نيـوتروبيـا

By Die-Nacht

275K 18.8K 25K

"أعطـني لأعطـيك" هـذه قصـة الطـفلة التي اعتمدت هذا القانون كحل وحيد وأوحد للنجـاة في عالمـها المشـوّه. هي تل... More

-1- بداية السقوط
-2- مجمع القطب
-3- مصيدة الثعلب
-4- كهرمان
-5- خلف جدرانهم العالية
-6- الحرب
-7- رائحة دم
-8- إكصاص
-9- شِقاق الزهور
-10- السرداب
-11- عيون الصقر
-12- سيلست غولدن
-13- سليل السلف الأول
-14- هذا وذاك
-15- بحلة الخريف الأحمر
-16- صندوق زجاجي
-17- مشارف الموت
-18- لاشيسيا
-19- دموع شارلوت
-20- سمفونية أبواق الهلاك
-21- لأجلكِ أيتها الفاوانيا
-22- بئر من الأوهام
-23- رؤى
-24- رسائل السلام
-25- الأول والأخير
-26- أضواء باهرة
-27- آل والثعلبة السوداء الصغيرة
-28- قمر حقل البنفسج
-29- خزف
-30- الدرجة رقم سبعة عشر
-31- دماء ورثاء
-32- بركة الملح
-33- قلوب بلا عيون
-34- أحضان الشمس الدافئة
-35- شتاء ديستوبيا الأخير
-35.5- ومضة
-36- ربيع الأرض الجديدة
-37- واجبات الحرس
-38- الكناري الصامت
-39- شبكة من خيوط الماضي والحاضر
-40- أجيال
-41- تمرد الوحوش
-42- الشمس والقمر
-43- خلف مخمل الستار
-44- رماد عينيه
-45- سالب
-46- سم وعسل
-47- شيطان
-49- زهرة النوكس المشؤومة
-50- حنين للحنان
-51- الجوع أهون من النزع
-52- تباين

-48- براءة عذراء

521 42 351
By Die-Nacht

وقفت شارلوت أمام الكرة التي سجنت طفلها خلف زجاجها الثخين، لم ترد أن تراه أسفلها مجدداً أبداً، لكن شاءت الأقدار أن تسحبه نحو ذلك السجن المظلم أسفل الأرض مرة أخرى وبحال أسوأ مما مضى. اضطروا لتكبيله والتخوف مما قد يفعله عندما يستيقظ من سباته فالحال التي يدخلها لا يخرج منها بسهولة.

أناملها سارت على الزجاج علها تطال وجهه الشاحب وتتلمسه. هبتها تستطيع اقتلاع زنزانته وتحطيمها بسهولة لكنها علمت أنه وبقدر ما كان هذا الحاجز يبعده عنها بقدر ما كان يحميه من آلام الخارج التي لم يتسبب أحد له بها سواها.
"آسفة يا صغيري."
تمتمت باعتذار ألف لسانها طعمه المر. ظنت بأنها لن تتفوه به مجدداً، قامت بالصلاة لآلا تفعل لكن... ومجدداً لكن... لا تسير الأمور كما يشتهي المرء دوماً.

وجدت هواجس الحاضر تستدعي مخاوف الماضي والذكريات. التحديات والمشاعر المتأرجحة بين السعادة الغامرة والبؤس القاهر.

...
"جلالتكِ..."
قام زافير بتقديم انحناءة احترام لشارلوت لكن حين لم تقم الأخيرة بأي حركة أو تنبس بأي رد وآثرت التحديق من نافذة المكتبة نحو الخارج رفع رأسه بنظرة ضيقة، نظرة فضولية عما قد يكون يدور في خلدها.

عقد يديه خلف ظهره واقترب من بقعتها تاركاً بصره ليلاحق خاصتها. كانت تحدق بالجمع الذي احتشد في حديقة القصر الأمامية.
"سمعت أن هيرو سيرحل في جولة حول المملكة لعدة أشهر لكنني لم أدري عن كل هذه الوجوه الجديدة التي سترافقه."
تحدثت بنبرة معتدلة دون أن تحيد بناظريها عن هيروزيوس الذي حافظ على ابتسامة مجاملة لمن حوله من نبلاء مهندمين ونبيلات فاتنات. يدردشون مع بعضهم البعض ريثما كان الخدم يقومون بحمل متعلقات ملكهم نحو المركبة التي ستساعده على التنقل براحة حول مملكته.

"إنها فرصة بالنسبة لهم، فالنحل ينجذب للرحيق السائغ."
أسدل زافير أهدابه الذهبية ونبس بكلماته بخفوت.
"لا أدري ما إن كان الوفاء الأعمى أم صحوتكِ في الوقت المناسب ما حمى هذه الزهرة حتى اللحظة لكن..."
شاهد أناملها بقربها تنقبض على مرأى إحدى السيدات تقوم بتركيز دبوس برونزي تعلق أعلى كتف هيروزيوس قبل أن تتراجع بضحكة قصيرة تدعي فيها الإحراج من تصرفها 'العفوي'.
"إن كانت تذبل بالفعل فمئات النحلات سيردن بسرور إنعاشها."
استطرد وهو يفتح عينيه على مهل ليستشف ردة فعلها فوجدها تبتسم.

"زهرتي ستكون على ما يرام."
أعطته ظهرها واتجهت نحو طاولة دراستها.

"ألن تقومي بتوديعه؟"
سأل زافير من بقعته دون أن يتحرك أما شارلوت فسيرت أناملها على الطاولة الرخامية الطويلة تتفقد عناوين الدراسات والكتب التي ارتصفت كلٌ بدوره أمامها ينتظر أن يتم الإطلاع عليه.
"حدثني بالفعل عن رحيله منذ بضعة أيام."
أجابت.

ترك زافير يداه لترقدا بجانبه. نظف حلقه وأضاف:
"أعني بطريقة رسمية."

سمعت شارلوت عن شيء من هذا القبيل، توجب بها مرافقته كملكته حتى الباب الرئيسي وتوديعه بكلمات لطيفة. عنتها أم تمثيلاً كان، كل هذا يعتبر من واجبات الملكة.

"وهل أنا رسمية؟"
سخرت من نفسها دون أن تنظر له أما زافير صمت على سؤالها فضحكت معللة موقفها بوضوح:
"سأحدث بلبلة الآن إن ظهرت أمام العيون وأنا الملكة الغير شرعية التي لم يوافق عليها النبلاء والتي خلدت للنوم تاركة مملكتها تغرق في الوحل وماء وجه ملكها ليجف."

