الفصل الثاني والاربعون

Start from the beginning
                                    

****

ها هي تجر غنائم حبها.. كحسرات وخيبات، يا ندامة تأتي بعد البلوغ.. ويا آسفا على ما فرطت في قيمة الروح، وارتضت بلحظات الطيش واللهو.. مع شياطينه لا معه.. فغدت تعضُ على الأنامل حسرة.. فنهك القلب من الشجن.. والنكبات تطرق ساحتها.. فتعثوا فسادًا وهلاك. يا لشدة العيش متى حزب الأمر! يا للنفس متى جرى ما يضعفها ويُذلها! وكلنا سواءٌ، أرضينا أم كرهنا. كلنا سواءٌ، نخضع، ثم نتمرد، ونصبر، ثم ينفد صبرنا.
في المرتبة الخلفية لمركبته.. تقطن تلك الفتاة المتلعفة بالأسود القاتم.. يواري خلفه جسد يرجف ويرعد.. لو رأها بيكاسو لهلل فرحًا.. يعيد دبج ألوانه للوحة "المرأة الباكية" 
انكمشت على ذاتها، وهي في مركبته والصمت يطفو في المكان.. لم تقع عينيها عليه منذُ أن استقلت سيارته.. فقد كانت تركب مع السائق.. لكتابة عقد النكاح.
اغمضت عينيها من شدت ما حط عليها اليوم من أحداث العراك والصراع مع شمة التي انفجرت باكية وتصفق بالشمال يمينها.. فما بال الأمانة التي حافظت عليها لتصون الفرج.. خطأت أحدهن فحوسبن جميعهن بالترحالِ من مكان كان بالأمسِ نجاة غدا سحقًا وعذابًا.. الشر يعم لا يستثني احد.. وهي جارت على اخواتها بالمصائب.. وهدمت الثقة الغليظة بين شمة وبناتها.
لم تشعر الا بالمركبة التي توقفت.. فتحت عينيها.. متبصرة فيما حولها.. برج شاهق يحيطه الرفاهية المبجلة والتي أصبحت تخشاها، وتخاف من كل ما يلمع.. فز قلبها حين ران اليها.. هو من يفتح باب خروجها مانع موظف خدمة السيارات بالقيام بعمله.
ونفر قلبها نفر الغر ذي الغفلاتِ.. وأخذت عينها في عينه، فحملقت فيه مذعورةً.. شتت ناظريها من عليه وسارت برفقته.. كانت منسدلة الطرفِ لا يميل جهةً لجهة.. وحاولت سحب يدها.. التي كمشها في قبضته.. ويقودها دون النظر فيها.. قشعريرة سارت على كامل بدنها.. حين التحم الكف البرونزي الرجولي بالكف الأبيض الناعم.. فجعل بطنها تنكمش للداخل.. وسيطر المخاوف على سماءها ترعد وتهطل بلا تريث.. وحين توقفا أمام الاستقبال.. تناهى إليها صوته الأجش بنبرة نجدية مغلظة يتحدث الإنجليزية بطلاقة.. فيشد على كفها بتوعد.. هذا ما جال في خلدها.. من طريقته الضاغطة في مسكته ثم تلين.. فرفعت رأسها، ووقع طرفها عليه فبرزت ملامحه الجانبية.. يقال أن الحُسن لا يكتمل.. وها هو يثبت كمال الخَلق القويم.. والخُلق الناقص.. فارتجفت وارتعشت.. وكتمت نيران تحرق يدها من مسكته القاسية.. "مريض" كلمة تكررت داخلها، حين شاهدت انظاره تلتفت كل ثانية حولهما.. يتأكد من إبعاد الأنظار من عليها. مالت برأسها إلى جانبٍ.. تلهفت نفسها حتَّى لم يكد جسْمها يلوحُ لأَعينِ الْعوّاد.. لم تعنها الزّفرات وهي لوافِح وأسفِّهُ الْعبراتِ.. لا لوعة تدعُ الفؤادَ ، سببها حبيبٌ غادر الدهر.. فاسقٌ مستبيح الاعراضِ.
كان يتحدث للموظف على الجناح الذي تم حجزه من قبل بندر لقضاء باقي أيامه في منفاه.. هنُا ساعة الانتقام قد لاحت.. جُرد مما كان يتفاخر به.. قرعت الطبول تعلن أيام الوعيد.. يشرب من كأس ما سقى.
استيقظت من شرودها حين شد قبضته لتسير برفقته.. وخلفهما العامل يحمل الحقائب.
وبينما هي في المصعد.. مضت تناجي ربها بأن يخفف مصائبها ويكون بعونها.. هي الانسان الضعيف مهما كبرت وأخطأت تظل عبدة ذليلة بين يدي الرب الجبار المتعالى.. فيشد عضدها ويقوي ازرها.. ويعنها ولا يعن عليها.. ويغفر زلاتها واخطئها.. هي العبد المخطئ وهو الرب الغفور.
عينيها تشعان ببريق غريبٍ، وعضلات وجهها تتوتر وتنكمش.. أكملت الخطوات للجناح الضخم والموضوع في الواجهة.. مهما يكن واجهة هذا المكان والذي لم تتوقع من قبل أن تدخله.. إلا ان نار السعير أخف وطأة منه.
