رسالة من فتاة مجنونة - الفصل السادس والعشرون

115 10 0
                                    

~الرسالة الخامسة عشر~
اغفري لي..
يا من أضئت لياليّ المعتمة بضوء قمرك ذو الأشعة الآسرة..
اغفري لي..
ولو لم أستطع طلب الغفران بلساني.. فأنتِ الأعلم بنفسي الثائرة..
اغفري لي!..
****
:"لا أصدق أنه عاد!"
قالتها نادية وهي تجلس على الأريكة بتعب فالتفتت شكرية تنظر لدارين وقالت: "اذهبي وحضري نفسك لنذهب لشقتي"
تحركت الفتاة نحو غرفتها مع والدتها بصمت وما أن فعلت نظرت شكرية لشقيقتها وقالت: "ظننتك للحظة ستسعدين لعودته"
التفتت لها بحدة فأكملت: "تعلمين يمكنه التحكم بتلك الفتاة التي لا تقدرين عليها"
:"أنا أقدر عليها!"
قالتها بعصبية ثم أكملت: "لكنها آخر ما أهتم به الآن.. عودة ذلك الفتى ستفسد كل خططي"
:"ولهذا قلت أن ظني لم يدم سوى لحظة"
ردت بها شكرية قبل أن تكمل: "أنا أعلم ما ستفكرين به"
نهضت نادية وهي تهتف: "لا شيء يجب أن أفكر به سوى هذا يا شكرية.. عودة ذلك الفتى ستفسد خطتي أنا وعماته بإقناع جده بالعدول عن منحه كل المال بسبب كونه ناكراً للجميل وبلا أصل!"
نهضت شكرية ووقفت أمامها ونظرت لها أخيراً ثم قالت: "هو لم يعد فتى يا نادية"
ثم ابتسمت وهي تكمل: "وأنتِ لن تقنعي حماكِ بالعدول عن قراره.. ذلك الفتى الذي تستهينين به لن يسمح لك"
****
خرجت دارين من الغرفة حاملة حقيبتها الصغيرة المحتوية على ثيابها وكتبها المدرسية.. اتجهت أولاً لغرفة والدها فتحت الباب لتجده جالساً بصمت يطالع الفراغ.. وبأحد الجوانب كانت فاطيمة جالسة على مقعد يبدو عليها الغضب والحنق بينما تقضم أظافرها.. نظرت لها بطريقتها المعتادة المليئة بالازدراء.. فلم تكترث واقتربت من والدها وما أن وصلت له قالت: "أبي سأقضي الليلة عند خالتي هل تسمح؟"
ابتسم لها وأمسك كفها ثم رد: "لا بأس.. اقضي الأيام القادمة معها وتعالي لقضاء وقت الصباح معي"
ابتسمت له وانحنت تقبله قبل أن تقول: "سأفعل"
أومأ لها فالتفتت لتغادر الغرفة لكنه أوقفها بندائه: "دارين.."
التفتت له فأكمل: "استمعي لأخيكِ ولا تجادليه بما يطلبه"
سمعت الضحكة الهازئة من فاطيمة لكنها لم تكترث.. وأومأت له بطاعة ثم التفتت لتغادر.. اتجهت بعدها لغرفة شقيقتيها حيث وجدت علياء تجلس في العتمة على الفراش بصمت.. فدخلت قليلا وقالت: "عليا سأذهب الآن"
لم ترد فاقتربت أكثر تطالعها ثم أكملت: "سأذهب الآن ألا تريدين أي شيء؟"
هزت رأسها بنفي فقررت دارين أن تغادر.. لكنها توقفت في اللحظة الأخيرة وتراجعت تقترب منها.. ثم قبلت رأسها وبعدها نظرت لها وهمست: "إنها طريقته بإخبارك أن مكانتك أكبر من هذا وأنه اشتاق لك"
ثم قبلتها مرة أخرى وغادرت الغرفة.. اتجهت ناحية الصالة حيث كانت والدتها تقول بعصبية: "سترين بنفسك.. سأقنع صلاح وسأثبت له أنه ليس الحفيد المثالي الذي يخاله!"
لم تكترث لحديثها وقالت: "خالتي أنا جاهزة للذهاب"
:"من أخبرك أنك ستغادرين؟!"
سألتها والدتها بحدة فلم تتعب نفسها بالتفكير برد وتركته لخالتها.
-:"أنا أخبرتها هل لديك مانع يا نادية؟!"
تراجعت والدتها بالطبع مع صوت خالتها الصارم قبل أن تكمل: "لا أهتم بأحلامك المليئة بالطمع والحقد يا نادية.. لكن جدي حلاً مع ابنتيك"
ثم التفتت وقالت: "لنغادر يا دارين"
تحركت معها دون أن تودع والدها حتى وسارتا معا لخارج البيت.
***
كانت تحاول أن تهدأ.. تتحلى بالصبر.. تتحلى ببعض العقل لكي لا تصرخ عليه.. لكنها لم تقدر ومن حسن حظها أن اللحظة التي قررت فيها أن التصرف الصحيح هو ألا تحاول الهدوء أو الصبر.. وألا تتحلى بأي عقل كان هو قد توقف أمام أحد الشواطئ.. وعندها غادرت السيارة دون التفات له.
تحركت حتى وصلت بقرب البحر وبدأت بالتنفس بعمق محاولة أن تهدأ.. لكنها كانت محاولة فاشلة كلياً.. لا شيء بداخلها هدأ بل كانت تزداد غضباً مع كل لحظة.
:"أنت دوماً تصدمني رغم توقعي لتصرفاتك"
قالتها ثم التفتت له وهي تكمل: "تجعلني دوماً أرى كم أنا مخطئة بشأنك.. وتخبرني بوضوح أنني مهما حاولت توقع قسوة ردود أفعالك فهي ستكون أسوأ مما أتخيل"
وضع يديه بجيبي سترته وهو يرد: "ما علاقة هذا بأي شيء؟"
اقتربت منه عندها ووقفت أمامه مباشرة ومدت رأسها للأعلى بينما ترد: "له علاقة بكل شيء.. بل إن قسوتك هي محور كل شيء حدث بحياتنا مؤمن"
تراجعت والتفتت عنه وهي تكمل بعصبية: "تعود بعد كل هذا الوقت وتقابل أختيك بهذه الطريقة دون قول مرحباً حتى!"
التفتت له بينما يرد ببساطة: "لم أرى أن هذا أثر على دارين بدت مطيعة وهادئة"
:"وماذا عن عليا؟!"
هتفت به بعصبية فرد بعملية: "عليا كان يجب أن تظهر ما أظهرته دارين عوضاً عن البكاء دون رد.. هذا الذي لا يثبت سوى أنها لم تنضج بعد.. وتربيتي على رأسها واحتضانها لن يجعلاها تنضج وتنظر حولها بعناية"
تأففت بعصبية وضربت الأرض بقدمها ثم التفتت تنظر للبحر.. ومرت بضع ثواني قبل أن تتنفس بعمق وهي تهمس: "لا فائدة.. لا شيء تغير!"
-:"الكثير تغير لو نظرتِ حولكِ بعناية"
التفتت تنظر له وتتأمله لثوانٍ.. لقد تغير مظهر الفتى الذي كانت تلعب معه في صغرها.. اختفت النظارات المعظمة ورحلت الثياب التي كانت تنتقيها لأجله من الأسواق الشعبية.. الهالات التي كانت تحيط بعينيه بسبب السهر.. والعيون المرهقة من فرط الدراسة والتعب تبخرت.. الآن أصبح رجلاً ناضجاً بثياب باهظة.. يركب سيارة تظهر مدى ثرائه.. وجهه يشع بالحيوية وجسده يبدو منمقاً فاضحاً اعتنائه بنفسه وصحته.. لكن بعمق عينيه لازال ذلك الحزن المغلف ببرود قارس.. لازالت الكلمات العملية الباردة تقطر من لسانه.. لازالت المشاعر لا وجود لها بمعادلاته الصعبة المليئة بالرموز التي لم تفهمها.
لازال قاسياً كالعالم تماماً..
يؤلمها الكثير من الأشياء التي ترتبط بعلاقتهما المليئة بالمعاناة والخيبة.. لكن أشد ما يؤلمها كان تذكر ما كان عليه بطفولتهما -وقبل رحيل والدته- وما أصبح عليه فيما بعد.. يؤلمها أنه يحاول دوماً إخبارها أنه من اختار تلك الطريقة ليعيش ويقاوم.. وقد اقتنع الجميع بهذا لكن هي ترى أنه لم يملك خياراً آخر.. يؤلمها أكثر أنه سيندم يوماً ما على تصرف سيتخذه بعقله.. دون أن يمنح فرصة لقلبه بدخول معادلاته المعقدة.
عادت تنظر أمامها وهي تقاوم البكاء وتقاوم الشعور بالألم عليه.. وذاك الصوت الشرير بداخلها يخبرها أنها من تستحق الرثاء هنا وهي تحاول الاستماع له لتسأله بهدوء: "ماذا تريد.. لم عدت الآن؟!"
-:"أريد أن أتزوجكِ"
فغرت فاهها بانشداه وهي تتأكد من الإجابة التي سمعتها.. ثم التفتت تنظر له لتجده يقف بثبات ووجهه مليء بالجدية كالعادة.. وعندها ضحكت بسخرية ثم قالت: "بهذه البساطة؟"
فكر لثانية قبل أن يرد ببرود: "لا أظن أن هناك طريقة معقدة لطرح أمرٍ كهذا"
كالعادة جمدها رده قليلاً قبل أن تتمكن من تجاوزه وقمع غضبها ثم قالت: "وإن رفضت؟"
-:"لا أظن أن هذا جواب مطروح"
اتسعت عيناها بغضب قبل أن تتنفس ببطء ثم ابتسمت قائلة بتشديد على كل كلمة: "إذا عليك أن تطرحه بعقلك الرقمي أيها الآلي.. لأني غير موافقة"
ضحك بسخرية وعندها لم تتحمل واقتربت منه وهي تسأله بهدوء: "علام تضحك؟"
انتظرت لثوانٍ ثم أكملت: "أخبرني علام تضحك هااه.. ما المضحك بكلامي.. فبرأيي الرد الوحيد المضحك بهذه الحالة أن أوافقك.. لذا صحح لي أفكاري"
-:"لم قد ترفضيني؟"
كان دورها هي بالضحك بعد سؤاله قبل أن ترد: "لنرى.. أنت تركتني ولم تسأل عني طيلة تلك السنوات.. دعك من السؤال.. أنت لم تعزني بوالدتي ولم تحضر جنازتها حتى.."
نظر لها قليلا ثم سألها: "وبم كان سيفيدك حضوري أو تعزيتي ريم؟. ما كنت لأفيدك بشيء وقتها.."
:"هي من ربتك أيها الجاحد!"