توجب بها مرافقته في المقام الأول، ما معنى الرسميات إن كانت محاولة لتغطي ما على هو أسوأ؟
يجب عليها أن تجلس هنا وتتعلم كيف تكون ملكة قبل أن تشرع بالتبختر بذلك. يجب أن تستحق ذلك.

"مضت عقود خلال سباتي وسنوات على صحوتي."
أراحت كفها ضد دستة من الكتب المخملية وابتسمت بمرارة توجب عليها تحملها.
"أنت من بين الجميع يا زافير تدرك أن لا شيء الآن مما أفعله قد يهم بقدر ظهوري الأول كملكة."

لم يتم الإعلان عن حال القصر وملوكه لكن الشائعات انتشرت ومازالت وليتم تناسيها يجب أن تظهر كالجوهرة التي كان يتم صقلها بتمعن واهتمام لمصاصي الدماء وليس الشابة قليلة الشأن.

"أيضاً..."
استدارت نحو زافير وقبضت أناملها أمام وجهها مبتسمة بشراسة.
"لا يمكنني فقط القيام بهرس النحلات فهن مفيدات للخلية. سأقوم لاحقاً بإبعادهن بلطف وإن رفضن فسيتوجب علي تحمل بعض اللسعات."

صدر زافير اهتز بضحكة قصيرة جعلت شارلوت توسع حدقتيها بدهشة. نست متى كانت أخر مرة ضحك فيها المستشار الملكي العظيم، لم تكن ضحكة سخرية ولا مرح لكن شيء آخر.
"هذا مبشر يا فخامتك."
نطق أخيراً بشيء من الافتخار.

"إنها لسابقة، أستاذي يبتسم؟!"
جلست على مقعدها المعتاد وأسندت كفها لوجنتها.
"هذا يعني بأن أسلوب حديثي يتطور بطريقة مرضية."
مدحت نفسها وهي ترفع أنفها عالياً أما زافير فزادها دهشة حين جلس بقربها على الطاولة ونبس بابتسامة بسيطة على محياه:
"بالفعل..."

أزاح كومة الكتب العتيقة التي كانت تتصفحها عن أساليب الكلام وعقد أنامله على الطاولة الرخامية مستطرداً:
"ولهذا سنعمل تالياً على تصرفاتكِ."

"تباً."
زفرت من أسفل أنفاسها أما المستشار فتنهد بقلة حيلة إذ أنه يدري بأن طباعها البرية لن تتغير سريعاً وربما أبداً لكنها غدت أفضل بإخفائها.

"لستِ في ساحة حرب يا جلالتكِ لتتركي الرعايا ليتطاولوا عليك."
جلس براحة في مكانه ونظر لوجهها بجواهر الزمرد التي زينت عيناه، شيء ما التمع فيهما وجعلها تبتسم حين رفع شفاهه بابتسامة متكلفة وشرح قصده:
"سأعلمكِ كيفية تربية النحل فلا تتجرأ إحداهن على التفكير بلسعكِ حتى."

.
.
.

"فخامتكِ، ما رأيك بتناول شيء، ما هو حلو ربما؟"
قاطعت ماشميا سهوة شارلوت التي استمرت لبضعة أيام متواصلة بلطف. كانت الأخيرة تجلس في نافذة غرفة دراستها في المكتبة بعد كل درس وتحدق بالحديقة والطريق المؤدي للبوابة الرئيسة لساعات طويلة. من هنا رأت شارلوت هيروزيوس يخرج دون أن تودعه بحق. برسمية أم لا، لم تشعر بأنها ستندم على الجفاء الذي واجهته به عندما أخبرها عن رحيله.

"لقد مرت عدة أشهر بالفعل."
عانقت ساقيها لصدرها.
"عندما أخبرني بأنه سيتركني لقرابة الثلاثة أشهر أول ما شعرت به كان الخوف، فكرت أنه هلع على نفسي فسألته بمن سأحتمي بدونه في الأرجاء؟"
تحدثت، كانت تعني نفسها بالكلام أكثر من وصيفتها الصغيرة التي حدقت بها بابتسامة أسف واستمعت بصمت.

لم تظن شارلوت بأن جسدها سيأبى الحراك بعد أن شاهدت موكبه يختفي عن ناظريها هكذا والآن... أصبحت كالقط الذي ينتظر صاحبه المفضل ليعود، تجلس هنا ليلاً وما يتفرغ لها من الوقت في النهار.
"هيرو ابتسم رغم أنه أظهر شيئاً من الدهشة للحظات قصيرة، أكانت تلك بسمة خيبة يا ترى؟"
غمغمت بخفوت ودفنت وجهها بين ذراعيها لتضيف:
"طمأنني بأنني سأكون بخير فتركته بملامح متقضبة بعد أن وعدني بأنه لن يطيل. شعرت بضيق مؤلم في صدري."

تنهدت وهزت برأسها.
"اكتشفت كالعادة متأخرة كم كنت أنانية مجدداً بحقه، وأنه قد توجب بي إخباره بأنني غير خائفة على نفسي بقدر ما أنا قلقة عليه وحسب..."
هو كان ملكاً شاباً لديه من يحبه ومن يبغضه بين أفراد شعبه، هي في مأمن بين جدران القصر لكن هو فلا.

ضغطت قماش لباسها وعيون ماشميا اتسعت على مرأى جواهر لامعة تنزلق على وجنتي ملكتها حين استقامت بظهرها لتضغط أصابعها بعنف ارتعشت له يداها.
"لأنه لا يهمني أي شخص بقدره، لأنني أحبه."
الجلوس لوحدها لفترات طويلة جعلها تسهو وتستذكر لطفه معها وطباعه اللينة التي كان يخفي خلفها أثقال كاهله كملك. تلك الأمور الكثيرة التي استلمها زافير منذ فترة ويستشيرها بها لتعاونه ويعلمها باستخدامها بالآن ذاته.

ماشميا اقتربت بخطوات مدروسة وانخفضت أسفل قدمي ملكتها لترفع رأسها وتطلب برجاء:
"اعتني بنفسكِ يا جلالتك، فخامته لم يكن ليريد رؤيتكِ ذابلة هكذا حينما يعود وإن كنت تظنين بأنك أضعت الوقت أو أخطأتِ بحقه فاعلمي أنكِ تمتلكين المزيد منه  لتصلحي ما تظنينه معطوباً فاغتنميه."

حدقت شارلوت بالقمر الذي انتصف السماء لبضعة لحظات إضافية ثم أسدلت أهدابها لتريح عينيها فتغفو سريعاً بعد فترة طويلة من عدم القدرة على إغلاق جفونها.

