفلة كتلك؟"
-:"الحمقى فقط من ينفقون الكثير من أموالهم على حفلة كتلك"
لم تبدو متضايقة من رده.. وهو لم يكن يعنيه اهتمامها من عدمه.
-:"لماذا؟"
سألت ريم فالتفت لها بينما تكمل: "أنا أعني لم لا يمكننا إقامة حفلة بسيطة لأعياد ميلادنا.. لنحتفل مع أصدقائنا.. ما الحماقة بهذا؟"
-:"أن تنفقي المال على البشر الذين لن يتركوا شيئا بك إلا وانتقدوه هو الخطأ ريم"
قالها ثم تلفت حوله يبتسم بسخرية.. الكثير من الطعام سيتم القائه بالمهملات بعد هذه الحفل.. بينما الآلاف يموتون يوميًا بسبب نقص الغذاء..
-:"إنه تفكير مميز"
لم يلتفت للسخيفة الجالسة بجواره.. بل التفت لريم قائلا: "لنغادر الآن"
-: "ستفوتون فقرة الرقص"
-:"أنا لا أرقص!"
قالها بحدة فردت ريم سريعا: "أنا أيضا لا أرقص.. كما أن علينا الرحيل وعدت أمي ألا أتأخر"
أخرجت من حقيبتها الصغيرة علبة ونهضت تقول: "لنعطيه الهدية ونغادر"
-:"أعطيه أنتِ.."
قالها بحنق فذاك الوغد لا يستحق أي هدية.. وبالتأكيد ستسخر مجموعته السخيفة من بساطة هديتها.. ومع ذاك الهاجس قرر منعها لكن الأحمق وصل حضر بنفسه..
*****
-:"كل عام وأنت بخير أكمل.."
قالتها برقة أذابت قلبه.. تلك الدمية اللطيفة الساحرة تجهده.. تؤلمه.. وهو لن يستسلم سيبقى يحاول استمالتها بكل الوسائل.. لقد ظن أنه سيغضب منها ويتوعدها بالانتقام.. لكن تصرفها أعجبه.. طريقة حديثها.. لباقتها.. جنونها ومزاحها مع صديقاتها.. كل شيء بها يبهره..
طالعها بابتسامة طفيفة بينما تقدم علبة صغيرة مغلفة بشريطٍ أزرق وهي تكمل: "تستحق الأغلى.. أتمنى أن تعجبك.."
أخذها منها ورد: "يكفي أنكِ تذكرتني ريم"
-:"يكفي أنكِ تتحدثين بصدق.."
ها هو الشيطان يأتي.. التفت ينظر لذو العيون الأربعة.. ذاك المتعجرف العنجهي الذي يبادله الكره أضعاف.. كان يبتسم بطريقته المتلبدة المستفزة بينما يكمل: "أكمل بالتأكيد يشتاق لسماع الكلام الصادق"
ابتسم له بسخافة وهو يرد: "أنا سعيد أني أراك لأول مرة دون كتابٍ بيدك يا رجل"
-:"لا تنتظر رؤيته كثيراً.. يا رجل"
قالها بينما ينهض ثم التفت لريم يكمل: "هيا لنغادر"
اتسعت عيناه فهذا سيفشل كل ما خطط له قبل أن يقول: "هل ستغادرون الآن؟.."
التفتت له ريم فأكمل: "احضروا تقطيع كعكة عيد الميلاد على الأقل.."
-:"لسنا جائعين"
لم يلتفت للمتعجرف فقط نظر لدميته اللطيفة التي قالت: "اعذرنا أكمل.. وعدت والدتي ألا أتأخر.."
فتح فمه يحاول ثنيهم لكنها فجأة سُحِبَت للخلف من قبل الوغد الذي نظر له ببرود قائلاً: "تناول لنا نصيبنا.. أتمنى لك عمراً مديداً بحفلات لا تنتهي.."
ثم سحبها ليغادرا ولم ينل منها إلا ابتسامة لطيفة وتلويحة بيدها قبل أن تلتفت للمتعجرف.. شعر بالغضب عندها وتمنى تمزيق شيءٍ ما.. ووجه ذاك المتعجرف كان أول اختيار..
-:"انتبه.."
التفت لسوزان التي ابتسمت وهي تشير للعلبة الصغيرة الذي ضغط عليها دون أن يشعر وهو يكمل: "ستحزن أميرتك إن أفسدت هديتها"
ضحك بسخرية والتفت ليغادر لكنه توقف ما أن سمعها تقول: "كانت تدخر من مصروفها طيلة الشهرين الماضيين لتشترها لك.."
