نيـوتروبيـا

By Die-Nacht

268K 18.5K 24.1K

"أعطـني لأعطـيك" هـذه قصـة الطـفلة التي اعتمدت هذا القانون كحل وحيد وأوحد للنجـاة في عالمـها المشـوّه. هي تل... More

-1- بداية السقوط
-2- مجمع القطب
-3- مصيدة الثعلب
-4- كهرمان
-5- خلف جدرانهم العالية
-6- الحرب
-7- رائحة دم
-8- إكصاص
-9- شِقاق الزهور
-10- السرداب
-11- عيون الصقر
-12- سيلست غولدن
-13- سليل السلف الأول
-14- هذا وذاك
-15- شتاء بحلة الخريف الأحمر
-16- صندوق زجاجي
-17- مشارف الموت
-18- لاشيسيا
-19- دموع شارلوت
-20- سمفونية أبواق الهلاك
-21- لأجلكِ أيتها الفاوانيا
-22- بئر من الأوهام
-23- رؤى
-24- رسائل السلام
-26- أضواء باهرة
-27- آل والثعلبة السوداء الصغيرة
-28- قمر حقل البنفسج
-29- خزف
-30- الدرجة رقم سبعة عشر
-31- دماء ورثاء
-32- بركة الملح
-33- قلوب بلا عيون
-34- أحضان الشمس الدافئة
-35- شتاء ديستوبيا الأخير
-35.5- ومضة
-36- ربيع الأرض الجديدة
-37- واجبات الحرس
-38- الكناري الصامت
-39- شبكة من خيوط الماضي والحاضر
-40- أجيال
-41- تمرد الوحوش
-42- الشمس والقمر
-43- خلف مخمل الستار
-44- رماد عينيه
-45- سالب
-46- سم وعسل
-47- شيطان
-48- براءة عذراء
-49- زهرة النوكس المشؤومة
-50- حنين للحنان

-25- أونوس

4.3K 375 517
By Die-Nacht


"لماذا لم تخبرني؟!"
هتفت شارلوت وهي تضرب الأرضية بقدمها ما أن دخلا المكتب في حين راح هيروزيوس يخلع معطفه ليرميه جانباً.
"عن ماذا؟"
سأل دون أن يلتفت نحوها مما جعل استيائها يتحول لغضب عارم.

"الفيروس! أنا لم أكن أعلم أن البشر من صنعوه وأنت تعلم أنني لا أفعل فلما لم تخبرني؟"
سألت وهي تطارده في الغرفة حيث توقف أمام المكتبة الجدارية يناظر عناوين الكتب والملفات المصفوفة بانتظام.
"لما قد أفعل إن لم تفيدك المعلومة؟"
سأل بهدوء.

"هذا سخيف!"
هتفت بصوت مبحوح فقام بصفع وجه الكتاب ضد مقدمة رأسها بلطف جاعلاً إياها تتنحى عن طريقه:
"أنتِ كنتِ فقط ستشغلين نفسكِ بالتفكير بمن هو المخطئ ومن هو المحق. ستحاولين حل معضلة أمر الفيروس وكأنها مشكلتكِ الخاصة."

عصرت قبضتي يديها بقوة وهي تقول مشاهدة إياه يبتعد بشك:
"أولم تعلم أنت بأنك وبفعلتك هذه كنت تدفع بغضبي واستيائي على مصاصي الدماء فحسب؟"

"هل تظنين أنكِ كنتِ ستقدرين على القتل بسهولة دون تلك الأفكار والدوافع؟"
بدا وكأنه يوبخها.
"فكري قليلاً بتصرفاتكِ لوهلة. ألا تظنين أنكِ أصبحت عدائية اتجاه البشر فقط عندما علمتِ بما كان يحدث في ذلك السرداب."

عيناها إنخفضتا وبدا وكأن شعلة غضبها تحولت لاستياء من النفس حين قضمت شفاهها فتنهد هيروزيوس لرؤية حالها.
"لا تصنعي مثل هذا الوجه الكئيب. أنا من كان يتحكم بأغلب تصرفاتكِ في المقام الأول فلا تلومي نفسكٍ على أي أذى قد تسببت به."

"تتحكم بتصرفاتي؟"
تمتمت وراحت تقترب من مكتبه الخشبي المنحوت بدقة حيث كان قد ارتاح بالفعل لمقعده الفاخر.
"كل مرة أعطيك فيها دفعة لعضلاتك كنت أعطي فيها دفعة لعقلك أيضاً. حالتكٍ الجسدية ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بالنفسية، ربما لم تشعري بذلك لكن تقنياً أنا من كنت أقتل وليس أنتِ."

"لا تحاول تغيير ذلك!"
هتفت فجأة مقاطعة وحين ضربت قبضتها ضد الخشب القاسي رفع بصره نحو وجهها. نظرت لذراعيها التي راحت ترتعش لثوان ثم بسطتهما أمامه لتردف بعيون احتدت بلهب بارد:
"حتى لو كنت قد تلاعبت بي بحق، يداي هما اللتان قد تلوثتا."

"لذا...نحن في هذا معاً. لا تحاول إخراجي منه."
سبابتها ارتفعت في وجهه وكأنها تهدده لتردف بنبرة خفيضة:
"أنا لست شيئاً بلا إرادة."

"أنا لم أقل ذلك."
هيروزيوس رد سريعاً على كلماتها. تقطيبة حاجبيه جعلتها تسأل:
"إذاً لما تحاول إقناعي بأنه لا دخل لي؟"

تنهد ثم دلك ما بين حاجبيه مجيباً:
"لا أريدكِ أن تشعري بالسوء."

شارلوت شعرت بعقدة غريبة تنحل في قلبها. أحست بشيء من بالإنشراح لكن لم يتوجب عليه حمل وزر اتفاقهما كاملاً.
"توقف عن العبث ومحاولة تغيير أفكاري هيرو، ذلك سيشعرني بسوء أكبر وحسب."
تمتمت بخفوت. بقدر ما كانت شاكرة بقدر ما راحت تصبح ناكرة. شعر بمسؤولية بنفسه بالأساس أم لا. هي لن ترمي كل شيء عليه.

