نيـوتروبيـا

By Die-Nacht

268K 18.5K 24.1K

"أعطـني لأعطـيك" هـذه قصـة الطـفلة التي اعتمدت هذا القانون كحل وحيد وأوحد للنجـاة في عالمـها المشـوّه. هي تل... More

-1- بداية السقوط
-2- مجمع القطب
-3- مصيدة الثعلب
-4- كهرمان
-5- خلف جدرانهم العالية
-6- الحرب
-7- رائحة دم
-8- إكصاص
-9- شِقاق الزهور
-10- السرداب
-11- عيون الصقر
-12- سيلست غولدن
-13- سليل السلف الأول
-14- هذا وذاك
-15- شتاء بحلة الخريف الأحمر
-16- صندوق زجاجي
-17- مشارف الموت
-18- لاشيسيا
-19- دموع شارلوت
-20- سمفونية أبواق الهلاك
-21- لأجلكِ أيتها الفاوانيا
-22- بئر من الأوهام
-23- رؤى
-24- رسائل السلام
-25- أونوس
-26- أضواء باهرة
-27- آل والثعلبة السوداء الصغيرة
-28- قمر حقل البنفسج
-29- خزف
-30- الدرجة رقم سبعة عشر
-31- دماء ورثاء
-32- بركة الملح
-33- قلوب بلا عيون
-34- أحضان الشمس الدافئة
-35- شتاء ديستوبيا الأخير
-35.5- ومضة
-36- ربيع الأرض الجديدة
-37- واجبات الحرس
-38- الكناري الصامت
-39- شبكة من خيوط الماضي والحاضر
-40- أجيال
-41- تمرد الوحوش
-42- الشمس والقمر
-43- خلف مخمل الستار
-44- رماد عينيه
-46- سم وعسل
-47- شيطان
-48- براءة عذراء
-49- زهرة النوكس المشؤومة
-50- حنين للحنان

-45- سالب

8.5K 432 1.5K
By Die-Nacht

كناريا كانت في مهمة بحث جعلتها تهرول في الأنحاء علها تتقفى أثار سيثروس الذي اختفى تاركاً لها رداءه لتجعده أناملها بسبب ضغطها المستمر.

أوقفت عدة خادمات للسؤال ولحسن الحظ المعطف الأبيض الذي أعطتها إياه ماشميا ساعدها على الحصول على تعاون الخادمات وإجابات صريحة منهن.
"سموه؟ لا أدري بحق."
"هو لا يستعمل جناحه منذ زمن طويل، لن تجديه هناك أنا متأكدة."
"لم ألمحه، لا هو لا يسمح لنا بأن نلمحه أصلاً."

الهرولة تحولت لعدو عشوائي فالدموع المبهمة التي تعلقت على أهدابها غطت على بصرها وأزعجتها، لم تكن من النوع الذي يواسي أحدهم. كانت تستطيع الكذب كما تفعل دوماً لكن عندما تعلقت الأمور بمثاليات قصصها بدا التكذيب كالإثم العظيم.

حبل أفكارها سريعاً ما إنقطع حين وجدت نفسها تصطدم بقوة بجسد لم تشعر بحضور صاحبه ليتعثر كلاهما ويقع أرضاً.

"آسفة."
اعتذرت وهي تزحف على الأرضية متراجعة عن الشخص الذي ارتطمت به فظلام الممرات التي أنيرت بشموع خافتة وضوء القمر لم يساعداها على الرؤية كثيراً.

"لا بأس عليكِ."
الصوت الأنثوي اللطيف هدأها وجعل ملامحها ترتاح قليلاً لظنها بأنها مجرد خادمة أخرى لكنها سرعان ما شهقت كل نفسها من رؤية قلنسوة العباءة المخملية على رأس محدثتها تنزلق ليظهر شعرها الماروني الداكن.

"أميرة!"
نبست كناريا بصوتها المبحوح وأخذت تقوم بالزحف مجدداً لكن هذه المرة باتجاه سكارليت التي تلعثمت وهي تميل متراجعة آخذة بدفن نفسها أسفل ردائها مجدداً:
"لـ لا، أنا فقط شـ شخص يشبهها."

"اعتذر عن الاصطدام بـ..."
كناريا لم تستطع استكمال كلامها بسبب آلم حنجرتها فأخذت تسعل بشدة لتقوم الأميرة المتوترة بتسيير بصرها سريعاً على محدثتها قبل أن تحشر كفيها في جيوب ملابسها وتخرج مكعباً من السكر البلوري.

أمسكت سكارليت بكف كناريا التي ارتعشت بخوف من فعلتها ثم وضعت المكعب في كفها.
"تناوليها، ستساعدك على استعادة صوتكِ."
نظرت لسكارليت بدهشة وبطريقة متوترة محرجة لكنها وضعت المكعب في فاهها لتتذوق حلاوته عن طريق قضمه مراراً.

"على مهلكِ"
سكارليت أطلقت ضحكة قصيرة أما تلك فتصنمت على الظن بأنها قامت بشيء خاطئ.
"قومي بالسماح للسكر بالتحلل، الكميات القليلة ستساعد على تهدئة التهيّج."
ابتسمت الأميرة وكناريا أومأت برأسها عدة مرات لتفنذ بهدوء وقد كانت تلك محقة.
"آسـ ـفة."
نطقت الفتاة.

حاجبا سكارليت ارتفعا وكأنها تذكرت ما حصل وأنهما مازالتا جالستين على الأرضية.
"لا داعي لإجبار نفسكِ على الحديث أو الاعتذار، كنتُ لامبالية بخطواتي."
الأميرة تحدثت معتذرة بدورها وهي تنهض من على الأرضية لتعرض كفها على الفتاة التي تعثرت بها، لا تصدق أن هذا حصل حتى في مثل هذا الوقت المتأخر من المساء حين حاولت ألا يلحظها أي شخص.

كناريا حملت رداء سيثروس بيد والأخرى ألقتها في كف سكارليت بحماس لكن بوداعة.

الأخيرة أبدت شيئاً من الاستغراب لكنها سرعان ما أعادت بسمتها على وجهها جاعلة قلب كناريا يكاد يذوب بين أضلعها فإنها الأميرة الوحيدة الحقيقية التي عرفت عنها يوماً وبعد رؤيتها على مقربة وتأمل جمالها وحلاوة أخلاقها بقطعة السكر تلك بدت سعيدة كطفل.

