الفصل الثاني والاربعون

Start from the beginning
                                    

****

وتسير خلف العاملة بينما تربط عصبة روب  البجامة العنابية على خاصرتها.. قد أخبرتها بأن العنود طلبتها.. انبلج باب المصعد فوجدتها تجلس فوق الاريكة بملامح مجهدة ومظهر بسيط غير اعتيادي منها.. الإ انها جسلت معتدلة وبرزت على ملامحها حدة لا بأس بها.. وهي تمسح أنفها المحمر بالمنديل القماشي.. آثار البكاء.. تكلمت بصوت مبحوح مرهق: اسمعيني زين.. اللي صار اليوم لا يخرج برا البيت.. ما فيه شيء اسمه اهلي لزوم يعرفون.. ماني مستعدة تجيبين بلاوي لولدي.. وتدخلينه في سين وجيم.. حافظي على سر العيله.. عشان نعدك منا.. فهمتي؟!
وأيقنت مما رأته ولحظته أن المرأة الساحرة هذه صريحة صراحةً متناهيةً، لا تخفي شيئًا، ولا تبطن أمرًا وتبين سواه. غير أنها تعيش في دنيا خاصة بها، دنيا لا تشرك فيها أحدًا، ولا تستقبل في رحابها إنسانًا آخر. واعترفت بعجزها عن سبر غور هذه النفس الصريحة كل الصراحة، الغامضة كل الغموض.
ولم ترَ أسيل من الفطنة أن تمعن في التأمل والتفكر. طأطأت رأسها بتفهم.. وقالت: تطمني ما انقل كلام.
همهمت بتفهم: زين اجل.. تقدرين تروحين.. مهند بينام في غرفتي.
رفعت حاجبها بدهشة وقد برزت على محياها.. حتى أن الأخرى وصلها شعور أسيل.. إلا أنها لم تعطيها الاهتمام وظلت تشتغل بهاتفها.. تنفست الصعداء وابتعدت.
عادت الى حجرتها.. وساورها النفور من والدة زوجها.. لطالما تجاهلت الانقباضات التي تستشعرها أثناء تواجدها.. ولله في خلقه شؤون. تسطحت بأريحية.. على الاريكة المركونة بالقرب من النافذة العملاقة.. وهي تتلاعب بشعرها البندقي به لمعة الشمس الشقراء.. والذي يصل الى نهاية عنقها.. ورماديتيها تحدق بالسقف المنقوش عليه بزاخرف بهية تسر الناظر وتجلب الفخامة بمجرد النظر.. زمت شفتها وامسكتت بعقد القلب الذي يتدلى من نحرها.. وألح عليها هذا الشعور بأن لديها فرصة ثانية تغير حياتها.. وتعيش بطريقة مغايرة على ما أصبحت عليه.. ألا تستحق حياة هانئة كريمة مفصولة عن ماضي افقد صبرها.. فهل فعلت ما يوجب الخجل؟وهل اقترفت ذنبًا أو أتت بمنكرًا!! لذلك تستحق المضي قدمًا وإبدال المأسي إلى هناءةٍ.
وبينما هي شاردة اللب.. حتى استشعرت بتواجده، فانزلقت على هيئته.. ببنطاله الجينز وسترة زرقاء.. ولكن سماته يفيض منها الضنك والمكابدة المتوجعة.. وملامح البكاء اكتنزت سماته.. بللت شفتها وهي تحدق فيه.. يخرج حوائجه من جيبوب بنطاله.. ويخلع ساعته وأسورته.. وقفت بتريث.. وقالت بخوفت بعد أن هم الى المرقد: شلونه عمي؟!
هز رأسه وهو يدثر جسده باللحاف الوسيع: ادعي له.
زمت شفتها بتفهم لوضعه.. مغلقة الأنوار.. فستلقت مكانها.. كان الجو بارد والصمت فاشي في الارجاء.. تسمعت الى أنفاسه المضطربة.. وقاومت ذاتها.. فزحفت ناحيته.. واضعة يدها فوق ذراعه.. وترددت إلا أنها غرست اناملها بين خصلات شعره.. استشعرت بحاجة جارفة لإسناده، هي أكثر الأشخاص الذين احتاجوا الى العوز والعون فهل تبخل بإعطاه لغيرها.. وهذا الشاب الغرانقُ.. القابع فوق مرقداها هو زوجها.. يعنيها مثل ما تعنيها نفسها.
تمسكت فيه أكثر.. فألصقت خدها على ذراعه.. ويدها احتضنت يده.. فتشبث بها .. وبرقت عيناه أكثر من المعتاد.. همست بنبرة خافضة: ربي بيفرجها.. مهما ضاقت الدنيا علينا بنلقى العون.. أنا اللي ما كنت أتوقع القى فرصة ثانية لحياة جديدة.. بس الحمدلله ربي نجاني.. وبإذن الله عمي يقوم بالسلامة.
لم يتنبه لكلامها الذي يحمل في طياته الكثير من الأسئلة والتعجب.. إلا أنه أخذ شهيق وزفر بإتزان مع الدمعة التي سقطت على مهل.. ابتعدت حين ران اليها.. تسطحه على ظهره.. قال بنبرة خافتة متكتله ببحة: احضنيني اسيل.
دنت منه.. فوضع رأسه بين احضانها الندية.. وضربت دقات قلبها بلا تريث ولكنها تمالكت نفسها وشدته لحجرها حين برز نشيجه.. فتهالكت قواه في مسكتها.. فأحست بثقله على صدرها.. وترمضت نفسها بذلك الإحساس المبهم الغامض الذي طفق عليها.. ارتعدت فرائصها حين استشعرت بدمعته على نحرها.. رددت في خلدها بعض الاذكار التي تحفظها.. دقائق معدودة حتى رن هاتفه بتواصل.. تنفس الصعداء مبتعد عنها.. متحمحم وهو يمسح ملامحه بتسرع.. أمسك الجوال واستوى جالس.. التفتت اثناء سماعها صوت والدته الإ انها لم تلتقط ما تقوله.
-يمه مقدر.. والله ما فيني حيل.. وش هو؟ لا وش دخل! خلاص ابشري هالحين جاي.. اكيد.. ان شاء الله ولا يهمك.. تمام. اغلق الهاتف متجرع الاكسجين بكميات وفيرة.. ثم التفت ناحيتها: اسمعي انا برقد عند امي.. تقدرين تنامين.
لم يسرها ما سمعته، ولكنها ستتخذ موقف الصمت حيثُ لا الوقت ولا الظروف المناسبة لكي تعترض.. فلن تدع والدته تحتكم على حياتها.. لذلك صمتت بلا إجابة تُذكر.. تشهر عدم تقبلها لما قاله.
وحين لم يحز على موقف منها، اقترب مقبل خدها وهو يقول: ما عليه.. امي ما تحب تنوم بالحالها.. فلا تزعلين.
طأطأت برأسها.. وبنبرة تميل لعدم الرغبة بالكلام: تصبح على خير.
حك شعره وعاد يقبل ثغرها بإستحكام.. ثم همس: ما عليه اسول بعوضك.. وأنت من اهله يا قلبي.. ما ابي زعل.. تمام.
-بس اخر مره.
-ابشري.

لا تحملني خطا ما هو خطاي..لو أنا المخطي كان والله اعتذرتWhere stories live. Discover now