رسالة من فتاة مجنونة-الفصل الحادي والعشرون

Start from the beginning
                                    

****
سارت بمحاذاة البحر وهي تضرب الحصى بغضب يتملك روحها.. كانت بكل مرة تخرج بها من البيت تتمنى ألا تعود للبيت أبداً..
لكنها كلما حاولت الطيران بعيداً عنهم يكسرون أجنحتها ويعيدوها للقفص..
تنهدت بملل والتفتت تنظر للبحر.. قبل أن تتنهد وتقرر أن تشغل بالها بالعمل.. صحيح أنه يوم إجازتها وأنها لا تحب العمل أساساً.. لكن على الأقل هناك شيء يلهيها عنهم.
أخرجت الهاتف واتصلت بمساعدة هيثم التي ردت فوراً: "مرحباً إسلام"
-:"نور أخبري السيد هيثم أني سأرتب لاجتماع مع السيد ورداني لأجل المشروع الجديد.. وجدي لي أقرب وقت شاغر بجدول أعماله"
صمت قابلها فانعقد حاجبيها بينما تسأل: "نور هل تسمعيني؟"
:"نعم"
قالتها ثم تنهدت وهي تكمل: "إسلام لقد ألغى السيد هيثم الصفقة مع السيد ورداني.. وقد أمرني بإيقاف التعاملات معه"
:"ماذا!"
هتفت بها دون اكتراث لصوتها العالي الذي جذب الأنظار لها بينما نور ترد: "لقد أعلمني بهذا البارحة مساءاً وفضلت أن انتظر انتهاء الإجازة لأخبرك.."
كزت على أسنانها بغضب ثم تنفست بعمق لتحاول استعادة هدوئها بينما تسأل: "ألم يمنحكِ أي أسباب.."
ضحكة ساخرة قابلتها من الجهة الأخرى قبل أن تستمع لردها: "السيد هيثم يمنحني أنا أسباب؟!.. هل أنتِ بكامل وعيك حتى يا فتاة؟!.."
-:"حسناً طفح الكيل.."
همستها قبل أن تغلق الخط دون تنبيه نور حتى ثم انتقلت لرقمه واتصلت به.. ولم يكد صوت أول رنة ينتهي إلا وفتح الخط ووصلها صوته الرائق الذي ضاعف غضبها..
:"صباح الخير يا كراميلتي"
لم تلتفت لتدليله وسألته بحدة: "أين أنت؟!"
-:"أين سأكون برأيك بيوم الإجازة يا حلواي؟.. بالعمل طبعاً!"
لم تنتظره أن يتم حديثه وأسرعت بالتحرك.. أوقفت سيارة لتوصلها مقر الشركة.. ولم تكد تمر دقائق إلا ووجدت نفسها أمامها.. تحركت تدخل المبنى ومنه للطابق الثالث.. واتجهت لأكبر المكاتب بالشركة ودخلت فوراً لتجده هناك...
معذبها.. مخلصها.. فارس أحلامها.. خطيئتها وفاتنها.. إنه كل هذا وقد التمست بوضوح صوت التسلية بصوته عندما سألته عن مكانه.. فالشركة خاوية إلا منهما وحراس الأمن بالطابق السفلي.
هو معتاد على القدوم إلى هنا يوم الإجازة لتضييع الوقت أو العمل.. وببعض الأحيان عندما يكون والدها وشقيقها مسافران وبمعجزة تتمكن من الهرب من مراقبة الحرباء الكبرى وبناتها يتمكنان من قضاء الوقت معاً.. وقد كان هذا نادراً لذا هو دوماً يلجأ لمكتبه للهروب من البيت.. فتلك صفة مشتركة جمعتهما..
كان يعد لنفسه مشروب القهوة الساخنة على آلة القهوة الواقف أمامها حافي القدمين.. وقد تخلى عن سترته كذلك ليبدو كأنه أحد عماله.. لكن هيهات.. ما أن التفت ورأت التماع لون عينيه النيليتين سحبت تشبيهها فيستحيل أن يشبه ذلك الرجل الفاتن سوى بأبناء العائلات المرموقة.. ابتسم لها وهو يحمل كوب القهوة ويقول: "صباح الخير سولي"
-:"لم ألغيت الصفقة مع شركة الورداني هيثم؟"
سألته بغضب لكنه لم يهتز كالعادة.. احتسى قليلاً من القهوة ثم انعقد حاجبيه وزم شفتيه وبعدها تحرك ليقترب منها قائلا: "إنها ثاني مرة لا تردين بها تحية الصباح خاصتي.. أتساءل من عكر مزاجك؟"
كان مزاجها سوداوياً وقاتماً بالفعل ولهذا قالت بحدة: "أعد تلك الصفقة هيثم.. فقد تعبت جداً وتحملت الكثير من ثقالة دم ذلك الحقير الورداني لأتمها.. ولن أسمح لك بتضييع مجهودي!"
