نيـوتروبيـا

By Die-Nacht

268K 18.5K 24.1K

"أعطـني لأعطـيك" هـذه قصـة الطـفلة التي اعتمدت هذا القانون كحل وحيد وأوحد للنجـاة في عالمـها المشـوّه. هي تل... More

-1- بداية السقوط
-2- مجمع القطب
-3- مصيدة الثعلب
-4- كهرمان
-5- خلف جدرانهم العالية
-6- الحرب
-7- رائحة دم
-8- إكصاص
-9- شِقاق الزهور
-10- السرداب
-11- عيون الصقر
-12- سيلست غولدن
-13- سليل السلف الأول
-14- هذا وذاك
-15- شتاء بحلة الخريف الأحمر
-16- صندوق زجاجي
-17- مشارف الموت
-18- لاشيسيا
-19- دموع شارلوت
-20- سمفونية أبواق الهلاك
-21- لأجلكِ أيتها الفاوانيا
-22- بئر من الأوهام
-23- رؤى
-24- رسائل السلام
-25- أونوس
-26- أضواء باهرة
-28- قمر حقل البنفسج
-29- خزف
-30- الدرجة رقم سبعة عشر
-31- دماء ورثاء
-32- بركة الملح
-33- قلوب بلا عيون
-34- أحضان الشمس الدافئة
-35- شتاء ديستوبيا الأخير
-35.5- ومضة
-36- ربيع الأرض الجديدة
-37- واجبات الحرس
-38- الكناري الصامت
-39- شبكة من خيوط الماضي والحاضر
-40- أجيال
-41- تمرد الوحوش
-42- الشمس والقمر
-43- خلف مخمل الستار
-44- رماد عينيه
-45- سالب
-46- سم وعسل
-47- شيطان
-48- براءة عذراء
-49- زهرة النوكس المشؤومة
-50- حنين للحنان

-27- آل والثعلبة السوداء الصغيرة

4.4K 372 611
By Die-Nacht

"قلْ شيئاً أرجوك."
تمتمت برجاء منكسر ويداها ضغطتا أكثر على كفه. عيونها راحت تجوب تقاطيع وجهه في محاولة لمعرفة ما يجول في خلده.
"أي شيء..."
أردفت وأناملها ارتعشت ضد بشرته فبدا كمن استفاق من حلم نهاري قصير.
"فأنا لم أعرفهما، لم أعرف والدي يوماً وقد كنت أرى ظل والدتي فحسب. لم أعرف شيئاً عنها سوى اسمها الذي دائماً ما استعمله العجوز الذي ترعرعت عنده لمخاطبتها."

"أكسل هو اسم الرجل الذي قد أستطيع القول بأنه والدكِ، أما شارون هو اسم والدتكِ بالفعل."
تحدث أليجاه بعد لحظات أخيراً لتلتمع عينيها ضد أنوار الظلام هامسة:
"أنت حقاً تعرفهما."

"أنا سأخبركِ بقصة قصيرة..."
قال وهو يجلس قبالتها مسنداً فكه لقبضته بابتسامة شبحية. نظر أعلى رأسها للخارج وأخذ نفساً عميقاً ليستطرد:
"كان يا مكان، كان هنالك فتى وسيم للغاية يدعى آل، كان يبلغ العاشرة من العمر، وكان يعيش حياة طبيعية، مدرسة، أصدقاء، صفوف خاصة إضافية تبقيه مشغولاً عن رؤية أن حياته في المدينة العادية لم تكن طبيعية بحق."

تنهد أليجاه مطولاً أما شارلوت فاستمعت باهتمام له يتحدث بوضوح عن نفسه.
"لم يكترث لشؤون عمل والديه يوماً إذ كان همه الوحيد اللعب والنوم والحصول على ما يريد، لكن في فترة معينة حين نمى شعوره بالوحدة واستدرك بأنه يتم إهماله من قبلهما قرر التعرف عليهما أكثر بالذهاب لحيث يعملان."

رفع سبابته ليلوح بها بوجه شارلوت التي رمشت بدهشة لفعلته وأضاف سريعاً بهمس:
"بالطبع لم يخبرهما، أراد أن يفاجئهما. قام بتتبع خريطة بدائية رسمها من دلائل جمعها عن حيث من الممكن أن يكونا، ولأنه لم يعرف كم كان الموقع يبعد عن منزله قضى خمس ساعات متواصلة راكباً دراجته يبدل بلا توقف بإصرار."