شعرت بألم لم يزرها منذ فترة ليست بطويلة فما كان منها سوى أن تطلق تنهيدة مرتعشة بعد الصمت الذي ساد لثوان قائلة ختاماً لنقاشهما:
"أنا سأتركك لعملك الآن."

لم تكد أن تتحرك ناحية الباب بضعة خطوات متمهلة حتى وشعرت بجسدها يتم رفعه في الهواء قبل أن يحط في غمضة عين على إسفنج الكنبة المريحة.

رفعت بصرها بنظرة استفهام ناحية هيروزيوس الذي أزاح يديه عن وسطها قائلاً:
"ابقي هنا، أنتِ لا تزعجينني."

عقدت حاجبيها وهي تراه يبتعد لمكتبه مجدداً قبل أن تزفر بملل وتلتقط أول كتاب وقع بين يديها لتفتحه ثم تستلقي في محاولة لقراءة القليل لكنها سرعان ما اعتصرت عينيها بشدة ثم بدأت بالتثاؤب...

رائحة الورق القديم اخترقت أنفها بقوة لتفتح عينيها ويقابلها ظل الكتاب الذي غطى وجهها. استقامت والكتاب سقط لتدحرج عينيها حين علمت أن محاولتها لرفع ثقافتها انتهت بغفوة قصيرة لم تدم طويلاً بسبب ألم معدتها الذي ازداد سوءه.

دلكت بطنها وهي تنظر بطرف عينها بشيء من الاستهزاء ناحية هيروزيوس الذي كان يمسك كتاباً بإحدى يديه وقبضته الثانية حملت فكه. يبدو ضجراً بدوره.
"لأكون صريحة أنا أردت الخروج لا لأنني قد أصرفك عن ما تقوم به بل لأنني متعبة."
صارحته.

"حقاً؟"
غمغم دون أن ينظر نحوها حتى.

"أجل؟"
غمغمت بجوابها كسؤال إذ لم تفهم المغزى من مداخلته الغريبة وحين صفع الكتاب مغلقاً إياه أردف بعد تنهيدة قصيرة:
"ألا لأنكِ تريدين التسكع مع ذلك البشري؟"

"أليجاه؟!"
تمتمت باستفهام وعقدت حاجبيها مجيبة:
"إنه لمن الصحيح أنني لم أره من زمن لكن هذا ليس سبباً لألتصق به..."
صمتت لوهلة بتفكير ثم استطردت بتشكيك متذمر:
"هل أنت تكره أليجاه؟ أنا لا دخل لي بكيف تشعر نحوه ولا نفسه حتى فهو لم يقابلك أو يتعرف عليك بحق."
عقدت ذراعيها أمامها واستطردت:
"بأي حال... لماذا قد تهتم إن قمت أنا بالتسكع حوله؟"

"لا تفعلي ذلك."
نطق فجأة وهو ينهض من مكانه على مهل لترفع أحد حاجبيها.
"ماذا؟"
غمغمت.

"تجنبيه."
أوضح ما يعنيه ببرود لتهتف شارلوت من مكانها بتهكم:
"هذا مجدداً!؟"

مسحت وجهها بأصابعها العشر وثم نهضت مدافعة:
"لوكسياس قد يستطيع إيذائي لكن ماذا عن أليجاه؟"

"هو يستطيع الإساءة إلي كلامياً صحيح لكن..."
غمغمت بصوت خافت قبل أن تردف بصوت عال ملوّحة بيدها نفياً:
"هو لن يؤذيني."

"الأمر ليس كذلك."
مقاطعاً إياها للمرة الثانية تحدث فنظرت له بتشوش حين استند بساعديه للمكتب مطرقاً برأسه للأسفل وكأنه يفكر قبل أن تسمعه يستطرد بخفوت:
"أكره قربه منكِ."

يديها بجانبها تحولتا لقبضتين. هي ليست غبية أو بلهاء، ليس لتلك الدرجة، هذه التصرفات مألوفة لها.

مازالت تتذكر حين مرّت مرة رحالّة شابة شقراء ذات عيون زرقاء سماوية بقريتهم. كانت تروي لهم قصصاً عن مغامراتها الشيقة، جميع أطفال القرية أحبوها للغاية واعتادوا وجودها الذي دام لأكثر من أسبوع.
في أحد الأيام أخرجت رزمة من الأحجار الكريمة التي كانت قد حصلت عليهم من مكان ما سابقاً وقررت توزيعهم على الأطفال كهدايا وداع تذكرهم بها.

الجميع كانوا سعداء بصخورهم الملونة إلا واحداً. كان يرغب بحجر مميز له وحده فقط لا يشابهه أخر ولكن الشابة أعطت الحجر المميز والذي كان أحمر اللون غريب الشكل لفتاة أخرى، فما كان منه سوى أن يدخل في شجار مع الفتاة بأخذه الحجر منها وهو يقول بأنه ملكه لأن الرحالة الشابة تفضله عليهم وليس الفتاة التي بدأت بالبكاء بصوت عال آنها.

هو فقط...

"أنت تغار."
همست محدثة نفسها بصوت خفيض أما هيروزيوس فرفع بصره نحوها أخيراً وغمغم بشك:
"ماذا قلت؟"

"لقد ظننتُ بأن طلباتك غريبة منذ البداية. لوكسياس لطيف للغاية لا يمكن أن يؤذي أحداً. أنت تغار منه فحسب!"
نطقت بصدق مشيرة بسبابتها نحو وجهه مباشرة دون تردد ليعقد هو حاجبيه نافياً:
"غير صحيح."

"بلى! لا تحاول الإنكار، أشك أنك تعلم معنى الغيرة حتى."
تحدثت وهي تعيد بكلتا يديها خصلات شعرها المتناثرة للخلف مردفة بدهشة لإستدراكها فجأة كل شيء بابتسامة سخيفة:
"أنت تفعل منذ زمن، لأن والداك في نظرك كانا بفضلانه عليك! أنت لست غاضباً عليه بسبب أنه رأى مستقبلهما ووقف ساكناً يشاهد! أنت علمت أنه لا يستطيع تغيير أي مستقبل يراه بالفعل! كنت تصب إحباطك عليه وحسب."

