رُزق حُبي (الجزء الثاني من رز...

By SaRaMohamedSeif

25.6K 1.1K 54

الجزء الثاني من رواية رزقت الحلال شخصيات جديدة ظهرت وأحداث مختلفة... لكن هيظهر أبطال الجزء الأول (حمزه وحياه... More

الفصل 1
الفصل 2
الفصل 3
الفصل 4
الفصل 5
الفصل 6
الفصل 7
8
10
11
12
13
14
15
16
17
18
19
20
21
22
23
24
25
26
27
28
29
النهاية

9

795 37 4
By SaRaMohamedSeif


دارٌ تحتل مساحة لا بأس بها من الأرض، يجلس داخلها، في غرفة المضيفة، سعدان برفقة شاب في منتصف الثلاثينيات يتحدث إليه بينما يحتسيان شايًا أسودًا ثقيلًا كالحبر، أراحا جسديهما مستندين إلى الحائط، كانت تشبه جلسة العرب من الوسائد التي رُصت فوق الأرض مباشرة دون إرتفاع على قواعد خشبية إلى الصينية النحاسية الكبيرة في المنتصف عوضًا عن الطاولة.

سأل سعدان ضيفه مستمتعًا بسحب عدة أنفاس من الأرجيلة: ها.. وصلت لحاجه؟

غمزه الآخر: مالك مستعجل كدا ليه.. اتقل تاخد حاجه نضيفة.

ختم كلامه بضحكة كريهة ملبدة بالبلغم الذي يجسم فوق صدره من سوء ما يتعاطى، مغمغمًا بحرقة: مش هأرتاح ولا يهدالي بال لحد ما أشوف حرقة قلب عبدالرحيم على اللي هيجراله.

تشدق ضاحكًا: شكلك بتحبه أوي.

التفت إليه بجدية: بالك يا خلف لو شافتلي قلبي؛ لتلاقي لبن العصفور على بابك تفطر بيه تاني يوم الصبح.

حك خلف أنفه ممتعضًا: وأنا هأعمل إيه بلبن العصفور يا حاج..

ضربه سعدان بمبسم الأرجيلة: يا غبي فتح مخك.. دا مثل.. مجازًا يعني.

هز رأسه ببلاهة ناهضًا: قولتلي، طب عن إذنك أنا بقى عشان أعرف أتكتكلك.. مادام فيها لبن العصفور ههههه.

حيّاه بكفه دون تكلف نطق السلام متابعًا جذب نفس وراء آخر من أرجيلته الأثيرة. دخل عليه ابنه وجلس جواره لائمًا: مش قولتلك يابويا بلاش الزفت خلف دا.. دا واحد شراني مايجيش منه غير الشر.

نظر إليه بطرف عينه: ما أنا لو كنت مخلف راجل ماكنتش اتحوجت للأشكال دي.

زفر مهران: وليه الغلط بس يابا!

-ما أنت لو تطاوعني زي ماهو بيطاوعني تبقى أجدع راجل فـ الدنيا.

-يعني لازم أطاوعك فـ الشر عشان أبقى راجل فـ نظرك؟

-دا مش شر، دا حق.. والحق لازم يرجع لأصحابه.

مرّوا بعدة جلسات من الجدال حول ما معنى الحق وأي حق يبحث عنه سعدان، لم يسفر الحديث إلا عن عدة سبات من سعدان لابنه، يتهمه بأن حب ابنة عمه جعله يعصى والده ويدافع عن عمه ضده هو، أبيه.

***

عاصفة هوجاء دخلت عليها، رفعت عينيها فيما ظل رأسها مائلًا للأسفل أثناء تفحصها للمستندات، كانت ذات مظهر يشبه الناظرة بسبب تدلي النظارات إلى أطراف أرنبة أنفها، تركت القلم يفلت من بين أصابعها الناعمة، استقامت متسائلة: في إيه يا ياسين؟

وقف أمام مكتبها يضرب فوقه بقوة صائحًا: أنتِ إزاي تعملي حاجه زي دي؟

عقدت ذراعيها بعدما نزعت النظارات: عملت إيه؟

-بقى تعملي إعلان لحفلة بمناسبة جوازي وكمان تعزمي كل الموظفين من غير ما أعرف.. وأنا ماشي اتفاجئ بمباركات وتهاني ومش عارف هو في إيه.. لحد ما حد من العملا يكلمني وأفهم منه إني عامل حفلة لجوازي؛ لإني ما عملتوش هنا وما عزمتش حد، وهو بيعتذر إنه مش جاي لدواعي سفر.. بعد دا كله ومش عارفه عملتِ إيه؟؟

-الناس بتسأل ليه ما شافتش مراتك لحد دلوقتي.. دا غير الناس المقربين، كلام وأسئلة بدون إجابات، كل دا هيخلي إشاعات مالهاش لازمه تطلع، وأنت عارف إشاعة صغيرة ممكن تعمل إيه فـ شكل الشركة وأسهمها كمان.

هدأ قليلًا، جلس على المقعد أمامها محاولًا كظم غيظه: كنتِ على الأقل تقوليلي قبل ما تنشري الخبر، مش أبقى زي الأطرش فـ الزفة.

نهضت تقف خلفه، مسدت كتفيه مستسلمة: معاك حق فـ دي، سوري.. بس قدامك شهر قبل معاد الحفلة، ظبط أمورك ثم إن ترتيبات الحفلة عليا ما تحملش همها.

أومأ ثم تناول يدها من فوق كتفه وقبلها، شجعته كي ينهض ويذهب إلى مكتبه متابعًا عمله، وافقها وانسحب من الغرفة، عادت تعمل وعقلها يحوم في خطة جديدة.

***

وقفت في شرفتها ترتشف كوب الليمون الساخن باستمتاع، شعرها يتحرك مع نسمة الهواء،

ملّت تقييده ومنع الهواء من تخلل خصلاته، سدت أذنيها عن تنبيهات زوجها بعدم الخروج إلى النافذة طليقة الشعر.

رغم وجودها في الطابق الثاني فقط إلا أن تصميم الطابق الأول بارتفاع سقفه الشديد جعلها تبدو واقفة في الطابق الرابع. الطابقيين العلويين يساويان ارتفاع الطابق الأول وحده إن لم يكن الأول أكثر إرتفاعًا.

رفعت بصرها للطابق العلوي وقررت أن تصعد وتستطلعه عمليًا، لكن يجب عليها في البداية شراء زيّ سباحة، ستطلع آية على رغبتها لكي تساعدها في العثور على مبتغاها.

رنّ هاتفها، أجابت متعجلة: أيوه، خلاص تمام، ساعة بالكتير وتلاقيني عندك.. سلام.. في رعاية الله.

أغلقت الخط تتقافز في سعادة أثناء توجهها إلى الداخل لإبدال ملابسها بأخرى مناسبة للخروج، لم تلحظ النظارة المُعظِمة التي هبطت فور دخولها، أعين كانت تراقبها من إحدى الشرفات المقابلة. يقف بسروال بالكاد لامس ركبتيه وقميص بنصف أكمام، عيونه العسلية تلمع ببريق عجيب.

***

نظرت في القصاصة بيدها ثم رفعت عينيها، تطابق ما هو مكتوب بالورقة الصغيرة بما كتب على البناية التي توقفت أمامها، لمحت أحدًا يناديها بصوت هامس صادر عن إحدى الشرفات، رفعت نظرها إلى الأعلى فوجدت حياه تلوح لها كي تصعد دون انتظار، هرولت فوق السلالم مسرعة، لا تكاد تلتقط أنفاسها الهاربة، تسابقها روحها في مقابلة رفيقة عمرها.

تسمرت مكانها أعلى الدرج، تحدق بالفتاة التي تحولت، ترتدي ثيابًا فضفاضة وحجابها يزين رأسها، ليست تلك حياه، لقد تبدلت، تعترف أنها نفس الملامح ولكن..

أقبلت عليها حياه ترتمي بين أحضانها، تتلمس فيها حياه أخرى قد تركتها يوم هربت من بيت أهلها وعصت أوامر من أحبوها، بكت أيامًا لن تعود وأشخاصًا لن تراهم.

قبضت عليها سلمى بشدة، تشتاق إليها، شاركتها عدة دمعات مرغمة؛ فالحنين قد حط فوقهما بسحبه الباكية. قاطعهما انفتاح باب المصعد –الذي لم تلحظه سلمى من شدة انذهالها وشوقها-، تنحنح الطبيب القاطن في الشقة المقابلة لشقة حنان، أعتذر وولج إلى بيته. جذبت حياه صديقتها إلى الداخل أغلقت الباب، تكفكف كلتاهما دموع الأخرى.

بعد أن توقف شلال الدموع بمشاعره المختلطة، جلستا متجاورتين تنصت سلمى كعادتها لما تقوله حياه، تسلط تركيزها على أقل كلمة وأصغر حرف، تسمعها بقلبها قبل أذنيها، تحجرت الدموع بمقلاتيها على ما عانته صديقتها في الأشهر الأربعة الماضية.

