رسالة من فتاة مجنونة - الفصل السادس والثلاثون

Start from the beginning
                                    

****
طيلة اليوم يبحث عنها.. قطعة الكراميل خاصته.. كان لديها يوم متعب وحافل على ما يبدو بالعمل الميداني.. هذا ما طرأ على باله ما أن رآها تعود للشركة وتقف مع مساعدته نور..
راسلها وطلب منها أن يلتقوا بعد العمل بمنزل الشاطيء وهي وافقت.. فمؤمن وأكمل منحاه فكرة رائعة..
:"سيدي"
التفت لنور التي أكملت: "السيد علاء الورداني.. يلح بالاتصال عليك لتكملة المشاريع التي طلبها"
:"لم لا يستسلم ذلك الوغد!"
همسها بغيظ فهو يعلم السر وراء إصراره.. ذلك الحقير يتملق إسلام بشكل لا تخطئه أي عين.. لكنه لن يسمح له بالاقتراب منها مسافة مترٍ حتى.. التفت لنور قائلا: "ماطليه نور"
أومأت له بصمت ثم تحركت لتغادر المكان.. وما أن فعلت فتح إحدى التقارير التي كان قد طلبها من أحد الموظفين بشركة الاستيراد التي يديرها أكمل..
كان يعلم أنه سيغضب ما أن يعرف لكنه فضل التأكد من الأمر بنفسه دون إقحامه حتى لا يحرجه أمام والده..
وبعد فترة من تفقد الملف تأكد من شيءٍ واحد.. شقيقه تامر ليس سيئاً وحسب.. بل هو غبي وأحمق كذلك..
***
:"إذاً هل غادرت تلك الغبية؟"
سأله إيلام بينما يحادثه عبر السماعات المعلقة بأذنه.. فتنهد وهو يرد: "أظنها غادرت.. فقد أيقظتها وتركتها"
:"أنت أبله يا سيد خشبة جونيور!"
قالها إيلام بحنق كتم فادي على إثره ضحكاته قبل أن يسأله: "هل يمكنك يا سيد عبقري إخباري عن سبب ذلك النعت قبل أن أوبخك بحكم أني أخيك الكبير"
-:"حسناً يا أخي الكبير الأبله.. لم تركتها بالبيت وحدها.. ألا تخشى أن تسرق شيئاً؟"
كان قد نقل قطعة الخشب الكبيرة التي سيعمل عليها للجانب الآخر.. قبل أن يطالع الفراغ بهدوء.. ثم مط شفتيه وهو يرد بسخرية: "علي الخوف فعلاً على مغارة علي بابا التي أخفيها خلف دولابي المهتريء القديم.. معك حق سيد عبقري.. فأنا أملك الكثير من الأشياء الثمينة التي لا حصر لها.. وقد تغوي ريهام ابنة الحسب والنسب لسرقتها"
-:"تملك أثاثاً وتلفازًا ومذياعاً غالياً على قلبك المرهف.. كل تلك الأشياء قابلة للسرقة"
مط شفتيه مجدداً وهز رأسه بينما يرد: "لن أحزن إلا على المذياع صراحة"
التفت بعدها ليحمل أدواته وينقلها لقربه بينما إيلام يسأله: "حسنا دعك من تلك الغبية.. أخبرني متى ستتحدث مع ريم؟"
وصلته رسالة عندها ففتح الهاتف.. ليجدها رسالة من مؤمن
(أنهي عملك وتعال لمقر الشركة سأنتظرك)
بقي يطالع الرسالة بصمت..
:"فادي ألا زلت معي؟!"
سأله إيلام فتنهد ورد: "نعم معك.."
فرك عينيه ثم أكمل: "سأتحدث معها ما أن نلتقي"
-:"هذا جيد.. إياك أن تتراجع"
صمت بعدها لفترة قبل أن يهمس: "أنا خائف أن أتراجع.. ويرعبني ألا أتراجع"
:"إن تراجعت ستندم للمتبقي من عمرك"
رد بها إيلام فطالع فادي الرسالة التي وصلته من مؤمن وصرح لنفسه: "وإن لم أتراجع سأندم كذلك"
*****
مساءاً
كان يوماً طويلاً ومتعباً.. حسنته الوحيدة أنه أبقاها بعيدة عن طريق جوان.. ولحسن حظها كان هذا هو الموعد السنوي الذي يسافر به أسلم لتحصيل إيجار الأراضي لوالدها ووالدها هو الآخر عاد لعمله في الجيش.. لذا فهي لم تتردد بقبول دعوة لقاء هيثم..