ماشميا نهضت على ساقيها ووقفت هناك بهدوء.
"تبدو فظيعة."
حركت عيونها الدامية نحو إيدغار الذي تخصر بقربها.
"ماذا تظن؟"
استفسرت رغم أنها لم تهتم بحق لرأيه لكنه كان يتسكع حول ملكتهم مؤخراً أكثر من العادة وتشعر بالفضول حول ما إن كان قد لاحظ شيئاً.

"زيارة للطبيبة لن تكون سيئة."
هز بكتفيه وهم بالرحيل لكن ماشميا التي استاءت رفعت صوتها عن الهمس:
"مهلاً، ما الذي تعنيه؟!"
وبالطبع لم تحصل على جوابها.

شارلوت على الجهة الأخرى نامت بلا أي شعور لما يحدث حولها ولم تدري كم طالت غفوتها، وحتى حين وصلت أصوات خطوات غير مألوفة مسامعها لم تعبأ بإصدار ردة فعل عنيفة فحين تلقى الزائر ضربة جعلت جسده يرتد بضعة أمتار للخلف من قبل إيدغار قامت برفع رأسها على مهل والتثاؤب.

"لم تكن تحاول أذيتي."
فركت عينيها لتزيل شيئاً من أثار النعاس الذي لم يفارقها وتركت ساقيها لتتدليا للأسفل عندما مالت بجذعها صوب إيدغار الذي وقف بينها وبين الزائرة الأنثى، تلك التي ركعت على ركبتيها من فورها.

"أعرف، لكن لمسكِ ممنوع دون إذن يا ملكتي."
قام إيدغار بطرقعة أصابعه فما كان من شارلوت سوى بالإمساك به من عضده لتوقفه عن أي كان ما سيحاول القيام به تالياً.

حدقت من فوق كتفه بالأنثى التي ارتدت لباساً شابه خاصة الفرسان الملكيين أسفل عباءة طويلة غطت الكثير منها.
"اعذري دخولي بهذا الشكل يا جلالتكِ."
تحدثت بصوت رزين، وإيدغار أجاب عذرها بسخرية:
"فات الآوان على الاستئذان."

أزاحت مصاصة الدماء القلنسوة عن رأسها لتتدلى ضفيرتها الفضية على كتفها ويظهر وجهها بعيونها القرمزية القاتمة واضحاً لشارلوت التي لاحظت على الفور أن ضيفتها تنتمي لقبائل محاربي الشمال المعروفين بعيونهم الداكنة.
"أدعى دينيز. سليل إحدى عوائل محاربي الجبال العالية. جلالته اختارني بشكل خاص ليرسل معي رسالة لأجلكِ."

"وكيف علي أثق بك؟"
استفسرت شارلوت بشيء من الشك.

"جلالته علم بأن التشكيك بي سيطرأ إذ أنني وجه غير مألوف فأرسل معي هذه."
فتحت دينيز كفها وأظهرت زر قميص ذو حجر داكن لماع.

"هذا زر أحد أكمام قميص هيرو بالفعل."
نهضت شارلوت وتخطت إيدغار لتتناول الحجر الكريم من بين أنامل دينيز بدهشة.

"كان بإمكانه إرسال رسالة بخط يده وحسب."
تذمر إيدغار وهو يعقد ذراعيه أمام صدره أما شارلوت فهزت رأسها للجهتين وتأسفت:
"لا يستطيع... لأجلي."
همست كلمتها الأخيرة بخفوت.
شعرت بوجهها يتورد بدفء، هذا يعني أيضاً بأنه كان قد لاحظها تحدق به من النافذة قبيل رحيله واختار زر القميص الذي ارتداه يومها.

"أصدقكِ، فالتنهضي."
ابتسمت شارلوت لدينيز التي أومأت برضى ثم نهضت واقفة.
استدارت نحو إيدغار وأضافت:
"إنها ضيفتي."

"كما يحلو لكِ."
لوح إيدغار بكفه قبل أن يختفي بين رفوف المكتبة العالية.

"أفهم لما قد تثقين بأنني مرسولة بسهولة لكن أولستِ قلقة من ما إن كنتُ أملك نوايا فاسدة؟"
إلتفتت شارلوت نحو دينيز التي استطردت بجفاء:
"لا أجد إرسال مرافقكِ بعيداً أمراً حكيماً."

"أنتِ حقاً شخص جلف."
ابتسمت شارلوت ثم سارت نحو مقعدها لتشير لها بالإقتراب والجلوس بجانبها مضيفة:
"لكن أنا أثق بخيار هيروزيوس الذي قام بإرسالك لي في المقام الأول."

"اعذريني لكنني لن أجلس."
اعتذرت دينيز بإنحناءة بسيطة من جذعها ثم استأنفت بوجهها الثابت:
"لست فارسة أو حتى محاربة عظيمة، تقاطعت دروبي مع جلالته فعرض علي توصيل أخبار صحتكِ له بمقابل سخي، هذا كل ما في الأمر."

شارلوت رفعت حاجبيها بشيء من الدهشة على الصراحة التي واجهتها من قبل الشابة الغريبة لكنها سرعان ما رفعت ساقاً فوق الأخرى وابتسمت بإعجاب.
"لا حرج من ذلك."
لوحت بكفيها على جانبي وجهها وأضافت:
"كما ترين أنا بخير، يمكنك نقل هذا لهيروزيوس بحرفيته."

ملامح وجه شارلوت انخفضت وتنهيدة حزينة تركت شفاهها.
"حقيقة وجودكِ هنا تعني بأن غيابه سيطول."

أومأت دينيز برأسها وأضافت:
"جلالته يعتذر عن ذلك، أخبرني بأن أعلمك بأن رحلته قد تطول إذ أن مشاكل الدويلات الصغيرة كانت أكثر من ما يستطيع التعامل معه بين يوم وليلة بل وأعوص من الكبرى التي تقع أسفل أنظار النبلاء."

عقدت شارلوت أناملها في حجرها وهمست:
"لا يهم، هل هو بخير؟"

"لم يتحدث عن نفسه كثيراً لكن لعيني جلالته بدا بصحة جيدة."
دون أن تتغير نبرتها دينيز أخبرت شارلوت بما لاحظته. تلك الأخيرة أرادت رد الرسالة بواحدة فبسطت شفاهها ونطقت ببضع كلمات يسهل حفظها:
"أنا انتظره."