هتفت به ولم تتحمل حبس دموعها أكثر.. فتركتها وهي تتراجع قليلاً وجسدها كله ينتفض.. ثم رفعت إصبعها توجهه نحوه باتهام وهي تكمل: "وأنت خذلتها حتى بمنحها وداعاً لائقاً!"
ثم وجهت إصبعها لنفسها بينما تردف: "وخذلتني!"
عضت شفتيها ثم عقدت ذراعيها تنتظر رده بينما ترى عيونه تتأملها قبل أن يقول: "هي من ربتني وأنا لم أسئ لها يوماً.. ولست مضطراً لإظهار مشاعر حزني عليها لكِ أو لأي أحد... لست مضطراً لأخبرك كيف ودعتها.. هذا باب من أبواب اظهار الضعف وأنا لست ضعيفاً وأكره إظهار الضعف لنيل استحسان من حولي.."
ضحكت بسخرية لكن هو من اقترب منها ونظر لها قليلا قبل أن يكمل: "والآن انظري لعينيّ وأخبريني أن ما فعلته كان أسوأ قرار.. انظري لعينيّ وأخبريني بحلك السحري لوضعي بذلك الوقت عدا ما فعلت.. انظري لعينيّ وأخبريني أن أحلامي كانت لتتحقق دون أن أركض خلفها!"
أمسك بذراعها فجأة ثم اقترب منها أكثر وهو يردف: "انظري لعينيّ وأخبريني أني جاحد.. أخبريني أني خذلتكّ"
كان الرد سهلاً..
:"أجل أنت خذلتني.."
عليها فتح فمها وترك الجملة تنساب من بين شفتيها كطلقة رصاص علها تنتقم منه لكل ما عانته بدونه..
علها تشعر ببعض الراحة بعدها..
علها تتمكن من الغفران بعدها..
لكن لا شيء صدر عنها.. كانت تحدق بعينيه.. ترى الحزن المغلف بالبرود وتصمت..
تتجمع ذكرياتها مع رؤيته يُصفع ويُهان وتصمت..
تتذكر عندما دخل المشفى بسبب ضرب والده له وبقيت هي تبكي طيلة الليل بجوار فراشه خوفاً عليه ومجدداً تصمت..
ضاعت الكلمات من رأسها وشيئاً ما منعها عن محاولة تذكرها.. شيئاً تكرهه ولا تطيقه ألجم لسانها..لكن عاد الصوت فتاتها الشريرة تهتف أنها هي من تستحق الرثاء والبكاء.. فحاولت أن تتراجع عن مجاله لتعود لرشدها.. لكنه بقي ممسكاً بذراعها دون أن يؤلمها
:"اترك ذراعي"
قالتها بعصبية وهي تحاول افلات كفه: "لن أفعل!"
رد بها ببساطة فلم تتحمل وصرخت بوجهه: "أنا لن أتزوجك مهما فعلت!"
:"لا أذكر أني كنت آخذ رأيك.."
اتسعت عيناها بينما ابتسم هو بسخرية واقترب وجهه من وجهها حتى أصبح على بعد إنشٍ واحد بينما يهمس: "أخبرتك أني أريد الزواج بكِ كتقرير.. أنا لم أسألك أن توافقي أو ترفضي.."
استقام بوقفته وهو يطالعها من علو واختفت النظرة الغامضة القاتمة وعادت نظراته الباردة.. ثم رفع عينيه عنها ودار بهما حولها وهو يكمل: "انظري حولك كل شيء تغير.. جميع من تحبين تغيروا.. حتى النجوم التي تعشقينها تغيرت من وقت تركتك.. لكن أنتِ لازلتِ كما كنت عندما تركتك على رصيف ذاك القطار"
عاد للنظر لها ثم أردف: "وهذا يغضبني"
لم تتحمل الصمت أكثر وكانت هي من اقترب منه لترد بغيظ: "كما قالت أختك.. أنت لم تكن هنا لتغيرني يا مؤمن"
لم يتأثر وهي لم تتفاجأ من رد فعله بينما ابتسم بهدوء وقال: "وهذا هو السبب الذي لا يمنحك رفاهية الرفض يا ريم"
كانت على وشك الصراخ به ودفعه بعيداً لكنه فجأة سحبها واحتضنها.. وقبل أن تفيق من حركته المباغتة همس: "لقد اشتقت إليكِ"
لم تصدر عنها أي ردة فعل.. بقيت ثابتة وجامدة بمكانها تراقب رحيل الكلمات عن عقلها مرة أخرى.. حتى فتاتها الشريرة اختفت وتوارت خلف الشعور المسيطر عليها الذي لم ولن تعترف به..
هي لن تخبره أبداً أنها اشتاقت له أكثر من أي شيء..
ولكن قرارها بإلجام لسانها كان أضعف من أن يلجم دموعها التي هطلت دون حساب فأغمضت عينيها ولا كفيها اللذان تشبثا به دون أن تملك دفعهما بعيداً عنه..
****
بعد أن أنهت استحمامها صففت شعرها بعناية وجففته.. ثم جلست على الفراش واضعة الحاسوب بحضنها.. وقد قررت أن تنسى كل أحداث اليوم بالعمل قليلاً.. عند وصولها للبيت كانوا مجتمعين ويتسامرون بإحدى الغرف وهي كالعادة تجاهلتهم.. لم تلقي أي تحية وتحركت إلى غرفتها بصمت.. والآن هي جالسة وحدها وستعمل حتى تفقد كل طاقتها وتنام.. لكن بالطبع تلك الخطة البسيطة التي لا تؤذي أي أحد لابد وأن يتم معارضتها.. الباب فُتِح ودخلت عملها السيئ بحياتها... جوان!
:"لِم لم تأخذيني معك لعيد الميلاد؟"
يمكنها الآن فهم السبب في فشل عيد الميلاد وتدمير اليوم.. فلابد أن الوقحة المستفزة ووالدتها وشقيقتها قضوا اليوم بطوله في الحديث عنها هي وصديقاتها.. لكن هل هي تهتم؟!..
التفتت تنظر للوقحة.. وأول ما سقطت عليه عينيها كان القلادة التي اشتراها لها والدها بعيد ميلادها الأخير الذي لم تحضره طبعاً.. لكن جوان لم تدخر جهداً بإبراز الهدايا التي منحها لها والدها وأخيها.. والحضور من العائلتين.. لكن هل هي تهتم؟!..
نظرت لعينيها وردت ببرود: "ألم أخبرك ألا تدخلي غرفتي دون استئذان؟!"
بقيت تطالعها بتعالي وانزعاج بينما تقول: "لا تجيبي على سؤالي بسؤال.. من حقي أن أفهم السبب..."
:"لا!"
ردتها ببساطة قبل أن تعود بناظريها للحاسوب وتطالعه بلا مبالاة.. فسألتها جوان بعصبية: "ماذا تعنين بلا؟!"
-:"لا لست مضطرة لمنحك أي تبرير.. ولا يحق لكِ دخول غرفتي دون استئذان ولا أهتم بآرائك.. ولا يحق لك أن تتواجدي معي بأي مكان خارج المنزل والعمل.. هذان هما المكانان الذي فُرِض علي وجودك بهما.."
قالتها بهدوء ثم قبل أن تبدأ بجدالها نهضت عن الفراش واقتربت منها.. وانحنت تواجهها وهي تكمل: "والآن غادري حالاً قبل أن أفقد أعصابي.."
لم تتوقع منها المغادرة فوراً بالطبع.. فما كانت لتلقبها بالوقحة إن كان الأمر بهذه السهولة.. اقتربت منها وابتسمت بسخرية قائلة: "أنتِ فقط لم ترغبي أن أتواجد معك بنفس المكان.. حتى لا يظهر الفارق الشاسع بيننا أيتها السمينة"
صمتت لثوانٍ قبل أن ترد بهدوء: "وربما لم أُرِد أن أري الناس فارق الذكاء بيننا.. ربما لم أرد أن أبدي لهم الفارق الشاسع بين النفوس الطامعة والنفوس المكتفية يا ابنة السيدة حفصة"
تراجعت بعدها ثم ابتسمت قبل أن تدفعها بخفة لخارج غرفتها ثم أغلقت الباب بوجهها بعنف وأدارت مفتاح الباب وهي تهمس لنفسها: "أترين لِم لا يجب أن تنسي إغلاق الباب بالمفتاح؟"
تحركت بعدها عائدة للفراش لتكمل عملها دون أن تكترث لصراخ المزعجة من الخارج.
****
وصل بها لباب البيت ثم توقف قائلاً: "انزلي وانتظريني أمام البيت"
لم تناقشه فقد كانت متعبة بالفعل.. وقفت تنتظره بينما تتكئ على السيارة.. وما أن عاد منحها كيساً فنظرت لمحتوياته لتجدها شيكولاتة ومقرمشات.. فالتفتت له وقالت بعصبية: "لم أعد طفلة كما تعلم مؤمن!"
-:"من قال إنها لكِ؟"
اتسعت عينيها بينما يكمل: "إنها لدارين امنحيها لها"
تملكها الغيظ والتفتت تغادر من أمامه.. لكن بينما تصعد الدرج قال: "لا تأكلي شيئا منها"
التفتت تنظر له بحدة بينما يقول ببساطة: "لديك عرض في الغد.. تناولي بعض الفاكهة أفضل لكِ"
ثم التفت يغادر كأنه لم يفعل شيئاً أمام عينيها الذاهلتين.. بقيت ثابتة لثوانٍ قبل أن تتحرك بعصبية نحو شقتها.. وما أن دخلت أغلقت الباب بعصبية وهي تهمس: "ذلك المزعج المستفز ال..."
:"ريم هل من مشكلة؟"
التفتت تنظر للصالة أمامها لتجد دارين جالسة بأريحية على الأرض أمام الطاولة الصغيرة.. والكتب مفتوحة أمامها.. تحركت بعصبية أفزعت الفتاة حتى تراجعت قليلاً من مكانها.. بينما هي وضعت كيس الحلويات أمامها وهي ترد: "هذه من أخيكِ يا حبيبة أخيك!"
ثم التفتت لخالتها وهي تكمل بسخرية: "وأخفيهم من أمامي يا خالتي.. فحضرة الباشمهندس لا يريدني أن أتناول الحلويات قبل عرض الغد حرصاً على سلامتي!"
كانت خالتها تقرأ إحدى الروايات البوليسية قبل أن تنظر للكيس بتفكيرٍ دام لثواني ثم عادت للنظر لها وهي ترد: "الرجل لم يخطئ.. إنه يحاول الحفاظ على صحتك"
تحركت بينما تتأفف بحنق نحو غرفتها وما أن وصلت أغلقت الباب بعنف!
التفتت شكرية بعدها وهي تضحك نحو دارين التي نظرت للكيس.. ثم سحبته وأخفته فشهقت وهي تقول: "هل تجرؤين على إخفائه عني يا مقصوفة الرقبة؟!"