لم تتمالك نفسها، انتفضت واقفة وصرخت بوجهها بعدما أتمت حياه رواية قصتها: إيه اللي عملتيه دا؟.. مش هتعقلي وتبطلي أبراج الجنان اللي معششين جوا دماغك وكل شوية واحد يطير بعملة من عمايلك؟!.. هتفوقي إمتى.. عقلك هيفضل صغير وضيق لإمتى؟

همهمت حياه بنظرة غريبة على عيون سلمى الحافظة لكل خلجاتها: فوقت، خلاص فوقت.. ماتجيش عليا أنتِ كمان يا سلمى، أنا محتاجاكِ..

أضافت قبل أن تخفض نظراتها التي تلألأت بدموع الوجع: سلمى.. أنا انكسرت.

وقفت تحدق بها هنية، لكنها لم تطل، أسرعت إليها تجذبها بين أحضانها، تبكيها، تنعى الحال الذي كانته وتتوجع للألم الذي تجرعته. أدركت الآن سبب الإختلاف.. هذه ليس حياه الطفلة - التي عرفتها- بل امرأة غدر بها الزمن وترك فوقها علامته.

***

وقف يتلفت حوله، يتفرس في الوجوه علّه يجد بغيته، أوقف أحد العاملين بالأرض يسأله بعدما يأس من الوصول بمفرده، أخبره أن من يريده يجلس خلف شجرة الزيتون، يستريح من عمل النهار الشاق، شكره ثم اتجه حيث أشار.

وجده جالسًا في شرود، يقضم الطعام ويرتشف الشاي، تنهد وانضم إليه، التفت محمود إلى زائره المفاجئ، ابتسم مرحبًا بهدوء، لكن لم يتلق سوى نظرة لوم وضيق.

-مالك؟ وشك مقلوب عليّا ليه؟

-مش عارف السبب يعني؟

رمقه بطرف عينه: وهأعرف منين؟

-مش ناوي بردو تحاول توصل لحياه؟

ألقى اللقيمة فوق أخواتها، نفض يديه وقد غام وجهه وزادت عيونه تفحمًا: قولتلك ماليش حد بالاسم دا.

زفر حانقًا: وهي صلة الدم بالساهل تتنسي بكلمة فـ ساعة غضب؟

نهض مغتاظًا: مين قالك إنها فـ ساعة غضب؟، أغضب ليه من واحدة مش معتبرها أختي أساسًا.

عندما لاحظ خطواته تبدأ في الابتعاد نهض ووقف أمامه يمنعه، ثار سخطه للا مبالاته الزائدة وقد فاقت الحد: يا ابني أنت فوق، أختك الله العالم إيه اللي حاصل معاها دلوقتي.. أنت متخيل حياااه، حيااه مع واحد مجرم زي شادي دا ممكن يحصلها إيه؟!

حاول إزاحته عن طريقه: ما تفرقش معايا.

دار زين وصاح بآخر ما يملكه من أسلحة في ظهر رفيق عمره: ما تعاقبهاش بحاجه هي مالهش ذنب فيها يا محمود، ما تاخدهاش بذنب غيرها.

أضاف بعدما لاحظ تشنج ظهر صديقه: ما ترميهاش فـ نار، أنت عارف طعمها كويس، دا المفروض أنت أكتر واحد يفهمها ويخاف عليها يا أخي!

ألقى عليه محمود نظرة نارية، أوشكت على إحراقه حيًا دون تردد ثم تابع سيره عائدًا إلى عمله وصيحات زين الأخيرة اليائسة تلاحقه: يا ريته كويس كنت سيبته وسيبتها، لكن دا تاجر آثار وبيشتغل في تهريب السلاح كمان.. الله العالم إيه كمان، حياه فـ خطر يا محمود!

تهدلت أكتاف زين، ركل الحصى أثناء سيره مغادرًا، صديقه العنيد، الغبي، لما لا يفهم أن مهما تفعل أخته يجب عليه حمايتها والوقوف خلفها، يصد عنها الضربات ويحميها من الصفعات.. حتى وإن اعترضت وهاجت، هذا دورهم؛ فهم أولياء أمورهم.

نفخ مخرجًا نفسًا مشبعًا بالأحمال، عمه من جهة وحياة شقيقته الصغرى من أخرى، ألا تكفيه أحمال نفسه ليتحمل أعباء غيره يلفظها ويزدريها؟!

-الله يسامحك يا محمود.

***

ترجلت من سيارة الأجرة على بعد مسافة من المنزل، ترغب في السير علَّ ذهنها يصفو وروحها تهدأ، أدخلت كفيها في جيبي تنورتها تسير بتؤدة وعيونها تحصد ذرات التراب.

لا تنفك تذكر حياه باكية، رأتها منكسرة كما لم ترها من قبل، رأسها محنٍ جهة الأرض، عيونها منطفأة ونفسها مذبوحة، لقد لقنتها الحياة درسًا ستدفع ثمنه لما بقي لها من عمر، قرصة أذن شديدة تترك أذنها محمرة مكدومة أبد الدهر.

طفرت مآقيها بالدموع دون شعور، تردد في أذنيها اعتراف حياه بالإنكسار، حتى عندما حاولت إنعاش روح الضحك داخلها وإعادتها إلى الحياة اكتفت بتنهيدة تطلعها أن الضحكة لن تعود وإن عادت ستكون مذبوحة كروحها.

كسرها إنكسارها، لم يكن عليها تركها في ذلك الوقت، لقد هاجمتها مثلهم، عارضت ووقفت في صف والدها، كان يجب عليها أن تدعمها حتى وإن لم تقتنع بموقفها، ماذا جنت الآن سوى أنها أخفت رغبتها بالهرب، كذلك لم تحادثها إلا عندما بدأت الوقوف على قدميها، كأنها تخشى سماع جملة «ألم أخبركِ؟».. لقد رأتها بعدما استعادت القليل من ذاتها فكيف الحال قبل حين؟؟

توقفت فجأة تكفكف دموعها وتنظر حولها، تبًا، لقد تخطت المنزل بلا إدراك، التفتت تعود أدراجها عندما اصطدمت بأكياس تناثرت أرضًا غير مقاومة لشدة الضربة.

انحنت تجمع الأغراض مع من أوقعه حظه العاثر ليسير خلفها، مسحت آثار ما بقي من الدموع بكفها الحرة مرددة الكثير من التأسفات والإعتذارات. وقفت على قدميها أخيرًا تسلم ما جمعته لصاحبه.

قابلت عيونها ابتسامة خافتة، قابلتها هي ببسمة باهتة بالكاد استطاعت بها تحريك شفتيها، تفوه أخيرًا ردًا على اعتذارها: مافيش مشكلة، بس في حاجه أنتِ حطتيها فـ الكيس بالغلط.

نظرت إليه بعدم فهم، تتبعت حركته في العبث داخل الحقيبة التي ردتها إليه، أخرج محرمًا أبيضًا ومده إليها بغمزة عابثة: دا أنا قدمتهولك وأنتِ بتلمي الحاجه، بس أخدتيه وحطتيه فـ الكيس من غير ما تحسي.. والله ما استخدمته قبل كدا ما تخافيش.

صدرت عنها شبه ضحكة خافتة، تقبلت منه المحرمة بهدوء، مسحت دمعة هددت بالنزول ثم تمخضت به، فجأة أدركت ما فعلته وحركت نظراتها بين وجهه المشرق والمحرمة المتسخة، أزال الحرج عنها بلمعان عيونه الضاحكة وكياسته الفائقة: ما تقلقيش، أكيد أما أدتهولك ما توقعتش يفضل نضيف زي ما هو.

التمعت عيونه العسلية، فحتى الآن لم يسمع صوتها سوى عبر الإعتذار، حاول جذبها للحديث لكن دون جدوى، حاول محاولة أخيرة: أنا فاكر إني شوفتك قبل كدا.. أه صح، كنت ماشية مع الآنسة آية، مظبوط؟

أومأت ونجحت خطته: حضرتك تعرف آية؟

تبسم: أكيد، آية وناهد وياسين وكـ.. مدام.. كادي، أنا جارهم في الفيلا اللي قصادهم.

-أهلا وسهلا.

-أهلا بيكِ، أنتِ تقربيلهم إيه بقى؟

ارتبكت، لا تدري ما تقوله، إن كان زوجها لم يصرح بعلاقته بها فكيف تقولها هي، أنهى جدالها الداخلي بإشارة إلى الخلف عبر رأسه: الفيلا فاتت لو ما أخدتيش بالك، شكلك لسه مش متعودة.

هزت رأسها وبدأت في السير عائدة إلى مسارها الصحيح، سار جوارها صامتًا، ينظر إلى جانب وجهها الموازي له، يتأمل تفاصيله ويطبعها داخل عقله، عيونه تبرق ببريق لم تلحظه هي في خضم أفكارها وحزنها الداخلي وعتابها الذاتي.

لم يهتم، بالعكس حمدالله على انشغال بالها حتى يستطيع تخزين ملامحها على مهل، منذ رأها مع آية تسير في الشارع فقد عقله وجن جنونه، أشبع نفسه من رؤيتها صباحًا بالمنظر المُعظِم لكن رؤيتها وجهًا لوجه أكثر متعة، ابتسم داخله، لقد رأها تتجاوز المنزل فلم يحاول تنبيهها وسار خلفها بأكياسه المحملّة وافتعل اصطدامًا واهيًا ليتحدث إليها، ساعده شرودها في عدم تمييز وجهته الصحيحة.