لا تهتم بأسئلتهم التي لن تنتهي فهي ستتجاهلها ببساطة ولن ترد على أيٍ منها.. حتى لو أخبروا والدها وأسلم ستتدبر خداعهم بأي طريقة.. المهم ألا تعود للمنزل وتبقى وحيدة مع أفكارها وألمها..
وصلت للبيت وما أن دخلت اشتمت رائحة السجائر.. اقتربت منه لتجده جالساً على الأريكة أمام التلفاز الكبير يشاهد أحد الأفلام فتحركت نحوه قائلة: "السجائر هيثم"
أطفئها فوراً ثم التفت لها وهو يرد: "عذراً حلواي.. لقد اندمجت ونسيت أنكِ تكرهين رائحتها"
كان في الغالب لا يدخن قربها لعلمه أنها تتعب منها وبوقتٍ آخر كانت ستبقى بعيدة عنه إلا أن يختفي الدخان من حوله.. لكن ليس اليوم.. ليس بحالتها تلك..
اقتربت وجلست بجواره فسحبها لقربه واحتضنها قائلا: "كيف الحال يا حلوى الكراميل؟"
:"بخير"
همست بها ثم استلقت بحضنه.. وهو أخذ بالمسح على شعرها ليهدئها وقد انتباتها راحة وسكينة وتناست كل ما يؤلمها مع لمسته الناعمة لدرجة أنها وضعت رأسها على ساقه وفكرت بأخذ قيلولة قصيرة..
: "إسلام.. هل ذهبتِ إلى الموقع بهذه الثياب؟"
فتحت عينيها وطالعته باستغراب لثواني قبل أن تهمس: "لا أفهم ما الذي تعنيه؟!"
نظر لثيابها فلحقت بنظراته هي الأخرى تتأمل ملابسها.. كانت ترتدي سروالاً باللون الأسود.. مع كنزة صوفية بنفس اللون أسفلها قميص أبيض..
:"لقد تخيلت أني أبدو كئيبة بهذه الثياب"
انعقد حاجباه ثم قال: "إنه سروال من الجلد الناعم الضيق"
مطت شفتيها وهي تفكر أنه ربما يكون محقاً بشأن ذلك.. فالسروال لا يلائم مواقع الإنشاء على الإطلاق.. وقبل أن تفكر بالطريقة التي ستعترف بها بالأمر.. ابتسم لها وانحنى ليقبلها على شفتيها قبلة قصيرة ثم ابتعد للحظة وعاد لتقبيلها مرة أخرى لكن هذه المرة ضغط على شفتيها.. كانت تنوي ابعاده والعودة لفكرة أخذ القيلولة لكن هذا الشعور بدا ألطف وأجمل من أي قيلولة.. بدا أجمل من أي شيء لذا في النهاية استسلمت وسمحت له بتعميق قبلته التي سحبتها بعيداً عن حزنها واستيائها..
لقد سمعت أحاديث حفصة وبناتها عنها طيلة الليل.. والدها غادر ومع مغادرته لم يعد هناك قيد على ألسنتهم الملعونة السامة..
لقد عرفوا سرها وكان هذا ما ينقصها تماماً..
لفترة قصيرة البارحة ومع سماعها لأصواتهم التي لم يحاولوا خفضها فكرت بارتداء ثيابها أو حتى الخروج بمنامتها من البيت والاتجاه لمنزل هيثم لتخبره أنها موافقة على الزواج به.. علّ هذا يرحمها من همساتهم التي صمّت أذنيها وزادت جراحها.. لقد كانت تتألم بصمت.. تبكي بصمت.. حتى عقلها لم يجد ما يواسيها به..
قضت ساعاتٍ طويلة تطالع صورة جدتها بحسرة وحزن غير قادرة على استحضار لمساتها الناعمة كمسحها على شعرها أو تربيتاتها على كتفها.. حتى كلماتها الحانية المطمئنة لم تتمكن من استعادتها.. فقط صورة هيثم بعقلها وهو يترجاها أن توافق على الزواج به دفعتها للتفكير بعيداً.. دفعتها للتفكير بالموافقة وحسب..