:"أجل أجرؤ"
ردت بها ثم نظرت لها بحزم وهي تكمل: "خالتي أنتِ تعانين من السكري.. لن أسمح لك بتناول الحلويات"
عادت شكرية تنظر للرواية بينما ترد: "يا لك من مزعجة كأخيك!"
****
وضع إيلام بحرص وهدوء في فراشه.. فقد نام بعد أن اضطر أن يعود به للعمل لينهي ما تبقى من الغرفة.. ويبدو أن غضبه ساعده على إنهائها سريعاً لكن كان لهذا ثمناً..
رفع يده المجروحة بفعل إحدى أدوات صقل الخشب فقد سرح للحظة ونتج عن ذلك جرحاً غائراً بكف يده.. نهض عن الفراش واتجه للحمام.. أزال الرباط وقطعة القطن التي ضمد بهما الصيدلي جرحه.. وقد نصحه بالذهاب للمشفى لكنه تجاهل الأمر.. فتح العلبة المعلقة على الحائط وأخرج معقماً مع قطن وشريط طبي لاصق.. بدأ بتنظيف الجرح الذي بدا بشعاً ومؤلماً.. مع هذا لم يتأثر وأكمل مسحه بعناية.. ليتبع باقي التعليمات من وضع قطعة القطن وفوقها الشريط اللاصق.. وخلال كل هذا كان بين الثانية والأخرى ينظر لنفسه بالمرآة...
:"لم عيناك ذابلتان بهذا الشكل؟"
سألها لنفسه قبل أن ينتهي من لصق الشريط.. ثم نظر للمرآة وهو يكمل: "ماذا كنت تنتظر.. ما الذي تخيلته؟"
اقترب أكثر يطالع عينيه وقد احتله الغضب فجأة مردفاً: "أخبرني لِم الحزن الآن؟!"
فكر بضرب المرآة أو نزعها وإلقائها أرضاً لكنه تراجع.. خرج من الحمام ثم جلس على الأريكة بصمت يطالع الباب متذكراً ما حدث باليوم السابق..
&&&
:"لم لا تعمل أيها ال..."
-:"فادي"
التفت لإيلام الذي أكمل: "هل فقدت عقلك وتحادث نفسك؟"
عاد لمحاولة تصليح ما بيده وهو يرد: "لا يا ظريف أحادث المذياع الذي تعطل فجأة"
حلّ الصمت بينهما لثوانٍ قبل أن يسمع رده: "لا أصدق أنك لازلت تستمع للمذياع.. التلفاز به كل شيء وكذلك الانترنت.."
مط شفتيه بملل ثم قال: "يا لكم من جيل أحمق لا تقدرون متع الحياة.. المذياع هو أروع ما يمكن أن تستمع له بالصباح.."
:"هناك مذياع على هاتفك استمع له وحسب.."
سمع جملته وتوقف عن العمل بينما يحدق بالفراغ ثم التفت له.. هو بالتأكيد لن يخبره أن تلك عادة ورثها عن والده ولن يغيرها لنهاية عمره فذلك الصغير طويل اللسان لن يتركه دون جدال وربما سخرية.. عندها قرر إنهاء النقاش وقال: "لم لا تذهب وتحضر لي حقيبة الأدوات الموجودة بالشرفة بدلاً من نقاشاتك العقيمة.."
هز كتفيه وتحرك ينفذ طلبه بينما يرد: "أنت الخاسر.."
قرع جرس الباب عندها فعاد ينظر للمذياع وهو يقول: "افتح الباب أولاً.."
سمع صوت حركته السريعة تبعه صوت الباب المزعج.. مرت بضع ثوانٍ ولم يسمع أي شيء فسأله: "من الطارق يا طويل اللسان؟.."
:"إنه رجل.."
مط شفتيه بعد رده ثم قال بسخرية: "حقاً؟!.. ظننته سيكون نمراً سيبيرياً مثلاً.. ألا يمكنك التوضيح أكثر؟.."
:"إنه بنفس عمرك وأطول منك وأوسم منك.. وبالتأكيد هو أغنى منك.."
فشل بنزع الغطاء الخلفي للمذياع فألقاه أرضاً وقد كان على وشك الصراخ عليه ليفرغ شحنات غضبه لكنه تجمد بمكانه ما أن سمع الصوت الذي يرد عليه..
:"لقد أهنته للغاية.."
بقي ثابتاً قليلاً بمكانه قبل أن ينتفض ويتحرك مسرعاً نحو الباب وما أن وصل له فتحه على مصراعيه ليطالع الواقف أمامه بهدوئه المعتاد ومظهره المنمق..
:"اللعنة.."
همس بها ثم فرك عيناه ليتأكد مما يراه.. سمع صوت ضحكته فعاود النظر له ليجده يبتسم ثم تنهد قائلاً: "لا تزال على حالك كما أرى.."
ثم نظر لايلام وأكمل: "لم أكن أعلم أنك أنجبت طفلاً.."
:"هذا الأحمق يستحيل أن ينجبني.."
أفاق مع سماعه الرد من ذا الكارثة قصيرة الطول طويلة اللسان الواقفة بجواره فأسرع بضربه على رأسه وهو يرد: "أجل يستحيل أن يكون من سلالتي طفلاً متنمراً مثلك.."
:"أصدق هذا.."
التفت ينظر لمؤمن وهو لا يصدق أنه يقف أمامه.. ثوانٍ واتخذ تفكيره منحناً آخر..
لقد صدق إيلام بوصفه.. أطول وأوسم وأغنى ومن المفترض أن يضيف أذكى كذلك..
لقد عاد جامد المشاعر إسمنتي الوجه بحال أفضل مما غادر عليه.. لكنه كان ولازال وسيبقى أفضل منه..
&&&
ضرب رأسه بعنف ثم نظر ليده المتألمة بينما يهمس: "لا يمكنني فعل هذا به!"
نظر للسقف متذكراً نظرة مؤمن له.. كان يعلم أنه مشتاق له.. هو الشخص الثاني بعد ريم الذي فكر برؤيته بعد كل تلك السنوات من مجموعتهم.. ليس هيثم الذي لم يكن يفارقه.. ولا ساندي شريكته بالعمل الجاد ورسم الخطط.. كان هو من فكر به ليمعن بإصابته بالكآبة والاحباط أكثر مما هو عليه..
كان يعرفه ويعرف ما سيحدث إن لاحظ فقط مشاعره نحو ريم.. ذلك الوجه الاسمنتي الهاديء سينقلب وسيكون أول الخاسرين..
فإن كان هناك شيء يعلمه الجميع بشخصيته الغامضة سيكون أنه لا يغفر..
تنهد وأغمض عيناه ثم أكمل: "لن يسامحني إن علم.."
وضع يده على صدره شاعراً بألمٍ عظيم يملؤ صدره.. ذاك الألم الذي لم يفارقه يوماً وبقي يزداد يوماً بعد يوم.. ذلك الألم الذي أرغمه على الهمس باختناق: "لكن ماذا بيدي أن أفعل؟!..."
****
كانت قد استحمت وجلست بهدوء على الفراش.. تراجع النوتة بمحاولة منها لنسيان كل ما حدث ولكنها لم تقدر.. لم كان عليه احتضانها ولم تركته يحتضنها.. كانت غاضبة من نفسها لأنها تخاذلت معه.. كان عليها إبعاده وتركه والعودة للبيت بمفردها.. وذلك المتعجرف عوضاً عن قول أي شيء للتخفيف عنها يمنحها أوامر وردوداً قاسية..
ابتسمت بسخرية وهي تفكر أنه لو تحدث برفق كانت لتشك أنه مؤمن من الأساس..
رن هاتفها وفوراً توقعت أن يكون هو فأسرعت تلتقط حقيبتها وأخرجت الهاتف منه لتجد رقم نغم.. وعندها شعرت بالغضب من نفسها.. فبالتأكيد هو لن يتصل بها.. المتعجرف من الصعب أن يتنازل مرتين وبنفس اليوم.. سيصاب بذبحة إن فعلها.. هو حتى لم يعتذر اليوم.. فقط قال أنه اشتاق لها وهي كالغبية بكت على كتفه!..
ضربت رأسها بكلا يديها وهي تقول: "كفى يا غبية كفى!"
ثم التقطت الهاتف وردت بهدوء: "نعم آنسة نغم"
-: "كنت على وشك الإغلاق فقد تخيلت أنكِ نمتِ"
سمعت تنهيدة عميقة منها فكادت ترد لكنها لم تمهلها وأكملت: "لا مشكلة.. أريدك أن تكوني في صالة العرض بتمام التاسعة.. لا أريدك أن تتأخري.. هذه تعليمات صارمة من السيد عنان.. والأفضل أن تنامي فأنا أريدك بكامل رونقك وتركيزك غداً"
:"حاضر يا آنسة"
ردت بها قبل أن تقول نغم: "جيد.. تصبحين على خير"
ثم أغلقت الخط فوراً فبقيت هي تطالع الفراغ بصمت.. هل عليها أن تُحبط من لقائها بالسيد شفيق أكثر أم اضطرارها لحضور العرض ورؤية الفاشلة هويدا تنال الأضواء على حسابها..
إن عزفت هويدا غداً سيعتقد الجميع أنها الفتاة الذهبية التي تحدث عنها السيد عنان وستبقى في الظل للأبد.. فمهنة العزف يتلخص وصفها بمهنة الفرصة الواحدة..
فرصة واحدة لا غير تأتي لك بعمرك كله لتبدل حالك وواقعك فإن لم تنتهزها لا تبكي بعدها..
لكن معلميها لم يخبروها ماذا من المفترض أن تفعل لو سُرِقت منها فرصتها ومُنِحت لمن لا يستحق..
سمعت طرقاً على الباب فتنهدت وهي تقول: "تفضل"
فُتِح الباب ودخلت خالتها بعدها حاملة كوباً من الحليب المحلى بالشكولاتة.. وبعض قطع البسكويت أخذتهم منها وأطرقت وهي تفكر بما يجب أن تقوله..
:"شكرا خالتي"
قالتها وهي لا تزال مطرقة ليأتيها الرد: "العفو يا فتاة"
رفعت عينيها لها فابتسمت تقول: "سنتحدث غداً بعد العرض"
ابتسمت بسخرية فهي ليست الأساسية بالعرض على أي حال.. لكنها لم ترد قول هذا وأومأت بصمت بينما تغادر خالتها.. وبعدها استلقت بالفراش وهي ترفع النوتة أمام عينيها ثم همست: "أي حظ أملك.. ألم يجد سوى الآن ليعود!"
في النهاية تجاهلت كل شيء واستمرت بالمذاكرة..
تجاهلت كل شيء واستمرت لأن هذا ما يجب عليها أن تفعله..
****
في اليوم التالي
هامبورج – ألمانيا
دخل قاسم مكتب والده دون استئذان.. وما أن رآه تحرك نحوه.. كان يقف ويطالع الخارج عبر النافذة الزجاجية الضخمة.. بدا شارداً وقد كان يعلم لم هو شارد وبم يفكر..
