رسالة من فتاة مجنونة-الفصل الحادي والعشرون

113 10 0
                                    

~الرسالة العاشرة~
أخطائنا التي لا تُغتفر هي تلك التي يتأذى بتبعاتها أشخاصٌ غيرنا..
***
بعد مرور ثمان سنوات
:"سأبني لكِ منزلاً بعيدًا عن صخب المدينة وأضوائها المزعجة.. لتتمكني من رؤية النجوم والسماء الواسعة.. ورائحة البحر ونسيمه تصلك لتنعش قلبك وتداعب أنفك"
استيقظت فجأة من النوم وتلك الجملة كانت تتردد برأسها بلا توقف.. دفعت جسدها لتستلقي على ظهرها تنظر عبر النافذة للسماء الملبدة بالغيوم.. لقد مرت سنوات ولازال هذا الوعد يتردد ببالها مع فتح عينيها كل صباح.. وقبل أن تنام كل ليلة.. تتساءل عندها إن كانت تحب تعذيب نفسها.. لقد نسي الجميع وأكملوا حياتهم فلم لا تفعل هذا هي الأخرى.
فجأة قفزت كتلة من الفراء وبدأت بالمواء فابتسمت وهي تهمس: "صباح الخير رمرم"
استقامت بالفراش وهي تمسح على فرائها الأسود الناعم فأصدرت القطة خريراً سعيداً.. نهضت بعدها بثوانٍ من الفراش وتحركت وهي تكمل: "إنه يوم الإجازة وكالعادة أستيقظ باكراً دون سبب"
سمعت مواء القطة فالتفتت ترد باعتراض: "لا هذا ليس طبيعيا يا فتاة.. إنه يوم إجازتي!"
عادت القطة تصدر صوتها الناعم فوضعت كفيها بخصرها وهي تقول: "هل هذا ما ترينه؟"
بدأت القطة بلعق ساقها فأومأت والتفتت تكمل: "معك حق.. فلأستغل استيقاظي وأذهب لشراء الفطور"
تحركت بعدها تخرج من الغرفة وكالعادة اتجهت لغرفة خالتها تطمئن عليها أولاً.. كان الباب مفتوحاً ورأتها تنام بهدوء بالفراش فابتسمت وتنهدت براحة ثم التفتت تعود ادراجها وتتجه للحمام للاغتسال..
****
:"هاااي استيقظي"
تأففت بحنق ولم ترد على المزعجة التي سرعان ما أزاحت عنها الغطاء وهي تهتف: "استيقظي في الحال!"
لم تشعر بنفسها إلا وهي تدفعها بعيدًا بساقها بينما ترد: "غادري في الحال يا هذه.. قبل أن أفرغ غضبي عليك!"
-: "كيف تجرؤين على دفعي بهذا الشكل؟!"
سألتها فنهضت من الفراش واقتربت منها لترتعب الحرباء الصغيرة وتصبح بالكاد قادرة على التنفس وقد كانت تلك اللحظات التي ترعبها بها هي ما تمنحها القدرة على تجاوز كل ما يفعلونه بها.. انحنت قربها وردت بصوت خفيض: "أفعل ما يحلو لي.. فقد نبهتك ألف مرة ألا تدخلي غرفتي بتلك الطريقة!.. لذا أنتِ تستحقين التوبيخ والإذلال أيتها الغبية.."
تراجعت عنها بعدها لتفعل المنتظر منها وتركض لخار ج الغرفة وهي تهتف: "سأخبر عمي!"
لم تكترث لحديثها ولم يهز بها أي شعرة فقد تبعتها وأغلقت الباب خلفها وما أن فعلت تنهدت بضيق.. حتى تنفس الهواء بهذا البيت أصبح مؤلماً وصعباً.. اليوم إجازة للأسف لذا عليها البقاء معهم لفترة طويلة لكنها لن تتحمل.. بعد هذا الهاجس تحركت نحو خزانتها وأخرجت ثيابها الرياضية ناوية الخروج للركض قليلاً حتى تهرب من الجلوس معهم.. التفتت تنظر لطاولة الزينة خاصتها والصورة الموضوعة عليها.. كانت آخر صورة جمعتها بجدتها الراحلة.. اقتربت منها وطبعت قبلة على أطراف أصابعها ثم وضعتها على وجهها وهي تهمس: "صباح الخير نيروز!.."
بقيت تطالعها لثوانٍ حتى شعرت أن عليها الالتفات والمضي بما انتوته قبل أن يفيقوا ويبدؤوا تنمرهم عليها كالمعتاد.. فأدارت جسدها بينما عيناها بقيت لبضعة ثوانٍ أخرى معلقة بصورتها تتذكر كيف كانت توقظها وتتناولان الفطور معاً.. كل الصباحات الرائعة التي أمضتها بفرب جدتها تتحدثان بشأن كل شيء تجمعت برأسها ببضع ثوانٍ دافعة دمعتين من الهطول على وجنتيها قبل أن تتنفس بعمق وعيونها تقسو شيئاً فشيئاً بينما تهمس: "رحمك الله يا جدتي!.."