"أي شيء أخر يا جلالتك؟"
قامت دينيز بتركيز قلنسوة رأسها فنهضت شارلوت باستغراب.
"ألن تباتي الليل على الأقل؟"

"لا، للنهار عيون كثيرة."
أجابت دينيز باختصار وشارلوت تفهمت رغبتها بالرحيل، مصاصة الدماء ذكرتها بنفسها التي ترتحل هنا وهناك.
"إن كان قد عرض عليكِ هيروزيوس عملاً في القصر فأرجوا أن تقبليه."
تحدثت بهدوء وتلك أظهرت أخيراً بعض تعابير الدهشة.
"كيف عرفتِ أنه فعل؟"
سألت وشارلوت هزت بكتفيها. لم تملك الجواب الشافي بحق.
"مجرد ظن كان في مكانه."

نفخت دينيز أنفاسها ثم قدمت إنحناءة أخيرة قبل أن ترحل ويختفي حضورها كما ظهر.

"استأجر شاردة من قبائل الشمال فقط ليبعث برسالة ويتأكد من أنكِ بخير."
إيدغار استند لرف عشوائي، عيناه الكهرمانيتان تحدقان بظهر شارلوت التي عادت لتجلس مكانها بهدوء غريب.
"هذا مبالغ به بطريقة مريبة."
أضاف أما شارلوت فقضمت إبهام يمناها بين أسنانها بقلق.
"هذا يعني بأنه مهدد، بأن بعض الأطراف غير راضون."
همست فتنهد ذاك من مرأها ترتعش بخفة في مكانها.

"سمعت أن هذا ما يحدث لكل ملك."
سار بخطى متمهلة نحوها. وقف خلفها أعلى رأسها وأضاف بهدوء:
"لذلك زوجك يرتحل حول المملكة الآن، ليس فقط ليحل مشاكلها بل ليثبت نفسه. طالت فترة غيابه، هذا يعني بأنه يمتلك بعض الأعناق لقصها."

رفعت شارلوت رأسها نحوه.
"أتحاول مواساتي؟"
ابتسمت.

"مقرف."
أخرج إيدغار لسانه، لم يستطع تحمل فكرة أنها تظن بأنه يعطف عليها.
"ما أقوله الحقيقة التي لم يسردها هو لكِ وحسب لكي لا يشغل بالكِ."
لوح بكفه بلا اهتمام.
"أتوق لرؤية الهالات السوداء أسفل عينيكِ تزداد سوءاً."

تصرفه كان من المفترض أن يغيظها لكنه أضحكها، عقدت أناملها في حجرها وهمست بامتنان:
"شكراً."
لكنه كان قد رحل بالفعل. لم يرد سماع ذلك.

.
.
.

"بإمكاننا التخلي عن فكرة توسيع النهر والاستغناء عنها بالتعويض بعمليات حفرية تزيد من عمقه مما يسمح لـ السفن الكبرى بوصول ميناء السايكر في الغرب عوضاً عن تفريغها في محطات ونقلها براً."
اقترحت شارلوت لزافير الذي كان يناظر مخططات كان قد عرضها عدة مهندسين عليه لحل أزمة النقل التي طرأت في موسم الحصاد في الشرق. كاد نقلها للغرب يكلف الكثير من المصادر والوقت وآن آوان استثمار أموال المملكة المخزنة منذ وفاة الملك السابق في مشاريع جديدة.

"هذه فكرة ملائمة نوعاً ما يا جلالتك، لابد أن الحت النهري الذي تشكل على مداى السنين الماضية سيجعل الأمور أسهل."
علق زافير بشيء من الرضى وشارلوت غمغمت بخفوت:
"حت نهري؟"

"ألا تعرفين ما هذا؟"
سأل وهو يجمع الأوراق فكانت شارلوت صريحة رغم حرجها.
"لا أفعل."
أجابت بضحكة متوترة.
"ما جعلني أقترح فكرتي هو جغرافيا الأراضي على طول النهر العظيم، إذ أنه يمر بمضيق جبلي يجعل توسيعه بطريقة عرضية أمراً صعباً بينما تبدو فكرة التوسيع الطولي رغم صعوبتها ملائمة أكثر."
درست جغرافيا المملكة الخفية لكنها مازالت لا تفقه الكثير عن علومها.

"هذا سبب جيد لأخذه بعين الاعتبار لكن يوجد أبعاد كثيرة للمشكلة بين يدينا..."
قام بتسليم المخططات لمرافقه الذي وقف خلفه باستعداد واستطرد:
"لكن سيتم إعادة النظر في أمر مخططات هؤلاء المهندسين بأخذ الاعتبار باقتراحاتكِ مجدداً."
شارلوت ابتسمت على حقيقة أنها تقوم بعمل مقبول إذ أن زافير لم ولن يجاملها، إن كان ما تتفوه به فقط بعض الهراء فسيخبرها. أحست وكأنها تحصد ثمار جهدها في التعلم رغم أنها تكاد تقسم على أنه يعلم كيف يحل كل هذه المشاكل دون سؤالها، اختباراته لا تنتهي.

"التالي..."
تسلم ملفاً مخملياً وقام بفرز أوراقه أمامها، لا تعلم كم مر من الوقت وهي جالسة في مكانها هذا خلف مكتب هيروزيوس أو متى بدأت تفعل ذلك بالضبط، كان مساعدوه المعتادون حولها في البداية مضطربين لكنهم الآن أكثر هدوءاً ولم تعد تسمع بربرتهم في الخارج. لقد مضت تسعة أشهر بالفعل.

"جلالتكِ؟"
خاطبها زافير فرفعت بصرها نحوه مدركة أنها شردت مجدداً.
"مارأيكِ ببعض الراحة؟"
سأل مناظراً ساعة الجيب البلاتينية التي كانت دوماً ما تتدلى من جيب معطفه.

"هذا يناسبني."
لم تستطع الرفض، بل لم ترد ذلك. زافير أومأ برضى ثم انحنى ليغادر ويتركها وحدها في مكانها.
تقوم بالعمل نهاراً والدراسة ليلاً، النوم لا يجافي عينيها وقلقها كان يتناولها. أرادت أن تؤمن أن الرابطة ستطلعها إن حدث أمر سيء لكنها مازالت لا تفهم خفاياها.

عيونها ارتفعت نحو باب المكتب حين تم النقر على خشبه مرتين قبل أن يتم فتحه وتظهر الطبيبة بمعطفها الأبيض الطويل من خلفه.

"لاتشيا؟"
غمغمت شارلوت بعدم فهم، لم تعلم لما عل الطبيبة تأتي لها هنا والآن.