"وحتى الآن... أحاول فهم علاقة هذا بذاك وأليجاه الذي لم تعرفه سوى لفترة."
هرشت فروة رأسها بتفكير.
"أنا لا أريد التفكير بهذه الطريقة لكن هل من الممكن أنك تظن بأنني سأفضله عليك؟"
صمتت لوهلة بحرج وراحت تركز خصلاتها عن طريق غرز أصابعها خلالهم مراراً قبل أن تردف باستنتاج فذ أخر:
"ألهذا تركت لوكسياس كمبعوث أيضاً؟ لكي لا أفضله عليك كما فعل والداك."

رفعت بصرها ونظرت له أخيراً لتجد أن عيناه اللتان اشتعلتا كالياقوت كانتا تحدقان بما خلفها، بل وأبعد من ذلك، وكأن كلامها فتح بصره على مشهد جديد لم يكن قادراً على رؤيته. فاهه فُتح قليلاً بنفس مرتعش فرأت تفاحة آدم الشبه بارزة تتحرك في حلقه بتوتر.

شارلوت شهقت بصدمة وتراجعت خطوة للخلف مغلقة فاهها بكلتا يديها. لقد تحدثت بإهمال وعدم إحساس كبيرين.

"أنا..."
حاولت فتح فاهها للحديث لكنها أجفلت حين شعرت بهيروزيوس يتخطاها معطياً إياها شعوراً بارداً لم تحبه وجعل قلبها ينقبض بين أضلعها.

دفعت بجسدها لتسدير نحوه بسرعة وتسحبه من ساعده مانعة إياه من الابتعاد والخروج. هي بدأت هذا بغير قصد لكن لن تجعله ينتهي بهذه الطريقة.

"لم ننتهي من الحديث بعد."
قالت معاندة ليقابلها بالصمت حيث لم ينظر لها حتى وهذا تسبب بإرتفاع نسبة إنزعاجها -من نفسها- فما كان منها سوى أن تدفعه بكلتا يديها ليجلس مكانها على الكنبة وتتسلق حضنه لتعانقه لافةً ذراعيها حول عنقه بقوة للتأكد من أنه لن يستطيع الفرار دون كسر ساعديها.

قول كل تلك الأمور معاً ودفعة واحدة... لابد من أنها قد تسببت بصدمة له، خاصة وأنه كان يتصرف بطريقة غريزية لإرضاء ذاته وحماية نفسه من الأذى. لم تتوقع أن يوجد لديه مثل هذا الجانب الهش. أخفاه ببراعة وأخذ بإقناع ذاته بأنه غير موجود من الأساس.

"أنا آسفة."
نطقت هامسة بأذنه قبل أن تأخذ نفساً عميقاً وتردف بأسى:
"هذا....الشعور طبيعي."

لم تتوقع التطرق للحديث عن 'مشاعره' هو بالذات من بين الجميع. أرادت أن يستدرك كيف يتفهم أحاسيس الناس ونست أنه لن يفهم دون القدرة على الإحساس بالمشاعر بنفسه في المقام الأول.

"إنه لمن الفظيع أن تتم مقارنتك بشخص أخر ودفعك بعيداً لأي سبب كان. أنا عايشت هذا الشعور بدوري، أنا أعرف لأنه محبط ومؤلم."
شعرت بالدموع تتجمع في عينيها لأجله.

"أيضاً آسفة لكوني بلهاء، صرخت بك سابقاً بأن تراعي مشاعر الأخرين لكنني فعلت العكس بدوري وتحدثت بلا أي تعاطف أو شفقة."
سمع صوت أنين يفر من صدرها ولم يعلم إن كانت تحاول كتم شهقات باكية أم تتألم جسدياً أم كلاهما.
"لقد أخطأت وأنا اعتذر فسامحني. أنا أستطيع الموت والعالم كله ضدي بهناء لكنني لن أرتاح في حفرتي وأنا أعلم أنك كنت مجروحاً من قبلي فلا أحد مهما كان مميزاً سيتخطى أكثر شخص قد أثر في حياتي، أنت بالنسبة لي كل شيء ورقم واحد."

"أتسامحني؟"
سألت وهي تحاول الابتعاد عنه لكن ذراعاه اللتان التفتا حول جذعها بقوة منعتاها من الحراك فما كان منها سوى إسناد رأسها لكتفه وإسدال أهدابها برضى مغمغمة:
"هذه طريقتك بإخباري."

شارلوت لم تعلم كيف حلت الرحالة الذكية المشكلة بين الأطفال لأنها انسحبت ببساطة عند بداية الشجار لكن ما تعرفه أنها رأتهم في اليوم الذي يليه يبتسمون...جميعهم بلا استثناء.
كم ترغب الآن في معرفة كيف حلت تلك الجميلة الأمور، علها تساعدها لكن يبدو أنها يجب أن تكتشف ذلك بنفسها.

هيروزيوس شعر بعد دقائق قصيرة بأنفاسها تلفح عنقه بانتظام، لقد غفت بلا سابق إنذار. حقيقة أنها لم تعبأ ببرودة جسده دللت على واقع إنهاكها فما كان منه سوى أن يحملها حتى غرفتها ويقوم بتمديدها على سريرها المريح أسفل الملاءات الثقيلة. انحنى أكثر بقربها وهمس ضد أذنها:
"أنتِ لا تعلمين ما قد تتسبب به ثرثرتكِ لنفسكِ."

.
.
.

فتحت عينيها بفزع ليقابلهما الظلام ومن الرائحة التي ألفتها علمت أنها في غرفتها حالياً.

نهضت ناحية دورة المياه لتغسل وجهها الذي تبلل بعرق بارد بالمياه الفاترة، نظرت للمرآة وإنعكاسها الشاحب لتتنهد قبل أن تمسح شعرها للخلف وتخرج.