ودعته على باب المنزل ودلفت مولية ظهرها إليه، عقله يأكله لمعرفة صفتها بهذا المنزل، التفت إلى منزله ودلفه شاردًا.

***

تثاءبت بكسل، مدت ذراعيها أعلى رأسها، شعرُت بالبرد يتسلل إلى جسدها، انقلبت على مهل إلى الجزء الفارغ بجوارها من الفراش، قطبت في تعجب، نهضت عندما سمعت أصوات قادمة من جهة الباب الخاص بالجناح.

أحكمت عقد رباط مأزرها، حاولت ترتيب خصلات شعرها المشعثة وإخفاء ما حل بها نتيجة النوم وتقلب رأسها فوق الوسادة. وجدته ينقد العامل بقشيشًا ثم يناوب عنه دفع الطاولة المتحركة ذات العجلات إلى الداخل، رفع رأسه يتأملها فيما جسده محني ليتابع دفع العربة.

-صباح الخير بالليل.

بسمته جعلت وجهها يزداد توردًا، بادلته إياها ثم اقتربت تجلس جواره فوق الأريكة حيث أشار يدعوها بصمت، رفع الأغطية المعدنية من فوق صحون الطعام، تشمم الرائحة الشهية بتلذذ، اتسعت ابتسامتها لتصرفه الطفولي.

نظر إليها بنصف عين، وتحدث بخبث: وبما إنك بتضحكِ يبقى مالكيش نفس، وفرتي، أنا ميت من الجوع وما أعتقدش بعد ما أخلص هيتبقالك حاجه.

أدعت الغضب: بقى كدا يا زيزو؟.. إخص عليك، هتاكل وتسيبني من غير أكل؟

دنى بقطعة من الخبز قرب شفتيها، همس لها بحنان هائمًا في محراب جمالها المحدود: دا اللي لا يمكن يحصل أبدًا، دا أنا أأكلك وطظ فيا.

مدت يدها تتناول شريحة من الفاكهة المقطعة ودستها بين أسنانه بمرح: ولا طظ فيك ولا حاجه، أديني بأكلك أهو بإيدي.. على الله يطمر.

قهقه، تبادلا المناوشات، تدعي الغيظ حينًا، وأخرى تضحك من قلبها، تتطلع إليه بحب، تحفظ معالمه وتنحتها فوق جدران قلبها، لقد اكتملت سعادتها بوجوده جوارها، غرد قلبها بنغمات الحب العذبة منذ دلف إلى حياتها بقدمه اليمنى عبر الباب المفتوح على مصرعيه.

اعتذر منسحبًا يرد على هاتفه، استغلت الفرصة وزاد شرودها، تذكرت حين قابلته لأول مرة، كانت عائدة من جامعتها بعد يوم شاق وطويل، صهرتها الحرارة وأجهدها التعب. سيارته معطلة أمام الدار، يحاول إصلاحها بلا جدوى، مقطب الجبين، ثنى أكمام قميصه حتى مرفقيه، العرق يتصبب منه ويغرق وجهه، أشفقت على حاله، يبدو من سيارته أن عمرها الإفتراضي قد إنتهى ومنذ سنوات، يعافر معها بلا طائل، أخرجت زجاجة المياه التي بحوزتها..

دنت منه وقدمتها له بلا كلام.

رفع نظره المنشغل بالبحث بين أسلاك سيارته، ابتسمت بصمت عندما لمحت تردده، التقط من يدها قنينة المياه فانسحبت إلى الميتم، رمت إليه ابتسامة أخرى قبل إغلاق الباب الحديدي خلفها.

ارتسمت على وجهها ابتسامة حالمة، منذ تلك اللحظة حُفِرت ملامحه في ذهنها، ابتسامته الأخيرة التي ودعها بها لا تنمحي من عقلها. بداية من الصباح التالي بدأ ملاحقتها، حتى انتهى الأمر بالزواج قبل عدة أيام. راقبته عائدًا إليها بتعابير مختلفة، سألته متوجسة عن الخطب الذي ألّم به، تنهد معتذرًا: معلش يا حبيبتي، لازم نرجع القاهرة دلوقتي، الصبح في شغل مستعجل ولازم أكون موجود.

ربتت على كتفه متفهمة: بس كدا؟، يا راجل خضتني، قولت في مصيبة ولا حاجه.. مش مشكلة يا حبيبي، اليومين اللي قضيناهم عندي بالدنيا.

قَبلَّ مفاصل أناملها بحنان: تسلميلي يا روح قلبي.

-صحيح، ما قولتليش يا عزت، أنت جبت منين الفلوس اللي خلتنا نقضي شهر العسل هنا؟

دارت بعينيها في المكان، جناح متكامل على أعلى مستوى، منتجع سياحي أسعاره خيالية في أرقى المناطق الساحلية، فغرت فمها دهشة عندما دلفته لأول مرة، لم تصدق أنها قد ترى هذه الأماكن الباهظة والراقية على أرض الواقع فما هو الحال إن قضت بها عدة أيام. سألته فور وصولهم عن مصدر المال الذي سيتكفل بمصاريف هذا المكان، لكنه تهرب منها فلم ترد الضغط عليه.

فاض بها الأمر واستغلت الفرصة كي تكرر سؤالها، لمعت عيونه بطريقة أرهبتها وأجاب: هدية، كادو من زمايلي فـ الشغل، لما عرفوا إني هأتجوز جمعوا من بعض مبلغ وسلموهولي، وبما إننا ماكناش عاملين حسابنا على الفلوس دي قولت أفرحك ونقضي بيهم كام يوم هنا.

ابتسمت، ضمته شاكرة: ربنا يفرح قلبك يا حبيبي.

شعرت بتنهيدة الراحة التي غادرت صدره وهزت خصلات شعرها المحمرة نتيجة الصبغة في ليلة الحناء، أختفت بسمتها ونظرت إلى خصلاته السوداء اللامعة المتساقطة فوق مؤخرة عنقه. إنه عرف متعارف عليه، يجمع الزملاء مبلغًا ما لشراء هدية أو تسليمها للعريس أو العروس، كهدية ومباركة للزواج، لقد تسلمت مبلغًا مشابهًا لكن لا يكفي لوجبة واحدة في مطعم الفندق، فكيف بقضاء عدة أيام؟!، وحاله وحال زملاؤه لا يختلف عنها كثيرًا، فمن أين جلب هذا الفارق الشديد؟، شعرت بإنذار داخلي ينبؤها بكذبه لكن أخرسته؛ الاستمتاع باللحظات الحالية فحسب هو الأهم، ومصاعب الحياة ستلاقيها ولا بد.

***

حدق في وجوه من يشاركوه العشاء المبكر ثم نظر في صحنه شاردًا، قدمت عنبر بطبق العشاء الأخير، حاول إلقاء حديثه بشكل عام دون قصد لشخص بعينه: هو البيت دا مافيهوش نظام؟.. المفروض أوقات الأكل دي أوقات مقدسة ماينفعش حد يغيب عنها.

لوت كادي شفتيها بسخرية: ناس ماعندهاش ذوق ولا احترام.

رفعت عنبر عينيها لتقابل عيني سيدتها الصغرى، تبادلتا نظرة استنكار لحديث كادي، قالت عنبر قبل مغادرتها: سلمى مش فـ البيت، عشان كدا ما نزلتش للعشا، عن إذنكوا.

انسحبت تحاول تمالك أعصابها؛ حتى لا تفتك بمن تنتف فروة سيدتها الغائبة على كل كبيرة وصغيرة. التفت إلى شقيقته مقطب الجبين: يعني إيه لحد دلوقتي برا البيت؟

-مش عارفة يا ياسين، أكيد عندها ظروف.

طرق على مائدة الطعام بقبضته، صاح غاضبًا: يعني أنا رِجل كنبة فـ البيت دا ولا إيه؟، تخرج وتتأخر من غير ما يكون عندي خبر؟؟

نظرت له آية باستنكار شديد، وأجابته مستهزئة: وأنت من إمتى حسستها إنك مهتم وإنها فارقه معاك، لو الموضوع يهمك أوي بدل ما تزعق كدا كنت روح اتصل شوفها اتأخرت ليه لحد دلوقتي؛ لإن مش عوايدها فعلًا، يمكن حصلها حاجه –بعد الشر-.

ألجمته كلمات أخته التي أصابت الهدف باحتراف، صمت وتراجع منكمشًا، فيما ألقت كادي نظراتها النارية المغتاظة على شقيقة زوجها. ارتفع صوت فتح الباب ثم غلقه، عبرت سلمى ممسكة بحقيبتها الشخصية بإحدى يديها، تسير محنية الأكتاف، مطأطأة الرأس.

خرجت عنبر من المطبخ مسرعة وقد هالها منظر سلمى حينما عبرت البوابة الرئيسية للمنزل، حاولت التحدث إليها أو عرض تقديم الطعام في غرفتها، اكتفت بهزة خفيفة تدل على عدم رغبتها في شيء سوى الإنفراد بنفسها.