"لما تبدين على عجلة؟ الركض لن يساعد حلقكِ على التشافي."
عينا الأميرة إنخفضتا نحو الرداء الأسود الذي ضمته كناريا لصدرها بصمت واعتصرته أكثر في محاولة لإخفائه.
"وتبحثين عن أخي."
أضافت سكارليت بابتسامة متأسفة ما أن تذكرت لحظات عشائهم الأخيرة. عندما غادر أخوها تمنت أمسية هانئة لوالديها ورحلت بالمثل، علمت أن والدتها كانت مستاءة بشدة ولم ترد أن ترغمها على التصرف وكأن شيئاً لم يكن بمكوثها لفترة أطول.

"يجب أن أجده."
كناريا غمغمت متذكرة المهمة التي كانت في خضم تنفيذها.

"هو غالباً لم يعد داخل القصر الآن وقد ذهب للغابة."
تمتمات الأميرة جعلتها تبدو وكأنها تحدث لنفسها، بصرها مال نحو الشرفة التي تربعت خلفهما، القمر كان واضح في السماء وكاد ينتصفها.

"لما عله يدخل ذلك المكان الخطير؟"
كناريا دهست على حماسها بمقابلة الأميرة، حاولت أن تتخطاها مغمغمة بجمل قلقة.
"يجب أن أجده، اعتذر منه، هذا مهم."

"تمهلي يا آنسة..."
سكارليت أمسكت بمعصم كناريا وجعلتها تدور حول نفسها لتقف أمامها وتواجهها مرة أخرى.
"ما اسمك؟"
نظرت في عيونها الزاهية من نقطتها العالية، سكارليت كانت أطول ببضعة إنشات.

"كناريا."
الفتاة أجابت بحيرة وسكارليت ابتسمت لتلتقط معصمها الأخر قائلة بلطف ورقة:
"كناريا...لا داعي للذهاب خلفه، سيث سيعود عندما يشعر برغبته بذلك."

"لكن الغابة خطيرة."
حاجبا كناريا ارتفعا بشيء من الاستنكار أما سكارلت فأزالت بسمتها سامحة لحزن حاولت إخفاءه بأن يغزو ملامح وجهها.
"الغابة ليست أخطر منه، قد يؤذيكِ."

"هو أنقذ حياتي وحماني، لما تحكمين بأنه قد يفعل مثل هذا؟!"
الدهشة صفعت سكارليت حين هتفت بها كناريا كلماتها بغضب حقيقي، ذكرتها بنفسها حين كانت صغيرة وتهتف بالجميع لإخراج شقيقها من سجنه.

"أنا توأمه وأعرف..."
سكارليت نطقت أخيراً بتجلد وكناريا صمتت حين رأت العيون الحمراء التي رمقتها الأميرة بها، كانت جادة ومستاءة لكن ليس منها.

"لكن أنتِ محقة."
كناريا رفعت حاجبيها بحيرة حقيقية حين غطت الأميرة وجهها بكفها وأردفت بخفوت آسف:
"أنا متى أصبحت متبلدة هكذا اتجاهه؟"

.
.
.

"تباً لشياطينك!"
شارلوت لعنت من بين أسنانها وهي ترفع قبضتها في الهواء ليُفتح باب غرفة العرش على مصراعيه وتدلف بخطوات ثقيلة غاضبة.

"ما الذي قلناه عن الشتائم؟"
هيروزيوس سأل من خلفها بابتسامة واقترب خطوة جديدة للداخل حين كاد أن يُغلق الباب في وجهه.

كتفاها إنخفضا بسبب الزفير الحاد الذي أخرجته ومعه تحطم مشبك الشعر لعدة قطع ثم تناثر أرضاً ليفك أسر شعرها الطويل ويتركه ليتمرد على وجهها.

"لما فعلت ذلك؟"
شارلوت استدارت بنصف جذعها وهيروزيوس حافظ على ابتسامته عندما رمقته زوجته بنظرة حادة من عينيها السوداوين.
"هو بالكاد كان قد وطأ بلاط منزله لكنه لم يعد موجوداً فيه، مجدداً."

"إن كانت هذه طريقته بالإسترخاء فاليفعل ما يشاء، علها تساعده على مراجعة نفسه وتصرفاته."
هيروزيوس هز بكتفيه وتحرك أخيراً على مهل ناحية شارلوت التي حدجته ببصرها قبل كلماتها.
"لست الشخص المناسب للحديث عن تصرفات الآخرين، فالتقل لما رميت كل ما حذرتك منه عرض الحائط؟"
ضغطت أناملها.

"لقد كان مجرد اختبار بسيط شارلي."
شارلوت صفعت يده التي كادت أن تلمس خصلة من رأسها وأمسكت بياقة معطفه تجذبه نحوها لتهمس محتدة:
"أتظن أن طفلي لعبة؟"

هيروزيوس حدجها:
"إنه طفلي بالمثل شارلوت."
قبضتها ارتخت عن ملابسه عندما شعرت بأنها تُصعد الأمور، تراجعت بنظرة ضيقة، ذراعاها تصالبتا ومن ثمة همهمت:
"برر نفسك، ومن الأفضل لك أن تقنعني."

"أردتُ أن أعرف إن كان قد تصالح مع ذاته..."
هيروزيوس تحدث وأنامله ارتفعت لتخلع المنديل الذي تعلق حول عنقه محرراً نفسه من الاختناق.
"لكن لا يبدو أنه فعل."
أردف مشيحاً ببصره، زفر نفساً جديداً فشعرت شارلوت بالثقل الذي تشاركاه معاً في قلبيهما.

"سيثروس قد تغيير."
دافعت بهدوء، هيروزيوس كان يعلم أن هذه الأم تسعد بخطوات أطفالها الصغيرة ولأنها كذلك توجب به أن يكون المسؤول عن الصورة الأكبر.
"أعلم، آداب الحديث والتصرف، تحكمه بحواسه إدراكه لما حوله، أمور كلها غدت عظيمة فلا يستطيع الغريب ملاحظة أنه لا يُبصر."
علق على كلامها بلطف.
"لكن مازال يفقد كل هذا بسبب كلمة سامحاً لشعور لحظي بالتمكن منه."

"كيف يمكن له أن ألا يتأثر..."
كلماتها كانت شجنة هذه المرة والثورة التي تلبستها سابقاً تلاشت نهائياً.
"في حين أنه يظن أن ما يفتقر له يُعيبه."

"بل أكثر ما يحبطه يكمن في فكرة أنه لا يمتلك شيئاً يمتلكه الآخرون."
حين راح هيروزيوس ينزع القفازات عن يديه شارلوت راقبت ملامح وجهه تتبدل بصمت. حاجباه تقاربا بشدة لوهلة ثم استرخيا ما أن أسدل أهدابه واستطرد:
"رغم أنه يمتلك نعماً لا يمتلكها أحد إلا أن هذه الأفكار تؤرقه وتأبى تركه فتجعله مرهف الحس، فقير القرار، غير قادر على التحكم بردود فعله، تمنعه عن رؤية ما لديه وتجعله أسيراً لحلم يُسمى الكمال."