التفت ينظر لها ليجدها تبتسم وتنظر له بطريقة فهمها جيداً فابتسم هو الآخر وقال: "لنتحدث بعد الحفل!.."
ثم التفت ليغادر وهو ينظر للعلبة الصغيرة وقد قرر ألا يفتحها الآن..
*****
وصلا للبيت وبعد أن ودعته راقبها تصعد الدرج بسعادة.. كانت تتحرك كفراشة بألوانٍ نادرة وهو يشعر براحة لا يتفهمها.. مع هذا تجاهل الأمر وتحرك نحو شقته.. لكن ما أن دخل تبخرت كل الراحة واحتله الحنق كما ضاق صدره مع سماع هتاف صاحب الصوت المقيت..
-:"أين كنت أيها المتعجرف؟!"
سأله والده بحدة ما أن دخل للبيت.. وما أن رأى زوجة والده تقف خلفه فهم أنها أخبرته بما حدث صباحًا.. فالتفت له ورد: "كنت بالخارج كما رأيتني أدخل"
صفعه بعنف فلم يلتفت ونظر له ببرود مكملاً: "ماذا تريد؟"
أمسكه من عنقه ورفعه عن الأرض وهو يقول: "أريد أن أفهم مما جُبلت؟!"
كان يخنقه حرفيًا كما كانت أصابعه تضغط على عنقه بقسوة.. لكنه رد بهدوء: "من الكربون والماء والدهون.. وبعض العناصر الأخرى التي لم تسمع عنها بحياتك"
-:"يا لك من متعجرف"
قالها وهو يصفعه بذراعه الحرة قبل أن يكمل: "تمامًا كالمتعجرفة المتعالية التي أنجبتك أيها الوغد!"
ثم ألقاه بعنف ليصطدم بخزانة الأطباق الموجودة بالصالون.
-:"زكريا حاذر!"
التفت لها فقالت بحدة: "هل تعلم قيمة ما سينكسر بتلك الخزانة؟!"
-:"اخرسي أيتها الغبية.. لولا عدم قدرتك على إنجاب صبي ما كنا بتلك الحالة!"
-:"وعدم قدرتي على إنجاب صبي هو ما جعلك تخسر عملك؟!"
-:"اخرسي أيتها ال..."
-:"لم تكن متعجرفة"
لم يكن يلتفت للحديث الدائر.. كان لا يفكر إلا بجملته.. فقال هذا بينما ينهض عن الأرض كاتماً تأوهه وهو ينظر له مكملا: "أمي.. لم تكن متعجرفة"
اقترب منه بعيون تنضح غضبا ليقول: "كانت متعجرفة وبلهاء!"
-:"بلاهتها الوحيدة كانت باختيارك"
قالها ولم يكد يستقيم إلا وكان يدفعه مجددًا على الأرض.. ليكيل له اللكمات بلا حساب.. في النهاية لم يتوقف إلا مع صراخ علياء: "أبي هذا يكفي!"
تحركت نحوه لكنه دفعها للخلف
-:"لا ترفع يدك على ابنتي زكريا!"
التفت ينظر لنادية التي قالتها بحزم بينما تنظر لعيني والده.. متحدية ذاك الثور الهائج أن يلمس ابنتها
-:"أبي رجاءًا!"
نظر لعلياء التي أكملت: "لقد خرج مع ريم لحضور عيد ميلاد أحد أصدقائهم.. اتركه الآن لا ذنب له بخلافاتكم!"
-:"يبحث عن كيس ملاكمة لتفريغ غضبه بعد أن تمرغت كرامته من والده مجدداً"
همسها بينما يحاول النهوض عن الأرض: "ولن يجد أنسب مني.. فأمي ليست هنا لتدافع عني"
سحبه عن الأرض لينظر لعينيه بينما يقول: "عدم وجودها هنا كان اختيارها"
-:"بل كان تغفير ذنبها ورحمة بنفسها"
-:"على الأقل كانت لتكون هنا تدافع عنك"
كان يعلم أنه يحاول إغضابه لكن لم يكن لينقاد خلفه.. هو صاحب الحق.. هو الأقوى: "ما كنت لتلمسني بحياتها حتى وهي بعيدة.."
اشتعلت عيناه لكنه لم يتجرأ على رفع يده فعلم أنه استحضر صورتها لذا اقترب منه يكمل: "تلك المرأة هي الشخص الوحيد الذي أرعبك حتى رحمك الله من ذلك الرعب"
ابتلع لعابه بحدة ثم قذفه بعيدًا نحو الباب.. وقبل أن يدرك كان يتحرك نحوه ليفتحه ثم دفعه خارجًا وهو يقول: "أرني كيف ستنقذك المتعجرفة الآن!"