"أنتِ استيقظتِ أخيراً."
قابلت لاتشيا التي كانت قد دخلت لتوها وأنارت ضوءً في زاوية الغرفة لتتضح صورتها لشارلوت التي جلست على الكنبة قائلة بصوت مبحوح:
"لماذا أخيراً؟ هل فوّت أمراً هاماً؟"

"بالطبع فقد نمتِ لمدة تجاوزت الأربعة عشر ساعة."
وثبت لاتشيا للداخل وهي تقول كلماتها تلك باعتيادية أمام شارلوت التي شخرت عدم اكتراثها ودهشتها بعد اليوم.
"أكنتِ قادمة لتكفيني إذاً؟"
سألت.

"لستِ ميتة بعد، كما أنه لن يكون بعملي."
جلست الطبيبة على الكنبة بجانب شارلوت ورفعت ساقاً أعلى الأخرى مردفة بحماس:
"أنتِ أخبرتني بأن أبقيكِ على إطلاع بأخبار المملكة وأنا هنا الآن لهذا."

"أنا بالفعل أعلم عدة أشياء جديدة."
قالت شارلوت وهي تسحب يديها لتعقدهما أمام صدرها قبل أن تنظر بشك ناحية لاتشيا قائلة بابتسامة:
"لكن من حماسكِ هذا أعتقد أنني قد فوّت شيئاً مبشراً بالفعل."

أومأت لاتشيا قبل أن تميل للأمام هامسة وكأنها تخبر سراً:
"أنتِ تعلمين أننا تخطينا الفترة الحرجة بالفعل والأمور تتحرك للأفضل لذا والدي وزافير قررا أخيراً فعل ذلك!"

"فعل ماذا؟"
تمتمت شارلوت سائلة لتصفق لاتشيا بكلتا يديها مجيبة بحماس:
"حفل التتويج!"

"تتويج؟"
غمغمت كالببغاء فليس سماع كلمة حفل ما جعلها متعجبة بل حماس لاتشيا الذي ظنت بأنها لن تراه أبداً.

أومأت لاتشيا مراراً بابتسامة جعلت شارلوت تبتسم بالمثل.

"هذا الحفل كان يجب أن يقام في اليوم الذي تلى نصر سموه وتنصيبه كملكنا الجديد لكن بسبب وفاة الأميرة وبعض الأمور الأخرى إرتأى المستشار الملكي تأجيل هذا الحدث، خاصة وأن جلالته لم يتحدث عنه أيضاً، هو عبر ببساطة عن رفضه لإقامة هذا الحفل بصمته."
لاتشيا فجأة تحركت لتضرب الطاولة الخشبية أمامها بيدها بقوة جاعلة شارلوت تجفل بدهشة عندما أردفت بانفعال:
"لكن صمته هذا قد طال وقرر زافير ووالدي بصفتهما الأقرب إليه مفاتحته بالموضوع الآن، لأنه لم يمر علينا ملك إلا وتم الاحتفال بتتويجه..."

"تحبون البهرجة بحق."
غمغمت شارلوت قبل أن تتم مقاطعتها مجدداً من قبل لاتشيا التي وضعت يديها على كتفي محدثتها وأردفت بحماس:
"لذا هم استطاعوا إقناعه وسيقام الحفل بعد خمسة أيام من الآن!"

"أتمنى لكِ الكثير من المرح إذاً."
نطقت شارلوت بابتسامة متكلفة وهي تزيح يدي الأخيرة عنها بلطف قبل أن تردف بشك حين نظرت لها لاتشيا بذات الابتسامة:
"ماذا؟"

"أنتِ ستحضرين أيضاً."
صرحت وهي تسحب خصلات شعرها المحمر لتطاير خلفها بعنفوان أما ملامح شارلوت انخفضت بإنزعاج مغمغة:
"لما علي أفعل؟"

نظرت لها لاتشيا بإصرار قبل أن تضع سبابتها على أنفها مباشرة قائلة:
"أنتِ صديقة للعائلة الملكية، ألا تريدين من الجميع معرفة ذلك فضلاً عن ظنهم بأنكِ مجرد خادمة؟ يجب أن تكوني فخورة بذلك فشخص بلا مكانة مثلك يستطيع الوقوف بجانب الملك وهذا مكان لا يصله سوى المستشار. أنتِ يجب أن تحضري لإظهار أننا على طريق السلام مع البشر وأنا سأتأكد من ذلك."

"أولاً توقفي عن إهانتي بعفوية فأشعر أنني بلا قيمة أما ثانياً..."
تمتمت شارلوت قبل أن تستلقي ضامة يديها لصدرها معطية لاتشيا ظهرها وهي تردف:
"هيرو يمتلك زافير ووالدك ويملكك، هو لن يحتاجني لليلة كما أنني لاأهتم بما يفكر به الأخرون عني. ليس وكأنني سأعيش لفترة تساعد في انتشار شائعات ماهيتي بينهم. أيضاً...البشر لديهم رسولهم الخاص بينكم."

شعرت بضرورة الإنسحاب على مهل من الصورة.

"يجب أن تأتي!"
فتحت عينيها مجدداً ببطء ما أن سمعت صوت لونا فجأة يخترق السكون ما أن دخلت سافقة الباب خلفها بقوة لتصرخ شارلوت حين فاض بها الكيل:
"لا!"

"نحتاج من يرافق أليجاه و...يراقبه!"
هتفت لونا فوق رأسها بعناد لتستقيم شارلوت وتستدير نحوها بحاجب مرفوع سائلة:
"لما لا تفعلين أنتِ ذلك؟ كما أنه من غير المنطقي أن تراقب فتاة مريضة مثلي مقدماً في الجيش، أنتِ أفضل بكل تأكيد."