"لكن هذا هو واقعنا كلنا."
شارلوت تحدثت وهي تقبض على ذراعها بقوة أما زوجها فحرك رأسه نحوها بنظرة استلطاف قائلاً:
"ليس في رأيه، لذا فإن كان الجلوس في الغابة بعيداً عن الصخب يريحه فاليفعل، لكن النأي بنفسه لن يجعله يدرك حقيقة الأمور بل سيحفر أعمق في ذلك الجحر الذي يحاول الإختباء فيه."

"يبقى...هذا لم يبرر تصرفاتك في نظري."
حين أعرضت عنه شارلوت مجدداً تنهد وهو يعبث بشعره في محاولة لإيجاد الكلمات المناسبة لإرضائها.

"أنتِ حنونة للغاية..."
شارلوت زمت شفتيها حين أسند فكه لكتفها وترك ذراعيه لتحيطا بوسطها مردفاً:
"فالترفقي بي أنا أيضاً."
كان يترجاها لذلك، وهي تعلم رغم عدم نطقه للكلمة أنه يفعل، مع مرور السنوات يصبح مابينهما أقوى فحسب والكلمات غير ضرورية.
رغم البعد الشبه دائم تشعر بقلبه ينبض ورغم أنها لا تسمع صوته إلا أن أفكار فؤاده بلمسة رقيقة واحدة تصلها، لمسة لا تستطيع رفضها.

"أنا السبب..."
شارلوت تحدثت بصوت خافت تُفضفض له ووحده كالعادة. أسنانها اصطكت ببعضها وأردفت:
"لو كنتُ أقوى، أفضل...لما كان هو يعاني."

هيروزيوس حرك جسدها بين ذراعي ليجعل وجهها يقابل خاصته. حاجباه تقاربا وشفاهه تباعدت متحدثاً بجدية:
"إنه ليس خطأكِ أو خطأ أيٍ منا، لقد ناقشنا هذا قبلاً كثيراً ولن نفعل مجدداً لأنه يؤذي نفسكِ ويغذي العقدة التي يعاني فتانا منها."

"لا أبرح أفكر بالأمر..."
شعرت شارلوت برأسها يتوسد صدره، أنامله التي سارت بين خصلاتها بلطف جعلت جسدها يرتاح من تشنجه وصوته فوق رأسها قام بتدفئة روحها:
"كل هذه التحديات جزء من حياتنا الطويلة..."

"لكن هذا لم ينتهي بعد."
شارلوت تحدثت بصوت خافت، عيون هيروزيوس تضيقت حين أحكمت قبضتها على معطفه ثم أجاب:
"لا يمكن الجزم بأنه لن ينتهي."

"هل يتهيأ لي؟ أم أنك تتحدث كأب حنون الآن؟"
سألت شارلوت بتهكم ساخر سرعان ما تحول لدهشة حين انحنى هيروزيوس أكثر فوق رأسها وغمغم:
"أنا لم استسلم عنه يوماً شارلي."

"أنا مازلت أراه هناك."
شارلوت تتبعت بحدقتيها عيناه اللتان نظرتا صوب العرش الذهبي. تذكرت كل ما حصل في الماضي وحتى هذه اللحظة. الابتعاد عن الوقوف أعلى تلك الدراجات كانت رغبة سيثروس لكنها لم تكن تعلم بشأن ما يفكر به هيروزيوس عن الأمر. الملك سمح لخليفته بالرحيل لكن الأب مازال ينتظر عودة ابنه.

"أنت تفوقت علي بتوقعاتك لأجله."
شارلوت أعادت بصرها نحو وجهه وتحديداً عيناه حين أردفت بإنهزام:
"يبدو أن الوحيد السيء فينا كان هذه الوالدة...أنا فظيعة كأم."

هيروزيوس لم ينطق بحرف، كل مافعله كان تكوير وجهها بين كفيه وطبع قبلة طويلة على مقدمة رأسها لينفي أقاويلها.

شعرت بتحسن لا يمكن إنكاره، الثقل على صدرها أصبح خفيفاً لكنه لم يتلاشى وإنما تناسته حين حرك شفاهه ضد بشرتها ناطقاً:
"شكراً لكِ شارلي."

"على ماذا؟"
سألت وتركت كفها لتحط على أحد كتفيه حين سحب يدها الأخرى ليشابك أنامله بخاصتها ويحيط خصرها بوضعية الرقص.

"كل شيء أهديتني إياه."
هيروزيوس أجاب وتحرك بالخطوة الأولى لتبدأ أجسادهم بالتمايل.
شارلوت لم تمانع الأمر الذي اعتادته، لم تكن تظن أبداً بأنها ستحب الرقص وتتقنه حتى هذه الدرجة أبداً ولم تتخيل أنها قد تحب أحدهم، أو أن تنجب أطفالاً، لم تفكر بأنها ستأخذ كل ما رغبت به من معارف كانت تجهلها عن العالم، لم يخطر على بالها بأنها ستحيا.

"أنتَ أهديتني حياةً كاملة."
جسدها إلتصق بخاصته ويدها تسلقت كتفه حتى عنقه لتنظر في عينيه.

"عذراً ماذا قلتِ ملكتي؟"
هيروزيوس همس، عيناه اللتان حطتا على شفاهها ارتفعتا مجدداً عندما أردف:
"ابتسامتكِ شتتني لوهلة."
تلك أشاحت وزمت شفاهها قائلة على استحياء:
"لن أعيد، أنت تبالغ."

"أنا لا أبالغ..."
حين انحنى بجذعه قرب أذنها شعرت برئتيها تنكمشان بين أضلعها.
"منذ أن زمن أردت رؤيتك تبتسمين بفرح لكن...لي وحسب."

"أناني."
قبّل وجنتها وسار بشفاهه على خط فكها حتى وصل عنقها مهمهماً:
"لأنها آخاذة، تشعرني بأنكِ على ما يرام، الأمر الذي يتركني أنا بشعور طيب."

"هذا جيد."
الكلمات التي تركت شفاهها جعلته يستقيم ليرى عينيها اللتان أعرضتا عنه بشيء من التوتر، لكنه سرعان ما جلب أنامله ليعيد بصرها نحوه وقال:
"أتظنين أنني لم ألاحظ؟"

حاجباها ارتفعا بتساؤل وهيروزيوس دحرج مقلتيه:
"عادة تدندنين بالموسيقى لنرقص...لكن الليلة أنت لا تفعلين، يوجد شيء ما يشغل مساحة خاصة للتفكير به في رأسك."
شارلوت هزت بكتفيها في محاولة للنفي لكن هيروزيوس أضاف:
"لا تستخفي بي، حتى لمصاص دماء يعيش للأبد، نحن نحلل ونحفظ التفاصيل، وأنتِ شارلي ككتاب أعلم موقع كل كلمة من عباراته."

