رسالة من فتاة مجنونة-الفصل الثامن عشر

Start from the beginning
                                    

**
كانت تعزف اللحن والصورة أمامها أصبحت أوضح وأشمل.. شاطئ واسع رماله صفراء بمياهه الفيروزية الساحرة.. وأمامه فتاة جميلة ترتدي ثوبا واسعاً لطيفاً.. بشعرٍ أسود قصير وعيون ذهبية بدأت التحرك على الإيقاع بانتظام وسلاسة.. فقد كانت تتمرن على اللحن طيلة الفترة الماضية منذ أسمعها مؤمن اللحن خلال الرحلة.
&&
:"هذه هي!"
هتفت بها بينما تستمع للموسيقى.. وتتذكر أنها ذات المعزوفة التي أدتها نغم أمامهم بدرسها الأخير معهم قبل سفرها.. التفتت تنظر لمؤمن وهي تسأله: "كيف عرفت أنها هي؟"
ابتسم بينما يدون بدفتره ورد: "حزرتها ما أن أخبرتني باسم الفيلم الذي أخبرتكم به نغم"
عادت تنظر أمامها ثم أغمضت عينيها وهي تتخيل اللحن يعزف.. وهناك فتاة جديدة ترقص بطريقة غير منتظمة وهذه المرة غاب الحقل.. كان هناك شاطئ جميل مياهه ساحرة يتعالى صوتها مع كل خطوة لراقصتها الساحرة.. كانت تفكر باسم مناسب لفتاتها الجديدة.. لكنها قررت إرجاء هذا لوقت لاحق ثم التفتت له وسألته: "هل هو من أحد أفلام الأنمي حقا؟"
أومأ لها ورد: "سنشاهده معاً ما أن نعود للبيت"
التفت لها وتأملها قليلا فشعرت بخجلٍ يتملكها قبل أن تسأله: "ماذا؟!"
فتح فمه ليرد لكن أتى نداء من خلفهما أجبره على الصمت...
:"ريم"
التفتا لساندي التي اقتربت وهي تسأل: "هل رأيتما إسلام وهيثم.. لقد اختفيا فجأة"
تلفتت ريم حولها وقد أدركت أنهم مختفين بالفعل ثم ردت: "فادي أيضا قد اختفى!"
&&
حاولت السيطرة على غيظها من ساندي.. فمن بين كل اللحظات التي كان من الممكن أن تقاطعها.. لم تجد سوى تلك اللحظة التي كانت تشعر بها.. أغمضت عينيها ولثوانٍ تناست كل شيء.. وتذكرت فقط تلك اللحظة التي كان ينظر لها بعمق وابتسامة عذبة نادرة.. لقد شعرت أنها الفتاة الوحيدة بالعالم التي قد ينظر لها مؤمن بتلك الطريقة.. وقد ملأها هذا بالسعادة حتى وإن كان مجرد خيال يحتل عقلها.. عادت تنظر للمفاتيح محاولة إلقاء تلك المشاعر جانباً.. فهي للآن تبلي حسناً ولا تضغط على المفاتيح بعنف.. كما أنها كانت تحفظ اللحن الآن عن ظهر قلب.. فقد استغلت البيانو الصغير الموجود ببيتها لتتمكن من إتقانه.. مع هذا شعرت أن شيئاً ما ينقص لوحتها كما ينقص عزفها.. وقد كان هذا يزيد غيظها ويضاعف مجهودها بالتركيز والسيطرة على غضبها.
انتهت بعد فترة والتفتت لنغم.. كانت منار لديها اختبارات لذا لم تكن ستحضر التمرينات لفترة.. وكان عليها تحمل عصبية نغم وحدها.. لكن وللغرابة كانت نغم تتعامل معها برفق منذ عادت من تلك الرحلة.. تحتد عليها عند الخطأ فقط.. وقد أجبرها هذا على استبعاد فكرة أنها تتملقها لأجل تلك الحفلة التي فاجأتها بها.. فعدا عن كون هذا ليس من طبيعتها.. إلا أنها توجهها وتعيرها اهتماما غريبا.