"لـ لا أستطيع!"
تلعثمت لونا بكلماتها والحنق بدا ظاهراً على تعابيرها أكثر في حين قبضتاها ارتجفتا بجانبيها حين سألتها شارلوت:
"لماذا؟"

"أنا وصيفة زافير. لقد قال أنه يريد مني أن أرافقه."
تنهدت كلماتها لتسخر لاتشيا وهي تضع ساقاً على أخرى:
"ياله من مغرور هذا المستشار، يرفض تجمهر النساء حوله. سيصبح عجوزاً عما قريب لكنه مازال يرفض الزواج."

سقطت لونا أمامهما على الكنبة ونظرة الحزن في عينيها الحمراوين جعلت تشعر بالشك حين قالت الأخيرة:
"أنا لا أريد ذلك له."

"ما الذي تعنينه بذلك؟"
سألت شارلوت لتمسح لونا شعرها البني للخلف مجيبة:
"زافير يبرر وحدته الموحشة بواجباته كمستشار يجب أن يحافظ على نظام المملكة برفقة ملوكه. يرفض بوضوح التفكير بأي شيء آخر وفوق كل ذلك أنا مجرد خادمة سترحل قريباً لا يجب أن تؤثر عليه بسوء...."
رفعت يديها لعينيها وحدقتا شارلوت اتسعتا باستدراك أمر كان قد فاتها حين رأت لونا تزيح عدسات حمراء عن حدقتيها ليظهر الحجران الفيروزيان مكانهما مردفة:
"هذا ما أقنعت الجميع به."

"أنتِ"
تمتمت شارلوت بدهشة لتشرح لونا وهي تضع العدستين على الطاولة أمامها:
"هاتين صنعتهما لاتشيا لي لأخفي الحقيقة عن بقية مصاصي الدماء فلم أكن أريدهم أن يعلموا بأنني كنت بشرية قام بتحويلها ويقع الأبله في المشاكل التي قد تسقط من سمعته بإبقاء شخص كان من المفترض به أن يكون فانياً بقربه."

"ليس لأننا نكره البشر بل لأنهم يزيدون أعدادنا وأعدادنا تنمو بمعدل متوازن. كلما قلّت أعدادنا كلما كان لكل فرد فرصة أكبر في النجاة أيام التصفية."
علقت لاتشيا من جهتها على الأمر لتهز لونا برأسها باتفاق.

"هكذا إذاً."
تنهدت شارلوت بنفس طويل لتضيف لاتشيا مجدداً بتململ:
"المنصب الذي أصررتِ على تقلده يا لونا يحق له فيه استعمالك كما يشاء."
لاتشيا أسندت فكها لكفها وأضافت مناظرة لونا:
"حتى ولو كان إظهاركِ كمجرد عشيقة بقربه إحدى رغباته."

"زافير ليس هكذا!"
دافعت لونا وهي تهز رأسها للجهتين أما لاتشيا فتنهدت:
"أنت وأنا نعرفه بحق. هذا لن يؤثر عليكِ لأنكِ راحلة. عواقب تصرفاته سيتلقاها هو وحسب."

"الضيوف من الخارج لا يدركون والظنون تأخذهم دوماً."
رفعت بصرها المخضر واستطردت بهدوء:
"لن يحصل على رفيقة أبداً إن أعلن بوضوح أنه يمتلك عشيقة من نوع ما. لا أنثى نبيلة ستقبل بذكر غير سوي."

"هو لم يستطع إئتمان أيٍ من مصاصي الدماء حوله على أسراره لذا اختار تحويل بشري ليحصل على هذا الشخص الذي يستطيع مساندته وخدمته بإخلاص لذا كان مستعداً للمخاطرة بسمعته منذ البداية."
سردت لاتشيا وهي تفرك ذقنها قبل أن تردف بابتسامة جانبية:
"إن كان قد ظن بأنكِ مميزة كفاية لتبقي على أسراره فلابد أنه يدرك في قرارة نفسه أنكِ مثالية كفاية لترافقيه لما تبقى من العمر."

غطت لونا وجهها بكلتا يديها وغمغمت بملل:
"ارحميني من هذا الهراء."

"هل هذا ممكن حتى؟ هذا مثير للاهتمام."
قالت شارلوت فجأة وهي ترتاح في مقعدها أكثر مردفة بتفكير:
"لم أظن أن لاتشيا تستطيع التحدث بمثل هذه المواضيع الحساسة مع أحدهم، لكنها أثبتت أنني مخطئة للتو، هي تفعل."

"لا أتحدث عن الأحاسيس بل أنوه ببساطة بأنه سيرمي كل فرصة له بالزواج في حفل التتويج."
لوحت لاتشيا بكفها أمام وجهها ثم وجهت بصرها نحو لونا لتنطق بتجلد:
"إن كان هذا ما يريده فاليكن...لا داعي بأن تشفقي عليه."

"مهمتي اقتصرت على مساندته خلال فترة الحرب، ما أن ينتهي كل شيء كما ينبغي سأعود لعائلتي."
لونا تحدثت أخيراً بخفوت، ملامح وجهها امتزجت بالحنين والأسى.
"لا شأن لي بغير ذلك صحيح؟"
سألت بابتسامة قلقة وفي حين أومأت لاتشيا بالإيجاب شارلوت أعطتها ابتسامة بسيطة غير قادرة على التعليق. لن يخرج أحدهما منتصراً هنا. زافير سيدعي أنه بخير مع وحدته ولونا ستشعر بالذنب حتى إشعار أخر.

"إذاً ماذا كنتِ تقولين عن أليجاه؟"
سألت شارلوت في محاولة لدفع ثقل موضوعهم السابق.

"الجميع سيحضرون على شكل أزواج وهو وحيد، مثلكِ."
لونا أجابت وشارلوت تهكمت عندما قالت تلك كلمتها الأخيرة.

"ماذا عنكِ لاتشيا؟"
سألت شارلوت لتبسط من أسدلت أهدابها للراحة شفاهها بابتسامة جانبية.
"هو يمتلك المظهر الجيد وهذا عرض مغري لكنني غير مهتمة بالبشر."
تثاءبت عبارتها الأخيرة.