ضحكة أبت إلا والفرار من بين شفتيها قاطعته.
"أنا كنت طفلاً أخرق؟"
سألت ساخرة.

"آل كان كذلك لأنه كان معزولاً ومحبوساً في قبضة حياة خطط لها والداه بالكامل، وأيضاً لا يمكنك الجزم بنتائج عمل ما حتى تجرب القيام به."
قال بإنزعاج مصطنع ثم قام بدفع سبابته ناحية منتصف جبهتها مردفاً بنفس خافت:
"دعيني أكمل أيتها التنمرة."

"المنصة لك."
قطبت شارلوت حاجبيها بنظرة عازمة فابتسم أليجاه مستطرداً:
"وما أن وصل آل العظيم وجهته أخيراً حتى...

...

"أليجاه!"
هتف رجل في نهاية ثلاثينياته بحدة حين وجد ابنه يتم جره من ياقة قميصه من قبل حارس الأمن لينظر ذاك الأخير له بشيء من الدهشة سائلاً:
"بروفيسور كلاي، تعرف هذا الطفل؟"

"أنا لست طفلاً!"
صرخ الفتى الضئيل بحنق منازعاً وهو يحاول الفرار من بين قبضتي الحارس الضخم.
"أنا شاب يافع."
صحح للعجوز.

مرر الرجل كفه على وجهه بسرعة ماسحاً خصلات شعره الأسود التي تخللتها شعيرات بيضاء للخلف قبل أن يبتسم للحارس قائلاً:
"إنه ابني."

الحارس حرر أليجاه فوراً واعتذر من فوره:
"آسف، لم أعلم."

"لاتقلق بشأن هذا، أنت تؤدي عملك فحسب، كما أنه لم يكن من المفترض به أن يكون هنا بل في درس الكمان."
تحدث البروفيسور بلطف قبل أن يعقد يديه أسفل صدره معطياً أليجاه الذي أشاح بوجهه بعيداً نظرة مؤنبة وهو يردف:
"أراهن أنه كان يتسلل هنا وهناك كاللصوص مما يجعله مشبوهاً."

"أنت محق بهذا الشأن، لقد وجدته في غرفة التجارب الحية."
تحدث الحارس بتردد واضح وهو يحك مؤخرة عنقه بتوتر فأصبحت نظرة البروفيسور أكثر برودة تجاه أليجاه.
"هكذا إذاً، هل لمس أي كائن؟"
سأل بشك.

"لست متأكداً يا بروفيسور، فالغرفة كانت مظلمة."
أجاب الحارس بغير ثقة قبل أن يحمل نفسه للإنصراف قائلاً:
"يجب أن أعود لمكاني، قد يحضر البروفيسور لوبين قريباً ويجب أن أعود، عمت مساءً."

"عمتَ مساءً."
قال الرجل رداً وما أن اختفى الحارس حتى كان دوره ليمسك أليجاه من ياقة قميصه هاتفاً به:
"أيها الأهوج!"

"والدي!"
هتف أليجاه وهو يحاول مجاراة خطوات والده الواسعة في الممر الكبير الفارغ، وكل ما رأه وهو يتم جره غرف بأبواب حديدية عريضة مغلقة توقف والده عند إحداها ليضغط عدة أرقام على اللوحة جانباً وهو يقول مستمراً بتأنيبه:
"أنت لا تفهم ولا تدرك ما الذي قد تكون قد فعلته بنفسك أو بنا."

"أنا لم ارتكب أي خطأ! لم ألمس أي شيء ولم أكسر أي شيء!"
هتف أليجاه حين عاد والده لسحبه معه داخل الغرفة الواسعة وقبل أن يستدرك ما يحصل حوله وجد نفسه محبوساً في كبسولة صغيرة مغلقٌ عليه بباب من الزجاج المدعوم الذي لم يسمح سوى بشيء من الصوت بالمرور.

"أنت فالتجلس هناك مطيعاً وتفكر بما فعلته جيداً."
شاهد والده يقول كلماته بعيون زرقاء باردة لم تحمل أي مشاعر ليضرب الفتى الزجاج بقبضتيه بقوة صارخاً:
"أنا لم أفعل شيئاً سيئاً لأفكر به أساساً!"