تراجعت متقهقرة إلى المطبخ، واستأذنت آية في الإنصراف، صعدت مسرعة خلف زوجة شقيقها لتعرف ما بها، خطوة لم يحاول شقيقها المبادرة بفعلها. تركها ياسين تصعد خلفها، العلاقة بينه وبين المفترض أنها زوجته ليست على وافق كي تخبره بمكنونات صدرها، أو لتبثه همها، أكتفى بالبقاء ضمن صفوف المتفرجين جوار زوجته الأولى.

***

حملت الصينية المحملة بأكواب الشاي وطبق يعج بالكعك والبسكويت منزلي الصنع، وضعته فوق الطاولة بتأني وانضمت إلى جوار أولاد شقيقها توزع على كل فرد نصيبه بالتساوي ودون ظلم لأحدهم، هلل الأطفال وركضوا حول بعضهم يلعبون فيما انشغل عقلها بمقدمة تبدأ بها الحديث مع أخيها الأكبر.

ضاقت عيون محمود متوقعًا سبب ترددها، فكر في قطع الطريق عليها أو النهوض والمغادرة لكنها لم تمهله كثيرًا، سألته بأعين دامعة وقلب موجوع: مش ناوي تعفو عنها بقى؟

ارتشف من كوبه يحاول تمالك نفسه أمام مظهر شقيقته المبتئس، أجاب ببرود: ماعنديش حد أعفو عنه.

-حيـ...

أطلق تجاهها نظرة مستعرة بالنيران: ماعنديش حد معرفة بالاسم دا، نبهت مية مرة على كدا.. صح ولا لا؟

ربتت عائشة بكفها الحاني على كتفه تمتص غضبه: بشويش يا محمود.

عادت زهرة تترجاه: دي أختنا الصغيرة يا محمود، يرضيك بهدلتها وإننا ما نعرفلهاش طريق جُرّة؟

انتفض واقفًا وصاح بغضب: أه يرضيني، ما يرضينيش ليها أما هي رضيته على نفسها؟؟، زهـرة!، أقفلي السيرة وما تجبيش اسمها على لسانك ولا عايز اسمع عنها حاجه فـ البيت دا.

اغلق باب المنزل خلفه بشدة كادت معها تكسر زجاج الباب المغبش، اجهشت زهرة في نواح بلا نهاية، جلست عائشة جوارها تواسيها وتحاول التخفيف عنها. زوجها صلب، عنيد، قاس، نسى معان الرحمة منذ زمن، لقد أخافها في بداية زواجهم لكن بعد حين عرفت طباعه ولم تملك سوى تقبلها، رضت به على علله.

كفكفت زهرة دموعها وانسحبت تصعد إلى غرفة والدها؛ فقد حان وقت دوائه، لا ينقصها سوى انتكاسته من جديد، ليس بيدها حيلة، لا تستطيع تقديم يد العون لشقيقتها الصغرى أو شفاء والدها من مرضه.

دخلت غرفة والدها، واتجهت إلى الطاولة المزدحمة بالأدوية، أخذت منها الكمية التي من المفترض تناولها الآن، قدمتها بيد والأخرى تمتد بكأس من الماء، تناولهم بصمت، وقد قل حديثه عما كان قبل مرضه.

نظر لها بشفقة مدركًا سبب لمعة عيونها بالدموع؛ لقد وصله صوت ابنه المرتفع، أدرك قلقها على شقيقتها ولكن هي من ألقت نفسها إلى قاع المستنقع الموحل وعليها تحمل ما سيحل بها.

***

طرقت الباب بخفة، فتحته بعدما لم تجد ردًا نتيجة خوفها؛ فالحالة التي رأتها عليها قبل قليل لا تنبئ بالخير. الغرفة تسبح في الظلام إلا من شعاع ضوء القمر تسلل عبر الأستار الشفافة والشق القائم بينهما.

شهقت بفزع ومدت يدها إلى مفتاح الإنارة، سقط نظرها فوق جسد متهدل إنحنى في أسى، والدموع تتقطر من عينيها فوق الفراش، شهقات خفيضة تخرج على ثوان متباعدة.

هرعت إليها وقد انقبض قلبها، جاورتها وتمسكت بكفيها، بعد هنية ارتفع رأس سلمى بوجهها المصفر المبلل، تنهدت بوجع وشرعت تروي ما يدمي فؤادها:

-كانت محتاجاني وما لاقتنيش جنبها، بوظت صداقتنا لدرجة إنها لما وقعت ما حاولتش تطلب مساعدتي، ما فكرتش تكلمني أو توصلي غير لما قدرت تخرج من اللي هي فيه وتقف على رجلها،

وصلت بصداقتنا لإنها تخاف تحكيلي أو تلجألي عشان ما ألومش أو أعتب عليها!، عمرك شوفتِ صديقة أسوء من كدا؟؟.. صاحبة خلت صاحبتها مش قادرة تعتمد عليها، لدرجة إنها وهي بتغرق بتكتم نفسها عشان ما تناديش على صاحبتها.

نهضت من جانب آية، وتوجهت إلى المرآة، وقفت تنظر إلى ما وراء الصورة المنعكسة، مقطبة والدموع لا تنفك تهطل بغزارة تغرق وجنتيها:

-لا عارفة أكون زوجة ولا قادرة أكون صديقة، طب أنا بأعمل إيه فـ دنيتي للي حواليا، مش قادرة أقدم حاجه لحد، إنسانة فاشلة بكل معنى الكلمة.

نزعت آية نظارتها التي أغشاها ضباب الدموع، مسحت عيونها ودنت من صديقتها الجديدة المنهارة، لم تستطع تقديم أكثر من ضمة، ضمة واحدة حملت كل ما في جعبتها من مشاركة وإدارك لكل ما يعتمر داخل الأخرى من ألم ووجع، ضمة دامت دقائق مضت كأنها دهور. انطفأت حرارة الوجع، ونفخت بقاياه تنهيدة خرجت من صدر سلمى، توقفت الأمطار على الخدود بعدما أجهضت الأعين ما بحوزتها كاملًا، تسندت إحداهما على الأخرى وجلستا متجاورتين على طرف الفراش. فتحت آية حوارات متنوعة، في كل شيء ولا شيء، تحاول جذبها للحديث والمشاركة فيه، وتارة تدغدغ قلبها علّه يلين ولو بضحكة.

ارتفع رنين الهاتف معلنًا عن وصول رسالة، لاحظت آية عدم رغبة سلمى في التحرك ومعرفة المحتوى أو الراسل، تولت هي المهمة؛ لعلها تكون من أهلها فتبعث في نفسها السرور، فتحتها عندما وجدت رقمًا غير مقيد، ابتسمت ومدت الهاتف إلى سلمى باسمة:

-الرسالة دي عشانك.

لم تفهم سر سعادتها وابتسامتها، تناولت الهاتف بلا شعور، تطلعت إلى شاشته المضيئة تقرأ ما أنارها من حروف مرسومة:

«ما تزعليش مني، بس زي ما حكيتلك، حالتي كانت زي الزفت، لو كنت قولتلك كنت هتتعبي زيي أو أكتر، كدا أحسن، صدقيني مش عدم ثقة فيك أو لإنك صديقة مش كويسة، لكن وقتها أنا ما كنتش محتاجه صديقة.. كنت محتاجه حد ما يعرفنيش، يقويني مش يزعل عليا ويسبني فـ دوامة زعلي على نفسي، وبردو مش لإنك صديقة وحشة مش هتقدر تخرجني من حالتي، بس عشان أنتِ قريبة مني زي نفسي، ولإنك عاطفية زي وأكتر.. أنتِ نفسي وخلاص يا شيخة، زهقتيني.. أيوه كدا اضحكِ، ما تخلينيش أشوف دمعتك تاني.. لا عليا، ولا على أي حد، أموااه مؤقتة لحد ما أشوفك يا عيوطة هانم، أيوه عيوطة وما تبرقليش كدا.. كفايه! الرصيد خلص منك لله، مستنية تحويل بضعف تمن الرسالة اللي هتتبعت على حداشر مرة دي.. في رعاية الله».

أفاقت من انسجامها مع كلمات صديقة عمرها على هتاف آية:

-تصدقي هأغير منها، بقى أنا بقالي ساعة بأحاول أخليكِ تبتسمي وهي بكلمتين فـ رسالة خلت الضحكة من الودن للودن.. بركاتك يا ست حياه.

اتسعت ابتسامة سلمى، ثم سألتها متعجبة: وعرفتِ منين إنها حياه؟

غمزتها: عشان مافيش غير حياه ممكن تعيطي عليها بالشكل دا، أنا مش عارفه إيه اللي حصل معاها ولا عايزه أعرف.. بس أتمنى تخرج منه أقوى من الأول وأحسن.

قبضت على الهاتف بقوة: ودا اللي حصل وهيكمل على كدا إن شاء الله.

نهضت فجأة بعزم جديد: هأدخل استحمى عشان أفوق من اللي أنا فيه دا، حالتي ولا المتشردين.