تنهدت شارلوت وحدقت بالفراغ مفكرة بأنها إن فعلت ذلك فهيرو قد ينزعج إذ أنها ستخالف ما يريده لكن بما أنها صارحته قد لا يكترث بالآن ذاته. الحق يقال، هي تريد البقاء بعيدة عن مصاصي الدماء وعن البشر معاً.

"شارلوت أنت تعلمين كيف هو أليجاه، إن أوقع نفسه في مشكلة فلن يكون إخراجه منها سهلاً."
لونا رفعت كفيها بترجي لتتنهد الأخيرة بعد دقيقة طويلة من التفكير قائلة بلا حول:
"حسناً، سأفعل ذلك."

"حقاً؟!"
هتفت لونا قبل أن تتنهد براحة غير ملاحظة شارلوت التي حملت العدستين وقامت بسحقهما بين قبضتيها بقوة مجيبة:
"بشرط ألا تخفي عينيكِ مجدداً. تباً للنبلاء وما يظنونه!"

"هذه فكرة حسنة. قد يشفع البعض لزافير حصوله على عشيقة نبيلة."
سخرت لاتشيا ولونا تنهدت

ساد الصمت لثوان ثقيلاً قبل أن تقاطعه لاتشيا حين قامت بإمساك شارلوت من فكها بقوة لتحرك رأسها ناحيتها وتلتقي عيناها الخضراوان بعيني شارلوت السوداوان قائلة بابتسامة جانبية:
"إذاً خمسة أيام تكفي."

"تكفي؟"
غمغت شارلوت بألم وهي تحاول الفرار من قبضة لاتشيا في حين قالت لونا:
"تظنين؟"

أومأت لاتشيا في حين شارلوت كانت تحاول بكل ما لديها من طاقة الفرار من قبضة الطبيبة الباردة.
"عن ماذا تتحدثان؟"
هتفت من بين أسنانها لتطلق لاتشيا سراحها.

"عن إصلاحكِ."
أجابت لونا وهي تنهض من مكانها بجدية في أضافت لاتشيا بجانبها بتهديد:
"أتظنين أننا سنسمح لكِ بحضور حدث ملكي بمظهركِ الحالي؟"

"ماخطبي؟!"
هتفت شارلوت بهما بحدة وهي تنهض من مكانها بالمثل لتشعر بلاتشيا تمسك أطراف شعرها عندما تحدثت ساخرة:
"انظري إلى أطرافه المهترئة أراهن أنكِ قصصته بشفرة ما."

"وبشرتكِ المسكينة هذه لا تعلم ما معنى المياه دافئة..."
سمعت لونا تضيف وهي تتحسس يديها لثانية قبل أن تردف تلك مجدداً:
"فضلاً عن الكثير من الأمور التي تجعل الجميع يخطئون بكونك خادمة في المقام الأول."
رمشت شارلوت عدة مرات بسبب السيل الجارف الذي قام بإطاحة جبهتها أرضاً وتركها غير قادرة على النطق.

.
.
.

"إذاً..."
لوح آلان بيده أمامه وهو ينظر ناحية لوسيا بتركيز مردفاً:
"ما الأمر المهم الذي قمتِ بجمعنا لأجله؟"

"ربما كعكة شوكولاه أخرى!"
صفقت جين بكلتا يديها بحماس ناحية الأخيرة التي ابتسمت باعتذار لها قائلة:
"آسفة ربما لاحقاً."

ربت جايدن على خصلات شقيقته الذهبية بلطف وابتسامة حنون حين لاحظ تعابير وجهها التي تحولت للعبوس واستمع للوسيا بهدوء تستكمل:
"لكن لدي خبر قد يساوي قطعة الكعك بالنسبة لكِ، لكم جميعاً."

"ماهو؟!"
اشتعلت ماي بغضب من جهة أخرى ليضحك آلان هازئاً:
"فالتسيطري على أعصابك أيتها الرقيبة."

"يبدو أن أحدهم قد اشتاق لأن يتم صفعه."
تمتمت ماي وهي تعقد يديها أسفل صدرها مناظرة المقصود بتهديد.

ضربت لوسيا بكلتا يديها على الطاولة لتتجه الأبصار المتفاجئة نحوها بصمت في حين قالت هي:
"يارفاق، أنتم بالتأكيد تذكرون الزيارة المفاجئة التي قام بها النبلاء لمجمعنا هذا."

"بالتأكيد نذكر، لقد حررنا جميع المساجين بعد زيارتهم تلك ولم يتبقى في السرداب سوى المتحولين."
تحدث آلان إذ أنه كان أحد المسؤلين عن القيام بالأمر لتضيف ماي:
"ورأينا مبعوثهم أيضاً، إنه نبيل ويرافقه اللواء على الدوام."

"إنه شقيق الملك ذاته."
قالت لوسيا محذرة ليطلق جايدن صوت صفير ويقول بشيء من التعجب الساخر:
"لم أظن أن المقدم أليجاه سيساوي أميراً في المكانة."

"هذه ليست النقطة."
جلست لوسيا على مقعدها مجدداً قبل أن تتنهد مردفة:
"شارلوت حضرت برفقتهم."

"مهلاً! شارلوت كانت هنا؟!"
هتف جايدن بدهشة في حين قالت ماي مضيفة بذات النبرة:
"مع ملك مصاصي الدماء وحاشيته؟!"

قامت لوسيا بلف خصلة من شعرها حول سبابتها مستطردة:
"لا تتفاجأوا كثيراً، إنه ذات الشخص الذي ظهرت معه أعلى الجدار في ذلك اليوم الذي كنا على وشك أن نلقى فيه حتفنا."

"ما الذي يحدث بين صفوف مصاصي الدماء بحق وما علاقة شارلوت التي هامت المدن المدمرة لسنوات بلا هدف بهم؟"
تمتمت جين وهي تهز رأسها للجهتين بغير فهم ليقول آلان رداً:
"من يهتم، نحن نعلم على الأقل أنه لا أحد سيقفز علينا من اللامكان ليشفط دمائنا بعد الآن."