"أتقول بأن التسلل بلا إذن لمجمع ملوث وخطير كهذا واللعب بأعمال الأخرين ليس بسيء؟"
سأل البروفيسور وهو يعطي ظهر معطفه الأبيض لأليجاه الصغير الذي عض شفته السفلى بحنق قبل أن يقول:
"أنا أتيت لرؤية أمي أصلاً وليس لرؤيتك."

شاهد والده يعطيه نظرة سريعة حادة ليتراجع هو للخلف ببعض الرهبة.

جلس أليجاه هناك ضاماً قدميه لصدره محدقاً عبر النافذة الزجاجية للخارج حتى بدأ فجأة صوت تدفق الهواء يصبح أعلى في الكبسولة ويشعر بالبرد يكتسح مفاصله والخوف يتمكن من إشعال خياله بأنه سيتم سحقه من قبل هذا الجهاز قريباً.

تحرك ليقوم بمحاولة ثانية عله يجعل والده يخرجه إلا أنه توقف حين شاهد باب الفرفة يفتح وتدلف منه والدته. تعابير وجهه أشرقت قبل أن تسقط مجدداً حين رأها تداعب طفلة صغيرة بين يديها دون أن تلاحظه حتى.

الطفلة سحبت شعرها البني الفاتح وحشرته في فاهها أما المرأة فابتسمت لها فحسب.

"أمي!"
صرخ هو بأمل، لكن ذلك تبخر حين وجدها قد رفعت رأسها لتنظر له بدهشة قبل أن تتهكم وتوجه نظرها لوالده سائلة:
"ما الذي أحضره هنا؟"

"لقد تسلل للداخل."
أجاب والده ببساطة لتكشر والدته هاتفة بحدة:
"لوحده؟! أتعلم ما قد يمكن أن يحصل له؟!"

"ليس وكأنني أردته هنا إيميليا..."
قال والده بنبرة مهددة والطفلة بين يديها بدأت بالبكاء بصوت عال خوفاً من تلك الأصوات حولها في حين أردف والده:
"لقد قال بأنه حضر لرؤيتكِ."

عيناه اتسعتا بصدمة إذ بالرغم من أنه كان مايزال فتى إلا أنه لم يكن أحمق لكي لا يفهم أن والديه يتشاجران بسببه، شعر وكأنهما لا يريدان رؤيته كما يريد، وكأنهما لا يريدانه في الأساس وهذا ألمه بطريقة جعلت دموعه تبدأ بالإنهمار بصمت عكس الطفلة التي طغى صوتها على كل شيء أخر.

الباب فُتح مجدداً وهذه المرة دلفت منه إمرأة راكضة ناحية إيميليا لتأخذ الطفلة من بين يديها سائلة بصوت رقيق متعب:
"ما خطبها؟"

"آسفة شارون، نحن السبب."
ابتسمت إيميليا معتذرة لتبدأ شارون بهز صغيرتها علها تتوقف عن النحيب بطريقة ما لكنها لم ترغب، وكأنها تساند أحدهم ببكائها.

"لا تخبراني أنكما تتشاجران مجدداً."
قال رجل أخر وهو يدخل ماسحاً عدسات نظاراته الطبية بمئزره الأبيض قبل أن يعيدها نصب عينيه البنيتين مردفاً:
"لقد تسببتما ببكاء ابنتي أيضاً."

"لهذا نصحتكما بتوظيف أحدهم لرعايتها عنكما، أن تحضراها هنا معكما فكرة ليست بحسنة يا أكسل."
تحدث والد أليجاه وهو يعيد بعثرة عدة أشياء على الطاولة أمامه في حين ابتسم المقصود وأشار للكبسولة خلفه قائلاً:
"ماذا عنه هناك، أليس ابنك؟"

"أليجاه؟!"
هتفت شارون بفضول وهي تعتصر عيناها السوداوان بشدة علها تستطيع أن ترى مايشير له زوجها قبل أن تقترب من الكبسولة بخطوات سريعة وتتحدث مؤنبة:
"إلهي بروفيسور هاورد! لماذا تحبسه هكذا؟!"

"لقد كان يتجول هنا وهناك، تعلمين، يجب أن أتأكد من أنه بخير."
قال والده رداً لتعيد هي نظرها نحوه قائلة بحاجبين معقودين:
"انظر إليه إنه يبكي، فالتخرجه."