"لاحظت في الفترة الأخيرة أنكِ لا تهدأين."
قامت لاتشيا بدفع الباب بجذعها ليغلق.
"أتتجنبينني؟"
رفعت حاجباً على ملكتها وشارلوت ادعت الجهل:
"لما علي أفعل ذلك؟"

"لتخفي أنكِ على سبيل المثال مريضة..."
اقتربت لاتشيا على مهل من شارلوت وهي تجمع خصلاتها خلف رأسها تاركة ملكتها لتتنحنح في مكانها بغير راحة.
"عما تتحدثين؟ لما علي أصمت إن شعرت بتوعك؟"
سألت شارلوت أما لاتشيا فأمسكت بمعصمها لتتلمس عروقها الزرقاء البارزة.
"لأنكِ مازلت ساذجة حتى ذلك الحد الذي يترككِ غير قادرة على التفرقة بين كونكِ مريضة أو مهمومة."
أجابت الطبيبة أخيراً وهي تقارب حاجبيها بنظرة قاسية.

"أنتِ مصابة بـ ا.ع.غ..."
تحدثت لاتشيا بعد أن فحصت عينيها.

"ما هذا؟"
استفسرت شارلوت بقلق، لا يمكنها أن تمرض الآن، فرصتها لإثبات نفسها ستضيع.

"اضطرابات في عمل غددكِ."
أجابت لاتشيا ببساطة وكأنها كانت تتوقع ذلك، الأمر الذي جعل شارلوت تسأل:
"والسبب؟"

"تغيير غذائكِ، كنت مغنجة فلا تشربين سوى دماء جلالته لكنه ليس هنا منذ فترة فاضطررتِ فجأة للتغيير، ليس ذلك فحسب بل والتبديل المستمر. كنتِ تحصلين على غذائك من مصدر واحد، مصاص دماء أما الآن فمختلف البشر."
شارلوت قاربت حاجبيها.
"أهذا يعني أنني لن أعيش دون دماء هيرو؟"

لاتشيا هزت برأسها.
"بلى، لكن التغيير المفاجئ تسبب بهذه الاضطرابات التي تترككِ منهكة لكن غير قادرة على إغماض عينيكِ، أنتِ التي تحتاج للنوم أكثر من أي مصاص دماء عادي."
نظراتها تضيقت تستجوبها بشك:
"أتنامين؟"

"أفعل."

"دون كذب الآن."

شارلوت تنهدت معترفة:
"لا، لست قادرة على أن أغفو، أنا أفقد الوعي."

"كما توقعت."
لاتشيا عقدت ذراعيها.

"والحل؟"
نهضت شارلوت من مكانه بقلق.

"أن تعودي لاستهلاك دماء جلالته لكن حذاري من العودة لشرب دمائه وحسب، قد تتسببين بصدمة عكسية لأنظمتكِ وعاهات مستديمة."
ركزت الطبيبة معطفها وكأن ما تصفه أمر بسيط.

"أنتِ تخيفينني الآن لاتشيا."
شارلوت قهقهت بلا فكاهة على برودة الطبيبة.

"صدقيني، لو لم يكن الأمر مهماً لما وجدتني أراقبكِ لشهور."
لاتشيا حشرت يديها في جيوبها وهمت بالرحيل تاركة شارلوت لتجادلها:
"لا أظنني أستطيع...."

"أنا طبيبة فيزيائية ولست طبيبة القلوب..."
قاطعتها، أعطتها نظرة أخيرة من عيونها العشبية الجادة ونبست:
"تحكمي بنفسك."

"فالتحاولي النوم. سأستدعي ماشميا لتقوم بمرافقتكِ وسأعلم زافير بأنكِ انتهيت من العمل لليوم."
لاتشيا أغلقت الباب خلفها.

مددت شارلوت ذراعيها في الهواء قبل أن تتحرك للخارج باتجاه المكتبة، كانت قد تركت بعض الكتب التي تود الإطلاع عليها هناك وبما أنه سيتم حصارها في جناحها بأمر من الطبيبة يستحسن بها جلبهم وتخبئتهم من العيون سريعاً.

سيرت أناملها بين العناوين الذهبية البارزة وحملت ما أتت للحصول عليه بابتسامة نصر على محياها لكن قلبها إنقبض بين أضلعها حين وصلت أصوات أبواق غريبة لم تسمعها قبلاً لمسامعها.

في رمشة عين كانت أمام نافذتها المفضلة والتي أطلت على المدينة بأكملها، لمحت أن الشوارع مزدحمة ولم تدري ماذا يحصل حتى وصل كرنڤال الحشد الغفير المساحات الواسعة المطلة على البوابة الأولى وحديقة القصر الأمامية.

الكتب سقطت من بين أناملها حين وجدت أن من كان يقود الأفراد المتمايزين هو هيروزيوس وعلى يمينه دينيز التي ظنت شارلوت بأنها لن تراها مجدداً.

في ثوان اصطف الخدم في الساحة ليرحبوا بعودة ملكهم أما هيروزيوس فكان يلاقي التحيات والتهاني بالعودة السليمة بالصمت. على عكس الطريقة التي خرج بها لم يكن يرد أياً من الكلام ولا حتى بتلويحة بسيطة.

"هيرو..."
همست بصوتها المبحوح وفي اللحظة ذاتها توقف المقصود في مكانه ورفع رأسها ليلتقي بنفسج عينيه بحدقتيها اللتان توسعتا من رؤيته يبتسم...لا لأحد سواها.

شارلوت حركت ساقيها لينزلق فستانها على الأرض خلفها واختفت عن بصر هيروزيوس الذي استأنف طريقه نحو بوابة القصر الرئيسية مع مرافقيه بخطى ثقيلة. دلف القصر لكن تفكيره لم يستطع التخلي عن صورة وجه شارلوت المتفاجئة، تساءل في خلده إن كان هروبها منه سيزداد لفترة غيابه التي طالت أكثر مما توقع وتسببت بنكثه لوعده الذي كان قد قطعه لها.

"سأعود لجناحي أولاً..."
تحدث ما أن طال صمته. نظر لزافير من فوق كتفه ثم حدثه:
"أعتمد عليك بالتعامل مع سكان القصر الجدد."

"كما تريد يا جلالتك."
تحدث زافير والجميع بلا استثناء قدموا إنحناءة بسيطة دلت على الاحترام ثم تفرقوا كل منهم في طريقه أما هيروزيوس فحدق بالسماء الغارقة في الغيوم من النافذة الواسعة للحظات في محاولة لإبتلاع شعور الثقل الذي حط على صدره.

الجوى يقتله.