ثم التفتت عنها لتترك ذكرياتها عند صورتها وتعود للكابوس الذي لا ينتهي الملقب مجازاً حياتها..
****
سارت بجوار البحر وهي تتنفس بعمق لتعب هوائه المنعش داخل صدرها.. كان هذا أفضل ما قد تبدأ به صباحها منظر البحر أمامها والغيوم الكثيفة الداكنة فوقه لتعلن عن حلول فصلها المفضل..
ابتسمت وهي تستمع لأصوات فتح المحلات على الجانب الآخر من الطريق وأغاني قديمة ساحرة تصدر من كل مكان..
:"سأكافيء رمرم بعلبة تونة.."
همستها ثم تنفست بعمق وهي تكمل: "كانت صاحبة الاقتراح لذا تستحق المكافئة.."
وصلت للشارع المنشود وعبرت الطريق سريعاً ثم اتجهت لعربة الطعام الشعبي ولصاحبها الواقف فوق منصة خشبية صغيرة وما أن وصلت اليه قالت: "صباح الخير يا عم فتحي"
-:"صباح النور يا عروس"
:"ها قد بدأنا"
همست بها في سرها ما أن سمعت رده قبل أن تتجاهله وتقول: "أريد علبة من الفول وعلبة من الفلافل وعشرة من أرغفة الخبز الصابحة.."
أومأ لها وهو يبتسم ببشاشة بينما يحضر طلبها وكالعادة بدأ بالقول: "لا أعلم أين ذهب الرجال ليتركوا آنسة جميلة مثلك دون زواج"
مطت شفتيها بملل كالعادة بينما تهمس بحنق: "أعرف مكان أحدهم يا عم فتحي!"
:"يا مسافر وحدك..
يا مسافر وحدك وفايتني..
ليه تبعد عني و تشغلني.."
سمعت صوت الأغنية والتفتت فوراً لتجد مخبزاً على الجانب الآخر من الطريق وبتلقائية تحركت ساقيها نحوه والأغنية التي عزفتها لمرات لا تحسبها أثناء دراستها بالمعهد العالي للموسيقى.. كانت تحب موسيقاها التي كانت عبقرية وسباقة بالوقت الذي تم تلحينها به.. تذكر أن السيد عنان بقي ثلاث محاضرات يشرح لهم عظمة ذلك اللحن مردداً أنه لحن أيقوني..
لكن الكلمات.. كانت الكلمات هي ما تأسرها بالفعل.. تشعر كأنها تصف شعوراً عميقاً بداخلها لم تتمكن يوماً من التصريح به..
:"ودعني من غير ما تسلم و كفاية قلبي أنا مسلم.. ودعني من غير ما تسلم و كفاية قلبي أنا مسلم
دي عينيه دموعها دموعها بتتكلم.. دي عينيه دموعها دموعها بتتكلم..
يا مسافر وحدك و فايتني..
ليه تبعد عني و تشغلني.."
-:"هل أساعدك بأي شيء آنستي؟.."
أفاقت من حالتها وابتسمت للبائع الشاب ثم تنفست بعمق تشتم رائحة المخبوزات الطازجة ورائحتها الزكية قبل أن ترد: "أريد نصف كيلو من مخبوزات العجوز ونصف كيلو من مخبوزات الشوكولا.."
أومأ لها بطاعة وبدأ بتحضير طلبها بينما هي عادت لتسرح بخيالها مع كلمات الأغنية.. وكما كان يحدث دوماً عند مقطع معين كانت دقات قلبها تتسارع بطريقة مؤلمة..
:"مهما كان بعدك هيطول أنا قلبي عمره ما يتحول..
هافتكرك أكثر من الأول.. أكتر من الأول.."
فعند سماعها لتلك الجمل كانت تعود للواقع ويضيع سحر الكلمات.. كانت الكلمات تنطبق عليها لكن على العكس هي لم تكن سعيدة بهذا.. بل تحاول باستماتة التخلص من هذا القيد الذي يكبلها ويجعلها كلما تقدمت خطوة بحياتها تلتفت وتنظر بحسرة لما فاتها.. لما خسرته لتتقدم تلك الخطوة..
-:"تفضلي آنستي.."
التفتت للبائع وأخذت منه المخبوزات ثم أقرضته ثمنها والتفتت تعود لعربة الفول محاولة طرد تلك الأفكار من بالها..
****
تحركت تغادر غرفتها.. ناوية الهروب من البيت بالركض قليلاً وستتناول الفطور كذلك خارجاً فهي تكره يوم الإجازة.. ما أن مرت بجوار غرفة الطعام توقفت وهي تسمع نداء السيد والدها..
:"إسلام!"