فتح العاملين الواقفين على الجانبين.. الباب على مصرعيه.. فبرقت الإضاءات المذهبة.. ببريق ملكي فاخر.. دخلت، وما أن خطت خطواتها المتوازن حتى انتفض كل ما بها حين تناهئ اليها صوت الباب وهو يُغلق.
رجف فكها.. اهتزاز ينثبق داخلها.. حين سمعت صوته المغلظ يردف بحنق ووعيد: اوقفي عندك.
إرتعد جدعها وهام الفزع يطوقها.. الخفاق يزلزل صدرها، في عنفه الصاخب.. اغمضت عينيها وانتفضت أطرافها حين مرت تلك الليلة على خلدها.. هتنت الاعين بالأمسِ فلم يدخر، دمعا يفيض اليوم في الأرسمِ.. رهبة الإلتفاته ترهبها.. فتململت في مكانها مصدرعه.. وكتمت حتى أنفاسها من التزفير حين امسكها من عضدها ويده الأخرى على ذقنها.. وكادت أن تسقط من جزع ضمر على صدرها الا أن قوة مسكته ثبتتها في مكانها.. رأت احمرار هالك يتشعشع من حدقيتيه.. كأنه جمر ينشوي في نار الهاوية.. دمارًا وويلًا من ناظرين كانت بالأمسي خيرًا، بات اليوم شرًا.
وفي حركته دمار متأجمًا.. واستنتجت أنه آتٍ إليها ليسوي الأمر معها.
وصدق حدسها، حين سحب حجابها ونقابها ساقطه أرضًا.. شهقت، وتكررت لديها الصورة لتلك الليلة النحيسة.. خان بكاءُ العين أجفانها.. فناحت والنواح بكاءُ الفمِ.. وحين حاولت الانفلات من قبضته بالتراجع للخلف، فدفعها الا أنها صرخت بألم وهي تسقط ارضًا.. وارتطم ظهرها بالجدار.. فأنّت أنين الملكوم المتأذي.. اخفض هامته يجلس على ركبتيه.. وامسكها بقسوة على ذقنها لتقع عينيها في خاصته.. وحدجها بنظرة صارمة متوعدة.. بفحيح سام اطلق كلماته الجائرة: وعزة الله ويمينه أن صار في ابوي شيء.. محدن بيفكك مني.. لعبتي بذيلك ورحتي خليتي خيتك تخبر ابوي! تحسبين بهالفعلة فزتي وحصلتي على مبتغاك.. تهبين وتعقبين.. مهما حاولتي توقعين فيني ان ارضى بك زوجه.. ما بتلقين الا الصد والانكار.. عقدت عليك بس لا تحلمين اني بعاملك كزوجة لي.. أنتِ مجرد سيئات اقترفتها وقت سكرة.. وهالحين جالس استغفرها.. فلا تظنين وتروح بك الظنون انك بتبقين على ذمتي.. أول ما تجيبين ولدك.. ورقة الطلاق برميها في وجهك.
أكمل كلماته التي تخرج كشطايا زجاج يطلق بلا توقف فيسفك الدماء.. كما تسفك الدموع من المحاجر.. علا عويلها.. وهي تحاول أبعاد يده التي فرجت بشراسة على بطنها البارزة قليلًا.. وأعاد ممسك بفكها رافعه ليصل الى ناظريه.. بعد أن انحنت لأسفل.. فأقترب منها وحبس نجيبها.. لما وقعت العين بالعين.. والنفس يستنشق النفس.. والخشم يقابل الخشم.. والفاه قبال الفاه.. سقطت تلك الخصلة الكثيفة المتموجة على ملامحها.. كما لو أنها استشعرت بغلاظة الموقف لصاحبها.. ولكنه أستمر يتفصح وجهها بحقد وثأر.. وانزلقت ناظريه لأسفل حتى ضغط أكثر على بطنها.. فأطلقت نحيبها من بين سكون المكان.. بنظرة أحتقار ساحقة، هتف بعالي صوته المزلزل: هذا اللي في بطنك ولدك وحدك.. ما له عندي الا اسمي وبس.. طول منا عايش ما ابي اشوفه ولا حتى انادي بأسمه.. ولا يشرفني ولد من ذريتك.. اعتبره غلطة ليله قضيتها معمي البصيرة.
وزاد إنتحابها تحت ضربات هذه الكلمات، فارتعدت فريصتها وجحطت عيناها وهتفت بصوتٍ يذيب الجماد: الله يأخذ حقي منك.. منت مسامح على كل كلمة قلتها في حقي وحق ولدك...
وقطعت كلماتها وانكمشت على نفسها.. وبلعت صوت نياحها وهي تضم نفسها بعد أن صفعها على وجهها.. وبزق بتقزز أسفل قامته.. وهم منتصب وهو يكرر بسفاهة.. ويسير ناحية غرفة نومه: تفو عليك وعلى ذريتك.. لعنة تلعنك وتلعن سيرتك.
أرتج الباب صادر صرير مهيب.. خلع شماغه ساقطه ارضًا.. وجثت هامته للأرض بكل ضعف ووهن وضل مكانه ينشج وينتحب كطفل في خورٍ غير مسبوق على مظهره.. وراتخى كما لو أنه ساجد حامل همٍّ ثقيلٍ ثقل الجبال.. وما أن خف انينه زاد آلم صدره فطفق يصرخ الندامات والحسرات.. وخوف على والديه، ويعاد مشهد غضب ابيه على فكره.. فيدخل في دهاليز الأوجاع والعذاب.

لا تحملني خطا ما هو خطاي..لو أنا المخطي كان والله اعتذرتWhere stories live. Discover now