"آلان محق، الأمور تتقدم للأفضل وأستطيع القول أنه إن سارت الأحداث بترتيب معين كما ينبغي فسينتهي هذا الكابوس أخيراً، وأهم ماعلمناه نحن أن شارلوت حقاً صديقة تقف في صفنا."
قالت لوسيا بجدية وهي تضع إحدى قدميها فوق الأخرى مخرجة قطعاً ورقية من جيبها لتضعها على المكتب مردفة بنبرة شابها شيء من الحزن:
"لكن، أنا لم أجمعكم لنقاش أمور المجمع والجيش هذا اليوم بل للتحدث عنها."

"هل هذه؟"
تمتمت ماي مشيرة للورق على المكنب بعينيها لتومئ لوسيا مجيبة:
"هذه القصاصات الورقية منها."

صمتت لوهلة قبل أن تحمحم مردفة:
"الجو أثناء ذاك الاجتماع كان مضطرباً ومشحوناً. لم تسنح لنا الفرصة بالتحدث ولا أن تتلاقى أبصارنا سوى لعدة ثوان، وعندما آن موعد الرحيل قامت بوضع هذه في يدي قبل أن تذهب."

"سيلست غولدن؟"
تمتمت ماي وهي تقرأ شيئاً من محتوى الرسالة لتشعر بأحدهم يخطفها من بين يديها قائلاً:
"أعطني هذا!"

"ماذا تفعل؟!"
هتفت ماي بآلان في حين كان الأخير قد ركز خضراويه على المكتوب متجاهلاً إياها مع قول لوسيا:
"إنه اسم تلك النبيلة التي تم حقن آلان بدمائها، يبدو أنها قد فارقت الحياة بطريقة ما، كل مافهمته من تلك الكلمات التي كتبتها بأنها سعيدة أن دمائها ساعدت في جعل ذلك الطفل الصغير يكبر أمام عينيها بصحة جيدة."

"لقد شعرت بذلك..."
تمتم آلان بصوت خافت في حين كانت عيناه قد اختفتا خلف خصلات شعره البنية حين أخفض رأسه أكثر مردفاً:
"في تلك الليلة حين نظرت نحوي بتلك الابتسامة الحزينة علمت أنني لن أراها مجدداً."

"آلان."
غمغمت جين بحزن عندما رأت عدة قطرات مالحة تسقط من وجهه على الورقة بين يديه قبل أن تقوم بلف يديها حول عنقه معانقة إياه بلطف.

"لقد كتبت شارلوت بضع كلمات للجميع يمكنكم قرأتها لاحقاً."
قالت لوسيا بنبرة هادئة وبابتسامة باهتة قبل أن تشهق نفساً قصيراً وتردف:
" 'آسفة يا رفاق. لا أظن أن الوقت سيسعفني للإعتذار منكم بشكل صحيح، لإخفاء مرضي والكذب مراراً أتمنى أن أراكم وأخبركم بكل شيء كما ينبغي، لكن حتى لأحلامي بُعد معين يمكن أن تصل إليه.' هذا ما كتبته في النهاية."
أردفت مغطية وجهها بيديها بسخرية تراجيدية:
"بخط معوّج والكثير من الأخطاء النحوية والإملائية."

"تلك الحمقاء، لما لا تعود الآن؟ ما الذي تفعله؟"
هتفت ماي بحنق محاولة إخفاء حزنها وهي تخطف قصاصة الورق التي كتب عليها اسمها من على المكتب لتخرج صافعة الباب بقوة.

"أنا بخير."
تمتم آلان وهو يقوم بثني الورقة ليضعها في جيبه ثم يبتسم في وجه جين قائلاً:
"هيا لأعيدكِ لغرفتكِ."
أومأت جين بصمت محتضنة قصاصتها الخاصة بقوة لصدرها قبل أن يختفي كلاهما بالمثل.

"يبدو أنني سأرحل بدوري فلدي عمل خارج المجمع."
قال جايدن وهو ينهض صاحباً قطعة الورقة الخاصة به قبل أن يرفع عيناه الزرقاوين بحاجبين معقودين نحو لوسيا التي قالت:
"ما الذي فعلناه نحن بالمقارنة بها لنستحق حياتنا هذه؟"

"لا تتحدثي هكذا."
أجاب جايدن بهدوء وشيء من العتاب لتنظر له بعينين أغرقتا دموعاً حين أردف:
"إن كنتِ تشعرين بأنكِ لم تنجزي شيئاً فافعلي، مازال لديكِ الوقت."
عضت على شفتيها بقوة وهي تسمع صوت باب مكتبها يغلق مجدداً قبل أن تنظر لرسالتها القصيرة.

'آسفة.
تعلمين لما اعتذر.
الكتابة صعبة.
توقفي عن التشكيك بقدراتك، استجمعي شجاعتكِ، أنتِ لها.
أنا واثقة بأنكِ ستصبحين شخصاً مميزاً في المستقبل بطريقتكِ الخاصة لوسيا.'

"المستقبل؟"
غمغمت وهي تسند رأسها لطاولتها العريضة قبل أن تغمض عينيها بتعب.

.
.
.

"عمتِ مساءً."
قال آلان وهو يغلق باب غرفة جين التي عادت لآلات المشفى مجدداً رغماً عنها.

ابتسمت هي له بالمقابل قبل أن ترى ظله يختفي خلف الباب.

فتحت القصاصة بسرعة ولهفة لتقرأ الجمل الثلاث.

'اعتذر...
لن أستطيع تعليمكِ الخدع بعد الآن، لأنني واثقة بأنكِ ستبتكرين ما هو جديد حتى من دوني.
الفكرة تجعلني أشعر بالغيرة، لكن يجب أن أعترف... جين أذكى مني بكثير.
أحبكِ.'

ابتسمت جين قبل أن تضحك بصوت عال تحول تدريجياً لأخر خافت وتنظر لما خلف نافذتها الزجاجية هامسة:
"أنا من يجب أن تعتذر، فلا أظنني أستطيع إنقاذ أحدهم مثلكِ بعد."

.
.
.