أومأت: وأنا هأخلي داده عنبر تطلعلك بالعشا؛ ما شوفتيش كانت خايفه وقلقانه عليكِ إزاي.

-ربنا يخليهالي.

-ولينا قاعدة تانية بس مش كئيبة زي دي.

أومأت ثم دلفت إلى الحمام وابتسامتها لا تغادر وجهها، تزيده راحة وضياء، لقد اثبتت لها رسالة حياه أن علاقتهما لم تهتز، تفهمت وجهة نظر حياه، ليست معها بالكامل ولكن تسامحها على هذا التفكير بذلك الوقت، يكفيها أنها أتت على بالها في عز شدتها، وأحد أسباب تراجعها، أن لا تسبب لها أي عذاب نتيجة معرفة مستجدات ما حدث معها.

عقدت العزم على تقديم يد المساعدة ولو بأصغر الأشياء، فقط لتشعر حياه أنها ستكون إلى جوارها مهما حدث، لن تكون كشقيقها الذي تبرأ منها أو أخته التي لا تستطيع الاعتراض، وقفت تحت رذاذ الماء الخارج عبر المرّش تطفئ ببرودته ما فعله بها البكاء والنحيب.

خرجت بعد دقائق مرتدية مأزرها الأبيض المزركش بورود زهرية وقد التفت منشفة حول خصلاتها تحميها من الهواء والبرد، وقفت في منتصف طريقها إلى خزانة الملابس عندما طالعها جسد ياسين يضع صينية العشاء خاصتها فوق الطاولة القريبة من الباب.

تبادل الإثنان عدة نظرات، نظرتها المليئة بدهشة وجوده في غرفتها والمتشحة بالحياء، ونظرته الجريئة اللامعة بدهشة رونقها وبريقها. ظلا على هذا الحال دقيقتين، هربت بعدهما بنظراتها لتقابل صينية الطعام، أشارت إليها برأسها متسائلة: داده عنبر اللي جابتها؟

لم تدر سبب سؤالها الساذج لكن داخلها أرد سماع الرد.. وبشوق، أجاب بنبرة خبيثة لم تستشعرها عبر هيامها: داده عنبر هي اللي جاهزتها، بس أنا اللي طلعتها لحد هنا.

حدقت فيه ببلاهة: ليه؟

هز كتفيه مدعيًا الغباء: عشان آية قالتلها إنك عايزه تتعشي.

كزت على أسنانها بغيظ: مش قصدي ليه هي جهزتها، أقصد ليه أنت طلعتها!

وضع يديه في جيبي سرواله، هز كتفيه بوجه جامد لا يحمل شيئًا مما تأمله: عادي، كدا كدا كنت طالع، وبعدين عشان ما تفتكريش إني وحش.

رفعت أحد حاجبيها ولوت جانب شفتها الأيسر بسخرية: وبقى لما تطلعلي صينية العشا اللي أنت ما جاهزتهاش بنفسك لحد أوضتي، هأغير فكرتي عنك كـ«وحش»؟

فتح باب الغرفة بينما يعيد هز كتفيه بلا مبالاة مغادرًا: أو ما تغيريش، على راحتك.

بعدما أغلق الباب سحبت المنشفة من فوق رأسها والتي كانت على وشك الإنزلاق، قذفتها على الباب المغلق بلا ذنب منه عما فعله مغلقه، تمتمت من بين أسنانها المحكمة: مستفز.

وقف خلف الباب يشد على أضراسه من استهزائها بما فعله، لقد أقدم على فعلة صغيرة ولكنها لا تتكرر كثيرًا، لو كانت تعرفه بشكل أفضل لكانت قفزت تقبله وتعانقه من فرط سعادتها، فور ذكر عقله لكلمة قبلة وعناق تذكر مظهرها البراق حال خروجها من الحمام، كانت تلمع كصبي صغير تحمم بعد معركة حامية مع أصدقائه في بركة الطين، عندما عادت لم تكن متسخة بالقاذورات ومع ذلك كانت تبدو مظلمة بالكآبة، الحزن يطفئ نور جمالها.

قطب، أي جمال، هي عادية كالعديد من العاملات بشركته، وأقل من زوجتها الأولى، هز رأسه ونظر إلى الباب المنغلق يهم بالسير مبتعدًا، تذكر ردها على كلماته كندٍ أشد ضراوة منه، تمتم بفم مطبق من الغيظ: مستفزة.

بخطوات واثقة ابتعد عن غرفتها في الإتجاه المعاكس، متجهًا إلى حلف العدو، يديه في جيوبه وعينيه تراقب تقدم خطواته بشرود، لقد انقلب عقله خلال فترة صغيرة.. بلا أسباب.

***

سارت بتؤدة، لا تكاد ترفع ناظريها عن موطئ قدميها، عقلها يدور في عدة اتجاهات مشتتة، تارة في سلمى وما يحدث معها، وأخرى في شقيقها الذي تشعر بتمزقه، ثم مع شقيقتها المتحكمة بزيادة، والمعضلة الكبرى دوران ذهنها مع أبحاثها التي لا تستقر على شيء منذ فترة، صاحت متوجعة عندما اصطدمت بجسد ذكوري قوي، نظرت إليه بأعين مشتعلة غضبًا.

مد كفيه مهدئًا وتمتم باعتذار: آسف ما أخدتش بالي.

أجابت بجفاف: أبقى فتح بعد كدا.

أثارت حفيظته بتعنتها فجابهها ببرود: مش لوحدي اللي ما كنتش مركز.

نظرت إليه بضيق ثم انصرفت دون أن تلتفت إليه، حثت خطها للإحتماء بين جدران مكتبها، تدفس رأسها بين دفوف الكتب والمراجع.. قبل أن تدخل إلى مكتبها أمرت الساعي أن يحضر لها فنجانًا من القهوة في فنجانها المخصوص بصحنه المورد، دلفت متنفسة الصعداء، فقد وصلت أخيرًا إلى مأواها الحامي.

***

انضمت إلى ناهد بعدما أخبرتها الخادمة الجديدة التي أوصت عليها كادي بطلب السيدة الكبرى لرؤيتها، دلفت إلى الحجرة فرأتها تجلس بأريحية فوق إحدى الأرائك وفي يدها دفتر صور تقلب صفحاته متأملة محتواها، لمحت بطرف عينها ملفات وأوراق أخرى تُرِكَت فوق المنضدة المقابلة.

تنحنحت حتى تلفت إنتباه ناهد إلى وصولها، أشارت لها كي تجلس جوارها موضحة: الحفلة خلاص قربت، لازم نجهز كل حاجه فـ أسرع وقت.

تأففت: أنتِ لسه مصرة على الحفلة دي يا ناهد؟.. مالوش داعي.

نهرتها ناهد بحدة: يعني إيه مالوش داعي؟.. أنتِ بقالك كام شهر هنا وماحدش يعرف إنك مرات ياسين، تخيلي لو حد من الجيران شافك وسألك أنتِ مين هيبقى شكلك إيه؟؟

شردت ولم تخبرها أن هذا حدث بالفعل، تابعت بهدوء أكثر: الموضوع منتهي، اختاري شكل الدعوات؛ عشان اتصل بيهم يلحقوا يجهزوها.. لسه ورانا حاجات تانية كتير.

-ما نخلي أي شركة تهتم بالحاجات دي وخلاص.

كزت على أسنانها تطلب الصبر: سلمى!، سلمى يا حبيبتي.. أنتِ فاكرة إن كل دا من غير شركة منظمة مهتمة؟!.. أكيد فيه، بس الأساسيات والخطوط العريضة إحنا اللي بنحطها عشان يمشوا عليها بدون مشاكل مفاجأة.

-بابا لما كان بيعمل حفلات شغل بيسيبها لشركة منظمة وخلاص كل حاجه بتمشي تمام.

-أه، عشان والدتك مالهاش فـ الشغل دا، لكن أنتِ لازم يبقى ليكِ وأوي كمان، كادي بتعرف كل صغيرة وكبيرة.. ليها ذوق وبتنظم الحفلات بسهولة، وأنتِ مش أقل منها فـ حاجه، بالعكس دي الحفلة أصلا على شرفك.

-أووف، طيب.

-ممكن بقى تسيبك من أفأفت العيال الصغيرين دي وتركزي معايا؛ لإن في حاجه مهمة جدًا لازم نظبطها بعد ما نخلص.

زفرت سلمى بملل لكنها استمعت بإنصات، ابدت رأيها في كل التفاصيل مما أعجب ناهد بشدة، راق لها ذوق زوجة شقيقها الأصغر، كانت تختار كل ما هو أنيق وبسيط في نفس الوقت، جمال دون تكلف، شيء مثلها وقطعة من شخصيتها.

***

رفعت رأسها من بين الأوراق، طالعها وجه أمير، رفعت أحد حاجبيها من خلف النظارات الطبية كأنه تسأله عما يريد، دلف حاملًا لصينية أول مرة تنتبه إلى وجودها فوق كفيه، وضعها فوق المكتب وصب القهوة في الفنجان وألقى بالمنشفة البرتقالية التي يستعملها الساعي فوق كتفيه قائلًا بلهجة مازحة: وأحلى قهوة مظبوطة على واحدة ونص لاجل عيون الضاكتورة آية.