غبطة أمسكت بقلبه لشعوره بحضور مألوف وحين إنزلق بعينيه نحو نهاية الممر رأى شارلوت تقف هناك وتضغط أقمشة فستانها الداكن بكلتا يديها. وجهها كان متورداً بشدة ومن تقطيبة حاجبيها لم يفكر سوى بأنها غاضبة.
"لقد تأخرت."
نطقت. اقتربت منه على مهل وأضافت:
"لقد قلت بأنك لن تطيل الغياب لكنك فعلت."
شعر بدهشته تتلاشى ورغم أنها تحدجه إلا أنه سعد بذلك فابتسم.

"اعتذر منكِ يا قمري، طرأت بعض الأمور الغير متوقعة."
استدار بجذعه كاملاً نحوها أما شارلوت فضغطت شفاهها في محاولة لكبح شهقة باكية لكنها لم تستطع أن تمنع بضعة قطرات من الدمع من الفرار والإنزلاق على خديها.

مظهرها تركه بلا أي كلمات لتقال لكنه رغم ذلك استشف ما قد يساعده في التعامل مع محبوبته التي تاهت بين مشاعر استيائها، حزنها واشتياقها. فتح لها ذراعيه على وسعهما هامساً:
"تعالي هنا شارلي."

شارلوت في رمشة عين أصبحت بين ذراعيه تستقبل العناق الذي عرضه عليها بواحد من ناحيتها. تعلقت بلباسه وأسندت جانب وجهها الأيمن لصدره. شعرت بشفاهه تلثم خدها حين أحاط بفكها بيده ففتحت عينيها وتراجعت عنه بحياء ليتركها.

"لم أعني أن أدعكِ لوحدكِ كل هذه الفترة."
شارلوت ضغطت شفاهها على مسمع حروفه، هي التي تركته ليذهب بعيداً بمفرده بالرغم من أنها من كان يتوجب به أن يكون المرافق رقم واحد له.

رفعت كفيها وقامت بإحاطة وجهه بأناملها. هيروزيوس تاه في أفلاك عيونها النجمية الحوراء للحظات حين راحت تنظر في عينيه مباشرة دون أن ترمش، الدموع جعلت بصرها يتلألأ ويتألق أكثر وحسب بطريقة فاتنة.

أرادت قول الكثير لكن لسانها كان ثقيلاً، شعرت بذلك الدوار المؤلم يعود فعرفت أن وقتها قصير.
جفونها غدت ثقيلة بطريقة لا تطاق لكنها رغم ذلك استجمعت كل ما تبقى لديها من وعي وهمست:
"افتقدتك."

"لا تتركني..."
أخبرته بطريقة قاسية عندما فقدت الوعي للإرهاق بين ذراعيه عن مرضها، كان في البداية قد ألقى اللوم على نفسه لكنها منعته وتقاسمت الذنب معه. لا يمكنها أن تغرق في دلاله بطريقة عمياء فتؤذي نفسها وتؤذيه.

"كيف تشعرين الآن؟"
استفسر، كان يجلس على كرسي بجانب السرير الذي توسدته.

"بخير..."
شارلوت استقامت على مهل واعتذرت:
"آسفة، من المفترض أن نستعد لمأدبة عودتكِ."

"انسي أمرها، أرسلت الجميع للراحة فلم تكن رحلة قصيرة أو للاستجمام."
أجابها ببسمة بسيطة تخبرها أن ذلك ليس بالخطب الجليل فحل ذلك الصمت الثقيل بينهما مجدداً.

"كيف سارت الأمور؟ هل الجميع على ما يرام؟"
سألت بعفوية.

"كما توقعت، كان هنالك بعض الجرذان المزعجة تلعب تحت أقدامنا ومازال بعضها حراً لكننا أعددنا مصيدة تليق بمقام كل منهم."
سرد، حاجباه يتقاربان لذكرى ما مر به.

"ماذا عن سمعة لاشيسيا؟"
سألته بتجلد، أرادت سماع الحقيقة.

"ليست الأفضل لكنها ستتحسن."
اعترف هيروزيوس بصراحة، الأمر الذي جعلها تخفض بصرها، وقبل أن تأخذها أفكارها رأت كفه تقبض على يدها في حجرها.
"انظري في عيني شارلي، لا تظني أن ذلك بسببك، لاشيسيا منذ أن تم الغدر بوالدتي أصبحت محط أنظار الضباع الجائعة واسمها ينزلق من القمة."
طمأنها بنظرات جادة فأومأت بصمت.

"جيد، الآن ركزي على أن تتحسني."
هيروزيوس استقام وبدأ بتفكيك أزار قميصه الأولى أعلى نظرات شارلوت الشاردة، فقط عندما تسلق السرير شارلوت وضعت كفها على فاهها وتوردت مدركة لما يريدها أن تفعله.
"لاتشيا قالت بأنني قد أصاب بصدمة."
تحدثت من خلف كفها.

"لن يحدث إن عادلتي، تحتاجين دمائي."
جلس بقربها بطريقة معاكسة.
"آسف القوانين الملكية تمنعني من استخراج دمائي وحفظها في قوارير لأجلكِ."
خلع لباسه عن كتفه الأيسر والأقرب لها.

"لا، لا، أنا أتفهم ذلك."
كررت وهي تحاول تثبيت بصرها، لم تفهم لما تشعر بالتوتر الآن، ليس وكأنها اعتادت شرب دمه من جسده مباشرة لكنها... وفي هذه اللحظة بالضبط تجد صعوبة قاهرة في لمسه.

"هيا الآن."
تلمس ظهرها بلطف ليدفعها نحوه بطريقة جعلت شارلوت تطلق أنة متذمرة من حلقها.

"اعتذر، هل ألمتك؟"
بدا هيروزيوس محتاراً معها، لم يستطع استيعاب أنها محرجة خاصة عندما أخفت وجهها أسفل فكه.

أرادته أن يتوقف عن الحديث لأنها لن تستطيع إجابته فوجدت مهربها بقضم عنقه والبدء بارتشاف دمه حتى ارتوت بالكامل وعندما انتهت قبّلت أثر أنيابها كالعادة إلا أنها هذه المرة أطالت أكثر من المعتاد فظن هيروزيوس أنها تسهو لكن حين راحت شفاهها تنزلق صوب حلقه لتداعب بشرته وتخدره بطريقة جعلت أنامله ترتعش أمسك بكتفيها وتراجع عنها. تلمس عنقه وأعطاها نظرة حادة جعلتها تشعر بحرج متأخر تسبب بتنكيسها لرأسها.