"عشر دقائق فقط شارون."
أجاب هاورد منهياً الحديث لتعيد شارون بصرها ناحية أليجاه قائلة بابتسامة مطمئنة:
"لاتقلق، سنخرجك قريباً لذا فالتكن شجاعاً ولتصبر عشرة دقائق فقط، حسناً؟"

حدق بها أليجاه من خلف الزجاج بعينين فائضتين توقفتا عن ذرف الدموع قبل أن يمسحهما بقوة مزيلاً ما تبقى ويومئ نحوها بصمت.

"فالتتركيه وشأنه شارون، يجب أن ترتاحي فقد بذلتِ جهداً قد يذهب بصحتكِ للأسوأ."
إيميليا نبهت المذكورة وهي ترتدي معطفها الأبيض قبل أن تجلس إلى الحاسوب في الزاوية وتبدأ بضغط الأزرار بتتابع.

"هيا إيميليا إنه مسكين، كما أنني وعدته بأنني سأبقى، يجب أن نحافظ على وعودنا، صغيرة أم كبيرة كانت."
قالت شارون رداً بحزم قبل أن تسمع أكسل يقول من خلفها بصوت عالي:
"أنتِ لم تفعلي عزيزتي."

"إهدأ أنت!"
غمغمت نافخة خديها بطفولية قبل أن تبتسم لأليجاه محدثة إياه:
"سأنتظرك حتى تخرج، بالرغم من أن والدتك لم تتحدث عنك سوى لبضعة مرات إلا أنني كنت متشوقة للقائك. سمعت أنك تستطيع العزف على الكمان وحل أحجيات السودوكو...."

بدأت الطفلة على كتفها بالصراخ مقاطعة لتجذب الأخرى وجهها ناحيتها وتبدأ بهزها قائلة بتعب:
"لماذا أنتِ صاخبة هكذا اليوم؟"

عينا أليجاه نظرتا للطفلة صاحبة الرموش السوداء الكثيفة والشعر الأسود القصير بحاجبين معقودين، لقد كانت تحملها والدته وتبتسم لها، أتفضلها عليه؟ هو شعر بالغيرة.

رمشت شارون مرتين ملاحظة نظراته مقروءة الفحوى لابنتها لتبتسم وتجلبها قبالة الباب الزجاجي لتصبح مواجهة له مباشرة وتقول:
"هذه ابنتي، شارلوت، هلا أصبحت صديقاً لها؟"

"صديق..."
تمتم أليجاه مبدياً عدم رغبته التامة بذلك وهو يشيح بوجهه لتضحك شارون مردفة:
"أنا صديقة والدتك إذاً يجب أن تكون صديق ابنتي أيضاً."

"يجب؟"
رفع حاجباً جذب نظره لشارلوت مجدداً التي حدقت به بنظرات الأطفال الفارغة قبل أن تقوم بالصراخ بابتسامة نحوه وضرب الزجاج بقبضتيها الصغيرتين تاركة لعابها يسيل من فاهها المفتوح.

"أترى؟ لقد أحبتك!"
أعلنت شارون وهي تجذب شارلوت مجدداً لصدرها، مسحت وجه الصغيرة بلطف ونظرة حنونة قبل أن تردف محدثة ابنتها بخفوت:
"شارلوت، هذا أليجاه فالتعتني به كما سيفعل. فالتتوافقا، ولتصنعا الكثير من الأصدقاء والمعارف."
مع كل كلمة كانت ملامح وجهها تنخفض أكثر فحسب وكأنها سرحت بأفكارها لعالم أخر.

حدقت شارلوت بوجه والدتها لثوان قبل أن تجلب خصلات شعرها السوداء الطويلة نحو فمها وتبدأ بمضغها مغممة:
"أل أل للـ"

"لقد نطقت!"
هتف أليجاه بحماس مفاجئ لتبتسم شارون برضى وتقول:
"أترى؟ إنها ذكية! فالتعتني بها جيداً، وعد؟"
...

"هذا كثير علي لأهضمه الآن..."
تمتمت شارلوت وهي تقوم بتخريب تصفيفة شعرها فتنسدل خصلاتها على كتفيها من دون انتباه منها قبل أن تنظر لأليجاه مردفة بنظرات محتارة:
"أنا لا أذكر أي شيء حصل قبل سن الرابعة، لكن أنا لم أتصور أنك تعرفني منذ زمن طويل، أعتقد أنني مصدومة للغاية."
ضفطت أناملها في حجرها وهمست بضياع:
"لا أدري ماذا أقول."