:"ما الأمر؟"
عادت لأرض الواقع وابتسمت لها وهي تنوي إخبارها لا شيء.. لكن ما أن تلاقت عينيهما تجهمت وتنهدت ترد: "لا أعلم.. ألا تشعرين بشيء ناقص في اللحن؟"
:"أجده جيد"
ردت بها ثم نهضت تقترب منها وهي تكمل: "لقد عزفت اللحن بطريقة صحيحة.. ولم تضغطي على المفاتيح بعنف كعادتك.. لذا فاللحن جيد بالنسبة لي"
أطرقت ريم تطالع المفاتيح بصمت وهي تقول: "لم إذاً أشعر أنه ينقصه شيء ما؟"
تفاجأت بها تنحني فوقها وتشير لها بإصبعها وهي ترد: "ما ينقصه شيء بداخلك لذا ابحثي عنه بنفسك"
عندها ابتسمت بصدق وأومأت قائلة: "سأفعل أستاذة"
استقامت نغم وردت: "جيد.. الآن اذهبي فلديك مشروع تعملين عليه"
نهضت بالفعل وتوجهت لحقيبتها وعلقتها على كتفها.. طالعت الفراغ لثانية ثم تنفست بعمق لتشجع نفسها والتفتت تنظر لها.. كانت تجلس بهدوء على البيانو وتولي النوتة كل اهتمامها.
ما مدى صعوبة قول كلمة شكراً.. تعرف الكثيرين بحياتها يصعب عليهم قولها وأولهم السيد شفيق.. فهو أول من عرفتهم بحياتها من المغرورين.. كادت تبتسم وهي تتذكر جلسته على الدرج.. وأنفه المدفون بكتاب الرياضيات وهو يقول ببرود: "أنا لا أطلب شيئاً من أحد لأشكر.. ولا أرتكب خطأ بحق أحد دون داعي لأعتذر يا سبونج بوب"
: "ما الأمر؟"
مجددا تشتت انتباهها.. هزت رأسها بعنف ثم عادت تنظر لها.. كانت لا تزال على جلستها.. ظهر مستقيم.. ساقان متعاقدتان بطريقة ملوكية.. وشعرها لا توجد أي شعرة صغيرة منه خارج عقدتها.. لو كان للأميرة ديانا ابنة ستكون أستاذتها نغم بالتأكيد.. باستثناء أنها لا تبتسم مثلها.
ضربت رأسها بحدة لتتوقف عن ذلك التيه الذي يصيبها ثم ابتسمت تقول: "أنا لا أذكر أني شكرتك من قبل آنسة نغم"
-:"لا لم تفعلي"
ردت بها ثم التفتت تنظر لها باتهام قبل أن تكمل: "وهذا يعني أن علي تعليمك أصول التهذيب أيضاً"
شعرت بالحرج والغيظ كذلك لكنها آثرت الصمت.. فقد كان عليها شكرها لكل ما فعلته.. صحيح أنها حاولت خداع نفسها لفترة بكونها لم ترغب بأيٍ من هذا.. لكن مع مرور الأيام وتملك السعادة منها مع كل لحظة تمضيها على البيانو.. ورؤية السعادة بعيون والدتها مع إخبارها بتفاصيل دروسها.. مع كل هذا كانت تتأكد أنها تمنت خوض تلك التمارين.
-:"هذا أول درس تتعلميه مني في التهذيب"
نظرت لنغم باستغراب فأكملت: "لا يجب أن تجادلي ما دمتِ مخطئة يا ريم"
التفتت بعدها تتحسس المفاتيح وهي تردف: "هيا الآن لديك عمل تنجزيه لتتفرغي للمزيد من الموسيقى"
أومأت وتحركت بالفعل.. وقبل أن تغادر قاعة الرقص تذكرت شيئا فعادت تنظر للمرآة الكبيرة.. وهي تحمد الله أن المكان يكون خاليا في الصباح.. وبدأت بتصفيف شعرها بيدها وهي تثني على نفسها أنها اختارت عقده بجديلة تتدلى على قميصها الأزرق وسروالها الجينز الفاتح مع حذاءٍ خفيف.. ثم أخرجت ملمع الشفاه ووضعته سريعاً.. ألقت على نفسها نظرة سريعة قبل أن تلتفت لتغادر.. وعندها وجدت السيدة فادية.. فشعرت بحرج كبير ثم قررت أن تهرب من أمامها.
:"أراكِ لاحقا سيدة فادية"
قالتها وهي تغادر بينما سمعتها ترد: "أراكِ بخير عزيزتي"
***
هبطت الدرج فوجدته جالسا على سلالم المدخل..
-:"هل تأخرت؟"
وصلت له فوجدته يمسك كتاباً فاتسعت عينيها وهي تطالعه بصدمة بينما هو نهض يرد: "لا لقد وصلت قبل دقائق"
-:"هل هذا كتاب؟"
قالتها وهي تشير لما بيده بينما هو أومأ بهدوء.. فهزت رأسها وهي تكمل: "لا أعلم لم قد أتفاجأ!"