ثم أغلق الباب بعدها تاركًا إياه خارجًا.. سمع صوت علياء تتوسله أن يسمح له بالدخول لكنه صرخ بها وبدأ شجاراً مع والدتها.. بقي على الأرض لدقائق يحاول تمالك نفسه.. أضلاعه كانت تؤلمه ووجهه يغزه بألم.. لكن بعد فترة نهض وتحرك ثم جلس بصعوبة على الدرج بينما يتأوه.. بقي لفترة لا يعلمها يستمع للا شيء.. كانت أذنه تؤلمه تزامنًا مع عودة الصداع بشكل فظيع.. لكن أياً من هذا لم يضايقه.. فقط خلع النظارة التي تكسرت عدساتها وهو يهمس: "كيف سأذاكر الآن؟"
-:"أنت بالفعل أحمق"
ها قد أتت معذبته..
لم يلتفت لها بينما تجلس بجواره على الدرج وتكمل: "لا يمكنك أن تصمت وحسب"
-:"لن تصمتي إن أخطأ شخص بحق والدتك"
ثم التفت لها وأكمل: "عودي لشقتك"
-:"لن أفعل بدونك"
كان يكره تلك النظرة.. ويحبها بذات الوقت.. فذاك الإصرار بعينيها كان يمنحه أملا أنها ستفيق وتتغير ذات يوم.
-:"يمكننا البقاء وانتظار والدتي لتأتي وتسحبك من أذنك ما رأيك؟"
ومع تهديدها لم يملك سوى الصعود معها لبيتها.. وبعد فترة قصيرة كان جالساً على الأريكة بصالون بيتهم بينما هي تجلس على مقعد أمامه ببيجامتها المنزلية.. وضعت الثلج على عينيه بعنف وهي تهمس: "لا يمكنه الصمت أمي!"
تراجع يستند على ظهر الأريكة يتأوه بينما يسمع صوت خالته تقول: "انظروا من تتكلم"
شعر أنها ستحطم أسنانها من فرط الضغط عليها قبل أن تنظر له بلوم.. فرفع نظارته للأعلى وقال: "لقد تحطمت نظارتي عليك أن تشعري بالشفقة"
-:"أشفق على وجهك المشوه أولا أيها الأبله!"
قالتها بحدة فشعر أن الكلمات كالسهام انغرست بوجهه لتؤلمه أكثر مع هذا فكر قليلاً قبل أن يرد: "أهتم بنظارتي أكثر من وجهي حقيقة"
فتحت فمها لتصرخ عليه.. لكنه أسرع بالاستقامة قليلاً ليكمل: "على النظارة أنا وأنتِ نعتمد.. فكيف سأذاكر لك من الآن؟"
-: "انهضي يا فتاة"
نهضت بالفعل وهي تتمتم بغيظ: "سأنهض فقد مللت عناده.. أنا أستمع له.. لكن هو لا يلقي بالا لحديثي!"
قالتها وصفعت باب غرفتها بعنف.. فالتفت لوالدتها يسألها: "من كان عصبياً بالعائلة لتصبح هكذا؟"
-:"أنا"
قالتها ووضعت ثلجًا على ذراعه العاري.. ثم بدأت بتطهير جرح قرب فمه وهو يهمس: "يصعب تصديق هذا"
سمعها تضحك بخفة بينما يتمدد على الأريكة ناظرًا للسقف.. كانت لمساته حانية على جراحه ودون أن تدفعه وجد نفسه يقول: "لم أكن لأصمت على إهانته لأمي"
-:"لن أطلب منك هذا"
التفت لها فأكملت دون النظر له: "لن تكون ابنها إن فعلت"
*****
بعدها بساعتين كان مستلقيًا على الأريكة بغرفة الجلوس البعيدة عن صالة الاستقبال بعض الشيء.. لكنه كان يستمع للحديث الدائر بالخارج بوضوح..
-:"لقد أحضرت له ثيابا للنوم"
كان هذا صوت نادية الذي حل بعده الصمت لثوانٍ قبل أن تكمل: "لا تنظري لي بلوم أختي"
:"هي لا تفعل"
كان هذا رد أستاذته: "أنت تشعرين به.. ويتهيأ لك أن الجميع ينظر لك به"
-:"ليس صحيحاً شكرية.. أنا لا أشعر به.. هو ليس ابني وليحل مشاكله مع والده بعيدًا عني أنا وبناتي"
-:"هااااي"
التفت ناحية الباب وتذكر أن غرفتها قريبة من هنا كان وجهه تغشاه الظلال لكن تلك الرجفة بصوتها ما كان ليغفلها.. لقد كانت تبكي.. أغمض عيناه لثانية بينما يسمعها تقول: "سأترك الغطاء هنا"
ثم التفتت لتغادر مغلقة الباب: "تصبح على خير"
بعدها كان هناك نقاش حاد قد دار لفترة بين الشقيقات الثلاث.. وخلال كل هذا كان يتذكر حديثه مع نفسه بالليلة الماضية.. ذلك الشيء الوحيد الذي سيحزن عليه..