"لم أتوقع أن أراكِ مجدداً، وأن أستطيع تمييزكِ. تشبهين شارون، ورثتِ عيناها ونعومة خصلاتها والآن...وجهها المريض ذاته."
تحدث أليجاه وهو يعقد يديه أسفل صدره متذكراً كيف كان يراقبها من بعيد بشك وأمل، ورغم كل ما حدث في العالم عاد ليلتقي بتلك الطفلة مجدداً وبعد أكثر من عقد من الفراق، تنهد ثم أردف:
"لقد حصل الكثير بعد ذلك اليوم، بدأت الحضور أكثر لمكان عملهم رغم أن والداي كان معارضين لذلك."

"ما الذي كنت تفعله؟"
سألت شارلوت بشك ليبتسم بجانبية ويهمهم كأنه يتذكر قبل أن يجيب:
"ما أبرع به، بالطبع أزعجكِ."

"لم أتوقع أقل من ذلك."
قالت مشيحة بوجهها مدعية عدم الرضى ليهتز صدره بضحكة مكتومة ويتنهد مردفاً:
"أخجل من قول ذلك الآن لكن أنا كنت أشعر بالغيرة منكِ، لم أتصرف معكِ بلطف ولكن وبالرغم من ذلك لم أستطع أن أحمل نفسي على كرهكِ أو أعاملكِ بخشونة. كنتِ من يؤنس وحدتي في النهاية، كما أنني وعدتها."
رأى صوراً لوجه شارون البشوش في معاني شارلوت.

"طفل."
تمتمت بابتسامة جانبية وأراحت ذقنها لكفها محدقة بوجهه ليشيح هذه المرة هو ويغمغم:
"شارون كانت لطيفة وحنونة للغاية، كانت بعكس والدتي تماماً لذلك كنت أحاول أن أحصل على كل اهتمامها الكامل بالرغم من أن ذلك كان مستحيل."

"سماعك تتحدث عنها وتصفها لي هكذا يجعلني أرغب برؤيتها أكثر رغم كل تلك الصور المظللة لها في مؤخرة رأسي."
قالت شارلوت مغمضة عينيها بحنين قبل أن تبدأ بتلحين أغنية بلا كلمات مردفة:
"كل هذه الذكريات المشوشة تتدفق الآن وتجعلني أشعر بالحزن فحسب، لكنني من دونها بلا هوية أنا لا أستطيع أن أساعد نفسي سوى في أن أحبها."

"أليجاه."
همست لتهبط نظراته عليها وترتفع ملامحه بمفاجئة حين وجد عيناها تفيضان بالدموع وهي تردف رغم ذلك بابتسامة:
"أخبرني بالمزيد."

شفتاه انحنيتا بشبح ابتسامة حين قال رداً:
"أمتأكدة من أنكِ ترغبين بمعرفة نهاية القصة؟ فكما تعلمين... النهايات ليست دائماً بسعيدة."

فاهها فتح لتأخذ نفس مرتعش سريع قبل أن تنظر في عينيه مجيبة بثقة:
"لابأس، أريد أن أعرف."

أغلق عينيه متنهداً قبل أن يقول سارداً:
"كل شيء تغير بعد عدة أشهر تقريباً، رغم أنني لم أفهم كل ما حدث آنها إلا أنني علمت أن والداي كما والديك باحثون ومجال أبحاثهم تحديداً يتضمن دراسة الجراثيم والفيروسات الخطيرة، ليخلقوا أخرى منها متطورة ومفيدة، شارون كانت مريضة والسبب هو جرثوم كانت قد التقطته بعد ولادتكِ في ذلك المختبر إذ أن مناعتها كانت ضعيفة حينها. والدكِ قرر لاحقاً إبعادكما لسلامتكِ وسلامتها حتى إيجاد علاج، رغم أنكما رحلتما لم أتوقف عن زيارة المختبر حيث أصابني الفضول أكثر فحسب. والداي بدا عليهما الإرهاق والأرق مع الوقت، كانا لا يعودان للمنزل وسريعاً ما يغضبان، كنت أعلم أن الأمور لا تسير جيداً معهم. هذا الحال دام لبضعة سنوات، أنا كنت فقط أشاهد ولم أحمل نفسي على السؤال حتى علمت لاحقاً..."
توقف عن الكلام فجأة وشارلوت نظرت له باستفهام حين فتح فاهه مجدداً بلا كلمات لمدة دقيقة كاملة محدقاً بنقطة أخرى بعيدة قبل أن يردف بصوت خافت:
"علمتُ أن شارون قد توفيت."