:"تحدثت لسيرين قبل قليل"
:"رائع"
رد بها والده بهدوء فازداد غضبه لكنه حافظ على اتزانه بينما يقول: "لقد أخبرتني أنها وصلت مصر يا أبي بعد أن استأذنتك"
التفت له عندها وأومأ قبل أن يرد: "هذا صحيح"
اقترب قليلاً من المكتب قائلاً: "أبي لم تمنحها أملا.. أنا وأنت نعلم أن حفيدك..."
:"حفيدي سيخضع لي في النهاية!"
قالها طاهر ثم تحرك نحو المكتب وجلس خلفه وهو يكمل: "الأمر مجرد وقت حتى يدرك خطأ اختياره.. وعندما يحدث لا أريد أن تتلقفه يد صلاح وتبعده عني فأنا لن أخسره مجدداً.."
:"حتى ولو على حساب ابنتي!"
قالها قاسم بغضب لم يستطع كبحه وكالعادة بقي والده هادئاً محتفظاً بوجهه الرزين الذي لا ينبيء بأي شعور يختلج صدره: "ابنتك تعرف مصلحتها على عكسك قاسم"
أشار بإصبعه للمكان من حوله وهو يكمل: "هذه الشركة والفرع الموجود في سويسرا مع الفرع الجديد الذين ينوون إنشائه بمصر.. هي شاركت مؤمن بإنشاء كل هذا.. شاركته أحلامه وطموحاته.. ولن تسمح لدخيلة جاهلة قريبة للأفعى التي قتلت ابنتي بنيل كل هذا بسهولة"
شعر قاسم أنه سينفجر إن بقي دقيقة أخرى وعندها اقترب من المكتب وقال: "حفيدك سيحطم قلب ابنتي يا أبي.. وإن تضررت بسبب هذا لن أسامحك أبدا"
ثم التفت بعدها وغادر المكان تاركاً والده ينظر بأثره دون اكتراث..
***
كان يمسك المقود بكف والكف الآخر يراسل به شخصاً ما.. ما كان ليفعل هذا بالطبع لولا أن الإشارة حمراء وهناك زحامٌ خانق.. كانت لتتأفف بسبب هذا بالذات أنهم لازالوا في الصباح الباكر.. لكن لم تفكر بإظهار أي انزعاج أمامه.. كانت عازمة على تنفيذ كل ما اتفقت عليه مع جدها..
:"مؤمن أين سنذهب؟"
لم يترك الهاتف من يده ورد دون التفات: "سآخذك للفندق"
اتسعت عيناها وقالت: "ألن تأخذني بجولة.. أنا لم أزر المكان سوى مرة واحدة بصغري"
تنهد بملل ثم نظر لها قائلاً: "لا وقت لدي عمل مهم.."
صمتت قليلاً ثم سألت: "وماذا عن المساء؟.. هل يمكن أن تأخذني بجولة؟.."
:"لن يحدث.. لدي موعد هام"
رد بها ببرود ودون التفات مجدداً فشعرت بالغضب وعقدت ذراعيها بينما تقول بحنق: "إذاً ماذا علي أن أفعل؟"
مجدداً ودون أن يلتفت رد: "وما شأني؟.. افعلي ما تريدين.. أنا هنا للعمل ولدي ارتباطات لا يمكنني تأجيلها.. ومنذ متى كنا نخرج معاً أساساً؟"
ألجمت غضبها بعناية والتفتت تنظر للطريق أمامها.. مرت بضع ثوانٍ وفُتِحَت الإشارة فبدأ التحرك بسيارته وهي تقول: "جدي يرسل لك السلام.."
:"أنا أحادثه كل يوم مرتين على الأقل.. فلم قد يرسل لي السلام؟.."
لم تبدي أي رد فعل واكتفت بالصمت لثوانٍ ثم قالت: "إذاً ما الموعد الهام الذي لديك بالمساء.. هل هو بخصوص الفرع الجديد؟.."
:"لا.."
التفتت تنظر له وعادت تسأل: "إذاً ما هو؟.."
كان يراقب انعطاف الطرق ويبدو أنه كان يحاول تذكر موقع الفندق بينما يرد: "سأذهب لحفلٍ في معهد الموسيقى.."
(أوقعت بك..)
كانت على وشك الصراخ بها لكنها ألجمت نفسها وقالت: "يبدو هذا رائعاً.. أريد أن آتي.."
نظر لها سريعاً بتلك الطريقة اللا مبالية والتي لا تمنحها أي اهتمام ثم عاود النظر للطريق وهو يرد: "لا يمكنني منعك إن أردتِ الحضور.."
ابتسمت وقالت: "إذاً متى ستمر وتأخذني؟.."
:"لن أفعل.."
توقعت هذا الرد ولذا لم تتأثر لكن الغضب تملكها ما أن أكمل: "علي الذهاب لاصطحاب أختي وخالتي.. أنتِ يمكنك القدوم مع السائق الذي عينه جدي لك.."
ثم التفت لها وأردف: "تعلمي أن تقودي وحيدة فأنا لن أقلك كل يوم لست خادماً لجناب معاليكِ.."
حركت عيناها بملل لكنها آثرت ألا تجادله فإن طال الحديث بينهما لن تتحكم بغضبها ولهذا قالت بهدوء: "حسناً.."
*****
وقف يربت على شعر الحصان الأسود الواقف أمامه بهدوء.. سامحاً له بالتربيت على رأسه دون اعتراض.. بقي على هذا الحال وهو يشعر بارتياح غريب يسكن صدره قبل أن يبتسم وهو يهمس: "كيف حالك يا سهم؟"
صهل الحصان بخفوت فمط شفتيه وهو يهمس: "أووه أنا أيضاً اشتقت لك يا عزيزي"
صهل الحصان مجدداً فاقترب من أذنه وهو يقول بخفوت: "أعلم أنك تكره حازم.. لكن حاول تقبله فهو الشخص الوحيد المتاح للاهتمام بك"
:"سمعتك لمعلوماتك"
ابتسم بينما يربت على ظهره دون التفات قبل أن يسمع حركة من خلفه وصوت صديقه يصله بينما يكمل: "إن كنت تحبه لهذه الدرجة فعد واهتم به"
التفت له فابتسم بينما يردف: "تعلم الجميع يخافونه ولا أحد يجيد التعامل معه"
اتسعت ابتسامة فادي ثم عاود النظر للحصان وهو يربت على رأسه بحنو قائلاً: "هذا لأنه أصيل ولا يخون صاحبه.."
أتى العامل بالاسطبل عندها وسحبه ليعيده لمكانه..
:"لا أعلم لم غادرت؟.."
التفت لحازم الذي تنهد مكملاً: "ظننتك تحب هذه المهنة.."
ضحك فادي بسخرية قبل أن يتحرك وهو يرد: "أنا أحب أي مهنة توفر لي المال يا حازم.."
غادر الاسطبل ووقف يطالع ايلام الذي كان يركب مهراً صغيراً وقد بدا مستمتعاً للغاية.. كانت تلك هي الطريقة الوحيدة لتعويضه عن الجلوس لساعات بجواره في العمل.. كان طفلاً ومن الطبيعي أن يكره تلك الجلسة المقيتة لكن خلال الأيام التي قضاها معاً لم يشتكي أو يفتح فمه حتى..
:"إذاً كيف حال أزمتك الوجودية مع ريهام؟.."
قالها حازم وهو يقترب ويقف بجواره فتنهد وهو يرد: "أتجاهلها.."
:"ريم لها تأثير السحر عليك.. أقنعتك بسهولة بينما أنا تجاهلت رأيي ببساطة.."
كان يعلم ما يرمي إليه حازم لكن هو كالعادة بقي ثابتاً ورد بهدوء: "هذا لأنها تقول الحقيقة.."
:"فادي.."
توقفت أفكاره وطالع ايلام الذي لوح بهاتفه الذكي بينما يقول: "تعال والتقط لي بعض الصور.."
تحرك بالفعل ناحيته وقفز السياج وهو يرد: "حسناً لكن بعدها سنغادر حتى لا نتأخر فلدي عملٌ هام.."
***
وصلت صالة العرض في التاسعة إلا عشر دقائق وخلال الدقائق اللاحقة وصل الجميع عدا هويدا.. كانت مستغربة من تأخرها.. صحيح أنها كانت دوماً تتأخر بعض الوقت كما أن اليوم تقدم موعد التمارين ساعتين كاملتين.. لكن هذا بسبب العرض الذي سيكون بعد عشر ساعاتٍ فقط.. مع هذا اتخذت مقعد نائي في الصفوف الوسطى وجلست تراجع النوتة وتستمع للحن وجدته على موقع يوتيوب.. كان قريباً جداً من التصور الذي ستعزفه الفرقة اليوم للحن سوناتا ضوء القمر..
مرت ربع ساعة حتى وصل السيد عنان مع عميد المعهد.. وبقربهم الآنسة نغم وثلاثة من كبار الأساتذة المسئولين عن العرض وتقدمتهم جميعاً امرأة كانت تعرفها جيداً.. السيدة هاندا غالب.. عازفة الكمان السابقة الشهيرة المصرية ذات الأصول الإيطالية..
هاندا وعلى حد ذكر المايسترو امرأة صلبة ومرعبة كان هو أحد ملاحظيها وأساتذتها.. قبل أن تعتزل كانت من كبار عازفي الكمان في العالم وبعدها أصبحت عميدة لمعهد الموسيقى بالعاصمة وأحد أهم الإداريين بوزارة الثقافة.. لم يخبرهم أي أحد أنها ستحضر العرض فقط أخبروهم أن العرض هام ولا يجب أن يكون هناك أي خطأ..
تلفتت حولها بعد أن نزعت سماعات الأذن لترى الارتباك قد عمّ المكان.. لكنها لم تلتفت للأمر ونهضت بهدوء احتراماً لأساتذتها..
:"ليصعد المشاركين الأساسيين بالعرض للخشبة.. فسنبدأ بعزف جزء بسيط من لحن العرض وهو الجزء الافتتاحي"
تحركوا جميعاً للأعلى بينما بقيت هي مع العازفين الاحتياطيين.. امتلأت كل المقاعد عدا مقعد البيانو المسكين فصاحبته قد تأخرت!..
:"أين عازف البيانو؟"
كان هذا السؤال من السيدة هاندا وقد رد الجميع بصمتٍ تام.. قبل أن يسمعوا صوت الباب الخاص بالقاعة يُفتَح ولم يتجرأ أي شخص على الالتفات.. بقي الجميع ثابتاً حتى وصلت هويدا التي وقفت أمامهم وفتحت فمها لتقول شيئاً.. لكن السيد عدنان كان هو من تحدث: "الآنسة هويدا جميل عزازي هي عازفة البيانو يا سيدة هاندا"
نظرة واحدة صاعقة من العيون العسلية اللامعة ثم انخفضت نظراتها لساعة يدها قبل أن تعود للنظر لها وهي تقول: "هل تنوين تعطيلي أكثر.. وقتي من ذهب يا آنسة وأنا أقدره على عكسك!"
