رسالة من فتاة مجنونة - الفصل الحادي والثلاثون

Start from the beginning
                                    

((رجعت الشتوية.. ضل افتكر فيا.. ضل افتكر فيا.. رجعت الشتوية.. رجعت الشتوية..
يا حبيبي الهوا مشاوير وقصص الهوا متل العصافير.. لا تحزن يا حبيبي إذا طارت العصافير.. وغنيي منسية ع دراج الساهرين..))
كان قد شغل الأغنية بينما يطالع صورهما معاً..
صوره هو وهي وحسب.. لسنوات عاشا يتساندان ويتساعدان ليمرا عبر كل أزمة وخيبة..
هو يفهم ريم وهي تفهمه.. كم من مرات نطقت بما يدور بباله دون أن يفصح لترشده وتبتسم وتخبره أنه سيكون بخير.. وكم من مرات لم تتحدث ريم عمّ يضايقها ويزعجها وفهمه هو ودون أن يرتب أو يتردد كان يجعل شغله الشاغل أن يرفه عنها وينسيها كل الألم..
وبكل تلك الصور التي تشاركاها بلحظات مليئة بالفرح وأخرى مليئة بالحزن والخوف كانا هما وحدهما.. هو وريم فقط..
مؤمن لم يكن هناك عندما كانت محبطة لعدم اختيارها وظلمها من قبل عميد المعهد..
مؤمن لم يكن هناك عندما مرضت وحُجِزَت بالمشفى وبالتأكيد ما كان سيعرف أنها مرضت بعد أن سارت لساعات تحت المطر محاولة نسيان إهانة هويدا لها أمام زملائها وزعمها بأنهم يضخمون من أدائها وبأنها لا تستحق لقب الفتاة الذهبية..
مؤمن لم يكن هناك عندما اختارت أن تخرج من المشفى وتعود لبيتها مقررة تجاهل كل حديث هويدا ثم قررت أن تصنع له كعكة بمناسبة عيد مولده واشترت له أدوات للحفر على الخشب تاركة ملحوظة بقربها أنه أغلى صديق وأقرب شخص لها بهذا العالم..
لكن مؤمن كان هنا اليوم ليطالعه بكل الكبر والغرور والعنجهية بينما يقول: "أنت لا تعرفها كما أعرفها أنا"
:"أنت مخطئ"
رد بها على تلك الجملة ويداه تنقبضان لتفصحا عن مدى الغضب الذي انتابه واحتفظ به لنفسه كالعادة.. الغضب الذي لا يملك تفريغه سوى على ألواح الخشب في العمل ولأول مرة يكون مستاءاً أنه لا يمكنه الذهاب للعمل الآن علّه يهدأ قليلاً..
قلب الألبوم حتى توقف على الصورة التي التقطوها بيوم تخرجهم من المدرسة.. حيث كانوا يقفون جميعاً وريم تقف بجواره.. وتذكر كم كانت حزينة لعدم وجود مؤمن.. وقد فعل كل شيء ليجعلها تبتسم وتنسى أمره قبل أن يكمل: "لقد كنت معها دوماً يا مؤمن.. كنت معها حتى بالوقت الذي لم تكن موجوداً به.. لذا أنا خير من يعرفها لكن أتعلم ماذا.. أنت محق علي التحرك وانتهاز فرصي!"
**
تحرك يحمل العلب التي اشتراها ثم نظر لجده وهو يقول: "لا أفهم لِم تجعلني أحمل هذه الأشياء؟"
:"ألست أنت من اشتراها؟!"
رد بها جده فقال: "كان يمكننا جعل شهاب يحملها"
-:"هاااي وما دخلي؟!"
:"اخرس!"
رد بها على هتاف شهاب المعترض قبل أن يكمل ببرود: "لا تجادلني.. أنا الكبير وأنت من عليه حمل الأغراض"
-:"لأنك الكبير وحسب علي الاستماع لحديثك الغبي؟"
:"وعليك تنفيذه أيضاً"
تنهد جده وعاد لقرع الجرس مجدداً وهو يهمس: "لِم لا يفتحون الباب.. هذا ما نأخذه من النساء.. تلكؤ وتباطؤ وبكاء بسبب ودون سبب"
ضحك بسخرية وهو يهمس: "ليت الجمعيات النسوية تسمع جملتك"
رد جده باستهزاء: "وليسمعوا إنها الحقيقة "
ارتفع حاجبا مؤمن وهو يقول: "ما شاء الله.. أنت تعرف معنى نسوية؟"
:"وهل تظنني جاهل أيها المتبجح عديم الأدب!"
