...
في قلب تلك الفيفاء القاحلة حيث شيد ذلك المعسكر الصغير من أجل جنود الوطن، تسلل أحد الشبان الفتية بخفاء، وتوارى عن الأنظار خلف إحدى
الكثبان الرملية.
ليهوي بجسده على تلك الحبيبات الدقيقة بإنهاك فقد رجع لتوه من دوريته في تفتيش المناطق التي تحيط بخط الحدود.
الطائرات الحربية تحوم حولهم كالعادة كالنجوم، وتقذف بقنابلها كالشهب الساقطة، والمهمات في استمرار، لا مأكل جيد، ولا مشرب سائغ، فقط يحتضنون البنادق طوال الوقت بدل أحبائهم الذين ينتظرونهم على أحر من الجمر.
لا يسعدهم سوى تلك الرسائل التي تصلهم بعد مدة ليست بالقصيرة، وربما لا تقع لمتناول يدهم حتى، أخرج من حقيبته ذلك الظرف السكري اللون، متوسط الحجم ذو فتحة مثلثة الشكل.
حالما فتحه انهمرت منه ثماني وعشرون بتلة من الورد الزهرية اللون ولايزال المزيد في الداخل، كان هناك مسحوق أبيض يغطيها، استنتج أنها مادة حافظة تقيها من الهرم والذبول، حتى شذاها العطر لازال عالقًا في ذرات ذلك الظرف الورقي.
قربه من أنفه وشم عبيره باشتياق وحنين، رسم في مخيلته منبت هذه الزهور اليانعة، مروج بلدته الخضراء وعلى قمة عرشها تترأس تلك التلة المرتفعة بعض الشيء.
يقبع عليها ذلك البيت الخشبي الصغير الذي ينتمي لأسرته الفقيرة، وعلى شرفة غرفته في الطابق الثاني
تصافت تلك المزهريات المختلفة الأحجام، والتي
غرست فيها مختلف أنواع الزهور، ومن بينها زهرته
المفضلة التي تناثرت بتلاتها الآن على فخذه.
ورود زهرية بداخلها بستان من تلك البراعم الصغيرة التي تلونت سيقانها بالبياض، أما أعشاشها فقد ازدانت باللون الوردي الغامق، وحتى التربة تحتهم صبغت بنفس اللون الوردي.
لو نظرت للأسفل من تلته ستجد قريته الصغيرة التي تحيط بها العديد من المزارع الشاسعة، ارتسمت ابتسامة واسعة على وجنتيه عندما تجسد ذلك المنظر البديع في مخيلته.
أنزل الظرف بعد فتحه لعينيه وقلبه، مخرجًا بقايا ما
بجعبته لتسقط تلك الرسالة المطوية ليفتحها بعجلة،
ويقرأ ما بداخلها بحماس وبريق انبثق من عينيه
المخضرة التي بينت أصله وفصله، وتجسد داخلها
اخضرار الحياة وفتوتها الزاهية.
عزيزي ماريوس.
أنا نرجس، الزهرة الفتية خاصتك، أرجو أن تصلك رسالتي هذه، انتظر عودتك بفارغ الصبر، تعلم أنني لا أعرف الكتابة لهذا جعلت نيري المملة تكتب بدلًا عني، وبالتالي لن أثرثر بالمزيد من التراهات وفي الأصل تعرف جيدًا قحط رومنسيتي هههه.
زرعت هذه الزهور المفضلة عندك في الحديقة الخلفية للميتم خفية عن تلك الساحرة، وقد أزهرت بعد أشهر عديدة من الرعاية، احتفظ بها وتذكرني من خلالها، عد بسرعة لنكمل زراعة حقلنا الخاص، اعتني بنفسك جيدًا.
عد قبل أن يخطفني ابن خالتي منك، وأصلًا الخطاب في طابور على الأبواب ههه، ولكن اعلم
أنه لو لم تعد ستكون قد تركت خلفك شابة كانت
يتيمة مشردة قبلك، وستصبح أرملة عزباء بعدك.
أحبك
حبيبتك نرجس❤
قهقه على كلماتها الشقية، لكن لم يسعفه الوقت ليكمل نسج ترانيم ضحكته، فقد سمع صفارة قائده لتلزمه بالذهاب.
فأمسك البتلات من جذوعها الخضراء الباهتة، وأعادها مع الرسالة بعجلة إلى داخل الظرف،
ورجع لواقعه المرير المليئ بأصوات المسدسات
ورماد الشهداء.
...