هدوء غير مريح حل جعل شارلوت تركز أبصارها على أظفارها التي راحت تخدش جلد كفها، وكما بدأ انتهى حين أمسك هيروزيوس بفكها ورفع رأسها لتلتقي أبصارهما.
"لا تفعلي هذا بي."
نبس بنفس حار، كان يعاتبها فشعرت شارلوت بخزي ألجمها، تساءلت في خلدها عما كانت تحاول فعله بحق وهي من دفع الآخر في المقام الأول ورسم الحدود.

كانت وبعد بضعة أسابيع منذ صحوتها قد اتفقت معه أنها لن تستحق أن تتزوجه رسمياً حتى تصبح الملكة التي يستحقها أولاً وببساطة شديدة هيروزيوس وافق.
احترم مساحتها الشخصية حتى ذلك الحد الذي قام فيه بالتخلي عن الجناح الملكي لأجلها. لقد غفلت عن أن فترة تشذيب مشاعرها والاعتناء بها قد تقودها للوقوع له أسرع مما قد تتصور هي.

"مـ محق."
تلعثمت بحرج، لم تستطع النظر في وجهه مباشرة أكثر أو الاعتراف بما أدركته مؤخراً وحسب لأنها إن فعلت فهذا يعني...
الإحراج الذي شعرت به تركها غير قادرة على الاعتذار حتى.

"إخلدي للراحة."
أوضح برحيله دون قبلة على جبهتها بأنه لا يحب ألعاب المراهقين.

رمت شارلوت بوجهها ضد الوسادة وقامت بسحب شعرها بقهر من نفسها، لم تعلم بالضبط كيف استسلم عقلها للنعاس وغفى.

استيقظت بعد ساعات مجهولة على وجه غريب يناظرها، وما أن استردت وعيها حتى أدركت أن الجالس على الكرسي بقربها هو دينيز.

"أنت تستطيعين الجلوس إذاً."
مازحت شارلوت بصوتها الناعس مصاصة الدماء التي كانت عاقدة لأناملها في حجرها، بدت غير مرتاحة وكأن الجلوس أمر لم تعتده.

"أنا سأكون رئيسة وصيفاتك."
أفصحت فجأة بطريقة جعلت شارلوت تفتح عيونها أكثر.
"لما؟"

"أنا طلبت أن أكون تحت خدمتكِ من جلالته وعندما أخبرني أنكِ لا تمتلكين سوى واحدة لنفسكِ عرضت نفسي فاسمحي لي أن أقف أسفل جناحك."
دينيز نهضت لتجثو سريعاً على ركبة واحدة أمامها.

شارلوت استقامت وكررت:
"لما؟"

"أجبت للتو."
بدت دينيز غير قادرة على استيعاب سؤال ملكتها.

"لا أفهمك."
شرحت شارلوت:
"أنتِ حرة، لما تودين أن تصبحي تحت إمرة أي شخص؟"

"كان للاشيسيا سمعة طيبة في العائلة التي نشأت فيها لكن حين قامت الحرب بدأ الكثيرون بالتشكيك والانحياز لإيليورد الذي استعبد قبائلنا كجيشه وتم النظر لنا كمجرمين."
أنامل دينيز تحولت لقبضة ضد الأرضية.
"لم أحب كون مصيري كمحاربة مكتوب لكنني آمنت بشيء واحد وهو الإخلاص لمن اعترف بحريتي في المقام الأول. جلالته لم يزرنا لتطهيرنا أو توبيخنا بل للإقرار بأننا أحرار."
أفصحت مصاصة الدماء عن كلمات جعلت شارلوت تشعر بالفخر بهيروزيوس وبدينيز نفسها رغم أنها بالكاد تعرفها.

"لست قادرة على قول أن خدمتي ستكون شرفاً لكِ بعد..."
أفصحت شارلوت بابتسامة ودود جعلت مع كلماتها ملامح دينيز الباردة تتزعزع.
"لكن حتى يحين ذلك الوقت فسأكون أنا من تتشرف بكِ بقربها."

...

شارلوت مالت ببصرها جانباً نحو تلك القبة الفرعية والتي تواجدت بقرب خاصة سيثروس عندما أخذت كناريا تتلوى وتستيقظ.

تحركت لتجلس القرفصاء أمام الزجاج فلاحظت محاولة الفتاة أمامها لفهم ما يجري وتأكدت من أنها لا تذكر شيئاً حين زحفت متراً باتجاهها وجلست على ساقيها أمامها لا يفصل بينهما سوى الزجاج.
"ما الذي حدث أيتها الملكة؟"
كناريا سألت وهي ترمش بنظرات ناعسة.

شارلوت شابكت أناملها وفكرت ملياً قبل أن تجيب دون رسم أي تعبير معين:
"ما الذي تظنين أنه قد حصل؟"

كناريا تلمست رأسها كحركة لا إرادية وعندما لمست قرنيها اللذان تغيرت هيئتهما وطولهما مجدداً تجمدت باستدراك.

يداها سقطتا في حجرها وعيناها أشاحتا عن شارلوت مغمغمة وكأنها ملعونة:
"لقد حدث ذلك مجدداً."

"ألا تشعرين بأي اختلاف هذه المرة؟"
حين سألت شارلوت بهدوء الفتاة آثرت على النظر جانباً وعلقت بفتور:
"ليس حقاً."
تنهدت مضيفة:
"أنا لن أستطيع إخفاءهما بسهولة بعد الآن."

شارلوت شاهدت الفتاة أمامها تقوم بهمهمة عدد الإنشات التي ارتفع بها قرناها على رأسها قبل أن تغمغم بشيء عن كرههها لهما ثم تسألها بلهفة مترجية:
"ألا يوجد طريقة لإزالتهما؟"

هزت شارلوت برأسها نفياً قبل أن تقول شارحة:
"إنهما جزء منكِ، إن كنتِ لا تستطيعين التحكم بهما فلا فائدة من محاولة إزالتهما."

"أتحكم بهما؟"
كناريا غمغمت بحيرة قبل أن تبتسم بتوتر وتقهقه بغرابة سائلة:
"لما تتحدثين وكأنكِ تعلمين أن هذا الأمر المجنون ممكن أيتها الملكة؟"

شارلوت تنهدت، يجب عليها شرح الأمور ببساطة أكبر علها تفهم.

"لما تظنين بأنكِ نصف مصاص دماء من الأصل؟"
سألت شارلوت وكناريا صمتت للحظات قبل أن تجيب بصوت متوتر:
"بالطبع لأن البشر لا يملكون قروناً."

شارلوت رفعت حاجباً نحوها وتلك بدت وكأنها استدركت النقطة التي أرادت محدثتها الوصول لها لتغمغم بضحكة غير مصدقة:
"أهذا يعني بأن مصاصي الدماء يمتلكون قروناً؟ أوليس هذا تشوهاً يعني الوحوش؟!"

