الفصل العشرون (الجزء الأول)

17.6K 151 673
                                    


"لن تنفع معك السياسة، سأحتلك ثم نتفاوض."

في الدور العلوي من الفيلا، في ذلك الجناح المغلق على نفسه كغلقه على سر وجودها. مطفأة الانارة لا شيء يسترق الظلام سوى إضاءات المزرعة الموزعة بشكل مكثف والتي لا تزال منارة. بشعرها المبلل الذي يصل الى بداية عنقها، تجلس فوق سجادة الصلاة ولاتزال بالجلباب.. بعد أن انتهت من تأدية صلاة الفجر، عينيها مثبتة على مكان سجودها.. كُل الأوقات غير مهيأة للنوم.. "أُريد ان انام، الجسد الحيّ يطالب بحقوقه، وأنا لم أهبه إلا أربع ساعاتٍ هزيلة من النوم في الأيام الماضية، عيني تغمضُ من تلقاء نفسها، شهادةُ الجسد الحيّ على حياتهِ، أحتاج أن انام، أحسّ برأسي شاسع، وثقيل، مثل كوكب مأهولٍ بالغرباء، يطفو على السديم.. سأنامُ الآن.. ويجب أن افعل" كل شيء سلب منها.. كانت تعتقد ان هروبها سيصلح داخلها ولكن زاده سوء. ثمة تناقض لا يغتفر، ومدمر لكل عمق. سقطت دمعة بعد الاخرى، حتى وضعت كفها على فاهها تحاول كتم نجيشها. كيف أستطيع أن انتزعني من وجودي هنا لأعود مرة ثانية، إلى الزمن السحيق حيثُ وجدتُ نفسي، بدون أي إحساس بالندم.
ضمت ساقيها الى صدرها، ترتجف بشكل جنوني، لا تعلم كيف تزيح هاجس الخوف الذي لا يفارقها..
{وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}
شعرت بنصل يخترق حجاب أفكارها، بإشعاع تراه بعد عتمة لا نهائية.. صوت ينفض روحها بعد سواد.. مسحت مدامعها.. وهي تستشعر تلك الآيات الربانية.. راحة تتداخل أعماق مكنونها.. وقفت وهي تتوجه الى باب الجناح واضعها اذنها بالقرب منه، تنصت الى قراءة عبدالاله وهو يصلي بأخوته الذكور وابيه.. ترتيله يتسلل الى باطن قلبها. تشعر بـأن صوته المتأنق يعريها، ينفذ إلى روحها. جلست مستنده على الباب مغمضة عينيها بسكينة وراحة.. نصف ساعة تمر وهي باقية في المكان فقد غفت.. كما لو أن جسدها كان يحتاج الى ذلك الصوت حتى يستكن، انفلقت عينيها بفزع حين سمعت صوت طق على الباب.. شهقت وهي واقفه، صدرها يعلو ويهبط وهي تسمع همس. اقتربت لتسمع صوته وهو يقول: اخت اسيل.. أنا تركي.. افتحي الباب.
بلعت ريقها بينما اسرعت بتغطية شعرها، سيفت الباب قليلاً دون أن تظهر نفسها.
سمعت قرع الاواني التي حطت على الأرضية، بنبرة مهذبه وقد ابتعد عن الباب حتى يسنح لها فتحه دون أن تراه: تنبهي على جوالك.. أرسلت لك ما رديتي.. اتصلت هم بعد ما لقيت رد.. عساك بخير؟
رجفت شفتها وهي تجيب بنبرة باهتة منخفضة: كنت نايمة.
أسرع بالاعتذار: آسف على الازعاج.. مكمل بعد ثواني: جبت لك فطور بيعجبك.. تامرين على شيء؟
ردت بتسرع: لا. لم تستطع شكره من شدة الاضطراب المخيف الذي تعيشه.
قال وهو على وشك النزول: اذا تبين أي شيء.. ارسلي على الجوال. ثم هبط الدرجات. سحبت الصينية الممتلئة بكل الاطباق التي تتناسب مع وجبة الإفطار. ثم أغلقت الباب. زاد استحقارها لذاتها.. كيف لها أن تكون شفقة، يعطف عليها شخص لا تعرفه وانما يحتسب الاجر من الخالق. أي مستوى وصلته بعد أن كانت في منزل والدها لا ينقصها شيء، صار وضعها يرثى له. لم تستطع ابتلاع تلك اللقمة التي توقفت عن مضغها.. وبدأت تبكي بهستيريا، داخلي إحساس عارم بالأسى، كل شيء مؤلم، كل بقعة في روحي، وكل عضو في جسدي، كل خلية كل ذرة كل نواة كل إلكترون كل فوتون.. إنني اشع حزناً على نحو غير قابل للسكون. أحس بالألم في كل ما أراه، ما أشمه، وما أسمعه. وقفت وهي تتوجه الى السرير، بعد أن بزقت اللقمة. وضعت المخدة فوق رأسها، وهي تصرخ بغم وضعف. -يمه تعالي ابيك.. احتاجك تكفين تعالي وخديني.. تعبانة انا مرة يمه.. تعالي شوفي بنتك وش جرى عليها.. مقدر اتحمل اكثر.. يارب اني اموت.. يارب خذ روحي.. ما ابي أعيش اكثر.. تعبت من كل شيء.. ليش أنا!.. وش سويت عشان يصير فيني كل ذا؟.. حرام عليكم.. والله انا مو كذا.. ليش يمه تركتيني.. ليش سويتي مثل ابوي؟ ليش يا اخواني.. كيف هنت عليكم؟.. يا ربي جيب لي امي.. حرام والله حرام آآآآآآخ. نواحها يتصاعد، وقواها تخور، تعبها يتفاقم، وجرحها يزداد اتساع. صغيرة، هشة، ضعيفة، خائفة، بردى، جائعة، بكائها كثير، الوحدة قارسة، أقسى من أي شيء. غفت وشهقاتها تعلو.

لا تحملني خطا ما هو خطاي..لو أنا المخطي كان والله اعتذرتحيث تعيش القصص. اكتشف الآن