فراق ريم سيحزنه.. بل سيقهره ولن يتركه كما كان عليه.. في النهاية لم يستطع البقاء مستيقظًا ونام بينما يهمس: "وأنتِ من أهل الخير ريم"
******
-:"هدية لطيفة تشبه صاحبتها.."
همسها بينما يمسك الميدالية اللطيفة التي تحمل أول حرف من اسمه برسمة مميزة.. تنهد بعمق بينما يصلها بسلسلة مفاتيحه وهو يتذكر حديثه مع سوزان.. تلك الفتاة هي مفتاحه ليصل لفتاته وعليه استغلال ذلك المفتاح بعناية.. صحيح أن طلبها لم يكن هيناً لكن لا شيء يصعب عليه..
-:"كل عامٍ وأنت بخير أكمل"
التفت لوالدته التي اقتربت لتجلس بجواره بابتسامتها الحانية فاقترب منها ليرد: "وأنتِ بخير أمي"
ربتت على وجنته وهي تقول: "هل أعجبت الحفلة أصدقائك.. ما رأيك بفكرة إدخال الكعكة من البحر.. إنها فكرة جديدة ابتكرتها لأجلك"
-:"لقد انبهروا بها.. وهو الطبيعي.."
قالها ثم غمز لها بينما يكمل: "كل ما تفعلينه مبهر يا شاهي"
ضحكت بخفة وردت: "أنت بياع كلمات كوالدك.."
-:"هو تاجر وأنا أنوي السير على خطاه"
ابتسمت بزهو قبل أن تحيط وجنتاه وتطبع قبلة على جبهته ثم قالت: "أنا حقاً فخورة بك"
كادت أن تنهض لكن وقعت عيناها على الميدالية فتناولتها تقلبها بين يديها وهي تقول: "يا لها من هدية جميلة"
التفتت له وغمزت تكمل: "معجبة؟!"
تنهد ونظر للميدالية ليرد: "بل دمية صعبة المراس.."
*******
نظرت هنا لهند الممسكة بهاتفها وقالت بتوبيخ: "هند هلا أعرتنا بعض الاهتمام"
التفتت لها وردت بملل: "ولم قد أفعل؟.."
تلفتت للمكتب من حولها قبل أن تنحني للأمام وهي تكمل: "ذلك الوغد جعلنا ننتظره لثلاث ساعات وعندما حان موعد دخولنا أخيراً لم نجده.."
-:"ستعلمين أن الانتظار لم يكن دون فائدة هند.."
قالها حاتم مرسول زوج شقيقتها مجبراً إياها على الرد بصلف: "هذا ما تقوله منذ ثلاث ساعات"
عادت هند تنظر للهاتف متجاهلة الثنائي اللزج.. كانت تلك هي الكلمة الملائمة لهما.. فكلاهما مملان ولا يحملان أي حس فكاهة أو ذكاء مع ذلك لا يتوقفان عن ادعاء العكس.. كانت اقدر كره خالتها شكرية لارتباطهما لكن هي كانت تكره تلك العلاقة لأسباب مغايرة..
سمعت صوت بابٍ يفتح فهمست بنفسها: "ها قد أتى من سأفرغ به شحنات غضبي,, بالتأكيد هو رجل عجوز أصلع بدين و..."
التفتت تنظر للدالف لتتجمد بمكانها.. لقد كان العكس من كل ما ذكرته.. شاب طويل بنهاية العشرينات على الأكثر.. بنيته مثالية.. يرتدي بذلة باهظة ويضع عطراً ثقيلاُ ملأت رائحته المكان.. ابتسم ببرود والتمعت عيناه العسليتان المماثلتان للون شعره بشكلٍ جعل حلقها يجف قبل أن يتحرك ويجلس خلف المكتب مريحاً ظهره ثم تنهد وقال بصوت تملؤه الشقاوة: "الآن أخبرني مجدداً قصة ذلك البيت!.."
********
مساء الخير ورمضانكم مبارك 😍🤍
أتمنى أي حد يقرأ الفصل ويعجبه يصوت للرواية
شكرًا لمتابعتكم 🌹

رسالة من فتاة مجنونة حيث تعيش القصص. اكتشف الآن