'توقفي عن الغضب فلاحظت في الفترة الأخيرة بأن التجاعيد بين عينيكِ قد ازدادت، لا أمزح.
لا تشتميني رجاءً، أنا أحاول أن أكون صريحة وحسب. لمرة على الأقل.
قلبكِ مشتعل، مصدر دفء لهذه العائلة.'
قامت ماي بتكوير الورقة بعشوائية بين كفيها قبل أن ترميها جانباً.

نظرت للكرة التي صنعتها لبضع دقائق صامتة قبل أن تجلس بجانبها ثم تتمدد واضعة إياها نصب عينيها، تنهدت بصوت مرتعش قبل أن تسمح لدموعها بالهبوط ببطء.

.
.
.

جايدن وقف أعلى برج المراقبة يحدق بالغيوم التي لبدت السماء قبل أن يتنهد.

'لم أظن أن اليوم الذي نفترق به سيحين سريعاً.
رغم أنني كنت أنا من ينقذ مؤخرتك إلا أنها أنا أيضاً من كانت تشعر بالأمان بجانبك.
أتمنى لك السعادة يا أخي الصغير.'

سمح للنسيم البارد بأن يلفح وجهه من أسفل الشال الذي التف حول عنقه.
"أنا اكبر منكِ ببضع سنوات بوضوح أيتها الأخت السيئة."

.
.
.

"أتمنى ألا قد يكون سموك قد أصابه الملل من مجالستي."
قال اللواء آشتون كلماته وهو يحرك قطعة شطرنج جديدة من مربعها الأبيض لأخر أسود.

عينا لوكسياس كانتا تحدقان بحركاته بدقة قبل أن يمد يده بدوره ويحرك وزيره مجيباً:
"أبداً، لما تطرح مثل هذا السؤال الكئيب؟"

نفث آشتون الهواء بلهثة ساخرة وهو يحرك حصانه عشوائياً مجيباً بصراحة:
"أنا لاعب فاشل، لا فرصة لي أمامك."

"غير صحيح."
نفى لوكسياس ثم راح يقوم بإخراج قطعة تتلوها أخرى تحت نظرات آشتون المرتبكة لخسارته مهما كانت الحركة التي يرد بها.
"أنا أغش وحسب."
ابتسامة شبحية رفعت أطراف شفاه الامير الثاني.

وصل لنهاية الرقعة وحاصر الملك مردفاً:
"مات الشاه."

"هل تنبأت بتحركاتي؟"
سأل آشتون بإنبهار وهو يميل بجسده للأمام باهتمام بعد أن كان جالساً بملل في مقعده.

"حفظ كل الاحتمالات الممكنة والحركات والنهايات أمر سهل لي، أنا لا أقوم باللعب بل بتطبيق ما قمت بتخزينه في ذاكرتي."
أجاب لوكسياس ببساطة.

"هذا ليس غشاً، بل ذكاء."
علق آشتون نافياً وهو يعقد يديه أمام صدره لينظر له لوكسياس بطرف عينه قائلاً:
"مهما بلغ عدد الحركات التي تستطيع القيام بها، هنالك دائماً أكثر من حركة واحدة مضادة لكل حركة هجومية، مازلت تستطيع الفوز. عليك فقط ان تكون ماكراً قليلاً."

ارتاح آشتون في مقعده مجدداً وهو يسأل لوكسياس الذي عاد لترتيب الأحجار بغتة:
"هل تستمتع بتواجدك هنا؟"

يد لوكسياس توقفت فجأة لينظر نحو محدثه مجيباً:
"إن كنت تعني بمتعة متعتي الشخصية فأظن أن الإجابة هي نعم."

عيون آشتون الرمادية تضيقت وحاجباه تقاربا.
"حتى حين يتجنبك الجميع ويفر منك الأطفال؟"
سأل باستغراب.

"هذا طبيعي."
أجاب لوكسياس وهو يزيح الخصلات التي غزت وجهه للخلف سامحاً لآشتون برؤية وجهه أكثر قبل أن يردف:
"أنا مصاص دماء، كائن يستطيع قتلهم في غمضة عين، من غير المتوقع ألا يكونوا خائفين مني وأنا أتفهم."

"إذاً؟"
تمتم آشتون لينظر لوكسياس في عينيه مباشرة مجيباً:
"مهمتي هي تقليص المسافة بيننا لنتغلب على هذا الهاجس، حتى مصاصي الدماء في المملكة يمكن أن يكونوا خائفين من مبعوثكم، لأنهم غير محصنين فطعنة واحدة من سلاح فضي في الصميم تحولهم لرماد."

"محق."
اتفق آشتون ثم قام بشبك أصابعه ببعضهم البعض أمامه ليبتسم مردفاً بعد لحظة من الصمت:
"لنلعب شوطاً أخر، لكن هذه المرة أنا سأهزمك."


**********

ليس الفصل الذي يدغدغ القلب
أكان؟

دمتم بخير
ناخت♥️

Continue Reading

You'll Also Like

267K 20.5K 34
هُناك صراع دائِماً بِداخلنا، مشاعر مُتضارِبة، أفكار مُشتتة، فراغ داخلي، خوف، كُره، حُب، رغبة، شهوة، هُناك أيضاً ملائِكة وشياطين . وتزداد هذه الصراع...
6.7K 993 38
"هل خنتِ ثقة أحد من قبل يا أنجل؟" كان سؤاله هامسًا وجفناه مرتخيان. نظرتْ له بشرود. ما الذي يريده الآن؟ "لا. لستُ من النوع الخائن." أجابتْ بصرامة ثم ب...
422 94 9
ينطوي الزمن ونحن تحت الأرض نحيا، كما الأموات في رقودهم في القبور، في سلام واستسلام. فالهوّة المفروضة التي بيننا وبين المتنعمين فوق الأرض، قد أنستنا...
590 261 11
و القراءة ليست مجرد سرد كلمات بنسق وترتيب معين ... مفهومها أعمق ... أن تستفيظ مشاعرك ... ويكون لروحك حضور بدل عقلك ... أن تقرأ بمثل لحن الكاتب ... أ...