كتمت ابتسامتها وسألت بجدية لا تشعر بها في هذه اللحظة: خير يا أمير.

جلس على المقعد المقابل لمكتبها، وضع ساقًا فوق الأخر ى: أبدًا، جاي اعتذر لو ضايقتك من شوية.

أشارت بطرف قلمها وقد أوشك حاجبيها على ملامسة منبت شعرها فيما تقول هازئة: ودا اعتذار؟

تنحنح منزلًا ساقه: سوري، عادة مش عارف أبطلها.

أومأت، قالت بلهجة دبلوماسية: ما حصلش حاجه، تقدر تروح على محاضراتك.

ضحك: محاضرات إيه بقى، الساعة داخله على ستة.

نظرت إلى ساعة معصمها مندهشة، لقد مر الوقت دون أن تدري، لم تشعر حتى بتأخر تلبية الساعي لطلبها، عضت باطن شفتها في عجب؛ النصف ساعة تحولت إلى ساعة ونصف والوقت كعادته لا ينفك يداهمها. أفاقت على عرضه: ممكن أوصلك لو حابه.

-مرسي، عربيتي معايا.

-إمممم، هي عربيتك دي ما بتعطلش أبدًا؟

رفعت أحد حاجبيها من جديد: أفندم؟؟

أطلق ضحكة غبية ونهض يحك فخذيه بكفي يده منسحبًا: أبدًا ولا حاجه، عن إذنك.

فكت قيود ابتسامتها، تستغرب حركاته الجنونية، لقد أعجبت به فيما مضى لذلك أما الآن فلا تدري، يبدو أن مرور الوقت ينسي المرء أي شيء حتى الإعجاب وليس من المستبعد شتلات الحب المهملة.

***

وقفت أمام طاولة الزينة تجفف شعرها بعد الاستحمام، وتضع الكريمات فوق بشرتها تعوضها عما فقدته، أمسكت مشطها تتخلل به خصلاتها المصبوغة حديثًا باللون الأحمر النبيذي.

لمحت طيف خادمتها المخلصة في المرآة، سألتها بعيون متيقظة كالقطط: في إيه يا ريتا؟

-الست ناهد بقالها شوية موجودة وقاعدة مع الست سلمى فـ الريسبشن.

نفخت بحنق: ودي جات إمتى كمان؟

-قبل ما حضرتك توصلي بشوية.

-إممممم، وبيخططوا لإيه العقارب دول؟

-اللي سمعته إنهم بيحضروا لحفلة على شرف الست سلمى.

قهقهت كادي بسخرية، تعلم بأمر الحفلة مسبقًا؛ فقد ذكره ياسين أمامها بطريقة عرضية. أمرت الخادمة بالذهاب وعادت تهتم بنفسها من جديد، ستتركهم يعدون ما يرغبون حتى تتهدم خططهم فوق رأسهم، متيقنة من ردائة ذوق غريمتها، كذلك لن تضع أصبعًا في شيء على شرف تلك الـسلمى، وضعت العلبة جانبًا ونهضت تتجه إلى الشرفة ببسمة مشرقة.

***

زفرت تنهيدة إرتياح وتراجعت تسند ظهرها وتريح عينيها مما أجبرتها ناهد على فعله، أمور مملة لا تلقي لها بالًا بالعادة، تفاصيل لا تعيرها أي إهتمام، لكن كما قالت ناهد فما هو بلا قيمة بالنسبة لها قد يكون شديد الأهمية لغيرها، فالناس تختلف.

انحنت ناهد واضعة ساقًا فوق الأخرى وقد انطبقتا سوية مع ميل خفيف جهة اليسار، كما تنص قواعد الإتيكيت، أمسكت بملف وفتحته تتأكد من المحتوى، قلبته بيد والأخرى ضربت بها ذراع سلمى؛ كي تجلس باعتدال وتنتبه إلى ما ستقول. تنهدت متعبة، لقد مارست الرياضة في النادي الرياضي بضراوة قضت على طاقتها، كما أن ما تدعوها ناهد إلى فعله يبعث في نفسها السأم، لم تستطع الاعتراض وانتبهت بلا حول.

دون أن تغادر عيونها صفحة الأوراق أطلعتها على المهمة التالية بعملية: دلوقتي جينا للجزء الأهم.. الضيوف.

-مالهم تاني؟.. مش خِلصنا من الدعوات.

-لازم تكوني عارفة ضيوفك مين، علاقتهم ببعض إيه، بيحبوا إيه، بيكرهوا إيه.. إلى آخره.

أضافت عندما رأت حركات سلمى المعترضة: كل دا مش بدون سبب، لازم تعرفي عشان تقدري تحددي دا تكلميه فـ إيه ودا عن إيه.. وإيه اللي بيبقى خط أحمر والمفروض ما نتعداهوش؛ عشان ضيوفنا ما يضايقوش.

انتبهت سلمى للحديث، شرعت توضح لها أهم النقاط عن كل فرد من القائمة المعدة من المدعوين، لقد قللت ناهد قدر المستطاع من عددهم حتى تستطيع الأخرى تدبر أمرها. تعرفت سلمى على عدة شخصيات والتي لم تكن ذات مراكز هينة، نتيجة علاقات سابقة معهم خلال فترة عملها جوار الدراسة وتطبيقًا لِمَ يُعاد على أسماعها في مقاعد الجامعة وعبر علاقات والدها وأخيها في العمل، مما بعث الراحة والثقة في نجاح الحفلة.

***

أخرجت مفاتيح السيارة من الجيب الخارجي للحقيبة، ضغطت على زر التحكم الإلكتروني لإيقاف الإنذار وفتح الأقفال، صعدت خلف المقود بعدما وضعت أغراضها فوق الأريكة الخلفية، حاولت إدارة السيارة لكنها لم تستجب سوى بحشرجة لا طائل منها.

سقط فوقها ظل، التفتت لتجده أمير، فتحت الزجاج المجاور لتسمعه يسأل: مشكلة؟

-مش راضية تدور.

حثها بينما يهم بفتح الباب الملاصق لها: خليني أجرب كدا.

ترجلت من السيارة وهي ترمقه بشك، تجاهلها وصعد مكانها، حاول مرة تلو الأخرى دون فائدة، هبط وسلمها المفتاح متأسفًا: شكلها هتحتاج ميكانيكي.

-إمممم، خلاص مش مشكلة، هأروح بالتاكسي.

سحبت أغراضها من المقعد الخلفي وسارت مبتعدة بعدما تأكدت من تمام إقفال السيارة، لحق بها ضاربًا الهواء بقبضته مع قفزة منتصرة وحاول رسم اللامبالاة في صوته: طب وعلى إيه التاكسي، تعالي أوصلك أنا.

-لا ميرسي، مش عايزه أعطلك معايا.

-لا ولا عطلة ولا حاجه، بعدين عيب عليا لما أسيب الدكتور بتاعتي تمشي بالليل لوحدها.

نظرت إليه من طرف عينها، أومأت ولحقت به، صعدت إلى جواره في السيارة. أثناء تجاوزه للسيارات الأخرى أشار له عامل الجراج، نهره أمير بنظرة حادة وأرسل نظرة متوجسة إلى آية

يتأكد من عدم انتباهها، زفر براحة عندما وجدها تتطلع إلى الجهة المعاكسة، سار بصمت حتى خرج من بوابة الكلية.

لمحت آية ما فعله كل منهما، لكنها تحيزت الغباء ونظرت بعيدًا حتى لا يدرك أنها كشفت خطته.

أبله!، لقد أدركتها مذ ظهر عند زجاج سيارتها يسألها عن المشكلة التي تواجهها. كتمت بسمتها لاهتمامه بأمرها، فعل كل ذلك لإيصالها ليس أكثر، لم ترد أن تعكر صفو إنتصاره الصغير بإطلاعه على ردائة خطته وقِدمها.

استنشقت دفعة كبيرة من الهواء، وقلبها يزغرد من الفرح، أنوثتها تتمايل في سعادة، لقد أشعرها بشيء لم تذق له طعمًا من قبل، لكنه من ألذ ما أحسته في حياتها.

***

زفر متأففًا، حك وجهه بكفه المشدود من كثرة الضغط، تمر عليه الأيام بضيق وغيظ، يشعر أحيانًا أنه لم يتزوج امرأتنن بل تبنى طفلتنن، إحداهما تغار من الأخر عليه فتحاول لفت الإنتباه لها وحدها.

كادي أصبحت كثيرة التدلل، سهر وخروج برفقته كل يوم تقريبًا، تنتزعه إنتزاعًا من فوق المقعد أو السرير حيث يتلمس بعض الراحة قبل يوم مشحون بالعمل في النهار التالي. فاض صدره وضاقت نفسه بما يحدث، منذ دخلت سلمى حياته انقلبت، لا يجد الاستقرار المنشود، لم يتزوج سوى ليقلل الخلافات العائلية لكن العكس تمامًا قد حدث، زادت حد أوشك على إيصاله إلى الخبال.