والتفتت بعدها تنوي الرحيل ولكنه اعترضها بحركة كانت متوقعة بالنسبة لها.. اقترب منها ببطء كعادته ثم أحاط خصرها بذراعيه وهو يهمس: "سأتخلى عن رد تحية الصباح.. لكن لن أتخلى عن معرفة من عكر مزاجك"
حاولت تخليص نفسها منه لكنها لم تنجح أو لم تحاول بجدية.. كانت ترغب بقربه كالعادة لكنها لا تزال غاضبة لذا ردت: "أنت!"
:"ما كنت لأفعلها"
قالها ثم طبع قبلة على وجنتها.. ثم طبع قبلة أخرى على جانب فكها.. وقبلة أخرى أسفل عينيها.. قبل أن يهمس: "ما كنت أبداً لأغضب حلوى الكراميل خاصتي"
هدأ غضبها وبدأت بالتنفس بهدوء بينما دفعها هو لتتكئ على الحائط.. ثم اقتنص شفتيها بقبلة حارة تمتلئ شغفا وروعة.. أجبرت غضبها على الرحيل دون عودة.. بينما تتلذذ بطعم القهوة العالق بفمه لتملأ رأسها بشعور ساحر.. حرارة حارقة أشعلت أطرافها بينما تقترب منه.. جسده كان كالعادة يشع بالدفء وذراعاه تقربانها منه بحنان ورفق وتملك.. كانت تلك اللحظات هي أروع ما تمتلك بحياتها.. لا شيء آخر يطمئنها ولا شيء آخر يجعلها سعيدة.
ابتعد عنها بعد ثوانٍ وما أن فتحت عينيها وجدته ينظر لها بعيونه اللامعة وشفتاه الباسمتان.. وإصبعه يتحرك على شفتيها برفق بينما يهمس: "والآن من يزعجك يا حلواي؟"
:"أنا فقط متشاجرة مع..."
توقفت باللحظة الأخيرة قبل أن تبتلع لعابها.. وتغمض عينيها مفكرة بم سترد به.. فلم تكن لتخبره أبداً بما يحدث معها بالبيت الذي تسكنه.. وبعد لحظات فتحت عينيها وأكملت: "انا وريم متشاجرتان"
ربت على وجنتها برفق وقال: "لا تخافي.. ستتصالحان إنه الطبيعي منكما"
ابتسمت له وطبعت قبلة على وجنته قبل أن ترد: "والآن هلا أعدت المعاملات على الصفقة رجاءاً"
:"هذا لن يحدث"
قالها وهو يتراجع نحو مكتبه فهتفت: "هيثم!"
وعندها التفت لها رافعاً إصبعه بتحذير بينما يقول بصوت مشدود: "لا نقاش بهذا.. لدي أسبابي"
لم تلتفت لوجهه البارد الذي لا يظهره معها في الغالب واقتربت تقول: "ألأنه حاول مغازلتي؟"
عقد ذراعيه أمام صدره ففهمت أنه يحاول كتم غضبه قبل أن يرد: "لهذا ولأشياء أخرى"
:"وما هي هذه الأشياء الأخرى من حقي أن أعرف"
قالتها بحدة فواجهها ببرود وهو يقول: "لا حق لك بمعرفة أي شيء إسلام.. أنا المدير التنفيذي للشركة وأنا ألغيت الصفقة.. وسأمنحك واحدة أخرى.. انتهى النقاش بالأمر"
فتحت فمها لترد لكنها تراجعت مع رؤية نظرته المحذرة وفهمت أنه لا فائدة.. تنهدت باستسلام فابتسم هو واقترب يحتضنها قائلا: "هيا الآن لا تبتئسي"
:"لقد تعبت بالعمل على تلك الصفقة!"
همستها باختناق فمط شفتيه وهو يحيط وجنتيها بكفيه ليرد: "أنا أعلم وأقدر ما فعلته لكن صدقيني لدي ألف سبب لإنهاء تلك الصفقة.. أنا آسف لتضييع مجهودك"
ارتجفت شفتيها فطبع هو قبلة عليها ثم احتضنها وهو يهمس: "هيا الآن لا تبكي لهذا السبب لقد وعدتك سأعوضكِ بأخرى"
وضعت رأسها على صدره وقد بدأت بالبكاء فعلا لكن هذا لم يكن السبب.. تاقت لتخبره وقتها أن الصفقة ليست السبب.. لكنها آثرت الصمت كالعادة..