اقشعر بدنها مع ذلك النداء ثم التفتت تتحرك ناحيتها لترى المشهد المعتاد.. والدها يجلس على رأس الطاولة.. وبجواره زوجته المقيتة حفصة التي كانت تطالعها بتشفي ينضح من عينيها الحالكتين.. وأمامها شقيقها جالس بجوار زوجته فريدة ابنة السيدة حفصة الكبرى.. وابنتها الصغرى جوان تجلس بجوار والدتها بذات نظرات والدتها.. كانت ذبذبات التشفي والكره أيضاً معتادة لذا تجاوزتها وتجاهلتهم فوراً بينما ترد: "نعم"
نظر لها والدها بعيونٍ غاضبة وهو يسألها: "لم دفعت جوان صباحاً"
ردت بهدوء: "لأنها قللت أدبها معي"
-:"اخرسي يا فتاة.. كيف تجرؤين وتصفين ابنتي أنا بأنها قليلة أدب؟!"
كان هذا صوت السيدة حفصة فرفعت عيناها لها ثم ابتسمت ببرود وهي ترد: "لأنها كذلك بالفعل.. كان عليك تعليمها ألا تتعدى على مساحة الآخرين الشخصية.. حتى لا تتلقى كلمات تهينها وتهين تربيتها يا زوجة أبي.."
رأت فكها كيف يتحرك بعصبية ولولا أنها لا تحب إظهار شيء عدا البرود أمامهم كانت لتسقط أرضاً وتضحك ملأ حلقها بينما تنظر لوالدها وتقول: "هل يرضيك حديث ابنتك؟"
-:"اخرسي في الحال إسلام.. واعتذري لجوان"
التفتت للسيد خاتم بالإصبع رقم اثنان.. فالمرتبة الأولى كانت لوالدها والثانية لأخوها أسلم الذي لا يرفع صوته على أحد غيرها بالمنزل.. وهي لم تكترث بطريقته الحادة بالحديث ولم ترعبها كما لم تكترث لكل أفعاله طيلة السنوات الماضية..
-:"لن أفعل!"
ردت بها ثم التفتت تنظر لحفصة وابنتها وهي تكمل: "لازلت لن أعتذر"
والتفتت بعدها تتحرك نحو باب البيت..
-:"إلى أين يا هذه؟"
أتى هذا السؤال من أسلم فردت بينما تأخذ مفاتيحها: "سأركض لجهنم.. هل تريد أن تأتي معي؟"
-:"يا لك من..."
-:"أسلم اتركها.. لا تشغل بالك بها وعد للطاولة"
ابتسمت بسخرية بينما تستمع لرده ثم تحركت لتغادر دون التفات.. لا شيء يقوله ذلك الرجل يؤثر بها.. فقد اعتبرت أنها فقدته كما فقدت كل شيء بحياتها السابقة..
*****
دخلت المنزل واتجهت للمطبخ لتضع أكياس المشتريات قبل أن تتحرك نحو غرفة خالتها لتجد فراشها مرتباً فالتفتت تتجه لشرفة المنزل الواسعة.. كان البيت قريباً جداً من البحر على عكس منزلهم القديم كما لم يكن هناك بتلك المنطقة بناياتٍ عالية لذا كان يؤمن لهم منظراً ساحراً للبحر..
وجدتها تجلس على مقعد وتنظر للأفق..
-:"صباح الخير يا خالتي"
التفتت لها وسألتها: "أين كنت يا فتاة؟!"
-:"فكرت أن أشتري لنا الفطور من الخارج اليوم بما أنه يوم الإجازة"
ردت بها فأومأت خالتها بتفهم ثم نظرت ناحية رمرم الجالسة على الأرض بقربها بقرف قبل أن تسألها: "هل أطعمت هذا الكائن المقرف؟"
تنفست بعمق ثم ردت: "خالتي لها اسم وهي ليست مقرفة"
أشارت لها بينما تكمل: "لا أعلم كيف تكرهينها وأنتِ ترين كم هي مرتبطة بك إنها تتبعك وتحبك أكثر مني.."
:"لا تناقشيني يا فتاة!"
هتفت بها بحدة فتراجعت ريم خطوة وهي توبخ نفسها على استفزازها بينما تكمل: "ومهما فعلت ستبقى كائن مقرف بالنسبة لي"
أومأت لها بطاعة ثم قالت تغير الموضوع وتهرب من أمامها: "سأذهب لأحضر الفطور.."
-:"انتظري.."
توقفت والتفتت لها بينما تكمل: "لا تعديه الآن فأمجد اتصل بي منذ قليل.. أخبرني أنه يريد رؤيتنا لأمرٍ هام وقد دعوته لتناول الفطور معنا.."
ارتبكت قليلاً لكنها هزت رأسها دون تفكير والتفتت تغادر للمطبخ متمنية مرور هذا النهار دون اضرار..

رسالة من فتاة مجنونة حيث تعيش القصص. اكتشف الآن