لم تفتح هويدا فمها وتحركت بصمت نحو البيانو.. ألقت حقيبتها بجواره بحركة بدت أنها زادت من انزعاج السيدة هاندا التي جلست بالمقعد الأمامي.. وتبعها الجميع ثم أشارت بإصبعها ليبدأ العزف.. بل الكارثة المحققة!..
بالمطلع الأول أخطأت هويدا.. لترفع السيدة هاندا عندها إصبعاً...
ثم أخطأت بالسطر الثالث من النوتة لترفع السيدة إصبعاً آخر...
ثم وقبل أن تنهي المقطع الافتتاحي أخطأت وهنا تعالى الصوت الرزين قائلاً: "توقفوا"
اتجهت كل الأنظار للبقعة التي تخيلت بتلك اللحظة أنها تحوي كل شحنات الغضب في العالم..
:"سيد عاطف"
كان هذا هو عميد المعهد الذي التفت لها وهو يرد محاولاً إخفاء توتره: "نعم سيدة هاندا"
تنهدت قبل أن تلتفت له قائلة: "لقد وكلتك بمهمة.. هلا أعدت علي ما قلته لك بتلك المكالمة؟"
:"أريدك أن تقيم عرضاً بأفضل العازفين لديك"
رد بها فرفعت إصبعها تشير لهويدا وهي تسأل بدهشة: "وهذه هي أفضل عازفات البيانو لديك؟!"
ابتسم بارتباك ورد: "ربما هي مرتبكة و..."
:"مرتبكة؟!"
قالتها تقاطعه وهي تضحك ثم تحركت تقابله بجسدها وهي تكمل: "أنا لدي مسماً آخر يا عاطف.. الآنسة التي اخترتها أتت متأخرة عن موعدها خمساً وعشرين دقيقة كاملة.. في حين أن كل زملائها أكثر من تأخر منهم تأخر دقيقتين ودخل القاعة يركض خوفاً من ملاحظة أحد أو الحرمان من العرض.. وهذا لا يدعى ارتباك.."
ضربت يد المقعد بعصبية وهي تهتف: "هذا استهتار!"
ثم التفتت لهويدا قائلة: "الآنسة تظن لسببٍ ما أنها أفضل من كل زملائها وأهم من العرض"
عادت ترتاح بمقعدها ثم أكملت بخفوت غاضب: "والآن العرض بعد أقل من عشر ساعات.. وعازفة البيانو والذي هو أداتي الأساسية بأوركسترا الليلة قد أتت متأخرة عن موعدها.. وأخطأت ثلاث مرات بالافتتاحية فقط.. وهذا ونحن لم نذكر عينيها المجهدتين ومظهرها المشعث الذي يوحي بأنها لم ترتح ساعاتٍ كافية كما ذكرت التعليمات.. أخبرني الآن بحلولك؟"
رأت السيد عاطف ينظر للمايسترو بتوسل والذي تنهد قائلاً: "سيدة هاندا أنا لدي حل"
التفتت له فأكمل: "عازفتي الاحتياطية موجودة لِم لا تستمعي لها؟"
اتسعت عيناها وانحبست أنفاسها بصدرها بينما ردت هاندا: "مع كامل احترامي لك مايسترو.. لكن هل تطلب مني الاستماع لبديلة تلك الكارثة.. أفضل أن أستدعي أحد تلامذتي من القاهرة الآن ليتم المهمة"
تملكها الغضب عندها.. كانت تعلم أن هويدا تنظر لها الآن بغضب لكنها كانت واثقة أن هذا لا يعد شيئاً أمام غضبها.. فتلك الغبية ستتسبب بضياع كل تعبها بسبب رعونتها وغبائها.. حتى لو استمعت لها الآن السيدة هاندا الآن لن تمرر أي خطأ.. وهذا سيعقد أمورها ويبعد فرصتها عنها أكثر..
-:"استمعي لفتاتي الذهبية ثم أطلقي حكمك"
هدأ كل شيء بمجرد سماعها تلك الجملة.. الغضب.. الخوف.. التردد.. الحنق.. كل شيء صمت فجأة..
:"ريم للبيانو"
نهضت بمجرد سماعها لأمر السيد عنان وتحركت باستقامة نحو المسرح.. لم تلتفت لأي أحد ولا لأي شيء.. لم يكن الصوت الهاتف بأن تلك فرصتها هو ما يحركها.. بل كانت الثقة التي تملأ تلك الجملة من المايسترو هي ما تحركها..
جلست على مقعد البيانو وابتسمت.. ثم مررت أصابعها سريعاً على البيانو والتفتت تنتظر إشارة البدء.. وعندما رفعت السيدة هاندا كفها التفتت وأخذت نفساً عميقاً ثم بدأت العزف فوراً..
القمر العملاق وضوئه الأبيض الناصع فقط ما يملأ عقلها.. اللحن السلس الذي يملأ النفس بسعادة دون راحة.. سعادة يحفها الترقب كأنها بداية لحدثٍ عظيم.. ثم تعالي وتيرة اللحن وبعدها تعانق اللحن مع صوت الكمان والقيثارة.. لتمنح النفس شعوراً راسخاً بأن السعادة الأولى التي بدأ بها اللحن كانت خادعة.. ثم وصل اللحن لأعلى درجاته قبل أن يتوقف فجأة.. وكان هذا هو المقطع الافتتاحي..
تنهدت ثم التفتت تنظر للجميع.. لم يكن هناك أي اعتراض والجميع بدا هادئاً بشكلٍ غريب.. فتنحنحت قبل أن تقول: "هل أكمل؟"
كاد السيد عنان أن يرد بأن تكمل لكن السيدة هاندا نهضت تقول: "اسمح لي مايسترو"
أومأ لها فتحركت تصعد المسرح ووقفت على مسافة منها قائلة: "مرحباً آنسة ريم"
-:"مرحباً سيدتي"
ابتسمت لها بعد ردها بطريقة أربكتها ثم قالت: "عندما لم أرى اسمك في قائمة العزف.. ظننت أنكِ تركتِ المعهد أو مريضة لا سمح الله.."
قالت جملتها وهي تلتفت للسيد عاطف الذي كان يجلس برعب بمقعده وقد كان هذا يعجبها وبصعوبة تمكنت من إخفاء شماتتها بذلك الرجل الذي أقصاها عن العرض إكراماً لصديقه جميل عزازي.. عادت السيدة هاندا تنظر لها وهي تكمل: "لا عليك.."
اقتربت منها فازداد ارتباكها وكان آخر ما توقعته هو سؤالها: "هل شاهدتِ مسلسل صراع العروش من قبل؟"
ارتبكت أكثر لكنها ردت: "أجل"
ابتسمت وهي تلتف حول مقعدها وتقول: "كان هناك ذلك اللحن بالحلقة الأخيرة من الموسم السادس.. ذلك الذي تبعه انفجارٌ هائل.. ماذا كان اسمه بالعربية؟!"
:"ضوء الآلهة السبعة"
ردت بها وهي تطالعها لتجدها تلتفت نحوها وترد بابتسامة: "أجل هذا هو"
طالعتها لثوانٍ قبل أن تكمل: "لدي النوتة الخاصة بهذا اللحن على هاتفي.."
:"أنا أحفظها"
قالتها لتمنعها من النزول فالتفتت لها وقالت: "جيد أريدك أن تعزفي المقطع الأول وحسب"
أومأت بصمت ثم التفتت تنظر للبيانو وبدأت العزف فوراً.. فقد كانت تحفظ هذا اللحن عن ظهر قلب.. والسبب هو منار التي تعشقه وتحب التمرن عليه.. وقد كانت تطلبه دوماً لتتمرنا عليه لأنه يعتمد على البيانو بشكلٍ كبير.. وقد انضمت لها بالفعل بمنتصف المقطع الأول وبدأتا بالعزف معاً.. حتى انتهت منه والتفتت تنظر لهاندا التي كانت مبتسمة قبل أن تقول: "أذكر قولك بأنها اكتشاف الآنسة نغم مايسترو.."
-:"هي كذلك"
التفتت تنظر لنغم وهي تقول: "عمل رائع نغم"
:"إنها موهوبة بالفطرة.. لقد وجهتها ومنحتها لمن شحذ مهاراتها"
قالتها وهي تشير للمايسترو فابتسمت هاندا وهي ترد: "وأنا أذكر أنها أتت قبل موعدها بعشر دقائق.. بينما أنتظر في المقاعد العليا للصالة.. رغم كونها العازفة الاحتياطية"
التفتت بعدها للسيد عاطف وهي تكمل: "ولا أفهم السبب للآن بكونها الاحتياطية"
تحركت تهبط الدرج المؤدي للمقاعد.. ووقفت تطالع هويدا التي كانت تجلس بمقاعد الصف الثاني.. ثم قالت: "والدك كان مثالاً للانضباط والالتزام آنسة هويدا.. أتمنى أن تتعلمي منه"
ثم التفتت للفرقة وهي تكمل: "سأستمع لكم في المساء يا سادة.. وأتمنى أن يتفادى أياً منكم الأخطاء فعرض الليلة هامٌ جداً لمستقبلكم"
نهض السيد عنان عندها مع الجميع بينما هاندا قالت: "سأغادر الآن وأعود في المساء فلدي لقاءٌ هام"
ثم تحركت وهي تكمل: "لنذهب سيد عاطف"
وبالفعل تحركت لتغادر المكان يتبعها العميد وبقيت هي ثابتة بمكانها تطالع الفراغ وهي لا تصدق ما حدث.. قبل دقائق فقط كانت خارج العرض والآن هي به.. موقفٌ واحد غير كل شيء..
نظرت لمنار التي كانت تبتسم لها بحماس فتأكدت أنها لا تحلم وابتسمت وهي تربت على البيانو بسعادة بالغة بينما تهمس: "لقد فعلناها!.."
******
جلست بهدوء واضعة ساقاً فوق الأخرى تطالع الرجل الجالس أمامها.. نظرة سريعة للإطار الصغير المحتوي على صورة شقيقتها الراحلة وصوتها الصغير يخرج من بين ثنايا عقلها لتهتف بها: "لا تفقدي أعصابك فهذا يضيع حقك يا غبية!.."
وعندها ابتسمت وتنهدت بهدوء قبل أن تنظر للرجل وهي تقول بهدوء: "أنا أحاول استيعاب ما تحاول طرحه سيد عياد ولكن يبدو أن عدم شربي لقهوتي الصباحية للآن يؤثر علي فهلا شرحت أكثر.."
ابتسم بذات الطريقة السمجة التي يبتسم بها الشخص الذي أرسله قبل أن يرد: "السيد راشد خالك يا آنسة ساندي يسعى لاسترداد حقوقه بهذه الشركة ولديه المستندات الكافية لهذا.. لكن قبل أن يتخذ أي إجراءاً قانونياً أرسلني لمرة أخيرة علنا نصل لحلٍ وسط.."