صديقه ومحاميه سافر، استقل بعمله بعيدًا رغم تمسكه بتولي الشئون القانونية للشركة، انشغاله الدائم بتثبيت أقدامه وضبط نظام مكتبه الخاص قضى على فرص تلاقيهم دون ذكر سفراته لارساء سمعته في دولة أخرى أملًا في نقل عمله إليها تاركًا الوطن.

ضرب سطح المكتب بقوة كادت تهشمه، تخلل خصلات شعره بأنامله، نهض يحوم كالليث في قفصه. نهر وصرخ في وجه السكرتيرة الخاصة به، طردها شر طردة حتى طفرت الدموع من مآقيها، لم يبال، يكفيه ما يمر به ليهتم بإحد موظفاته سريعات التأثر بعاطفية مبالغة.

***

تأففت من جلستها المتخشبة فوق كرسيها المبطن، دارت بعينيها في الغرفة، نوافذ مغلقة، مكيف يبث البرودة الملائمة، باب موصد بإحكام، تلال من الكتب والمراجع والأوراق تتكدس أمام ناظريها فوق المكتب والكراسي كذلك تفترش الأرضيات، لا تبدو غرفة أستاذة جامعية ينبغي أن تكون قدوة للطلبة في التنظيم والرزانة.

ضربت كفيها فوق مساند مقعدها، نهضت زافرة، ستأخذ قسطًا من الراحة ثم تعود لترتيب هذه الفوضى العارمة، التقطت حاسوبها المحمول ذي الحجم الصغير، ليس لديها وقت لتضيعه، ستستغل راحتها في تنظيم الملفات المتواجدة على ذاكرة حفظه وتفرزها إلى ذوات أهمية أو بدون.

سارت بتؤدة كعادتها، تتطلع حولها، قررت التوجه والجلوس في الحديقة، بين الزرع والخضرة تحيطها الأزهار والشجيرات المثمرة. وقع نظرها على بقعة نائية نسبيًا، ربعت قدميها وبدأت عملها، استغرقها العمل فلم تشعر بما يدور حولها.

لعقت شفتيها المتشققتين من الجفاف، تشعر بكسل لذيذ يدفعها لنسيان عطشها واستكمال جلستها الهادئة أمام الشاشة، ابتعلت ريقها الجاف ثم لمعت أمامها زجاجة مياه معدنية فاترة، أجرت ريقها بشدة، رفعت نظرها ليواجهها أمير بابتسامته الجذابة، رج الزجاجة أمام ناظريها وشجعها لتتناولها: العطش مش هيخليكِ تعرفي تركزي، هيسببلك إجهاد بدون داعي.

عضت باطن خديها وتقبلت الزجاجة بصمت، روت ظمأها بما يقرب نصف القنينة، تنهدت بسعادة وإرتواء: شكرًا.

أومأ دون إجابة شفهية، أقعى في جلوسه إلى جوارها، يسند ذراعه اليمنى فوق ركبته المثنية، تفحص شاشتها المضيئة معلقًا: أنتِ ما بتتعبيش أبدًا، مش بتاخدي راحة؟

هزت كتفيها بلا مبالاة: ما أنا فـ راحة أهو.

ضحك ملئ شدقيه: وإنك فاتحة ملفات بحثية وحاجات معقدة كدا يبقى اسمه راحة؟

ألقت إليه نظرة مستسخفة الحديث: كل واحد راحته بيلاقيها فـ حاجه غير التاني، وأصلا أنا بأنظم اللاب مش أكتر.

ماطل: بس بردو لازم راحة عشان تقدري تكملي بنفس الطاقة والقوة.

سألته بلا اهتمام: ودا إزاي بقى؟

تجاهل نبرة السخرية كأنه لم يلمحها، نهض يزيل عن ملابسه ما علق بها من أتربة، حثها على أتباعه، نظرت إليه متشككة من رجاحة عقله وفي نفس الوقت تقيم جرأته، حسمت أمرها ونهضت تتبعه، ترغب في معرفة نهاية طريق يكون هو فيه الدليل.

***

فتحت النافذة المجاورة تستقبل نسمات الهواء الباردة نسبيًا فوق بشرة وجهها الساخنة من التوتر، لأول مرة في حياتها تتجرأ على فعل –ولو بسيط- دون دراسة نتائجه، قلبها تتصارع دقاته بشدة، تجربة جديدة تخوضها وتهاب الفشل.

استخرجها من أفكارها الخاصة بصوته الجدي: بتمري بفترة خنقة.

نظرت إليه، حدقت فيه بشدة، لمح الاستغراب في عيونها بطرف عينه قبل أن يعيد تركيزه إلى الطريق أمامه، بدل عصا السرعة بقبضة يده اليمنى ثم أجاب السؤال الحائر بين عقلها ولسانها: ماكنتيش حاسه بنفسك وأنتِ عماله تنفخي كل شوية.

لمست شفاهها الوردية بلا إدراك، ابتسم هازًا كتفيه: كلنا بنمر بفترة زي دي فـ حياتنا من وقت للتاني، الشطارة إنك تخرجي منها قبل ما تقضي على آخر ذرة جواكِ.

-وأنت هتساعدني؟

-طبعًا، أومال بأعمل إيه دلوقتي؟

-إممممم، أنت واخدني على فين؟

-دلوقتي تشوفي.

برقت عيناه بشدة، تعلقت عيونها بجانب وجهه، وجه أبيض نتيجة ندرة تعرض بشرته للشمس، عيون رمادية براقة، تجذب أي أنثى، ملامح أنيقة تتناسق متكاملة مع بعضها بشدة، خلاصة.. أبدع الخالق في رسمه.

أعادت نظرها إلى النافذة، لقد أعجبت به بداية من أول يوم في الكلية، ثقته بذاته، أناقته، حلاوة لسانه.. كل ذلك ترك بها أثرًا، لكن حين لاحظت تهربه من التواجد معها، نظرة اللا مبالاة التي يرمقها بها، ابتعدت، تناست مشاعر كانت في طريق تحولها إلى حب جارف. تصرفاته مؤخرًا بدأت تخرج ملفه من أرشيف قلبها، تنفض عنه الأتربة، تعيد تقليب أوراقه والتفكير في إعادته فوق رّف «الملفات المستخدمة حاليًا».

***

تأنقت كعادتها في الأونة الأخيرة، تعطرت بعطر رومانسي خفيف لكن برائحة فواحة تجذب الأنوف وتخطف العقول، ضبطت وضعية ثوبها، هذه المرة قررت أن تقضي الليلة في المنزل مع زوجها؛ فلقد لاحظت تأففه من الخروج المتكرر، وتأففت هي من تذمته في ملابسها وإلزامها بالحجاب حتى أثناء السهرات.

أعدت سطح المنزل، بالأصح أمرت بذلك، أوقدت الشموع، نثرت الورود، رُصّ العشاء فوق طاولة دائرية كُسيت بمفرش من الحرير الأبيض، تتوسط الأطباق مزهرية صغيرة، والموسيقى الشاعرية تتسرب من أحد الأركان، سهرة رومانسية إلى أبعد حد.

سمعت صوت إيقاف سيارته الرياضية، أسرعت تثقل أحمر شفاهها الصارخ وتشد الثوب فوق جسدها بقوة أكثر، أمرت خادمتها الوفية أن تحضره إليها، أخفت قلم الحمرة في الحقيبة ثم قذفتها بعيدًا، أختارت أفضل الأماكن ووقفت تنتظره.

تقدم إلى الداخل يكز على أسنانه غيظًا، لم تمهله حتى يستحم أو يبدل ملابسه، لما لا تفهم أن العمل صار فوق عاتقه ثلاثًا، فالشركة تمر بفترة حرجة، وناهد تنشغل عنه بسفراتها المتكررة، تاركة عاتق الإدارة على كتفه وحده، لعن الله المرأة حينما تغار أو تدعي الغباء حتى تصل إلى مصلحتها الشخصية.

ضاقت عيونه، نظر حوله متفاجئًا مما أمامه، شعر بكف رقيق يوضع فوق كتفه، يمسده بخبرة نازعًا التيبس مرسلًا الاسترخاء، تهدلت أكتافه وسار كما قادته زوجته وجلس حول الطاولة، ظلت واقفة خلفه لدقائق تكمل عملها وتهمس في أذنه برقة.

-آسفة يا حبيبي؛ عشان ضغطت عليك الفترة اللي فاتت، بس أنت عارف أنا بحبك قد إيه.

تناول كفها الأيسر وقَبلَّ مفاصل أناملها متمتمًا بتفهم: ولا يهمك يا كوكي، المهم إنك معايا.

طوقته مهللة بهدوء: ربنا يخليك ليا يا قلبي.

انتقلت تجلس مقابله، تبادله نظرات الحب والإغراء، تطعمه ويطعمها، جو هادئ وراحة لم يشعرها منذ فترة، كان يأكلها بنظراته، تعلم ذلك وتتجاهله بذكاء، فلم ترتدي لونه المفضل سوى لذلك الأثر الذي تلمحه في عيونه كلما ألتقتا بعيونها. تمرست منذ سنوات وخبرت نقاط ضعفه وطرق إرضائه.