-:"إنه كتاب الهندسة من العام الجديد"
قالها وهو يتحرك فتحركت لتسير بجواره بينما ترد: "حقا؟!"
-:"أحتاجه لأجل المجسمات التي أصنعها للمشروع"
توقعت شيئاً كهذا.. لكنها أرادته أن يهتم بقميصها الجديد بتلك اللحظة.. لكن ما كانت لتظهر حنقا أمامه بسبب هذا.
-:"لا زلتِ ترتدينها؟"
التفتت له باستغراب فوجدت أنظاره موجهة للقلادة التي أهداها لها فردت: "لقد وعدتك ألا أخلعها"
ابتسم بذات الطريقة العذبة ثم أطرق لثانية.. وقبل أن تنتوي إظهار حنقها هذه المرة لعدم رده سحبها من كفها قائلا: "لنأكل مثلجات"
:"ألن نلتقي بساندي والبقية؟"
سألته فسحبها ليركضا وهو يرد: "سنلتقيهم في النهاية.. لذا انسيهم لبعض الوقت"
ابتسمت وتبعته بهدوء وقد قررت أن تستمع له.
****
وضعت فادية فنجان القهوة أمامها بينما تقول: "أنا سأكافئ هذه الفتاة"
-: "لن أسأل لماذا.. فقط سأعترض على مكافأتها.. أنا من يجب أن تكافأ فأنا من تعلمها"
-:"سأكافئكِ وأكافئها"
:"لماذا؟!"
سألتها بحنق ثم نهضت بينما فادية تضحك بشدة وتقترب منها احتست نغم القليل من القهوة ثم ابتسمت وهي تهمس: "لقد كافأتني بالفعل بذلك الفنجان"
نظرت لفادية التي كانت تبتسم بهدوء وقد امتلأت عينيها بالدموع.. فلم تتحمل وتحركت نحو الشرفة وهي تكمل: "عليك أن تكوني أسعد مني بوجودها"
-:"أنا سعيدة بالفعل عزيزتي"
قالتها باختناق وسمعت تنفسها العميق.. قبل أن تلتفت وتتحرك نحوها وهي تسألها: "متى ستسافرين؟"
-:"بعد حفل الأكاديمية البحرية"
قالتها ثم احتست بعض القهوة قبل أن تكمل: "لن أغيب سوى لأسبوع لذا سأمنحها أجازة وحسب.. لا داعي لإخبارها شيء"
التفتت لها وتملكها البرود وهي تكمل: "مفهوم فادية؟"
أومأت لها بصمت فابتسمت.. وتذكرت حديثها مع ريم وتنهدت تقول: "أنا أيضاً أدين لك بشكر فادية"
:"لا.. لست مدينة لي بأي شيء"
ردت بها بينما تلتفت وتغادر.. فضحكت بخفة ثم تحركت تستند على سور الشرفة لتتسع ابتسامتها.. وهي ترى ريم يسحبها ذلك الفتى الذي أخبرتها أنه جارها وصديقها منذ الصغر.. ولسبب ما شعرت بالسعادة لهذا المنظر..
****
توقفت السيارة أخيراً بينما هي تنهج بشدة وهي تنظر للبحر أمامها.. لقد خالت أنها ستموت بلحظة ما أثناء قيادته.. التفتت له وكل أطرافها حرفيا ترتجف.. لكن ما أن رأت تلك الابتسامة السخيفة التي تحتل وجهه هتفت: "أيها الغبي الأحمق هل تريد قتلي؟!"
انفجر ضاحكاً فضربته بعنف على ذراعه.. قبل أن تلتفت وتحاول فتح الباب لتهبط.. لكنه سحبها وأعادها لتنظر له وهو يواجهها بعينيه اللامعتين.. ثم ابتسم بخبث قائلا: "ظننتك لا تخافين شيئا"
:"أتركني في الحال هيثم!"
همستها بغضب لكنه لم يتراجع ورد: "لن أتركك إلا إن وافقت أن نتواعد"
:"لن أوافق!"
قالتها بحدة ثم هتفت تكمل: "كيف تجرني معك إلى هنا.. ألا تعلم ما سيصيبني إن رآني أي أحد.. كما أنك لا تملك رخصة قيادة بالتأكيد.. ألا تخاف أن يتم إيقافنا؟!"