إذاً لِم لم تفعل؟!.. لِم لم تركض من ذلك الجحيم وتلجأ إليه؟!..
تساءلت بينما تشعر بأصابعه تمسك بذقنها وترفعه قليلاً.. لا تفهم كيف لم تخنقها رائحة السجائر.. لكن طعم النعناع فقط ما تلقته بلسانها من فمه مع الحرارة الممتعة التي وصلت لأعماقها تزامناً
مع تعالي السعادة بداخلها لتجعلها مجدداً تتساءل عن السبب الذي لا يجعلها تتزوج بهيثم لتحصل على مزيد من السعادة النابعة من وجودها قربه؟..
كانت يده تتحرك على قماش القميص أسفل كنزتها وقد شعرت بمؤشرٍ ضخم يدفعها لتوقفه.. لكنها تذكرت السبب الذي منعها من إخباره..
بم ستخبره؟!..
هل سيكون من العادي أن تخبره: "عزيزي هيثم.. أنا لست ابنة شرعية للرجل الذي أعيش معه.. والدتي خانته وهربت مع حبيبها.. وأنا لا أعرف من هو والدي الحقيقي"
تخيلت أن هيثم سيُصدَم.. ولكن ماذا لو تعدى الأمر الصدمة؟.. ماذا لو قرر التخلي عنها كما فعل والدها؟..
عندها لا تعلم كيف ستتصرف..
شعرت بأصابعه تحل عنها أزرار قميصها فارتجفت وشعرت أنها ربما اللحظة الملائمة لتوقفه.. لكن مجدداً تراجعت ما أن ملأها الإحباط وهي تتخيل ما سيحدث لو علم هيثم الحقيقة..
حتى لو لم يخذلها فما الذي سيحدث فيما بعد.. هل سترضى هي أن تدمر سمعته وحياته بتلك الطريقة؟..
بأي حق سترضى نيل سعادتها على حساب مصلحته.. ومع ذاك الهاتف تذكرت عودتها للبكاء المرير بنهاية ليلتها السابقة.. تذكرت نظرها لصورة جدتها وهي تهمس باختناق: "لا يمكنني فعلها.. يستحيل أن أكون معه"
شعرت بالدموع تحرق عينيها وقد حمدت الله أنهما مغلقتان.. تمهلت للحظة تحاول استعادة اتزانها وقد كان هذا صعباً لكن ما أن لامست يداه بشرتها العارية انتفضت جالسة فابتعد عنها أخيراً.. وبينما تحاول التقاط أنفاسها شعرت بكفه على وجنتها وهو يهمس: "سولي لِم تبكين؟"
فتحت عينيها وطالعته ومع انقشاع تلك الغمامة عنها.. شعرت بالرطوبة التي تغرق وجنتيها..
لقد ظنت أن الدموع لم تتخطى عينيها.. يا لغبائها..
رفعت كفيها ومسحت وجنتها.. قبل أن تبتسم وهي ترد: "لا شيء.. لا تخف"
نهضت بعدها وعدلت ثيابها.. قبل أن تشعر بذراعيه يحيطان بها.. وما أن التفتت له ابتسم وقال: "لِم لا تستعدي للمغادرة.. سنذهب إلى مكانٍ ما"
انعقد حاجبيها باستغراب وسألته: "إلى أين؟!"
***
وصل لمكان العمل ليجد أن المقر تغير حاله فجأة.. فالجدران التي لم تكن قد انتهى نقشها وطلائها قد انتهت وبعد المكاتب وُضِعَت بالفعل والأرضية أصبحت ناعمة ونظيفة..
:"جيد أنك اتيت"
فزع بمكانه ما أن سمع الصوت الصادر من خلفه.. والتفت ليجد السيد شفيق يشرب القهوة بهدوء بينما يكمل ببرود: "لازلت تفزع من أقل صوت.. يا لك من طفل!"
ابتسم بملل قبل أن يرد: "مرحبا عزيزي مؤمن.. لقد اشتقت لك أنا أيضا"
:"أنا لم أشتق لك من الأساس"
قالها ثم ألقى الكوب الورقي بسلة القمامة وهو يكمل: "ولا تناديني بعزيزي تلك إن كنت حريصاً على أسنانك"
:"وغد متعجرف دموي!"

رسالة من فتاة مجنونة Where stories live. Discover now