.
.
.

"شـ شكراً."
كناريا تلعثمت حين مدت يديها لتتناول فنجان الشاي من سكارليت التي راقبتها باسمة تناظر الأوراق الحمراء تطفو على سطحه باستغراب طفولي.

"أهذه أول مرة تجربين فيها هذا الشاي؟"
سكارليت سألت مفاجئة كناريا التي كانت تشتم رائحة كوبها بحذر. وضعت تلك الفنجان أمامها على الطاولة وأجابت بعد هزة رأس بسيطة:
"لم أرى شاياً بهذه الحمرة من قبل."

"خمنت ذلك..."
سكارليت بدت وكأنها استدركت الموضوع فقالت مضيفة:
"نبتة الشاي هذه تنمو غربي المملكة حيث الجو معتدل والشمس مشرقة، لستُ متفاجئة، مصاصو الدماء لا يتسنى لهم شربها أحياناً."
كناريا رفعت حاجبيها بدهشة وسألت:
"هل قلتِ 'تشرق الشمس'؟"

"أفترض أنكِ لم تزوري المملكة قبلاً."
سكارليت أجابت وهي تقوم بإسناد فنجانها لطبقه الزجاجي الأبيض بأناقة.
"المنطقة الغربية تبدو كالمناطق الزراعية في الخارج، بمساحات خضراء ممهدة وواسعة ومياه جارية طوال السنة، تعتبر جنة المملكة، وأغلب النبلاء فاحشي الثراء يقطنون هناك، قلة هم من يتواجدون في العاصمة الغائمة على الدوام."

سكارليت لاحظت ذهول الفتاة التي جلست مقابلة لها بلا ارتياح إذ دعتها لشرب الشتي دون أي سابق إنذار.
"والدتي لا تأتي عادة بأفراد حرس يوتوبيا معها لذا أعتقد بأنكِ مميزة."
نطقت بود محاولة التخفيف من توتر كناريا.

"لا أعتقد أنني كذلك."
كناريا نفت بسرعة وهي تهز برأسها للجهتين قبل أن تنظر في وجه سكارليت وتردف:
"أنا هنا لفترة قصيرة فحسب."
صوتها انخفض في نهاية جملتها لحقيقة أنها تفوهت بما تريده هي بحق ولم تسمح لها الملكة بفعله بعد، لكن قريباً ستخرج من هنا دون شك، لن تجد والديها.

"أنا....."
بصرها حط في حضنها محدقة بأناملها التي راحت تتشابك بعشوائية ما أن استطردت:
"من المفترض أن سموه من يرافقني ويعتني بي لكنه...
تركني."

سكارلت راقبت ملامح وجه الفتاة أمامها تتغير، رأت حدقتيها تتوسعان ثم تتضيقان بسرعة وأناملها تضرب على الطاولة أخيراً ما نهضت قائلة:
"أنا لا أستطيع الجلوس أكثر، يجب أن أجده!"

عينا كناريا نظرتا في وجه سكارليت التي ظلت صامتة تراقبها بهدوء، الابتسامة على شفتيها كانت بالكاد واضحة حين أعادت كوبها على المنضدة وتمتمت أخيراً:
"أنتِ علمتِ...أن سيث كفيف."

حين هزت كناريا برأسها على مهل لتومئ، سكارليت قاربت حاجبيها سائلة:
"أريد أن أعرف...ما الذي قلته لأخي؟"
شفاه محدثتها تقوست أكثر وسكارليت استكملت بعتاب:
"ما الذي فعلتِه بالضبط؟ ما ردة الفعل الفعل التي أظهرتها له؟"

"أنا أشعر أنني أخطأت أيتها الأميرة."
كناريا غمغمت وهي تسحب معطف سيثروس لتتحرك باتجاه الباب بلا أي كلمات إضافية.

"ما الذي فعلته؟ ما الذي نطقت به أمامه؟!"
سكارليت ظهرت أمام كناريا التي توقفت بغتة مطأطأة برأسها لكي لا تريها وجهها.

"لا شيء مطلقاً!"
سكارليت حبست أنفاسها وشعرت بأن حنقها تحول لشعور أخر قبض قلبها حين رفعت كناريا رأسها نحوها أخيراً وأردفت:
"لم أستطع قول أي حرف وهذا كان خطأي."

بدا الأمر لسكارليت وكأن دموعها قد غسلت تلك الغمامة الداكنة التي أحاطت بحدقتيها فبانت عيونها أكثر إنارة، وكأن لونهما قد تغيير.

أما بالنسبة لكناريا فهذه أول مرة تصرخ بما تفكر أثناء
فقدانها لقدرتها على التماسك كما ينبغي. تذكر أن سيثروس سخر منها قبلاً لصمتها ولقبها بالكناري الصامت إذ لا يوجد طائر كهذا أبداً. كان يخبرها بطريقة لا مباشرة أن ترفع صوتها قليلاً ليتمكن من فهمها.

"أنا آسفة، لقد تسرعت بحكمي عليكِ."
سكارليت تمتمت بابتسامة مغمومة لم تستطع رسمها سوى لثوان قبل أن تردف مبررةً تصرفها:
"أخي تم جرحه كثيراً من قبل الآخرين ويبدو أنني أصبحت حساسة."

كناريا شاهدت قبضتي الأميرة ترتجفان بجانبها حين أردفت بغضب مكتوم:
"في نظرهم هو كان صاحب شأن وأمير البلاد، عندما علموا أنه كفيف استهزأوا به وأخفضوا من قيمته."

"أيتها الأميرة."
كناريا غمغمت وهي تمسح دموعها بكفيها تاركة سكارليت لتلاحظ إنجرافها في التفكير مجدداً ما أن استطردت متسائلة:
"أسموه مكروهٌ هنا؟"

سكارليت تنهدت وتحدثت ساخرة بابتسامة بسيطة:
"أنا أتكلم عن نبلاء مملكتنا الحمقى."
عقدت يديها أمام صدرها ورفعت أنفها مردفة بفخر:
"لكن عامة الشعب مغرمون به، هو فقط يرفض ملاحظة ذلك."