أخفضت شارلوت بصرها محدقة بقدميها بشرود لثوان، هي لا تذكر الكثير، لكن العجوز قال أن والدتها توفيت حين كانت قد أكملت عامها الرابع بسبب مرض ما، هو كان يقول الحقيقة.

"كان الوضع مزرياً بالنسبة لوالدك فقد عزل نفسه عن والداي وعمل لساعات طويلة ملقياً بلوم وفاتها على نفسه..."
...

"إلى متى تنوي حبس نفسك هكذا؟!"
صرخ هاورد بأكسل الذي لم يرفع عيناه عن مجهره قبل أن يضرب الطاولة بعنف بقبضته متسبباً بوقوع العينات الزجاجية أرضاً حين أردف:
"شارون توفيت بالفعل، إن لم تتخطى ذلك فستستمر بارتكاب الأخطاء. سنؤذي من حولنا فحسب!"

"لا يهمني أي شخص أخر."
غمغم أكسل بصوت خفيض قبل أن يرفع عينيه اللتان فقدتا لونهما الحيّ نحو زميله مردفاً بلا روح:
"سوى شارون."

"مثير للشفقة."
بصق هاورد قبل أن يتجه ناحية الباب خارجاً حيث وقف أليجاه بجانب والدته يشاهد بصمت.

"أمي..."
غمغم أليجاه لتهمهم والدته التي كانت تناظر أكسل يجمع ما تحطم كالحي الميت في حين أردف ابنها سائلاً:
"ماذا عن شارلوت؟"

"آه تلك الطفلة؟"
رفعت والدته رأسها للأعلى وكأنها تتذكر شيئاً كانت قد نسته قبل أن تجيب ببساطة:
"لا أعرف عنها شيئاً. شارون لم تخبر سوى أكسل بمكانها لكن انظر إليه الآن، أراهن أنه قد نسي إمتلاكه لطفلة، وأليجاه..."

"نعم؟"
تمتم.

"يُفضل أن لا تأتي هنا مجدداً."
قبض الشاب الفتي أنامله وابتلع الكمد بصمت.

...

"...حاولت التواصل مع أكسل كثيراً، لكنه كان مجرد جثة تتحرك على الأرض للأسف، لذا نفذت ما طلبته مني والدتي دون نقاش عقيم."
هز أليجاه برأسه بأسف.

تأمل شارلوت التي كانت تنظر له بعينين فارغتين، تقضم شفاهها وكأنها تحاول كتم حزنها، وكم شعر برغبة عارمة بسحب كل ما سرده رغم وجوب قوله عليه.

مدركة أن والدها تخلى عنها، شارلوت لم تشعر بأي شيء سوى الإحباط.

إن كان قد أحب والدتها لهذه الدرجة فلما تجاهلها ونسي حقيقة وجودها، أوليست نتاج حبهما هذا؟!

لم تستطع الفهم.

"مضت سنوات أخرى سريعة وأنا شغلت نفسي في الثانوية، وتحديداً قبل إحدى عشرة سنة تقريباً وقعت الكارثة."
استطرد أليجاه فجأة وسبابته التي رفعت فكها بلطف جعلتها تعيد تواصلهم البصري فترى تعابير وجهه قد تجهمت حين أكمل:
"وقع إنفجار هائل في منطقة البحث بسبب حركة مجموعة من المعارضين المتشددين على التلاعب -كما سموه- بالطبيعة، كل شخص كان هناك توفي. جميع الاختبارات والإنجازات احترقت لكن تلك النيران لم تأكل كل شيء إنما خلقت شيء جديد بطريقة ما."

حدقتاها اتسعتا باستدراك وشفاهها ارتجفت مع قولها:
"روفوس!"

كل شيء أصبح واضحاً.