رد بها جده بحدة ثم تأفف يضرب الباب بعكازه بينما يهتف: "افتحوا الباب!"
وعندها فُتِحَ الباب ليظهر وجه عليا المكدوم ويظهر بوضوح أنها تأخرت بالرد لتحاول إخفاء كدمتها بشعرها العسلي الطويل لكنها لم تفلح وعندها اندفع مؤمن للداخل وهتف: "فاطيمة!"
:"أخي انتظر!"
التفت ينظر لها فابتلعت لعابها بخوف بينما تكمل: "الأمر ليس كما تظن.. دعني اشرح لك"
لمح بطرف عينه فاطيمة تقف على باب غرفتها.. فتحرك سريعاً وسحبها بخشونة من كتفها.. ثم أوقفها بجوار عليا قبل أن يجلس على أحد المقاعد أمامهما.. واضعاً ساقاً فوق الأخرى وهو يقول: "اشرحي لي"
التفتت فاطيمة تستجديه بعينيها لكنه استند على عكازه بهدوء وهو يقول: "لو قسم ظهرك يا فتاة لن أتدخل.. فقد تعبت من تقويمك بهدوء"
أسرعت عليا تقول: "لقد كنا نتشاجر.."
أومأ لها لتكمل: "كنا نتجادل وهي دفعتني لأخرج من الغرفة.. فتعثرت ووقعت على باب الخزانة المفتوح"
لم يكن يصدقها لكنه سألها: "ولِم تشاجرتما؟"
عضت عليا شفتيها قبل أن ترد: "لقد غضبت منها لأنها لم تعطي لأبي الدواء بموعده كما أوصيتها عندما غادرت لتناول الغداء عند خالتي"
:"ولِم لم تعطيه الدواء بموعده؟"
وجه سؤاله لفاطيمة التي ارتبكت وبصعوبة ردت: "لقد نسيت"
:"نسيتِ؟"
همسها بضحكة قصيرة قبل أن ينهض ويقترب منهما.. فتراجعت فاطيمة خطوة لكنه لم يكترث ورد: "حسناً فاطيمة.. أنا سأسافر لبضعة أيام وأعود.. بغيابي سيأتي شهاب إلى هنا يومياً لتفقد أحوالكم"
نظرت له فاقترب يكمل بهدوء: "وإن رأى أي علامة على وجه شقيقتك سيأخذك دون أي كلمة إلى عمتنا نفيسة بالقرية"
اتسعت عينيها والتفتت لشهاب الذي ابتسم بشر وهو يرد: "أمي سترحب بك كثيراً فطوم.. فهي لازالت تذكر كلماتك النابية بحقها بآخر زيارة!"
ابتلعت لعابها بصعوبة بينما تلتفت له فتجاهلها ونظر لعليا طالعها لثانية ثم وضع يده بجيبه وأخرج بطاقة ذكية قائلا: "أنت تعرفين الرقم السري"
ثم أشار للعلب على الطاولة وهو يكمل بينما يغادر: "هذه الأغراض لكما"
:"أخي انتظر!"
هتفت بها عليا مع مغادرته دون التفات لكن قبل أن يخرج من بوابة الشارع وجد يداً تسحبه للخلف.. فالتفت ينظر لعليا التي كانت تبكي بينما تقول: "ابقى سأعد لك الحلوى التي تحبها"
طالعها قليلاً ثم اقترب منها وهو يهمس: "توقفي عن البكاء يا غبية.. توقفي عن التصرف بضعف.. لا تمنحي شيئا لشخص يهينك.. توقفي عن التعامل معها كشقيقة لك.. بينما هي لا تعتبرك أي شيء!"