لم تظهر أي تأثر وسألته: "وما هي تلك المستندات؟.."
:"أولاً الحالة الأسرية لعائلتك.."
قالها وهو يضع فنجان القهوة بينما يكمل: "تعلمين أن والديك لم ينجبا أي أولاد من الذكور وهذا يعني أنه طبقاً للقانون خالك من حقه أن يرث معك أسهماً بالشركة.. أعلم أن والديك لا يزالا على قيد الحياة ولكن حالتهما الصحية والنفسية قد تؤثر على قراراتهما وهو ما يخيف موكلي.."
حاولت تركيز تفكيرها على نقطة واحدة لثوانٍ..
فادي تعب بصنع غرفة المكتب خاصتها وسيحزن إن هي كسرت أي شيءٍ منها.. وربما يقاطعها لفترة وعندها ستُحرم من رؤية ايلام والشجار مع فادي..
وبالفعل مع تركيزها استطاعت تجنب فكرة تحطيم أي جزء من الأثاث على رأسه وحافظت على هدوئها بينما ترد: "وماذا أيضاً؟.."
أبقى على ابتسامته السمجة وهو يقول: "كما تعلمين والدك كان يعمل لدى جدك الباشا.. وقد منحه المال الذي بدأ من خلاله تأسيس هذه الشركة ولدى خالك وصلاً باستلام والدك هذا المبلغ وهو ينوي الاستناد عليه كذلك أمام المحكمة.."
تنفست بعمق وسألته: "وهذا هو كل شيء؟!.."
أومأ لها بصمت فألقت نظرة سريعة على صورة مالي مجدداً ثم قالت: "أتعلم على خالي أن يرسل برقية شكر لصديقي فادي.."
عادت للنظر له بينما تكمل: "فحرصي على عدم إغضابه هو ما يمنعني عن تحطيم المكتب فوق رأسك.."
اختفت ابتسامتها ونهضت من مكانها ثم انحنت على المكتب وهي تقول بخفوت: "عندما تعود إليه أوصل له هذه الرسالة مني.. اللعنة عليه وعلى مستنداته!.."
أبقى على ابتسامته وهي لم تهتم استقامت بوقفتها ثم هتفت: "صافي.."
ثوانٍ مرت قبل أن تدخل مساعدتها وترد: "أجل آنستي.."
:"أوصلي السيد عياد لباب الشركة يا صافي وأكدي على حراس الشركة ألا يدخل هو أو خالي العزيز دون العودة لي.."
قالتها بأمر ثم التفتت للرجل الذي نهض وقد كان لا يزال مبتسماً وهو يقول: "نلتقي بالمحكمة آنسة ساندي.."
ثم التفت ليغادر تاركاً إياها تطالع أثره قبل أن تلتفت وتنظر لصورة شقيقتها بينما تهمس: "على جثتي الهامدة إن نالوا قرشاً واحداً من حقنا!.."
****
:"راما!.."
أفاقت من شرودها والتفتت له وقالت بتيه: "هل قلت شيئاً؟.."
نظر لها قليلاً وهو يشعر بالأسى لأجلها فهذا ما هي عليه منذ أيام.. شاردة ولا تتحدث.. مهما حاول أن يلفت انتباهها ليخرجها من هذه الكآبة إلا أنها سرعان ما تعود لشرودها..
انحنى على طاولة الطعام قليلاً وهو يقول: "راما.. لم لا تستمعين لي وتذهبي للطبيب؟.."
ظهر الحنق جلياً على محياها وهي ترد: "أنا لست مجنونة يا أكمل.."
:"من قال هذا.."
قالها وهو يمسك بكفها ثم أكمل بهدوء: "جميعنا نمر بصعوبات تجعلنا بحاجة للحديث مع طبيب ليرشدنا للأفضل.."
:"لا أريد.."
هتفت بها بعصبية وهي تنهض عن الطاولة ثم تحركت لتغادر المكان وما أن فعلت تنهد بتعب وألقى رأسه للخلف بينما يطالع السقف بلا أي حيلة.. فهي لم تعد صغيرة ليرغمها على فعل ما يراه صحيحاً.. والشكر للملعون تامر على كونها أيضاً لم تعد تحادثه وتخبره بما يؤرقها ويتعبها.. كان عليه قتل ذلك المعتوه الأحمق!..
:"هذه هي فوائد المشاكل العائلية المبكرة!.."
سمع صوت هيثم فالتفت ليجده يقترب منه ثم يسحب مقعداً ويجلس أمامه وهو يكمل: "إن كنت تعرضت لها ما كنت لتجلس بتلك الطريقة.."
:"ربما أنت حسدتني.."
رد بها قبل أن يبتسم بسخرية مكملاً: "أنت وذاك الوغد الذي أفسد عيد الميلاد البارحة.."
مط هيثم شفتيه ثم التقط قطعة من مكعبات السكر ووضعها بفمه وهو يقول: "ولا تنسى فادي فحياته كانت الأسوأ.."
صمت قليلاً بينما يقلب قطعة السكر بفمه فوجد نفسه يرد: "لا أعلم سر حبك للحلويات.. وكيف بحق الله تحافظ على لياقتك رغم تناولك كل هذه الكيلوات من السكر.."
:"وهل هناك أطعم من الحلويات.. الحياة بلا كريم كراميل قاسية يا أكمل.."
قالها بخبث ضحك أكمل على إثره وهو يهمس: "يا لك من منحل.."
زم هيثم شفتيه وهو يرد: "انظروا من يتحدث!.."
ثم ضحك بخفة هو الآخر قبل أن ينظر للبيت الجالسين أمامه وتحديداً غرفة راما وأشار نحوها بإصبع منخفض وهو يقول بجدية: "إنها بحاجة لامرأة في حياتها.. فتاة كانت أو سيدة كبيرة تتحدث معها وتشكو لها.."
تنهد بضيق وهو يرد: "إنها ترفض التواصل مع صديقاتها وأنا لا ألومها على هذا فأنت تعرف أنهن لسن الأفضل.."
فكر هيثم قليلاً قبل أن يقول: "كنت لأقترح عليك والدتي في موقفٍ آخر.. لكن لديك شخصٌ آخر قد تعتمد عليه.."
كان يعلم عمن يتحدث وقد فكر جدياً بالأمر لكنه تراجع بعد معرفته بمشاكلها مع أسرتها.. فلا ينقصها أي حمل زائد..
:"دعك من هذا أخبرني ماذا قال لك المحامين بشأن عمك؟.."
هز رأسه ورد: "إنهم لا يصلحون لمثل تلك القضايا.."
أومأ هيثم برأسه قبل أن يقول: "إذاً ستستسلم؟!.."
:"على جثتي الهامدة.."
رد بها أكمل بشكلٍ قاطع قبل أن يكمل: "سأسلك طريقاً آخر وأعيد ما سلبه مني.."
وعندها ابتسم هيثم وارتاح بمقعده قائلاً: "لنعثر على الطريق إذاً!.."
***
:"إسلام"
أفاقت من شرودها على صوت ياسر والتفتت له وهي ترد: "نعم"
انعقد حاجباه باستغراب ثم نظر لجهازه اللوحي لثانية قبل أن يبتسم بخفة قائلا: "إن كنت مرهقة فلنكتفي بهذا القدر اليوم"
خفضت ناظريها تنظر للجهاز اللوحي.. كانت قد أنهت قدرا لا بأس به من التصميم.. لكن لازال لديها ساعتين قبل موعد الانصراف.. ورغم أنها مرهقة وغير قادرة فعلا على التركيز بأي شيء هذا دون ذكر حفلة ريم التي أعلمتها أنها ستكون أساسية بها.. مع كل هذا قضاء الوقت بالعمل أهون من قضائه قرب الحرباء جوان..
-:"ما رأيك أن نكمل باقي عملنا في المقهى التابع للشركة؟"
رفعت عينيها له وهي تفكر أن هيثم سيجن جنونه بالتأكيد لو علم أنها تفكر بالأمر حتى.. كما أن الجلوس معه خارج حدود مكاتب الموظفين أمر مرفوض بالنسبة لها.. فلديها القدر الكافي من الكره من الجميع.. لهذا كان عليها الرد بهدوء ورفض طلبه.. وعرض شرب القهوة لتجديد نشاطهم.. لكن فُتِح الباب فجأة ودخلت جوان تتبختر بمشيتها.. بالطبع ياسر استغرب طريقتها ونظر لها بانزعاج.. لكن هي لم تهتم واقتربت منها تقول بعصبية: "أنا أجلس بالمكتب دون أي عمل منذ ساعة"
-:"لقد طلبت منك بعض المهام ألم تؤديها؟"
سألتها بهدوء فعقدت ذراعيها وهي ترد: "لقد انهيتها كلها"
هزت كتفيها وهي تقول ببساطة: "إذاً فقد انتهى عملك اليوم.. يمكنك البقاء أو العودة للبيت"
-:"أريد مزيداً من العمل"
التفتت لها باستغراب بينما أكملت جوان بطريقتها الطفولية المزعجة: "لن أعود للبيت باكراً.. سأنهي يومي بأكمله"
ضحكة صدرت عن ياسر الجالس أمامها ولم تكن لتلمه عليها.. الجميع بالشركة يشتكي من كثرة متطلبات العمل.. ليس فقط من الارهاق بل لأن السيد المدير لا يتهاون بحق أي خطأ.. وهذه المخبولة تسعى لنيل المزيد من العمل لتتلقى الكثير من التوبيخ مع حبوب الصداع التي ستدمنها بوقتٍ ليس ببعيد..
-:"لِم تضحك.. ما الخطأ بما طلبت؟"
ابتسم ياسر بلطف ورد: "لأن..."
لكنها لم تمهله وقتاً للرد وقالت بقلة ذوق: "لم أسألك لتجيبني.. سألتك لتفهم أنها قلة ذوق منك!"
ارتفع حاجبي ياسر بصدمة أولاً.. ثم نهض ثانيا يسألها بحدة: "ماذا قلت؟!"
وما كانت الوقحة لتتوقف بل واجهته وهتفت بالمقابل: "قلت ما سمعته يا هذا!"
:"جوان هل فقدت عقلك؟!"
قالتها وهي تنهض وتتحرك لتقف بينهما قبل أن يتفاقم الأمر أكثر ثم أكملت: "لا تتجاوزي حدودك.. وقد أخبرتك أني منحتك مهام اليوم وانتهينا"
نظرت لها بغيظ ثم تحركت لتغادر الغرفة.. وما أن فعلت التفتت هي لياسر: "اعتذر لك ياسر"
كان الغضب جلياً على ملامحه قبل أن يتراجع ويعدل من وقفته وهو يبتسم بهدوء قائلاً: "لا داعي للاعتذار.. أنت لم تخطئي بشيء"
عضت شفتها السفلى والتفتت عنه تطالع المكان من حولها.. ولمحت آلة القهوة بالمطبخ الملحق بالغرفة.. لذا ابتسمت تقول: "سأعد لنا بعض القهوة ثم نعود للعمل"
أومأ لها بموافقة فتحركت بعدها للمطبخ مرت فترة وهي تطالع الفراغ بانتظار انتهاء القهوة.. كان هذا أقل رد فعلٍ مجنون من جوان وهي لا تزال بالبداية وحسب..
