الحياةُ في السجن

27 5 0
                                    

بعد أنِ انتهيا من تحاورهما عن ماضي الفتى، أبلغه كاندل أن المتنمرين الذين اختطفوه سابقاً معه في زنزانته، وطلبَ منه أن يأخذوه لواحدةٍ أخرى، لم يأبه كاندل للزنزانة ذي الرائحة العفنة، ولا لجدرانها القاتمة التي تفوح منها روائح البولِ والدم، ولا لهوائها الثقيل الذي لم يعتد عليه حتى الآن، بقدر ما اهتم لأمر تلك العصابة، وافق الطبيب وتكلم مع الحرس، فاقترحوا وضعه في الحبس الانفرادي، تلك الزنزانة الانفرادية لا تقلُّ سوءاً عن زنزانته تلك، ولكنَّ نفسيته كانت مرتاحةً هنا.

أما عن الطعامِ في السجن فأيضاً لم يكن مميزاً، ربعُ رغيفٍ من الخبز بدأت تظهر عليه علاماتُ العفن، طبقٌ من الأرز البارد، وكأساً من الماء، لم يكن شيئاً مميزاً لأكله، وبالنسبة لكاندل دوماً ما قال في نفسه أنَّهُ لو يأكلُ التراب فلن يشكلَ فرقاً عن هكذا طعام، لكنَّه نظر للجانب المشرق، جيدٌ أنَّهم يقدمون الطعام من الأساس.

كان هناك مكتبةٌ في ذلك السجن أيضاً، وكاندل كان يترددها في كلِّ استراحة، لربما كانت رائحةُ الكتب تشعره بالحرية، أم أنَّ القراءة كانت تهدئ من نفسه، لا علم له، لكنَّه كان سعيداً بهذا، خاصة أن لا أحد يزور المكتبة غيره، بالنسبة له الجلوس مع الحارس في المكتبة لهو أكثر رحمة من أن يبقى مع سجينٍ لا يعرفه، ويبداُ ذاك بطرح الأسئلة عن كيسه الورقي، لذلك كان يفضل هذا الجوّ أكثر من غيره.

وبالنسبة للزيارات، لا أحد كان يزور كاندل، حتى أمّه، أما عن كيف تخلت عنه فأنا ككاتبة لا أريدُ أن أحرق الأحداث، هناكَ ما شتت تلك العائلة البسيطة، مثلما شُتت شمله بالفتاة التي أحبَّها من قلبه، "سيري" لم تغب عن ذهن كاندل لحظةً واحدة في حياته، منذ أن أنهى حياته الابتدائية، فقد انتقل أهلها بعد تلك الحادثة، وبات كاندل وحيداً بدونِ أصدقاء، نوا الذي لم يتقبله، وسيري التي لُفِقَت إليه تهمةٌ فكرهته، لا تزالُ دموعها كلما تذكرها تطعنُ في قلبه، لعله لم يغسل وجهه منذ تلك الحادثة، فبعد أنِ انهمرت لآلئ دموعها على وجهه أراد الاحتفاظ بها كذكرى.

أما عن النوم، فقد كان له فراشٌ قديمٌ مهترء، لا يوجد حتى وسادةٌ من الصخر ترفعهُ رأسه عنها، لذلك كان يطويها جاعلاً منها وسادة، أما ما تبقى من جسمه فإنَّه ينام على الأرضِ الباردة، لم يكن لديه خيارٌ آخر، ولا أحد يعرف كيف تكيف مع تلك الحياة، كان فارغاً وكأنّما ماتَ في داخله، لا أحد يعلمُ ما يفكر به هذا الفتى أو ما يجولُ بمخيلته؛ حتى يستطيع الانفصال عن الواقع بهذه الطريقة.

بقي على هذه الحالِ أسبوعاً، في هذا الأسبوع كان قد حاول استعادة اتزانه الداخليّ، والآن حان وقتُ مراجعةِ الطبيب، ذلك الطبيب الذي لا تفارقُ وجهه الابتسامة، ابتسامته كانت مطمئنةً لدرجة أنَّكَ قد تبوحُ بكلِّ ما لديكَ في حالِ رؤيته، ربما لهذا أصبح طبيباً نفسياً، هذا ما كان يقوله كاندل في نفسه.

أمسك به الحراس وكبلوا يديه وذهبوا للعيادة، أو حتى لم تكن عيادة، بل مجردُ غرفةٍ بيضاء، تصيبك بالتوتر أكثر من الاسترخاء، لو أنّهم جلبوا الطبيب للزنزانة لربما كان هذا أفضل، ولكن ما العمل، هذه هي حياةُ السجن.

دلفَ كاندل الغرفة، كان الطبيبُ ينتظره بابتسامته الغبية المرتسمة على وجهه، تلك الابتسامةُ التي تجبرك على الوثوقِ به، كان لا بدَّ من هذا، جلس كاندل مقابلاً للطبيب، أمسك الطبيب بدفتر ملاحظاته وقلمه،ابتسم له وقال: يبدو أنّكَ أصبحتَ أفضل!

-أجل، إنَّهُ من الجيد الحديث عن نفسك منذ وقتٍ لآخر.

-أترى هذا؟ بالطبع يجب عليك التنفيس عما يزعجك.

-أجل أيها الطبيب.

-حسناً هل اليومَ سنعرفُ قصة الكيسِ الذي تضعه على رأسك؟

-لقد وضعته حتى لا أتعرض للتنمر أيها الطبيب.

-يبدو هذا، فأنت تخفي وجهك عن الجميع، حتى صورك عندما دخلتَ السجن؛ لم ترضَ خلع الكيس آنذاك.

-وكيف أنزعه؟ أشعرُ بأنَّهُ جزءٌ مني!

-هل عندما بدأتَ المرحلة الإعدادية بدأتَ بوضعه؟

-كنتُ أضعهُ في الابتدائية عندما أريدُ الخروجَ وحدي، أما عندما كانت معي أمي فلم أكن أضعه.

-عظيمٌ هذا، لماذا لم تفعل؟

-لأنَّ أمي لا تسمحُ بالتنمر عليّ.

-إذن تواجدك بالقربِ من والدتك يعطيك الشعورَ بالرضا عن نفسك وشيئاً من الثقة؟

-أجل

-هذا جيد. والآن يا كاندل لماذا لم تزرك أمّك منذ وصولك إلى هنا؟

صمت، لم يرد.

-هذا جيد، يبدو أننا وصلنا إلى نقطةٍ تمسُّ عواطفك مرة أخرى.

-من أينَ أبدأ؟

-الوقتُ الذي توقفنا فيه رجاءً!

-بعد عودتي للبيت وبكائي في حضن والدتي؟

-أجل.

-حسناً...


-يتبع...

رجلُ الكيسحيث تعيش القصص. اكتشف الآن