ابتلعت لعابها وارتجف فمها فأفلت منها والتفت ليغادر ولكنه توقف ما أن قالت: "أبي كان يسأل عنك طيلة الفترة الماضية"
تجمد مكانه قليلا بينما هي تكمل: "قل مرحباً له على الأقل"
:"لا تتدخلي بهذا فهو أمر لا يعنيك"
قالها ثم غادر فوراً دون التفات..
****
~في الطائرة~
:"مؤمن.. مؤمن!"
فتح عينيه والتفت ليجد ريم تنظر ناحيته وهي ترد: "استيقظ لقد وصلنا"
فرك عينيه بينما يستقيم بجلسته.. ليجد الركاب جميعهم واقفين ليهبطوا من الطائرة.. نظر لحزام الأمان ليجده مربوط فالتفت ينظر لريم التي قالت: "لقد ربطته لك عندما فشلت بإيقاظك قبل الهبوط"
:"شكراً"
همس بها بينما ينزعه وينهض من مكانه.. ثم أنزل حقيبتيهما وهي تنهض وتسأله: "بدوت متعباً.. ألم تنم؟"
-:"سهرت بالمقر لأنهي بعض الأمور قبل سفري"
التفت ينظر لها فوجدها تطالعه بطريقتها الغريبة.. لكنه لم يمنح الأمر كثيراً من الاهتمام.. وأفسح لها مجالاً لتتحرك أمامه بينما يقول: "هيا الآن لنهبط.. فأنا أكره الزحام كما تعلمين"
***
قلبت المشروب الساخن حتى تأكدت من ذوبان كل السكر.. ثم حملت الكوب وتحركت نحو غرفة والدها أولا تتأكد من أنه نائم بأريحية وهدوء.. توجهت بعدها للصالة الخارجية وجلست على مقعد الطاولة تطالع علب الهدايا التي اشتراها مؤمن لها.. بالطبع فاطيمة أخذت العلب المكتوب اسمها عليها فور مغادرة جدهما.. بينما هي بقيت تطالعهم منذ البارحة دون قدرة على الاقتراب منها حتى.
ولم تكد تمر بضع ثواني وخرجت فاطيمة من غرفتها بكامل تأنقها.. ثم اقتربت منها تطالعها بتبجح ونظرات مزدرية..
لو كانت أخبرت مؤمن البارحة أنها ضربتها لم تكن لتصبح هنا حتى لتطالعها بهذه الطريقة كان تلك الجملة تتردد ببالها بلا توقف مع نصيحته القاسية التي ألقاها عليها قبل أن يغادر ويسمعها ترد بأنها لا تستطيع..
لا تستطيع أن تكون مثله هو ودارين.. ولا تفهم للآن السبب بهذا..
:"أعطني تلك البطاقة"
كانت متأكدة أن هذا ما ستطلبه لكنها لم تبدي أي اهتمام وردت: "البطاقة ليست لتنفقي منها على ملذاتك يا فاطيمة"
-:"وما الغرض منها إذاً يا أخت الغالي؟"
سألنها بازدراء فردت بهدوء: "الغرض منها أن يكون معنا مال إن احتجناه"
التتفتت لها وهي تكمل ببرود: "وتذكري ما قاله الغالي حتى لا أفتقدك يا غالية"
لم تتحمل ولكزتها بكتفها بعنف قبل أن تغادر صافقة الباب بحدة.. وعندها ابتسمت وهي تفكر أنها حتى لو لم ترحل ستكتفي بأن تهددها بمؤمن.. وترى تلك النظرة المرتعبة على وجهها.
التفتت تنظر للعلب ثم احتست قليلا من الشاي قبل أن تنهض وتفتح أول علبة.. وابتسمت فور رؤيتها سترة من ألياف ناعمة وجميلة وفرو يزين أطرافها.. وقد كانت بلونها المفضل الأرجواني الفاتح.
فتحت باقي العلب لتجد سروالاً وحذاء مع كنزة صوفية.. وقبعة فرنسية بنفس لون السترة.. وبإحدى العلب عثرت على قلادة ذهبية يتدلى منها وردة ومعها قرط بنفس الشكل.. وعندها ابتسمت وملأت عيناها الدموع وهي تهمس: "هو ليس قاسياً تماماً كما تنعته ريم في النهاية!"