"لا يهم إن أحبني الجميع، شخص واحد يكفي."
سكارليت نظرت لكناريا بدهشة حين رأتها تناظر معطف شقيقها بافتتان واضح قبل أن تعانقه لصدرها وتنظر لها قائلة:
"ألا تظنين هذا صحيحاً أيتها الأميرة؟"

"يمكنكِ مناداتي بسكارليت، فألقابي كثيرة ولا أحب الرسميات في القصر."
سكارليت تحدثت وهي تفرقع بأصابعها لتدخل خادمة وتنحني قائلة:
"أوامر سموكِ؟"

"فالتجمعي الفوضى رجاءً وجهزي ملابس نوم لطيفة لي وأخرى لضيفتي فخاصتها قد تمزقت."
سكارليت تحدثت وهي تقارب أناملها من بعضهم البعض بهدوء وابتسامة بسيطة لتومئ الخادمة برأسها وتتحرك لتنفيذ ما أُملي عليها.

"أنتِ لا تمانعين البقاء في غرفتي المتواضعة لفترة أطول، أتفعلين؟"
كناريا نظرت حولها، للأثاث الفاخر ذو الألوان الهادئة، للبساط الأبيض أسفل أقدامهن، للطاولات الزجاجية والوسائد المطرزة بالذهبي. الغرفة كانت عبارة عن جناح ضيافة فاخر يسع عشرة أشخاص وليس واحد.

"أهذه لا؟"
سكارليت غمغمت بشيء من الإحباط حين لم تلقى رداً أما كناريا فهزت برأسها سريعاً قبل أن تجيب بحرج:
"ليس كذلك، لكنني فقط أخبرتكِ للتو أنه يجدر بي إيجاده."

"سأخبركِ بأين قد يكون إن رافقتني لبعض الوقت الإضافي."
سكارليت اشترطت ثم سحبت كناريا نحو شرفتها الواسعة والتي زُينت بأحواض من الورود الحمراء قائلة:
"الأميرة ذات الملامح المتهكمة والأنف العال ليست سوى صورة للعامة، لكنني لا أمانع التسلط أحياناً على الأخرين."

الستائر من خلفهما داعبتها الرياح، كناريا استطاعت رؤية الغابة من هذه النقطة العالية حين أردفت تلك:
"أنا السليلة الأولى بعد عدة ذكور لذا توجب علي التصرف هكذا لأبرهن أنني قوية بما يكفي لأكون الملكة."

"لا أفهم أمور النبلاء هنا بحق لكن أعتقد أنها مسؤولية صعبة."
كناريا تحدثت وهي تهضم عدة أفكار في رأسها قبل أن تسأل بفضول:
"ألا تمتلكين أميراً يساندكِ يا سموك سكارليت؟"

سكارليت تركت نفساً ضاحكاً ليفر من بين شفاهها على التسمية.
"سكارليت تكفي."
علقت وهي تمسح دموعاً وهمية، بنفسج عينيها يشرق أسفل نور القمر عندما رفعت رأسها للأعلى ونبست بخفوت:
"أتفهم مقصد سؤالك والجواب بسيط، لدي عدة أمراء وأميرات في حياتي لولاهم ودعمهم وتعليمهم وإرشادهم وعاطفتهم لم أكن لأصل هذه النقطة من حياتي وأبقى قادرة على الابتسام."
أخفضت بصرها نحو محدثتها التي تأملتها بعيون متلألئة.

كناريا هزت بجذعها يمنة ويسرة.
"ماذا عن أمير تحبينه؟"
كانت تتوق لقصة جديدة.

سكارليت أمسكت بوجنتي كناريا بين كفيها فجأة، الفتاة شعرت ببعض الهلع حتى اعتصرت الأميرة وجنتيها وضحكت بوجه متورد يدل على الحرج وحسب.
"أولستِ بفضولية؟"
سألت سكارليت ممازحة.

"آسفة."
تلعثمت كناريا فأفرجت تلك عن وجنتيها وأعطتها ظهرها لتحمحم مدعية الجدية:
"سأحتفظ بحق الصمت."

"لكن..."
نظرت من فوق كتفها للفتاة وأضافت بغمزة:
"قد أخبركِ بما تودين سماعه لو أخبرتني أنتِ."

كناريا رمشت مرتين بكسل وكأن السؤال لم يخطر على بالها قط، حدقت بالمعطف الذي كانت تعتصره وتجره معها منذ ساعات بوجنتين متوردتين.

نظراتها ارتفعت نحو سكارليت التي قهقهت مغطية فاهها بكفها فتهكمت قائلة بإحراج:
"مـ مستحيل! أنا فتاة الإيجاص في قصة سموه."

"ما هذه القصة المملة؟ سأحرقها."
سخرت سكارليت وهي تسند مرفقيها لتريح وجنتها ضد كفها بمرح من رؤية كناريا تنفخ وجهها بغضب.

"كان من المفترض أن يكون الملك التالي، وريث لقب السلف الأول."
سكارليت تحدثت وتنهيدة عميقة فرت من صدرها حين اتجهت عيناها ناحية الغابة مردفة:
"لكنه رفض كل هذا، وبكلام النبلاء وبلبلتهم هنا وهناك بالظنون انتشرت الشائعات بأنه ليس مؤهلاً للأمر وازدادت."

"أتخلى عن حقه لهذا السبب فحسب؟ ما دام حب أفراد شعبه له موجوداً فما الفارق الذي يشكله بضعة حمقى أثرياء؟"
كناريا اقتربت من سكارليت التي ضحكت لتقليد تلك كلامها ثم هزت رأسها نفياً قبل أن تجيب:
"هذا كان أحد الأسباب وحسب."

الرياح داعبت خصلاتها الحمراء الكثيفة وعيناها تضيقتا مسترسلة:
"حادثة آليمة حفرت جرحاً في نفسه، ما بين هبته التي لا يستطيع التحكم بها وسمعه المتطور وعدم قدرته على الإبصار أخي وقع في فخ تحقير الذات."

"ما الذي تعنينه؟"
كناريا سألت بصوت مرتعش لم يخفى على سكارليت التي فتحت فاهها قائلة:
"لم يستطع مسامحة نفسه على حوادث الماضي فتخلى عن المستقبل."
سكارليت نقرت بأظفارها على الحاجز وهي تتحدث قبل أن تنظر لكناريا وتردف:
"والدي وافق على تخلي سيثروس عن العرش بعد جدال حاد لكن والدتي عارضت رغبته بأن يبتعد عن القصر فاقترح عليها البقاء بقربها لكن على الجهة الأخرى وحسب كما اعتاد. كان يذهب ويأتي معها ليوتوبيا في بادئ الأمر، وفي كل مرة يعود فيها للمملكة يذهب للغابة وحده لساعات ولا يظهر إلا وقت الرحيل."
تنهيدة حزينة غادرت حلقها.
"زياراته كانت تقل تدريجياً، وانتهت بعد حدث تخليه عن العرش."
سكارليت ألقت ببصرها على كناريا التي كانت تستمع بكل جوارحها وضحكت بلطف:
"الرسمية على الأقل إذ كان يأتيني أنا فقط كل فترة ببعض الحلوى ليطمئن علي."

