الفصل الحادي والاربعون

Start from the beginning
                                    

****

الماضي

  يوم الجمعة كان المطر يهطل حينها، يروي ارض جافه قاحلة، قبل ثمانية عشر عامًا وفي هذا الوقت من السنة كان الشتاء يحط شباكه على الرياض... يقف منتصب بثوبه الأبيض الذي يربطه على خصره، فوق السطح العلوي لمنزلهم المتواجد في منتصف المزرعة، حيثُ جرت العادة أن يقضون أول ليالي العيد هنا بين النخيل التي تلفح بهوائها الندي، بعيداً عن ضجيج المدينة.. تشير الساعة الآن إلى الثالثة فجرا.. ينظر الى السماء فتسكب قطراتها على وجهه البهي المشرق كالقمر في ضيائه.. يحرق جوفه بسيجارته التي بدأت تتهشم.. من فرط الاستخدام.. رفع حاجبه بدهشه من قطع لحظات اجوائه العليلة التي يخصصها بينه وبين سيجارته لا طرف ثالث.. اثناء ذلك دُفع الباب بهدوء لئلا يصدر صريراً.. كانا يقفان امام الباب بابتسامه جانبية يتشاركان نفس الوضعية وكأنه قد تم القبض عليه ملتبساً. ليصرح ذاك الفتى ذو الخامسة عشر ربيعاً: اجل ما ابي عشا.. طالع ارقد!
ثم أكمل تركي بهزل وهو ينثر شعره المبلول: شكله يمشي وهو نايم.. لا تستاثم فيه!
نثر دخان سيجارته المتكتل، ثم صرح وهو يشير اليهما: تعال انت وياه.
نظرا الى بعضهما ثم سارا باتجاهه، اخرج العلبة ليمد لكل واحد منهما سيجارة: خذوا ولا اسمع حسكم.
سياف: رشوه يعني.. تركي لا تاخذ!
مشعل: عاد اعتبرها مثل ما تبي.. اخلص علي تبي ولا لا؟ كان سيدخلها ولكن سرعان ما تراجع سياف متناولها من انامل الاخر: خلاص امزح...تركي خذ خل نجرب.
أردف مشعل بابتسامة ساخرة على وضعهما المرتبك. ليقول وهو يشعل لهما: اسحبوا نفس عميق بعدها ازفروه.
سياف وهو ينفث رذاذ الدخان كما أخبره مشعل: الله على جوك البطل.. ليه ما دليتني عليه من قبل!
-تخسى لسعك بزر.. ها تركي وين وصلت؟
كح بقوة حين ارتشف الرشفة الأولى، ليقول وهو يحرك يده مبعد تكتل الدخان: وش تحس فيه.. شوي وكنت بنكتم. ثم دهسها بقدمه ليقول الاخر بتسرع: يا ورع معطيك حبه كامله تدعسها بكل برود وهي لسى جديدة.. لعنبو حيك.. كان عطيتني إياها.
-عاد وش دراني!.. المهم سياف بتجلس ولا بتنزل معي؟
ليرد الاخر وهو في اوج اندماجه: خلنا هنا.. والله الكلب جوه عليل...
قاطعه مشعل وهو يسند ظهره على الجدار البارد: وش عندك مستعجل على النزله؟
ليصرح تركي وهو يجلس بجانبه: مدري حسيت أنك تضايقت من جلستنا.
-بو خالد ما يرد أحد.. وأنت تعال اجلس خل نسولف.
بعد أن اسندوا ظهورهم وينظرون الى السماء أمامهم لا نهاية لها، فازدادت تراكمات السحب مغطية القمر.. رياح عاتية بدأت تتهاوى فتحرك شعر رؤوسهم الكثيفة في اتجاه واحد.. نطق تركي بينما يتأمل السماء، وهو يجمع ساقيه، مطوقهما بذراعيه: يقولون إن المطر دلالة العشق الاولى، عشق السماء للأرض.
ليصيح الاخر في استنكار: الله الله!
مشعل بابتسامة وهو ينظر الى تركي المركز حقاً في السماء وكأنه يتأمل كلماته التي خرجت متناغمة مع صوت الرياح العجيج: الواضح أن اخوك يحب.
سياف بابتسامة هازلة وهو يلكز تركي: صدق اللي يقوله مشعل؟
اعتدل في جلسته بينما يلقي نظره يميناً ويساراً، في اتجاههما، سؤاله جاء مربكاً وكأنه لغم وضع في أرض زراعية، سكت لبرهة ثم أجاب بصدق مكنون مشاعره الفياضة: ايه أحب.
-يا ولد أنت يا حركات.. ومن هاللي ماخذه قلب اخونا؟!
يبتسم ويطلق عقله في سماء لا حدود لها، قبل أن يجيب: متفرده عن كل المخاليق.. حتى القمر جنبها ولا شيء.
سياف: احس شوي وبيقط شعر!
تتغير ملامحه الباسمة، فيشعر بالضيق والعجز من أن يفشي مكنون مشاعره الجياشة..
يحاول مشعل إعادته الى الجزء الجميل، بسؤاله: تركي.. البنت حلوة؟
نجحت محاولاته وعادت إليه ابتسامته: حيل.. حيل حلوة!
مشعل: يا ولد!
هز رأسه ليمحو صورتها التي نقلته لعالم آخر لا يراه غيره.
ابتسم مشعل بينما يعيد ترتيب شعره: الله يعينك.

لا تحملني خطا ما هو خطاي..لو أنا المخطي كان والله اعتذرتWhere stories live. Discover now