***
أوصلهم أنطوان لمكان الفندق.. بعد أن أقنعت بصعوبة السيد صعب المراس أنه لا داعي لاستقلال سيارة أجرة في وجود أنطوان الذي أتى خصيصاً لاصطحابهم.. وقد وافق في النهاية دون أن يخفي انزعاجه الملحوظ من أنطوان الذي كان على وشك احتضانها وتقبيلها لولا دفعه له بعيداً.. وهي بالطبع ليست سعيدة بأنه أوقفه واعترضه.. وظهر غيوراً عليها بهذا الشكل..
كان هذا ما تردده طيلة الطريق.. وطيلة الفترة التي قضوها في الاستقبال ينهون أوراق التسجيل بالفندق.. قبل أن يتجها للمصعد ليتجها لغرفتيهما.
:"ماذا ستفعلين؟"
سألها فأخرجت هاتفها لتنظر لجدول أعمالها الذي أرسلته هاندا وهي ترد: "لدي تمرين بعد ساعة.. لذا سأبدل ثيابي وأتجه لمقر التمرين"
-:"سآتي معك"
:"لا مؤمن!"
قالتها بصرامة وهي تلتفت له بينما تكمل: "تبدو متعباً وبحاجة للراحة.. لذا ستذهب لغرفتك وتنام"
-: "لن أنام على أي حال"
ضحكت بسخرية وهي ترد: "نعاسك بالطائرة ينفي حديثك"
-:"هذا لأنك كنت هناك وحسب"
التفتت له مجددا وسألته باستغراب: "ماذا تعني؟"
اتكأ بظهره على المصعد وأغمض عيناه وهو يرد بهدوء: "أنام بعمق فقط بوجودك قربي ولا أعلم السبب بهذا"
كان رده هادئا لدرجة أدهشتها.. كيف بحق الله قد يغضبها ويسعدها بجملة واحدة؟!..
لكنها تمالكت نفسها وعادت تنظر للهاتف وهي تقول: "مع هذا ستذهب لغرفتك وتنال قسطاً من الراحة ولن نتناقش بهذا!"
سمعت تنهيدته الحارة قبل أن يهمس: "حاضر يا صاحبة المقام!"
ولا تعلم السبب لكن مع كل مرة يناديها بهذا اللقب..
****
تحركت تدخل المكان الذي عرفت من أحد أصدقائها أن مؤمن اشتراه ليقيم به شركته.. تحركت لداخل الشقة الخاوية وهي تتأمل تنظيمها الرائع بين وألوانها الجميلة ومن المعدات الملقاة أرضاً فهمت أن العمال لا يزالون ينهون بعض الرتوش بها وأنهم في الغالب غادروا لتناول الطعام أو ما شابه..
:"هل أساعدكِ بشيء؟!"
التفتت تنظر خلفها لتجد فتاة بقوامٍ رشيق وبشرة برونزية جميلة يزينها شعر أحمر لامع وعيون من الزمرد..
تنورة ضيقة باللون الأحمر تتعدى ركبتيها وتلتف بشدة حول قدها يعلوها سترة باللون الأحمر أسفلها قميص أبيض فضفاض..
كانت جميلة ومن ثيابها وأنفها المتعالي بغطرسة فهمت أنها ثرية كذلك.. لكن نظرتها الغامضة كانت تشعرها بشيء حاد ينخز صدرها.. كلها على بعضها بدت كسهمِ حاد يصيب من يغضبه..