"لكن لا أفتأ أشعر بأنه يبتعد عنا أكثر وأكثر، وهذا يحزن قلبي."
تلمست الأميرة صدرها بضيق، ألهذا هجرها بالمثل؟ ألا تبذل جهداً كافياً لإخباره بأنها تحتاجه بجانبها كأخته الصغرى؟

"لهذا السبب يجب أن نجده، هو ليس وحيداً يجب أن يعرف!"
سكارليت ابتسمت لإصرار كناريا على إيجاده وغمغمت:
"أنتِ لطيفة، لكن يُفضل ألا نذهب ليلاً، فالنتريث."

"لما؟"
كناريا غمغمت وسكارليت أشارت بعينيها للغابة قائلة بمزاح:
"الغابة ليلاً ليست ممتعة صدقيني. لن يجرؤ أي جني على الاقتراب من أخي، لكن لا أضمن أنني مخيفة مثل كل أفراد عائلتي بالنسبة لهم."

"أيتها الأميرة."
الفتاتان نظرتا نحو الخادمة التي وقفت في باب الشرفة وذراعها تشير للداخل قائلة:
"لقد حضّرت ما تريدين."

"أشكرك!"
سكارليت وقفت باستقامة وهي تتحدث لترحل الخادمة. نظرت لكناريا تالياً لتنطق:
"لذا توقفي عن لوم نفسك، سيث مر بيوم عصيب -أكره قول ذلك لكنه- معتاد وسيعود لاحقاً. أنا متأكدة بأنه ليس مستاءً منكِ بالذاتـ..."
سيل كلماتها انقطع حين وجدت كناريا تعبث بهاتفها المحمول فنظرت الأخيرة لها بعدم فهم حين وجدتها تحدق بهاتفها قبل أن تنطق بخفوت:
"آسفة، أعتقد أنه كان من الوقاحة أن..."

"أنا أعرف هذا بين يديك! لدي منه!"
هتفت سكارليت بابتسامة مستمتعة لتقوم كناريا بعرض الجهاز عليها وتقول:
"تمتلكين هاتفاً خلوياً؟"

"لدي الكثير من الأشياء المشابهة."
أمسكت سكارليت بمعصم محدثتها وسحبتها خلفها نحو غرفة ملابسها. أزاحت صفاً من الملابس المرتبة وسحبت صندوقاً خشبياً كبيراً كان قد دفن خلف كل تلك الأقمشة لتجثو الأميرة أمامه وتفتحه بحماس مضيفة:
"هوايتي جمعهم."

كناريا نظرت بذهول للأجهزة الالكترونية التي تم جمعها بترتيب ودقة لا متناهية بحالة مثالية، لم تتوقع أن تمتلك الأميرة الفاضلة مثل هذه الهواية.

"لكن..."
رفعت سكارليت سبابتها في وجه كناريا التي تراجعت خطوات متفاجئة.
"إنه سر عليكِ حفظه."
أردفت الأميرة بجدية لتومئ الأخيرة وترفع كفها في الهواء مبتلعة ريقها بتردد قائلة:
"أقسم."

"لا تكوني هكذا، لن أقتلكِ إن وشيتِ بي."
ابتسمت سكارليت وهي تشير لكناريا بأن تقترب لتجلس بجانبها لتدردش معها. فضولها حول الخارج نال منها ودائماً ما كانت تتسلق حراس يوتوبيا الذين يرافقون والدتها خفية ليخبروها بكل جديد.
"ليس عن قصد بالطبع."
حين أضافت بهمس كتفا كناريا تشنجا وتلك راحت تضحك.

.
.
.

...

"سموه منذ أن بلغ الحلم يظهر عناداً يحتاج أن يتم تهذيبه."
زافير تحدث بعملية وسيثروس كان قادراً على سماع صوت معلمه يتحدث مع والده خارج المكتبة حيث تركه الأول 'ليقرأ' بهدوء ريثما يعود.

"بحرص."
أضاف هيروزيوس ليزفر ذاك اعتراضه.

"أعلم أن حالته تستدعي الاهتمام وإلا سقط في نوبة صرع أخرى لكن إن لم نقم بمساعدته وإرشاده بحزم فقد تتكرر الحالة مراراً أكثر مما قد نظن، هذا سيفسد مشاعر سموه اتجاه نفسه وحسب"
زافير برر موقفه وبقدر ما كان منطقياً لم يتمكن هيروزيوس سوى من السؤال:
"أتقترح أن أتركه يحضر مجالس النبلاء؟"

"أجل، لكن قبلها يجب أن تعلمه أن احترامهم واجب ومسايرتهم فرض مهما كانوا قساة بالحديث معه، هم يستعملون قصور الجميع من أي ناحية، هكذا هم لكن سموه معرض للأمر مباشرة ومراراً لكون حقيقة أنه لا يبصر تعتبر كنقطة ضعف مكشوفة بالنسبة لهم."
سيثروس ضغط الأوراق بين أنامله، لم يظن أن زافير سيكون مباشراً بمثل هذه الطريقة القاسية أمام والده.

"تعليمه وقدرته على التطبيق أمرين مختلفين."
سمع صوت والده يزفر.
"أنا نفسي لا أحتمل ثرثرتهم أحياناً، لن أجعل ابني علكة يمضغونها بين أسنانهم."
دافع والده عنه لكنه لم يشعر بالرضى، هو محط اضطراب للجميع، سواء عندما يقلقون منه أو عليه، وقد وجد هذا مزعجاً.

"لا خبرات دون تجربة."
زافير نبس.

"فاليكن."
هيروزيوس اتفق أخيراً.

ظن بأنه سيحتمل لأجل والده لكن عندما تهافتت عليه السخريات والألقاب والكلمات الجارحة من كل حدب وصوب غدت الأصوات من حوله لا تطاق حتى إهتاج في نوبة امتزج فيها الغضب مع فقدان الوعي.

تذكر كلمات السخرية البعيدة عندما أمسكت به ذراع غريبة تمنعه من المغادرة.
"تماماً كالفأر التائه في البلاليع، يصطدم بهذا ليرتد جسده ضد ذاك."
ضحك النبيل ضحكة بغيضة، ولم يعلم أنه سيكون الشرارة التي أشعلت فتيل هبته المميزة في ذلك اليوم، يا له من شرف قُبيل الموت.