****
أعدت أطباق الفطور وبدأت بحملها ووضعها على صينية استعداداً لنقلها للخارج.. شعرت برمرم تمسح جسدها بساقها وتصدر مواءاً ناعماً كأنها تربت عليها فهمست: "لا تقلقي أنا لست متوترة.."
سمعت صوت جرس الباب فتجمدت مكانها لثانية قبل أن تلتفت لرمرم التي كانت تنظر نحوها فعادت تهمس: "حسناً ربما أكون متوترة قليلاً وحسب.."
:"صباح الخير خالة شكرية"
سمعت صوته الرزين الدافيء فحملت الصينية وتحركت لتخرج من المطبخ وما أن رأته قالت: "هااي يا أنت لم تأخرت؟.. لقد نهشنا الجوع بانتظارك!"
التفت لها أمجد بابتسامته الخلابة كالعادة.. وثيابه المرتبة حتى ببساطتها وتخليه عن بذلاته الرسمية الباذخة..
:"إحداهن غاضبة"
همسها علي مسمع منها بينما يغمز لخالتها فردت: "أنا جائعة فبالتأكيد سأكون غاضبة"
التفتوا جميعا للصوت الناعم لهرتها فردت هي: "أخبريه رمرم"
ثم التفتت له وهي تقول: "أرأيت حتى رمرم جائعة"
كتم ضحكته وهو ينحني بطريقة مسرحية ليرد: "اعتذر لك آنسة ريم"
ثم التفت للهرة مكملا: "وللآنسة رمرم كذلك"
أصدرت خريراً ناعماً ثم تحركت بخيلاء تتمسح بساقه..
:"ليعوضني الله عوض الصابرين"
قالتها خالتها وهي تتجه للطاولة التي تتوسط الصالة الوحيدة للبيت.. والمواجهة للباب الخارجي تماماً.. والتي كانت تفضي للشرفة المطلة على البحر..
:"في البداية الفتاة فقدت عقلها بسبب تلك الهرة.. والآن حتى العاقل الوحيد بدائرة معارفي هو الآخر فقد عقله بسببها"
كتما ضحكاتهما ثم تحركا ليجلسا حول الطاولة.. وما أن جلس أمامها أخرج ورقة من جيبه وقدمها لها فاستغربت بينما تسأل: "ما هذا؟"
-:"هذا نص حكم المحكمة بأحقيتك في الحصول على أرباح الأرض بالسبع سنوات الماضية"
شهقت ريم بسعادة وهي تطالعه.. فتسارعت نبضاته وهو يراقب عينيها الجميلتين الممتلئتان بالفرح.. لكنه تمالك نفسه واقترب من الطاولة ويشير نحو الورقة بينما يكمل: "انظري لتلك النقطة.. لقد حددت اللجنة نصيبك الفعلي من الأرض بعد إثبات إعلان الوراثة.. وإثبات أيضاً الرقعة التي تم توسيعها بأرض عمك.. وقد استعنت بالورقة التي تركتها والدتك.. والتي يعترف بها عمك أنه حصل على جزء من نصيبك لثلاث أعوام متتالية ليوسع الأرض وتصبحي شريكته"
كانت تبتسم بسعادة لكن الدموع ملأت عينيها وهي تهمس: "لولا أن أمي حرصت على حقي ما كنت أثبت أي شيء"
أطرق بصمت بينما مدت شكرية كفها وربتت على كتفها تقول: "أمك كانت طيبة لكنها لم تكن غبية.. وقد كانت لا تفكر سوى بك وبصون حقوقك"
:"رحمها الله"
همستها ريم فأمن على دعائها ثم نظرت له وهي تكمل: "لا أعلم كيف أشكرك يا أمجد"
-:"لم أفعل شيئا وقد تلقيت أجري بالفعل"
قال جملته الأخيرة ببعض اللوم فلم تتراجع وردت بحدة: "وستتلقى أتعابك كذلك.. أنا أكره ال..."
-:"هذا يكفي.."
توقفت عن الحديث مع أمر خالتها الصارم والتي طالعتهما وهي تكمل: "ألا يمكننا قضاء نهارٍ دون شجار.."
كانت تجلس باستقامة ودون أن ترف بعينيها حتى وقد كان لخالتها نفس التأثير على أمجد الذي لم يبدأ بأي جدال معها على غير عادته..

رسالة من فتاة مجنونة Where stories live. Discover now