وقفت باستقامة وطالعتها بنفس الطريقة المغرورة وهي ترد: "أتيت لمقابلة الباشمهندس مؤمن الهلالي"
لم تعجبها الطريقة التي طالعتها بها من أعلى لأسفل قبل أن تسألها: "ومن تكونين أنتِ؟"
:"لا أظنه شيئاً يخصكِ"
ردت بها بحدة فابتسمت بسخرية وهي تقول: "السيد مؤمن ليس هنا لقد سافر"
اختفت ابتسامتها بينما تسأله: "إلى أين سافر؟"
اتكأت الفتاة الحادة على إطار الباب وردت بينما تبقي على ابتسامتها الساخرة: "لا أظنه شيئاً يخصكِ"
كانت لتلتفت وتغادر لكن كان يجب أن تعرف أين ذهب فإن حدث ما ببالها تقسم أنها ستنزع شعر الرعناء الفاحم بيديها.. ولهذا اقتربت منها وحاولت تصنع اللطف وهي تسألها: "رجاءاً أخبريني أين ذهب؟"
بدت الصدمة على وجه الفتاة لكنها تداركتها سريعاً وردت: "لن أخبرك أين ذهب ما لم تخبريني من أنتِ"
:"أنا اسمي سوزان سامح.."
قالتها ثم أكملت بتأفف: "وأنا كنت زميلته وأريده أن ينفذ لي مخططاً لمركزي الجديد"
أومأت الفتاة بتفهم قبل أن ترد: "حسناً يا سوزان سامح.. مؤمن ليس هنا لقد سافر لعدة أيام لدبي و..."
:"اللعنة!"
هتفت بها وهي تضرب الأرض بعصبية ثم التفتت تنظر للفراغ وهي تكمل: "يا لي من حمقاء.. لم لم أتوقع أن يسافر معها؟.. يا لي من غبية.."
:"أستميحكِ عذراً"
التفتت تنظر للفتاة التي اختفت ابتسامتها وسألتها ببرود: "مع من سافر بالضبط؟!"
ابتسمت سوزان عندها وهزت رأسها وهي تقول: "لا أظنه شيئاً يخصكِ"
والتفتت بعدها لتغادر لكن الفتاة تحركت لتقف أمامها سريعاً ثم عادت ابتسامتها السخيفة التي ذكرتها بابتسامة والدتها بينما تقول: "الأفضل أن تخبريني.."
اقتربت منها أكثر وهي تكمل بخفوت: "فإن لم تخبريني لن أسمح لأي شخصٍ بهذه الشركة أن يتعامل معك بمن فيهم مؤمن شخصياً"
هي ليست متسرعة وليست غبية.. كان هذا ما يميزها عن ريم أنها تعرف بالضبط متى يمكنها أن تنتصر ومتى يجب أن تتراجع حتى لا توسم بخسارة فادحة.. وتلك كانت إحدى اللحظات التي شعرت بها أنها ستخسر لو لم تتراجع.. تلك الفتاة أمامها صحيح لا تعرف هويتها لكن يمكنها رؤية الثقة التي تتحدث بها ولهذا ادعت الهدوء وابتسمت بينما ترد: "سافر مع ريم الصالحي ابنة خالة أخواته البنات"
بقيت تحدق بها بصمت للحظات قبل أن تتراجع وهي تعض شفتها السفلى ثم تحركت تتجاوزها عائدة للمكان الذي كانت تقف به وعندها لم تتمالك فضولها والتفتت تنظر لها وهي تسأل: "من تكونين أنتِ بالضبط؟"
التفتت عندها لها وتأملتها لثوانٍ قبل أن تعود الابتسامة السخيفة لتزين وجهها وهي ترد: "أنا كابوسكِ!"
ثم تحركت عائدة لداخل إحدى الغرف فقررت تجاهلها والعودة للاهتمام بشئونها والتفتت مغادرة المكان بأسره لتفكر بحلٍ لورطتها..
****
تحركت ريم بين المقاعد قاصدة المسرح وما أن صعدت درجاته أخذت نفساً عميقاً لتحاول تقليل أثر الانبهار من مدى كبر المكان وروعة تصميمه.. كانت السعادة المنبوعة بالتوتر يتزايدان داخل قلبها مع كل ثانية تمر..
:"يبدو أنه أعجبكِ!"