ستفقد عقلها ان استمر بقاء تلك المخبولة بقربها..
سمعت صوت فتح الباب والتفتت لتتسع عيناها وهي ترى جوان تدخل بجوار هيثم.. وعندها تحركت نحوهما بعصبية ووقفت أمامهما.. بينما نهض ياسر هو الآخر واقترب قائلا: "لا تخبرني أنها ذهبت لتشتكي لك؟"
عقدت ذراعيها وهي تطالعها تبكي بطريقة تنطلي علي أي شخص عداها قبل أن يرد هيثم: "إن اشتكت أو لا.. أنا هنا لأفهم ما حدث"
:"لقد أتيت فقط لتمنحني مزيداً من المهام لكنها رفضت.."
قالتها جوان فتنهد هيثم وهو يرد: "وهو حقها.. لقد أخبرتك إسلام هي المسؤولة عنك.. وهي من تحدد مهامك"
ثم التفت لياسر مكملاً: "وهذا لا يخولك الحديث معها بتلك الطريقة ياسر"
شعرت أن ياسر على وشك الانفجار بينما يرد بخفوت: "لقد كنت أمازحها"
-:"هي لم تمنحك مجالا للمزاح معها"
:"إذاً ما كان عليها أن تدخل الاجتماع المغلق بأي حال"
قالتها لتعترض الحوار بينما تواجه هيثم الذي ظهر الحنق بوضوح على وجهه بينما تكمل: "ما كان عليها الدخول من الأساس.. فقد حددت مهامها بالفعل"
-:"أريد أن أعرف من عين هذه الطفلة هنا؟!"
قالها ياسر بغضب ليشتعل الموقف أكثر بينما يرد هيثم: "ليس من شأنك!"
كاد هيثم يرد لكن هي تدخلت لتنهي تلك الوقفة السخيفة: "السيد ياسين هو من عينها يا ياسر"
كانت تعلم أنه يستشيط غضباً بحلول هذه اللحظة لكنه قال بهدوء: "اهتموا بعملكم وتوقفوا عن الشجار دون داعي.. وأنت ياسر لا يجب أن تتدخل بشجارات الفتيات"
:"لم يكن هناك شجار أساسا سيد هيثم!"
ردت بها هي مبتسمة بهدوء قبل أن تلتفت ناحية جوان وهي تكمل: "الآنسة جوان لا تزال رعناء ولا تجيد التصرف وهي السبب بالأزمة من الأساس.. لذا فمشكلتك معها.."
التفتت بعدها نحو ياسر وقالت: "لنكمل عملنا بالمقهى أفضل.."
كان واضحاً أنه يحاول تمالك نفسه حتى لا يفتعل شجاراً وما أن نظر لها أومأ بصمت فتحركت تحمل أغراضها متجاهلة خروج هيثم بينما تتوعده بسرها..
****
(فادي لن تصدق.. لقد حصلت على المقعد الرئيسي بالعرض!..)
كان يبتسم وهو يتذكر رسالتها السريعة التي تركتها له صباح اليوم.. يتخيلها وهي تقف بركنٍ نائي بعيداً عن زملائها تكتبها بعيون لامعة وساقاها على وشك القفز عن الأرض بحماس وابتسامتها الواسعة الجميلة تزين وجهها.. وقد ساهمت تلك الصورة التي تخيلها بتغيير شعوره الكئيب السوداوي منذ الصباح والذي فشل حتى سهم صديقه المقرب بإخراجه منه..
:"هل سنقابل ريم اليوم؟"
كان يسند القطعة المخصصة لتعليق الملابس على الحائط بينما يصقل أجزائها ليتخلص من الطبقة المهترئة ليتمكن بعدها من طلائها محاولاً أن يبتعد عن الجرح بيده والذي لازال يؤلمه وبذات الوقت ألا يقلل من رتم العمل حتى ينجزه سريعاً بينما يرد: "سنذهب للحفل مساءاً فقد أمنت لنا تذكرتين.."
كان متأكد أنه يبتسم الآن فهو يعلم كم يحب ريم..
-:"من هذا الفتى؟"
:"ها قد أتى السيد خشبة"
همسها لنفسه بحنق وهو يتذكر كيف تركه يتولى كل العمل خلال الأيام السابقة واكتفى فقط بالحضور للتسليم في الساعات المتأخرة من الليل وبالطبع ليأخذ النقود التي يتركها له في درج المكتب.. عادت الصورة لتداعب خياله وتجعله يتناسى كرهه للرجل قبل أن يرد بهدوء: "انه أخي الصغير"
كان متأكداً أنه مذهول الآن.. وقد ظهر هذا بوضوح مع لكنته المندهشة بينما يقول: "لم أكن أعلم أن لك أخا بهذا الصغر!"
تنهد وهو يتمنى الرد بـ"وتمنيت ألا تعلم.. وألا تكون بحياتي من الأساس"
لكنه بالطبع التزم الصمت بينما يكمل عمله.. مستمعاً للحوار الدائر بين أخيه والسيد خشبة..
:"ما اسمك"
-:"إيلام"
-:"يا له من اسم غريب"
-:"أمي أسمتني به تيمناً بأحد أبطال المسلسلات الاجنبية"
ضحكة هازئة تبعها قول مرعي: "هذا يعني أنه بلا معنى"
-:"كل الأسماء لها معنى"
كان سعيداً لردوده العفوية اللاذعة حتى بعد سخرية مرعي منه بقوله:"أخبرني إذاً ما معنى اسمك يا فصيح"
-:"يعني الأبدية بالعبرية.. وبالعربية هو من الألم"
سرحت عيناه لثانية بالفراغ مع الجملة الأخيرة التي قالها أخيه وهو يفكر بسخرية القدر.. والدته بالتأكيد لم تفكر بمعنى اسم ابنها.. لابد أنها فقط أعجبها أحد الممثلين أثناء حملها وقررت أخذ اسمه..
لكن اسم إيلام يليق به.. يليق بكليهما صراحة..
-:"هل تتابع والدتك البرامج الإسرائيلية؟"
حاول باستماتة ألا ينفجر ضاحكاً على جملة مرعي التي امتلأت بالذهول والازدراء
:"اللغة العبرية هي مجرد لغة.. لا يشترط بكل من يتحدثها أن يكون إسرائيلياً أو حتى يهودياً"
تشدق بفمه وهو يهمس: "يا سلام.. هكذا الردود وإلا.. أتسائل من أين له بكل تلك النباهة بينما كل أفراد العائلة ماشاء الله معاتيه؟!.."
-:"أنت فصيح جداً يا ولد"
عاد للتشدق هامساً: "صدقت يا عود الخشب الجاهل المستغل المقيت.. أخي بالفعل عبقري.."
-:"لأني أقرأ كثيرا"
-:"لابد أنك بمدرسة خاصة كما كان أخيك.. وانظر له الآن"
ارتبكت يداه مع سماعه تلك الكلمات وكاد أن يجرح كفه مجدداً بالفعل.. لكنه أنقذ نفسه باللحظة الأخيرة
-:"أخي كان متفوقاً بمدرسته الخاصة"
التفت ينظر لإيلام الذي أكمل: "لولا ظروفه لكان بمكانٍ آخر الآن.."
ابتسم ثم التفت وعاود العمل مجدداً وهو يستمع لاستهزاء مرعي بسؤاله الموجه له: "أتساءل كيف لشخص مثلك أن يرتاد مدرسة كتلك؟"
-:"لأنه كان متفوقاً تولى صاحب المصنع الذي كان يعمل به والده دفع تكاليفها"
كان هذا الرد من ايلام الذي أكمل: "لولا وفاة والده ما كنت لتجد من يدير عملك بهذا النجاح لذا كن شاكراً أن ظروفه أخرته دراسياً.."
التفت ينظر له وابتسم قائلاً: "هااي لم لا تذهب وترى إن كانت هاتف قد أتم شحنه.."
أومأ له وتحرك من مقعده ناحية الهاتف..
:"ماشاء الله نبيه.."
التفت لمرعي الذي أكمل بسخرية: "من أين ورث الذكاء بعائلتكم؟.."
ابتسم له ورد: "من جدتنا.."
التفت بعدها ليكمل عمله وكما توقع لم تكد تمر ثوانٍ إلا وسمعه يسأل: "وماذا كانت تعمل المرحومة؟.."
ابتسم عندها بسخرية ورد: "كانت دجالة ولها أتباع من الشياطين.."
وعندها سمع صوت بصقه للشاي خارج فمه قبل أن يهتف: "أعوذ بالله.."
وعندها سمع صوت ضحكات ايلام العالية فلم يتمالك نفسه وضحك هو الآخر..
*****
تحرك يدخل بيته الصغير الموجود بأحد الشواطيء الخاصة.. كان بيتاً صغيراً لكنه كان ملجأه عندما يضيق صدره من مشاكل شقيقه وعائلته..
عبر الرواق المؤدي للصالة المطلة على البحر مباشرة ليجدها تقف أمام الشرفة وهي تعقد ذراعيها.. التفتت له ليرى الغضب متجسداً على ملامحها الناعمة.. كانت قد راسلته وأخبرته أنها ستنتظره بالبيت..
ابتسم لها وقال: "أرأيت أني كنت محقاً بمنحك نسخة من المفاتيح!.."
تحرك بعدها ليجلس على أحد المقاعد بتعب ثم تنهد مكملاً: "أخبرتك سيسحرك المنظر كما سحرتك تماماً.."
بقيت تطالعه لثوانٍ قبل أن تتحرك نحوه وتقف أمامه وهي تقول: "ألا تخجل من نفسك؟!"
كانت ترتدي بنطالاً ضيقاً يبرز قوام ساقيها فبقي يطالعها لثوانٍ طويلة قبل أن يتنهد ويرد: "لن أكون هيثم إن خجلت يا قطعة السكر.."
انحنت أمامه بجسدها حتى أصبح وجهها مقابلاً تماماً لوجهه طالعها بخبث ثم اقترب منها وهو يهمس: "تلك الوقفة تقتلني.."
لم يظهر عليها أي تأثر فاقتربت منه وهي تقول بغضب: "اسمع يا هيثم.. إياك أن تتعامل معي بتلك الطريقة أمام أي شخص!"
عبث بخصلاتها العسلية التي تداعب وجهه بأطراف أصابعه بينما يرد: "أنت المسؤولة فما كان عليك استفزازي"
تراجعت وهي تطالعه بغيظ ويبدو أنها لم تحاول تمالك نفسها فانفجرت صارخة بوجهه: "توقف عن تحميلي الأسباب.. تلك المعتوهة عبثت برأسك وجعلتك تتعامل مع ياسر ومعي بتلك الطريقة!"