شارلوت أخرجت جهاز تحكم صغير كانت قد أخفته في كفها لتضغط أحد الأزرار وتتنحى عن وجه كناريا التي نهضت بتمايل وارتطمت بزجاج قفصها حين أنار ضوء جديد أخر في قبة جارها.

سمعت صوت قلبها ينبض بشدة بين أضلعها وشعرت بأن الأرض إنقلبت من أسفلها لتنطبق على فضائها حين رأت هيئة مألوفة خلف المزيد من الجدارن الشفافة.

الجسد تم تقييده بأحزمة من الجلد. بِدءاً من اليدين وحتى الساقين للأرض، في حين إلتف المزيد حول جذعه الذي استند لسرير تم تثبيته بشكل طولي لجعل الجسد نصف مستلقي.

عينا كناريا تضيقتا على الضمادة التي إلتفت حول الرأس لتغطي العينين والأذنين معاً ثم إنزلقت على ركبتيها حين رأت قرناً أسوداً يخترق جمجمته هامسة بلا تصديق:
"هذا...من؟"

"أنتِ كنتِ مشغولة بجعل نفسكِ تبدين طبيعية بين البشر وتناسيت ما قد يكون طبيعياً لدى المصاصي الدماء."
شارلوت حصلت على تركيز كناريا التي بدت فزعة أكثر منها مصدومة ورغم ذلك استطردت:
"إلا إن كنتِ تدركين هذه الحقيقة ولا تعييها سعياً لتحقيق هدفكِ بأن تكوني كاملة على طريقة البشر."

"هذا..."
كرهت شارلوت أن تشير لابنها كمثال لكنها زفرت بحدة وحركت عينيها باتجاه سيثروس مردفة:
"طبيعي لدى مصاصي الدماء."

كناريا ضربت الزجاج بكلتا يديها عندما أدركت كونه أميرها.
"لما سيث بهذه الحال أيتها الملكة؟!"
تفاجأت بأنها لم تتألم رغم القوة التي وضعتها في الضربة بل شعرت بجسدها بأكمله يرتد للداخل وكأن أحدهم دفعها.

شارلوت شاهدتها تحدق بيديها باستغراب فاقتربت من الزجاج ونقرته بخفة قائلة:
"هذا زجاج ماص للصدمات، لا يمكنكِ كسره."
نظرت ناحية سيثروس مجدداً ثم استطردت بجواب سؤال كناريا:
"أما بالنسبة لسيث فهذه الهيئة لم تظهر سوى رغماً عنه."

"ما الذي حدث؟"
كناريا نهضت وألحت على شارلوت التي تفاجأت من قولها بنبرة واثقة:
"لما عل سيث يصبح هكذا؟ من ألحق به الأذى؟!"

"هذا ليس موضوعنا."
شارلوت أعطتها ابتسامة قبل أن تلقي بنظرة سريعة على ابنها وتطفئ الأنوار.

ملامح وجه كناريا سقطت وضاعت بين الحيرة والخوف.
"ما هو موضوعنا إذاً؟"
سألت.

"لما الصمت؟!"
صرخت والدموع ترقرقت في عينيها حين ضغطت قبضتيها وأردفت بقهر شديد:
"ما الذي أنا محبوسة هنا لأجله؟"

"هذا سؤالي."
شارلوت نهضت على ساقيها.

"لا أحب هذه الألعاب، حرريني، لن يكن حبسي من ضمن اتفاقنا."
كلمات كناريا كانت مستاءة ومليئة بالسخط، تجعل شارلوت تحتار بين الأسى والاستياء.
"لم يكن حتى فترة قريبة."
أجابتها.

"ماذا؟"

"أخبريني عم تحاولين تخفينه وسأفكر بإخراجك."
شارلوت أفصحت بطريقة مباشرة، دون لف أو دوران، قد تكون كناريا تمثل أنها فقدت ذاكرتها وربما لا تفعل لكنها بالتأكيد تعرف سراً عن نفسها لا تود مشاركته مع أحد، حلقة مفقودة قد تساعدها على التصرف بشأنها.

"أنا لا أخفي شيئاً."
أصرت بتلك النبرة الطفولية العنيدة، حالها جعلت شارلوت تعطيها ظهرها.
"لدي الحق برميكِ في السجن للأبد لذا أنصحكِ بأن تفكري ملياً بجواب سؤالي."

عيون كناريا هلعت، أستتركها هنا؟ هي التي أخرجتها من القفص سترميها في واحد؟ الفكرة بدت غير معقولة للفتاة.

شارلوت سارت نحو البواب بشفاه مطبقة.
"مهلاً! شارلوت لاشيسيا!"
كناريا ضربت الزجاج وبكت:
"هذا ليس ما وعدتني به!"
رمت كناريا بنفسها على الأرض عندما أدركت أنه تم إغلاق كل منفذ للصوت وأخذت تزعق:
"لا. لا. لا!"

*******

من هنا يجدر بي تحذيركم
ستبدأ الفصول بالمزج بين الماضي والحاضر
ولا يوجد ترتيب معين، سنقفز بين السنين ونعود
سياق الأحداث سيخبركم متى كان هذا أو هذا لذا احرصوا على متابعة كل فقرة بتأني
خاصة أن الفصول طويلة

أراكم على خير
ناخت ❤️

Continue Reading

You'll Also Like

514K 51K 26
إرقُصي.. ما أجملَ خطوات الفلامنكو بساقيكِ حين ترقُصي.. إرقُصي.. وليحملني رقصُك للعُمر الرّاحل مني.. إرقُصي.. (#1 في الفانفكشن)
441K 6.8K 5
أَنـاَ المَلاَكُ الذِي رَغِبَ به الشَياَطِينْ أنـاَ التُفاَحة التِي أَسْقَطَتْهُمْ من النعيمْ أَنـَا لَعنَتُهمْ السَرْمدِيّة إلى يَوْمِ الدِينْ بَحَث...
1.1K 170 10
" ماذا لو إِكتَشَفتَ فَجأةً أنَّ حياتُكَ هِي مجرَّدُ إِعدادٍ داعمٍ للشخصياتِ الرئيسيةِ ؟ ماذا ستفعلُ عندها ؟" ________ " عليَّ الإِبتعادُ عنّه قدرَ...
27.6K 1.7K 61
في ظل الممالك السبعة هناك مملكة ماغونسايت التي يعيش بها بطلنا ألدس ولي العهد للملك مابل بعد ان يرسله الى أكاديمية إريوس محاولة ضبط سلوكه في التهيء ل...