التفتت تنظر لهاندا التي اقتربت منها بابتسامة واسعة وما أن وصلت لها احتضنتها ثم تراجعت تكمل: "حمداً لله على سلامتكِ أتمنى ألا تكون الرحلة قد أتعبتكِ"
ابتسمت لها وردت بأدب: "على العكس لقد استمتعت للغاية"
سحبتها هاندا لتسيرا معاً إلى خلف الكواليس وهي تسألها: "وكيف ارتأيتِ الغرفة؟"
سرحت ذاكرتها بالغرفة الساحرة بأحد الطوابق الشاهقة والتي تطل على المدينة بأسرها.. كانت قد التقطت عدة صور ما أن وطأتها قدميها وأرسلتها فوراً لخالتها وفادي مع صيحات سعادة واصفة روعة الغرفة وكبر حجمها.. لكن مع هاندا اكتفت بابتسامة وهي ترد: "الغرفة رائعة شكراً لاهتمامكِ أستاذة هاندا"
:"جيد.."
قالتها هاندا ما أن وصلتا لغرفة مضيئة بأشعة الشمس والتهوية بها تثير راحة غريبة مع الألوان الهادئة التي تزينت بها.. لكن صوت الألحان التي تُعزَف على البيانو كان ما سحرها وجعلها تسترخي كلياً..
:"عذراً لمقاطعة روائعك أنطوان.."
توقف عن العزف فشعرت بالحزن وما أن التفت لهما ابتسم وهو ينهض ويرد بالفرنسية: "ها هي فتاتنا الذهبية!"
اقترب منهما وقبل أن يصل لها تراجع وأكمل: "لا تخافي لن أحتضنك حتى لا يغضب السيد غيور"
شعرت بالحرج قليلاً وهي تتذكر معاملة مؤمن الفظة له لكن ما كانت لتعرض على تصرفه لذا ردت: "أنا آسفة لم نعني أن نحرجك لكن مثل تلك الأمور تُقابل بالرفض في مجتمعي"
:"أعلم هذا ولست متضايقاً"
قالها بابتسامة فربتت هاندا على ظهرها وهي ترد: "ما دمتما متفقان سأترككما لتبدئا التمرن فوراً"
ابتسمت لها بينما تغادر ثم التفتت لأنطوان الذي نظر للنوتة بين يديها وهو يقول: "إذاً ما رأيك بالمعزوفة؟"
:"لا أطيق صبراً لسماعها.."
ردت بها بحماس فرفع كفه المضمومة قائلاً: "هذه هي الروح المطلوبة"
ثم تحركا نحو البيانو وهو يكمل: "لكن أولاً دعينا نعزف بعض النوتات التي تدربتِ عليها ونفذتيها من القبل لنرى أخطائك ونتداركها.."
أومأت له وأسرعت تجلس على مقعد البيانو.. طالعت المفاتيح.. تنفست بعمق.. مررت أصابعها على كل المفاتيح وهي تهمس: "مرحباً"
ثم رفعت ناظريها لأنطوان وقالت: "بماذا نبدأ؟!"
خلع سترة بذلته وألقاها جانباً ثم اتكأ على البيانو وهو يرد: "تملؤني نظرتكِ حماساً للاستماع لكل ألحانك المفضلة لكن دعينا نبدأ بمطلع سوناتا ضوء القمر الذي أسرني عشقاً لأصابعكِ الذهبية"
وضع يده على صدره بينما يتنهد بعمق مكملاً: "أووووه لازال قلبي أسيراً للحن منذ ليلتها.."
ابتسمت بسعادة وهي ترى مدى تأثره بعزفها قبل أن يستقيم هو مردفاً: "ماذا تنتظرين يا حلوتي ابدئي حالاً!"
وعندها لم تدخر أي وقت وأسرعت بالبدء بعزف النوتة التي تحفظها عن ظهر قلب متمنية ألا تتأخر منار بالوصول حتى تعزفانها معاً!..