كان دوره هو بالغضب.. فلازال للآن يذكر كيف غادرت معه صحيح أنهما بقيا يعملان بالمقهى إلا أنه نبهها لعدة مرات ألا تجلس مع أي شاب من زملائها خارج العمل..
:"وما الذي يزعجك بشأنه؟"
سألها ببرود بينما يرتاح بمقعده وهي لم تتراجع وردت بحنق: "إنه أكبر منك ومني.. وهو يعمل بالشركة منذ سنوات.. لم يستحق منك تلك المعاملة أبداً أيها الأحمق!"
:"هو أكبر مني لكني مديره وقد نلت مركزي عن جدارة لذا لست مضطراً على احترامه لسببٍ سخيف كهذا.."
رد بها ليجد علامات الرفض والاستنكار جلية على ملامحها وقد كان دوره هو بالاشتعال غضباً فهو لا يحب أن تتأثر بشخصٍ غيره بالذات ذلك المزعج الذي لا يتوقف عن محاولات التقرب منها..
:"انظر لأفعالك التي جعلتك تبدو كلعبة بين يدي فتاة تافهة!.. ألا تخجل من نفسك؟!.."
ابتسم بسخرية وقبل أن يرد اقتربت هي تكمل بحدة: "لكن شخصاً يستمع لفتاة حمقاء ويشتري عداوة ياسر الفودي أهم مهندسي شركته والذي يفوقه شخصياً في العمر ما المنتظر منه برأيك؟!.."
التفتت بعدها لتغادر لكنه وقف أمامها بلحظة ثم أمسك كتفيها وهزها بعنف قبل أن يبتسم بشر وهو يهمس: "لا يمكنكِ إلقاء كلماتٍ كتلك والمغادرة ببساطة يا حلوى الكريم كراميل"
رفعت كفاها تبعد يديه وتحركت تتجاوزه لكنه عاد يقف أمامها وهذه المرة احتضنها وحاصرها بذراعيه رفعت رأسها تطالعه وتلقي عليه سهام عيناها لكنه لم يكترث كان جسدها ملاصقاً لجسده وهذا ما يريده..
:"سأتغاضى عما قلتيه بحقي ولن أتغاضى عن جلوسك مع ذاك المعتوه بعيداً عن ناظراي.."
تركها فجأة ثم دفعها مجدداً لترتطم بجسده بينما يهمس بخطورة: "لقد حذرتكِ سولي.."
:"وأنا لم أستمع.."
ردت بها تتحداه وقد اشتعلت عيناها قبل أن تكمل: "إن كنت لا تثق بي لنفترق ببساطة.."
تجمد لثانية ثم عض شفتاه وهو يغمض عيناه محاولاً تمرير ما قالته وتبريره بغضبها لكنه لم يقدر..
:"أنا أثق بك بالطبع.."
قالها وهو يفتح عيناه ثم حرك أصابعه ببطء على جسدها وهو يكمل: "ذاك الجسد وصاحبته محفوظان عندي.."
بدأت ملامحها تتوتر وقد حاولت الابتعاد عنه لكن كان الأوان قد فات: "يمكنني التعرف على كل ما تعانيه وكل ما تحاولين اخفائه بنظرة واحدة.."
ضحكت بسخرية وردت: "حقاً؟!.."
ابتسم بسخرية وهبط ناظريه نحو القميص الأبيض الضيق وزره الأول الذي على وشك الانخلاع من مكانه ثم حرك طرف اصبعه عليه وهو يقول: "أعلم أن عائلتك تعاملك بشكلٍ سيء وأعلم أنك تخفين أمراً علي ولا تريدي قوله وأعلم أن تلك الفتاة تعمل في الشركة لسببين أولهما إغاظتك وثانيهما محاولة الإيقاع بي.."
وبحركة واحدة نزع الزر من مكانه ثم نظر لها ليرى الصدمة تملؤ وجهها فاقترب منها مكملاً: "ما رأيك الآن؟!.."
وضع كفه خلف رأسها وسحبه للخلف بعنف تأوهت على إثره وعندها انهال على شفتيها بقبلة مسيطرة أرغمتها على أن تثبت مكانها دون أي حركة.. كان يعلم أنه أخطأ برد فعله وكان يعلم أيضاً أنه لم يملك بديلاً فوالده شدد عليه ولعدة مرات أن يهتم بتلك الحمقاء وإن اشتكته بنفسها من إسلام ستتسبب لها بمتاعب..
كان يعلم أن عليه احتواء غضبها وإحباطها كما يفعل دوماً لكن تلك المرة هو الآخر كان غاضباً منها ومن نفسه.. لذا عندما رفعت كفيها لتستند على صدره لم يعلم ما أصابه فقد هبط بكفه الحر على جسدها يعيث به فساداً حتى أرعبها.. كان يمكنه الشعور باضطرابها وخوفها لكنه لم يلتفت.. لم يقطع قبلتهما لثانية فقد كان يعلم أنها ستهرب من تلك العاطفة التي اجتاحتهما ولكن عندما عبث بقميصها حتى كاد يخلعه عضت شفتيه فتراجع بفعل الصدمة..
:"هذا يكفي.."
قالتها وهي تضع كفيها على كتفيها وتمد ذراعيها لتبعده قدر الإمكان بينما جسدها كان ينتفض ووجهها تغطيه خصلاتها الثائرة..
نفث نيران صدره بزفر كل الهواء بصدره قبل أن يقترب منها لكنها رفعت عيناها له وهي تهمس بتوسل: "هيثم كفى رجاءاً.."
كان هذا صعباً لكنه ابتلع لعابه واقترب منها وهو يرد: "سأحتضنك وحسب.."
رآها تحاول تجميع شتات نفسها لترفض لكنها لم تقدر واستسلمت لاحتضانه لها.. ألقت كل حمل جسدها بحضنه واستندت برأسها ويداها المضمومتان على صدره.. بقي يربت على ظهرها وقد قرر أن يصمت وحسب.. كلاهما مبعثران وأي كلمة عتاب أو لوم أو حتى اعتذار ستعلق بالذاكرة كجرح لا يُشفى..
:"كان علينا الهرب ذاك اليوم وحسب.."
سمع همستها المختنقة وقد شعر بدموعها التي تبلل قميصه فزاد من احتضانها وأغمض عيناه وهو يدفن أنفه بشعرها هامساً: "فات الأوان الآن!.."
****
في المساء
وقفت خلف الكواليس بتوتر بينما تضم كفاها معاً وتحاول تمالك أعصابها..
:"لن تنجحي مهما حاولتِ.."
فتحت عيناها ببطء ولم تلتفت حتى فقد تحركت صاحبة الصوت لتقف أمامها وهي تكمل: "أنا أعلم أنك خلف ما حدث اليوم لتسرقي دوري ولن أنساها لك أبداً.."
ضاقت عينيها بينما تردف بخفوتٍ يقطر حقداً: "ورغم ما فعلته لن تنجحي أبداً.. يستحيل أن تُقارن فاشلة حقيرة مثلك بابنة المايسترو جميل عزازي.."
أسقطت كفاها بجوارها واقتربت من هويدا وهي ترد: "خلف ما حدث اليوم كان إهمالك يا ابنة المايسترو الشهير.."
ثم تحركت تتجاوزها وقبل أن تدخل المسرح التفتت لها وأكملت: "وتأكدي بتنظيف أذنيك بينما تسمعيني لتعلمي أن موقف الصباح أبعد ما يكون عن السرقة هو فقط رد حق.."
:"ريم للمسرح.."
أتى صوت الأستاذة نغم فتحركت نحوها ووقفت بجوارها لثوانٍ وهي تتنهد بينما تهمس: "يمكنني فعلها.. إنها فرصتي وعلي انتهازها.."
:"أجل.. أحسنتِ.."
التفتت لنغم التي ابتسمت وهي تكمل: "أنتِ لها.. والآن اذهبي وامنحيني شيئاً يستحق أن استمع له.."
ابتسمت لها ثم تنفست بعمق مرة أخيرة وتحركت تقف بمنتصف المسرح ومرت خمس ثوانٍ بالتمام والكمال قبل أن تُزاح الستار ويبدأ الحضور الذين يملئون القاعة بالتصفيق ليحيوا الفرقة ثم ظهر السيد عنان أمام منصة المايسترو وربت بعصاه مرة وكانت تلك صافرة البداية..
:"يُحكى أن الموسيقار لودفيج فان بيتهوفن كان يسير مساءاً بين البيوت الفقيرة عندما سمع لحناً ساحراً يأتي من إحداها.. العازفة حاولت مراتٍ عديدة أن تكمله لكنها لم تستطع وهنا تدخل الموسيقار كفارس مغوار.. جلس بجوارها وعزف اللحن الذي بدا كشعاعٍ بلون أبيض هاديء يضيء عتمة لياليها..
لحن بدا كأشعة القمر العملاق في الليالي المميزة والنادرة.."
صمتت لبرهة لتسقط عيناها على أصدقائها الجالسين بجوار خالتها ودارين ثم أكملت: "يُقال أن تلك الفتاة أصبحت تلميذة بيتهوفن ويُقال أنها لم تكن.. يُقال أن الكونتيسة جيوليتا جيكياردي التي أهداها بيتهوفن هذا اللحن كانت حبيبته التي لم يتمكن من الزواج بها ويُقال أنها لم تكن.. الكثير من القصص قيلت والكثير من القصص كُذِبت.."
تلاقت نظراتها مع الشخص الذي لم تتخيل أبداً أنه سيسمعها تعزف بتلك الليلة.. تلاقت نظراتهما وغاب كل شيء من حولها وهي تتوعد نفسها أنها ستعزف الليلة كما لم تعزف أبداً..
:"لكن الشيء الوحيد المؤكد أن سوناتا ضوء القمر كانت الشاهدة على ليلة استثنائية بحياة بيتهوفن مليئة بالحزن والانهزام والكآبة والرغبة بإثبات نفسه فتلك كانت المشاعر التي وصلتنا عبرها.. وأيضاً كانت شاهدة عبر العصور على عبقريته الخالدة.."
تعالى التصفيق بعدها فتحركت بثباتٍ نحو البيانو ثم جلست أمامه.. مررت أصابعها كالعادة على المفاتيح ثم تنفست بعمق وعندما سمعت إشارة البدء تناست كل شيء وتخيلت قمرها العملاق وقد عثرت في النهاية على قطعتها المفقودة..
قطعتها كانت ظل الرجل الواقف أمامها بعيونه المنتبهة..
ظل الفتى الذي أصبح رجلاً لكنه ليس غريباً عنها..
ظل الغائب الذي عاد أخيراً..
ظل من اشتاقت له لكنها لن تصرح له باشتياقها أبداً..
*****

رسالة من فتاة مجنونة حيث تعيش القصص. اكتشف الآن