"هذا صحيح."
تحدث مجيباً قبل أن يصمت لوهلة ويستطرد:
"انتشر بسرعة هائلة حين ارتفع للغيوم وهبط مع الأمطار ليقع في الأبار والأنهار، تغلل في أتربة الزراعة ونمى مع الخضار، وفي فترة عام تقريباً كان قد توفي الكثير من الناس بالفعل وظهرت تلك الكائنات التي تحولت بسببه لوحوش مع مصاصي الدماء الذين انتهزوا الفرصة."

"ماذا عنك؟"
سألت شارلوت مقاطعة فرفع أليجاه حاجبيه بشيء من الدهشة فلم يظن بأنها ستستفسر عنه بعد كل ما سرده.
"كنت وحدك صحيح؟"
حاولت إمساك كفه لكنه سحب يده سريعاً وربت على رأسها بلطف مع قوله بابتسامة جانبية:
"ليس حقاً، بالرغم من أنني كنت في زنزانة حديدية."

"زنزانة؟"
تمتمت ليومئ مجيباً:
"لقد أمسكني هيماك ورماني هناك إذ أنني ابن المذنبين الذين تسببوا بهذه المصيبة ظناً منه أنني قد أعرف أي شيء، في حين أنني لم أعلم سوى القليل. تم اتهام أفراد عائلتينا بكل ما هو باطل ونشرت عنهم الشائعات، لم أهتم ولم يهم فما حصل قد حصل."

"قاموا بتعذيبك."
بصر شارلوت ترقرق بالدموع. في حين كانت تستمتع هي بحماية هيروزيوس هو كان يتم عقابه عن كل ما اقترفه ولم يقترفه البالغون. حتى النهاية.

الإدراك ضربها كنسيم الليل الصاقع فجمد دموعها على أطراف أهدابها.

"مر بعض الوقت، تعرفت على آشتون الذي كان يتسلل للدردشة معي، لونا وماريان ولأكون صادقاً لم أكن أظن بأنني سأخرج من ذلك الحبس لولاهم."
اختتم قصته:
"تم إرسالي للجيش كي أبقى تحت أنظارهم وحتى اليوم هم لا يثقون بي. احتاجوا بيدقاً إن عمل أتقن عمله وإن فشل خاف العقاب وإن خرج لا يهم أمر عودته حياً أو ميتاً."

"لكنني أفعل!"
هتفت شارلوت قابضة يديها بشدة وهي تنهض بحدة قبل أن تردف ناظرة للأسفل نحوه:
"آلان، لوسيا، ماي والكثيرون يثقون بك ويهتمون لأمرك. أنا كنت أبغضك في البداية ظناً أنك تحاول إستعمالي فحسب لكن أنت فعلت ما فعلته لحمايتي صحيح؟"

أطلق صوت ضحكة ساخرة وهو ينهض من على الأرضية بدوره نافضاً ملابسه من غبار وهمي متسائلاً:
"عن ماذا تتحدثين؟"

"أنت حاولت وضعي تحت أنظارك، ولم تفتح فاهك وتتحدث لكي لا يتم تقيدي مثلك، لحمايتي والتغطية علي، والآن قطعت كل ذلك الشوط وتطوعت لتأتي لهنا فقط لتخبرني بالحقيقة."
سيل كلماتها بدأ ينضب حين غرق صوتها بسبب الشهقات المتتالية التي بدأت تفر من فاهها بتتابع وتلك الدموع التي بدأت تنهمر من تلقاء نفسها.
"دون أن تنبس باسمي الكامل فيسمعك النسيم."
شهقت حروفها.

فاهه فتح بنفس مندهش حين رمت بجسدها ضد خاصته. يداها اللتان صفعتاه مراراً لإبعاده تتسلقان هذه المرة كتفيه تعانقان إياه بقوة لتبكي بصوت مسموع قائلة بتقطع:
"أنت كنت محق، ومازلت، أنا أريد تلك المشاعر المبهمة بأن تحيطني. أريد بأن أعطيها للأخرين أيضاً لكنني لم أستطع التعبير عن ذلك!"

"حتى الآن فقط."
نبس أليجاه بابتسامة صغيرة وهو يضع إحدى يديه على رأسها ماسحاً على شعرها برقة في حين إنزلقت ذراعه الأخرى حول جسدها الضئيل مبادلاً إياها عناقها. استشعر رعشتها وهزالتها بين يديه. عظامها كانت بارزة وعيونها متورمة. كل هذا جعله يكرمش عينيه بألم على حالها.