ود سيثروس لو يضحك يومها على سماع صرخات ذلك الشخص الأخيرة وهو يتحول لحجر من الرماد لكن الألم كان يقتله ولا يذكر سوى ومضات لحظية من حدث قلب أمسية القصر الملكي رأساً على عقب.

انتشرت الشائعات بسرعة على أن الأمير الضغيف يغطي على قصوره بالغضب والترهيب، لا يستحق الاحترام، مجرد عار على لقب لاشيسيا.

كان يقضي أياماً طوال في غرفة عزل الصوت، ليس لأنه كان يتم حبسه بل لأنه أحب الهدوء والسلام وحقيقة أن لا أحد بإمكانه إسماعه ما لا يشاء سماعه وبالتالي إيذاء أي شخص.

عيونه كانت تدمع لكنه لم يفهم كيف يعمل أو يبدو البكاء بحاله، لما عيونه تستطيع ذرف الدموع ولكن عدم الإبصار؟

لتخوفه وتوجسه من أنه قد يؤذي الأحباء دور لكنه لم يود الاعتراف يوماً بصوت عالي أنه مصدر أذى لكل من حوله بلا استثناء.

لم يجد أحداً ليرمي اللوم عليه رغم أن والدته كانت حاضرة لتسمح له بذلك بكل صدر رحب.
شعر بالقهر عندما سمع قصة حملها به والطريق حتى ولادته لكنه لم يستطع إلقاء اللوم على أمه الحبيبة التي كانت تمسح على رأسه بحنان كلما شعر بالضعف.

حاول التفكير بإيجابية، لولا عدم اتخاذها قراراً حاسماً والمخاطرة لما كانت سكارليت شقيقته التوأم الغالية حية معه اليوم وبصحة جيدة.
تخيّل كون الأدوار مقلوبة وأنها العمياء لكنه صفع نفسه سريعاً، قلبه لم يطاوعه على الشعور بالغيرة من شخص مستعد لتقديم حياته كلها من أجله بلا تردد إذ كانت الأخيرة قد عرضت عليه إحدى عينيها لأجله فكتوأم كان هنالك فرصة بسيطة بأن تنجح جراحة من هذا النوع ويتم إصلاحه لكنه لم يرد ذلك. فضّل ألا يرى من أن يرى نظرات الحسرة في عيون والديه على أولادهما الحدباء، أو سكارليت بأذى هو سببه.

جمع شتاته مع نموه أكثر ووجد خروجه مع والدته ليوتوبيا مفراً من ما يثقل كاهله في المملكة. عانى في البداية من الازدحام لكن ذلك قوى حواسه أكثر وشحذها، تعرّف على جزء من والدته لم يظنه حقيقياً وعلى أصدقائها وزملائها والعاملين أسفل أجنحتها، ما يقلقها ويخيفها وما يسعدها ويحزنها والماضي الذي تخفيه لكيلا يتأثر به حاضرها. كل هذه الأشياء التي جعلته يقدرها ويحترمها أكثر.

وخلال سنوات عدة كان قد اتخذ قراره بالعودة والتخلي أمام كل سكان القصر عن تاجه كأمير متوج ليضعه أعلى رأس شقيقته الصغرى ولم ينسى ردة فعل والده الذي تطلع له دوماً وقتها...

"أنت جبان، ظننتُ أن حالك ستتحسن لكنك قمت بالتقوقع على ذاتك أكثر والآن ترمي بكل بجاحة واجبك على أختك."
هيروزيوس حدثه غاضباً بحق لأول مرة وكم كانت كلماته ثقيلة في صدر ابنه.
"ألا تمتلك ذرة من النبالة؟"
زافير كان يشاهد آنها لجانب عدة أشخاص مهمين كجورج والسلف الرابع بازيل، حتى إيدغار كان هناك لكن لا أحد منهم تدخل.

"سكارليت تستحق أن تكون الشمس القادمة."
تحدث ببسمة بسيطة وهو يقوم بتركيز الزينة الملكية فوق خصلات شقيقته الصغرى والتي كانت مشدوهة من تصريحه المفاجئ، إذ بدأ الأمر بمزحة عن كونه قد أصابه الملل وكلمة ساخرة منها بأنها ستغدو ملكة عظيمة ولم تدري بأن جلوسها الهزلي على العرش سينتهي بتخلي أخيها عن مكانه.

"أخبرتك أنه ليس موضوع استحقاق وحسب بل واجب، أمر يجب أن تحمل أثقاله على كتفيك وإن لم يعجبك، حتى إن آلمك ودمر جسدك وروحك، هكذا نحن."
والده تحدث مسترجعاً بعض هدوءه عندما تدخلت شارلوت لتتلمس عضده، رأت الأخيرة ذلك قادماً لكنها لم تتوقع أن تكون ردة فعل زوجها شديدة بهذا الشكل.

هيروزيوس أعطى شارلوت نظرة متأسفة، مكسورة استشعرها سيثروس من خلال الأنفاس المتحشرجة الخافتة التي أطلقها للهواء، هو بالفعل يدرك أن والده أراده أن يكون قوياً.

"أنا أرفض هذا الطريق، من حقي رفضه بوجود خليفة غيري."
ضغط على أكتاف سكارليت التي أغلقت فاهها أخيراً ونظرت نحوه بذهول.

"إنها القوانين، صحيح يا معلمي؟"
مال بوجهه صوب زافير الذي أسدل أهدابه للحظات ثم تحدث بهدوء ورونقه العملي:
"طبقاً للبروتكول الملكي فإن تواجد وريث شرعي يحمل دماء لاشيسيا فسيحق للأمير المتوج التخلي عن منصبه لأجله وفي حال رفض الثاني في خط الحكم إستلام المنصب فسيتم إقامة تحدي بين الطرفين يتم التنافس فيه على الحرية من مسؤولية تولي الحكم."
المستشار ذاته لم يظن بأنه سيعلن عن مثل هذا القانون يوماً إذ أن العرش دوماً ما كان هدفاً للجميع وفي لاشيسيا بالذات...كان التخلي عن العرش كالإثم العظيم.

سيثروس ابتعد عن العرش ورفع ذراعيه في الهواء، ينزل على مهل الدرجات العدة قائلاً بعلو:
"أمن اعتراض؟"

سكارليت لم تستطع فتح فاهها، لم تتخيل نفسها تقوم بالاقتتال مع أخيها الأكبر قط وسيثروس يدرك ذلك. الجميع يفعلون وهذا جعل هيروزيوس يتقدم بخطوات متثاقلة من ابنه.
"لا تختبئ خلف القوانين أيها الغر، أين ذهبت كرامة نفسك؟"
ابتسم عندما سمع صوت تلك العروق تشتد في ذراع والده.
"أسمحت لرعاع دنيوين بسلبها منك؟"
وبخه لكن بلا أي فائدة ترجى، رأى ذلك في تعابيره التي تصطنع السذاجة وعدم الاهتمام.