******
لفح الهواء البارد جسدها ليؤلم عظامها لكنها لم تشتكي.. كانت تبتسم وحسب وهي تطالع شاهد القبر الذي زينه اسم أختها الغالية.. اسمها سامية وهي كانت سامِية بالفعل.. سامية بحديثها وتصرفاتها.. سامية حتى بأخطائها وغضبها.. لا تذكر أحداً اشتكى منها حتى ظريفة شقيقة زوجها اللئيمة لم تتجرأ يوماً بحياتها أن تشتكي منها فقد كانت تعلم أنها ستُقابل بعدم التصديق والاستهزاء.. فلا أحد كان يرى من شقيقتها سوى كل الخير والاحترام والحب والرعاية.. لها هي كانت بمثابة الأم التي فقدتها بصغرها.. لم تشعر يوماً سوى أنها أمها الثانية وعندما أنجبت ريم كانت تغار منها رغم كونها بوقتها تعدت العشرين بأعوام وكانت على وشك أن تتزوج لكنها لم تقدر أن تتصور أي أحد يشاركها بوالدتها التي اعتنت بها وربتها.. لكن مع مرور الوقت تعلقت بالصغيرة الساحرة بهية الملامح رقيقة المشاعر والقلب أكثر من أي شخص..
اتسعت ابتسامتها وهي تتذكر حديثها معها بالليلة السابقة..
&&فـــــــــلاش بــــــــاك&&
:"خالتي صففي لي شعري"
قالتها وهي تدخل غرفتها فارتدت نظارتها الطبية وأزاحت الغطاء لتجلس أمامها وقد فعلت بعد أن أعطتها فرشاة الشعر..
:"هل تريديني أن ألفه حول رأسك؟"
أومأت وهي ترد: "أجل خالتي أريده أن يبدو مصففاً بما أني لم أتمكن من الذهاب للصالون اليوم"
بدأت بتسريحه ثم قالت: "ابحثي عن مصففة شعر ما أن تصلي واذهبي مع منار أو نغم.. إياكِ أن تذهبي وحدك"
:"حاضر خالتي.."
ردت بها ثم تنهدت بعمق مكملة: "كنت أتمنى أن تأتي معي سأكون قلقة عليكِ"
:"تحركي لليمين.."
قالتها فتحركت بالفعل وما أن استقرت أمامها أكملت: "لا يمكنني السفر لفترة طويلة وترك دارين.. كما أني لا أحب السفر كما تعلمين وهو يتعبني"
التفتت تنظر لها فقرصت أنفها برفق وهي تردف: "أنتِ لستِ قلقة علي أنتِ فقط تريديني أن أستمع لكِ يا مشاكسة"
ضحكت بينما تفرك أنفها ثم ردت: "حسناً أنا أريد الاثنين"
ابتسمت ثم بدأت بوضع ربطات الشعر على جانب رأسها وهي تقول: "لا تخافي علي سأكون بخير كما أني سأتصل بكِ بمعدل مرة كل ساعة تقريباً"
نظرت لها فلم تجد أي علامات للرفض على محياها كان فقط الخوف يملؤ عينيها لذا أكملت: "أنتِ عدوة نفسكِ يا ريم.."
التفتت لها باستغراب فتوقفت عما كانت تفعله وطالعتها قليلاً قبل أن تشير لصدرها مردفة: "اهزمي هذا الشيء القاتم الذي لا يتوقف عن لومك والتقليل من شأنك وعندها لن يهزمك أو يقف بطريقك أي شيء"
&&&&
زفرت الهواء بصدرها وهي تهمس: "أتمنى أن تكون فهمتني يا سامية"
صمتت قليلاً قبل أن تبتسم مكملة: "حتى وإن لم تفهم سأجبرها على أن تدرك يوماً ما أن لا أحد يعطلها ويربكها غير نفسها!"
:"شكرية.."
التفتت تنظر لنادية شقيقتها التي أشارت لها وهي تكمل: "ألن نذهب لدي كثيرٌ من العمل ينتظرني في...."
لم تهتم بسماع المزيد من كلامها ونهضت عن المقعد الذي أحضره لها عامل المقبرة ثم اقتربت من القبر وربتت عليه وهي تهمس: "سأزوركِ قريباً مع ابنتك لتخبرك بما حدث في العرض.."
التفتت تنظر لنادية ثم عاودت النظر للقبر مكملة: "والمرة القادمة لن أحضر بها تلك الشكائة البكائة"
:"لمعلوماتك سمعتك"
التفتت تنظر لوجهها المليء بالانزعاج قبل أن ترد: "ومن قال أني أحاول إخفاء الكلمات عنكِ هل تظنيني أخافك يا امرأة؟!"
*****

رسالة من فتاة مجنونة Where stories live. Discover now