"أنا كان بإمكاني البحث عنك كما ينبغي لكنني لم أفعل. أولست مستاءة ولو قليلاً؟"
عندما سأل بتأسف هي هزت رأسها بعنف نفياً، حياتها مع العجوز في القرية كانت بسيطة وامتلأت بالرخاء مقابل ما لاقاه هو أثناء نشأته.

"شارلوت."
شعرت بذراعيه تشتدان حول جذعها.

"نعم؟"
أخذت تمسح دموعها على عجل عن طريق فرك عينيها لكنه دفع رأسها ضد كتفه ليخفي وجهها. ليست مضطرة لابتلاع حزنها سريعاً.

"كل ما أخبرتك به الآن كان شيئاً واحداً مما قد أثقل كاهلي منذ زمن، لكن الأمر الذي أريد إخباركِ به بشدة وجعلني هائماً على وجهي منذ فترة، منذ أول مرة رأيتك فيها قد نال الأفضل مني لذا اسمعيني جيداً لأنني لن أستطيع تكراره."
ابتلعت بشيء من الخوف، لا تريد المزيد من الأمور المحزنة التي تحطم ما تبقى من قلبها لكنها رغم ذلك أسندت رأسها لكتفه وأجابت بنبرة مرتعشة:
"أنا أصغي."

شعرت بأنامله تسير على وجنتها الأخرى وشفاهه لامست أذنها لتغلق عينيها تلقائياً فتسمعه يهمس بصوت خافت للغاية:
"أنا مغرم بكِ أيتها الثعلبة السوداء."

شهقة مكتومة لم تستطع أن تفر من حلقها هزت صدرها وخافقها الذي ارتعش للشعور الجدي وألهبه بين أضلعها.

يداه تناولتا كفيها وابتعد عنها لينظر في عينيها المصدومتين بابتسامة لأول مرة تراها على وجهه في حين قال:
"أنا أعني ما أقول بحرفيته، لا ألعاب."

شعرت بحرارة وجهها ترتفع مجدداً لكن بطريقة دغدغت حواسها.

"هذا يكفي."
صوت ثالث ارتد في الممر الفارغ ووقع الأقدام الذي غدا مسموعاً جعلهما يرفعان رأسيهما بترقب.

رداء هيروزيوس المخملي إنزلق خلفه على السطح الأملس بسلاسة والسلاسل الذهبية التي زينت لباسه الفاخر اهتزت فأصدرت رنيناً ذو نغم خافت وتلألأت أسفل نور القمر مع أحجار تاجه الأبيض الكريم.

توقف عن التقدم وعيناه القرمزيتان نظرتا ناحية شارلوت دون أليجاه بتركيز.
"أبعد يديك عنها..."
خصلاته المارونية العنيدة تأرجحت حين أمال برأسه قليلاً ليوجه بصره ناحية أليجاه ويردف بنبرة أمرة شدت فكه:
"الآن."



*********

cliffhanger
نياهاهاهاها
أي أمنيات أخيرة (: ؟

أراكم على خير
ناخت ♥️

Continue Reading

You'll Also Like

567K 17.6K 23
الرواية تتحدث عن الشيطان او لنقول زعيم مصاصي الدماء يقع بحب فتى منذ ان كان صغير ويصبح مهووس بكل انش به.. ********* ماذا سيحدث عندما يتعرض الفتى للخ...
59.9K 4.3K 18
"سأبتسِمُ لكُل مايَقِفُ حائِلًا أماميْ وسأُخبره أنني لا أهابُه مادُمتُ معك" "سأضل أحِبك وأحتَويك حتّى وإن كانَ حُبي لكِ خطأ غيرَ مغفور..." . . "ترَكت...
4.3K 463 32
الثلاثون من ابريل عام 2090م بعد الإبلاغ عن حادث إختطاف من طرف مجهول عصر اليوم الحالى أسرعت الشرطه إلى المزعوم أنه موقع الإختطاف . . . . لم يتم العث...
53.3K 2K 50
في كل القصص الخيالية و الروايات التي نقرأها و سمعنا عنها دائما ما ينتصر الخير على الشر ، لأن هذا ما يجب أن يحدث، فالآثام تمحوها الفضائل و الظلام ينج...