"فالترحل..."
أعلن هيروزيوس ببرود جعل شارلوت تتقدم وتتمسك به بحق هذه المرة.
"ما الذي تقوله؟!"
سألت زوجها بشيء من الصدمة.

"كان لديك واجب وأهملته لفترة طويلة، لكن الآن وبتخليك عنه فقدت قيمة وجودك في هذا المكان كلاشيسيا."
سكارليت نهضت أخيراً من صدمتها على مسمع هذه الحروف تنزلق على لسان والدها بخشونة.

"هيروزيوس..."
شارلوت نادت زوجها بنبرة خافتة فأمال ببصره نحوها لتهز برأسها يمنة ويسرة مطالبة بهمس:
"هذا ليس ما يجدر بك قوله الآن، لا تجعل الأمور أكثر تعقيداً... رجاءً."

"لا تطرده يا أبي أرجوك، سأكون ولية عهدك، أنا موافقة، سأكون الخليفة المثالية بسرور لذا لا داعي لكل هذا."
سكارليت التي أصبحت أمام والديها تضرعت بدموع تبلل خديها وهذا جعل غضب الأب المكتوم يتحول لحزن في لحظة واحدة.

هيروزيوس قام بضم سكارليت لصدره، يمسح على شعرها بحنان.
"ظننت نفسي كنت قاسياً بتنشئتك لكن يبدو أنني لم أكن حازماً بما يكفي."
نبس وسيثروس هز بكتفيه، ربما والده محق فلو رباه كالصخرة كغدا واحدة لكنه سيهرب مثلما يتحلل الجليد الهش في الماء.

"هذا لم يعد مهماً."
اعترف فما فات قد مات أما هيروزيوس فرفع عيونه بنظرة ضيقة نحوه، نظرة كادت أن تشعر سيثروس بأن قلبه سينفلق لقطعتين بسبب حدتها.
"اغرب."

"بسرور."
وفعل.

...

"فالتعد لحضن والدتك."
إيدغار تفوه بملل وهو يرفع رأسه نحو غصن عال كان قد افترشه سيثروس عاقداً ذراعيه خلف رأسه وحين لم يجبه ذاك تنهد وعاد ليستكمل مسيره مبتعداً.

"أتظن أن الغابة تغيرت؟"
سؤال سيثروس أوقفه فرفع بصره نحو من أخذ يحدق به بعيون فارغة واستمع له يضيف:
"أصبحت خطيرة أكثر من العادة؟"

"أبداً."
قام إيدغار بهز كتفيه وسيثروس رفع حاجباً.
"إذاً لما تهرع الحدود ذهاباً وإياباً كل يوم؟"
سأله.

"ما شأنك أنت بما أفعله أنا أيها المتطفل؟"
كلمات إيدغار المنزعجة جعلت محدثه يقهقه فلا شيء يخفى عنه.

سحب سيثروس إحدى الأوراق الخريفية التي تدلت أمام وجهه وتلمسها بأنامله العارية لتفقد لونها وتتحول لرماد معلقاً:
"أنت قلق من شيء ما إيدغار لكنك لا تفصح عنه، والدتي ليست بغافلة بالمثل، هي فقط تغض الطرف لكي لا تشغل بال الآخرين."
نفث غبار الوريقة عن أنامله وأضاف بنبرة لاذعة:
"اهتمامها طبيعي لكن أنت، لما تفعل ما تفعل؟ لما مازلت هنا؟"

"ارحل."
إيدغار نفث بملل، هذا جعل سيثروس يتدلى كالقط من أعلى الغصن ويسأل بذات النبرة العالية والضحكة الساخرة:
"أولست غاضباً؟ حاقداً؟ لما أنيابك مازالت نظيفة ولا تغرق بالدماء؟"

"لسنا جميعاً بقادرين على أن نفقد أعصابنا مثلك."
كلمات إيدغار المقاطعة ألجمته فضغط سيثروس كفه ضد صدره حين شعر بثقل غريب يحط عليه واستقام بفاه شبه مفتوح، ابتسامته تتحول لأخرى غاضبة.
"أيها الوغد، هل حاولت للتو استعمال هبتك علي؟"
سأل بحدقتين متسعتين ولهثة شامتة تركت فاهه.

"ويبدو أنها لم تعد تعمل، ياللأسف، وددت إخراسك."
حشر إيدغار يديه في جيوب معطفه ورحل بلا أي كلمات إضافية.

سيثروس قام بتسيير إبهامه على صيوان أذنه الأيمن وأسدل أهدابه.
"لا أحتاج للعودة هناك لأعرف أي شيء."
حتى الغابة لم تمنع أصوات المدينة العالية من وصول مسامعه.

********

ما الذي يزعج إيدغار ويجعله يهرع الحدود؟
الآن وبما أنكم تعرفون جزء مما حصل ليتخلى سيثروس عن مكانه ولما أجواءه مع هيروزيوس دائماً متوترة، ما رأيكم بقراره ورد فعل هيروزيوس؟
مازال ينتظر عودته بحق؟ أم تمثيلية أمام شارلوت لتصفح عنه؟
من سيكون شمس الامبراطورية القادمة؟ سكارليت أم سيث أم شخص آخر؟

أراكم
ناخت❤️

Continue Reading

You'll Also Like

1.4K 283 11
كتابٌ يعلمك تقدير ظروف الآخرين. note: الكتاب أقصر من إصبعك الخنصر
6.7K 993 38
"هل خنتِ ثقة أحد من قبل يا أنجل؟" كان سؤاله هامسًا وجفناه مرتخيان. نظرتْ له بشرود. ما الذي يريده الآن؟ "لا. لستُ من النوع الخائن." أجابتْ بصرامة ثم ب...
18.2K 1.2K 49
"لَمًآذِآ سِيَدٍتٌيَ، آلَمً تٌجّدٍ غُيَر ذِآکْ آلَنِآدٍلَ آلَمًنِبًوٌدٍ،لَتٌعٌجّبًيَ بًهّ" "آلَمً تٌريَ عٌيَنِآهّ، آرجّوٌکْ آبًقُيَ بًعٌيَدٍةّ عٌنِه...
422 94 9
ينطوي الزمن ونحن تحت الأرض نحيا، كما الأموات في رقودهم في القبور، في سلام واستسلام. فالهوّة المفروضة التي بيننا وبين المتنعمين فوق الأرض، قد أنستنا...