: "أنا هيثم السندي.. لا يمكن لأحد إيقافي"
قالها وهو يحرك كفيه نحو كتفيها ويضغط عليهما وهو يكمل: "وأنا لن أتركك قبل أن توافقي على مواعدتي"
كان يقترب منها كما كان يحدث في ذلك اليوم.. وعندها أرغمت نفسها على الخروج عن حرجها وخوفها.. وأرجعت رأسها للخلف ثم ضربته بقوة على جبينه.. وبينما هو يتأوه شعرت بانتصار خاصة مع نظره لها بغضب.. تجنبت الاهتمام بالجزء المرتعب منها ونظرت له بصرامة وهي ترد: "الآن قُد تلك السيارة ولنذهب للمقهى.. أو اتركني أغادر هيثم!"
مسد جبهته ثم نظر لساعته قبل أن يقول: "حسنا لكن لن استسلم بهذه البساطة سولي"
التفت بعدها يدير المحرك بينما هي تحاول كبح ابتسامتها.. لكنها لاحظت شيئا فالتفتت تنظر له.. تأملته لثوانٍ وما أن التفت بغرض النظر للطريق خلفه لاحظ نظرتها فسألها: "ماذا؟"
كانت تطالعه بطريقة غريبة قبل أن ترد بهدوء: "تبدو غاضباً"
بقي صامتا فأكملت: "منذ أيام كان الاستياء يظهر على ملامحك بوضوح.. لكنك اليوم غاضب"
تهدل كتفاه والتفت ينظر أمامه.. ثم ابتسم بسخرية وهو يخرج علبة سجائره هامسا: "أنا دائماً غاضب"
كاد يخرج سيجارة ويشعلها لكن العلبة والقداحة سحبتا من يده.. وما أن نظر لها وجدها تخفيهم في الدرج أمامها.. ثم التفتت له وهي ترد بهدوء: "لن تشعل سجائر معي هيثم.. لأنها أولا تتعبني وتؤذي صدري.. ثانيا هي تؤذيك وصحتك أمر عليك أن تهتم به.. ثالثا وهو الأهم..."
صمتت تلتقط نفسا هادئا قبل أن تكمل: "هي لن تحل مشاكلك.. ولن تنفس عن غضبك"
ضحك بخفوت قبل أن يقول: "أنا أحياناً أشعر أنك بشخصيتين إسلام"
: "أنا كذلك بالفعل"
ردت سريعا قبل أن تكمل: "هذا ما تقوله جدتي على الأقل.. إحداهما تميل لشخصيتها الحازمة.. والأخرى تميل لشخصية أمي الهادئة"
تنفست بعمق وأشارت للمفتاح وهي تردف: "والآن لم لا تدر المحرك وتخبرني عن سبب غضبك"
مد يده يدير المحرك وهو يقول: "بدأت اليوم العمل بشركة والدي.. وشقيقي المثالي أرسلني في يومي الأول للعمل في أحد المواقع"
نظر لها فوجدها تظهر وجها آسفا.. ثم ألقت نظرة سريعة على ثيابه قبل أن ترد: "هذا يفسر ثيابك المغبرة"
-: "فضلت عدم العودة للبيت وتبديلها"
"حتى لا أقابل شخصا قد أتشاجر معه"
كانت واثقة أن هذه تتمة الجملة وقد قرأتها بوضوح.. وبدأت بالتفكير بطريقة لإخراجه من حالته تلك...
: "لكنكِ فاجأتني!"
عادت تنظر له فأكمل: "كونكِ تعرفين مدى صعوبة التعامل مع عمال البناء في مواقع الإنشاء"
ابتسمت وردت: "هذا لأن جدتي كانت مهندسة معمارية"
نظر لها بانشداه لثوانٍ فهتفت: "ركز على الطريق هيثم.. هل أنت مصر على قتلنا؟!"
عاد ينظر للطريق ثم تنحنح يسألها: "كم عمر جدتك؟"
-: "قاربت على إتمام الستين"
بعد ردها نظر لها بصدمة أكبر فضحكت وهي ترد: "سأجعلك تستمع لحكاياتها بهذا الشأن يوما ما.. لكن سأخبرك مقتطف عنها.. جدتي لم تكن الفتاة الوحيدة في دفعة الهندسة المعمارية وحسب.. بل كانت الفتاة الوحيدة في دفعة هندسة لثلاث سنواتٍ متتالية"
***

رسالة من فتاة مجنونة Where stories live. Discover now