حينما لمحت شروده للحظة تعمدت إحداث حركة خفيفة ووضعت ساقًا فوق الأخرى بمهارة، حركة كفيلة بإدارة رأس أعتى الرجال، خصوصًا إذا انحصر الثوب نتيجتها إلى ما فوق الفخذ، برقت عيونه بضراوة فكتمت ابتسامة شقية منتصرة، نهضت قبل أن يفقد تمالكه لذاته، دعته إلى الرقص؛ فلم تقرر هي حتى الآن التوقف عن اللعب.

طوق خصرها وجذبها لتلتصق به بقوة، أراد إخفاءها عن الأعين وإحتواءها خلف ضلوعه، تنشق العبير الفواح من رقبتها وخلف أذنها بانسجام، مستمتعًا بذراعيها الملتفتين حول عنقه، أغمض عينيه يستمتع بكل ثانية تمر على هذا الوضع، يتمنى أن تظل عاقلة بهذه الطريقة على الدوام ليجن عقله قبل الأوان.

قبلة حمراء صبغت بها خده الخشن جعلته يتراجع ويسبح في عيونها الملونة بالأخضر نتيجة العدسات اللاصقة، لقد كانت تلائمها بشدة مع لون شعرها الكاسر لحدة فستانها الأسود بإحمراره، دنى منها على مهل يتجرع من حلاوة جمالها.

***

خرجت من الحمام تستند على حائط غرفتها حتى وصلت إلى الفراش، خلعت نظاراتها الطبية ووضعتها جانبًا، شردت تنظر إلى السقف متدثرة بغطائها الوثير، تتذكر ما حدث خلال اليوم مع أمير كأنها تعيش الموقف من جديد.

أوقف أمير السيارة أمام مدينة الملاهي، التفتت إليه بدهشة لكنه لم يمهلها، ترجل مسرعًا ودار حول مقدمة السيارة حتى يفتح الباب المجاور لها، هبطت تنظر إليه تستفسر إن كان بكامل قواه العقلية، لم تزر هذا المكان ولا لمرة في حياتها، حتى إنها لم تفكر في ذلك بتاتًا.

سار يقطع التذاكر لدخولهما وهي تسير خلفه بلا حول، دخل دخلت خلفه، قطع تذاكر اللعبة واتجه يركبها لم تعترض، توقف على حين غرة ينظر حوله، وجدها تقف ولم تركب جواره، عاد يهبط غير مهتم لتنبيهات العامل بوجوب عودته والجلوس في مكانه لبدء الدورة.

خرج عبر البوابة الصغيرة الفاصلة بين العامة واللعبة بركابها، سألها محافظًا على ابتسامته القاتلة: واقفة كدا ليه؟

لم تنبس سوى: إيه دا؟

قهقه ناظرًا إلى الخلف: دي لعبة، اسمها قطر الموت.

كزت على أسنانها والغضب حول وجهها إلى الأحمر: قصدي أنت جايبني هنا ليه؟؟.. دي أماكن للعيال الصغيرة.

رفع حاجبيه صامتًا لبرهة، دار بنظره في الأرجاء: كل اللي هنا كبار زي ما أنا شايف، جزء الأطفال مش الناحية دي خالص.

ضربت الأرض بقدمها وهي تقبض على كفيها بشدة: دول ناس بتستعيل، تقدر تقولي إيه الفايدة من إني أركب بتاعه زي دي وأفضل أدور وأصرخ وفـ الأخرى أنزل.. أفضل أتنقل من لعبة للتانية زي الأطفال.

عقد ذراعيه أمام صدره: الفايدة إنك هتخرجي الكبت اللي جواكِ وتغيري مودك، مش لازم كل حاجه تعمليها يكون لها فايدة علمية يا دكتور.. يا ريت تنسي شوية إنك أستاذة فـ كلية وعيشي كإنسانة.. ولو ليوم بس.

صاحت في وجهه: أنا إنسانة غصب عنك، ومش الهبل دا هو اللي هيخليني إنسانة يا.. إنسان.

دارت تهم بالمغادرة عندما تذكرت أنها لم تحضر أيًا من متعلقاتها، لقد تركت حقيبتها في المكتب قبل أن تخرج وتجلس في حديقة الكلية، وحضرت بسيارة أمير فلا معها سيارة أو حتى مال تستطيع به استأجر سيارة أجرة.

أدرك حيرتها فتقدم إليها، انتحى بها بعيدًا عن طريق مرور الناس إلى اللعبة، رفع كفيه أمامها متنهدًا باستسلام: طيب خلينا نتفق، نجرب اللعبة دي بس.. جربي مش هتخسري حاجه، تغيير للروتين.. أنا بأحب اللعبة دي جدًا وأنتِ كمان هتحبيها، أوعدك.. لو بعدها حبيتِ نمشي خلاص.

لم يكن بيدها حيلة، فهو وسيلتها للعودة من حيث أتت، أومأت في صمت، وانتظرت إنتهاء الدورة التي بدأت لتصعد في التالية، شعرت بالخوف من صراخ الراكبين الذي كاد يخرق طبلة أذنها، توجست مما هي مقدمة عليه لكن الأمر أنتهى، فلقد تمت الدورة وقادها أمير لتركب، تأكد من إحكام الحزام فوقها قبل أن يصعد إلى المقعد المجاور.

تشبثت قدر المستطاع، تحاول إعادة تنظيم دقاتها بتنفسها العميق وإطلاق الزفير وأخذ الشهيق، عد العامل حتى ثلاثة ثم ضغط زر الإطلاق، سارت القاطرة في التواءات لا نهاية لها، تسرع تارة وتبطئ أخرى، رؤوسهم لأعلى حينًا ولأسفل أحايين، الخوف كاد يتسبب في توقف قلبها عن النبض، سمعت نصيحة أمير لها رغم شعورها بأن الهواء منع عنها أي منفذ للسمع؛ نتيجة الضغط الخارجي والداخلي الذي توتر، فعلت كما قال مجبرة فور إنطلاق القاطرة في مسارها من جديد، صرخت كما لم تصرخ قبلًا بكل قوتها التي خارت فور هبوطها بمساعدة العامل وأمير، تقيأت بجانب أحد الأعمدة، أسرع يسندها عندما أوشكت على السقوط أرضًا، همست: روحني.

لم تزد حرفًا، وهو لم يناقشها، أجلسها في المقعد الخلفي لتتمدد في وضعية أكثر راحة وأسرع إلى منزلها بعدما همست بالعنوان وبالكاد سمعه، أنزلها أمام الباب الخارجي بعدما وعدها بإرسال أغراضها وسيارتها ليلًا، لم تهتم بشكره على ما فعل؛ في النهاية هو من تسبب به.

ومنذ قليل وصلت السيارة مع فرد من أمن الكلية، شكرته تتسلمها منه بهدوء، حمدت ربها أن أحدًا لم يلحظ حالتها، فياسين لم يكن قد عاد، وكادي لا تهتم سوى بنفسها، كما أن عنبر لا تغادر المطبخ إلا عند الضرورة.

جلست تتساءل، أين اختفت سلمى على غير العادة؟، نظرت في ساعتها لتجدها قاربت على الحادية عشر ليلًا، عادت تستلقي فأحيانًا تنام سلمى بعد العشاء، وقد يكون هذا ما حدث.

***

دفنت وجهها في الوسادة تقبض عليها بشدة حتى أوشكت أن تقطع أنفاسها، شهقاتها المكبوتة كأنين حيوان سقط في فخ الصياد، لعن الله قلبها ورغبتها في مساعدة الغير، فلو كانت لا تهتم ولا تعير غيرها أي اهتمام لما وصلت إلى هذا الحال.

سهى عن بالها أن ريتال هي خادمة كادي، وساعدها الأيمن فلم تدرك أن وراء سقوطها أثناء صعود الدرج خطة شيطانية من غريمتها شاركتها الحية الأخرى في تنفيذها، تطوعت بطيبة خاطر لمساعدة الخادمة، بأن تصعد هي بالمفارش النظيفة إلى المقعد المرصوصة فوق سطح المنزل حين وجدت منها خوفًا ورهبة من سيدتها كادي.. القاسية.

ارتقت إلى الطابق العلوي ليصدمها مشهد كادي بين ذراعي ياسين في مشهد حميمي على وقع موسيقى شديدة الرومانسية محاطين بالورود والشموع العطرة، أسقطت المحارم والمفارش من يدها وركضت إلى غرفتها باكية.

غبية، لم يثر رفض الخادمة مرافقتها إلى حجرتها وإصرارها على الصعود بالأغراض أي ريبة داخلها، ضرتها الحقيرة جعلتها ترى أنها ستظل الفائزة دائمًا بقلب ياسين، شعرت بحبه لها وتلهفه عليها.

شيطانة أوقدت النار بيدها، ولن يطفئها ماء أو تراب، ستتأجج بلا خمود وتشتعل دون وقود، ستظل تسعرها حتى تأكل ما حولها، بفضل كادي تحولت من إنسانة بريئة إلى أخرى داهية، تتعامل كالحرباء وتتلوى بالخبث كأفعى الكبر السامة، رددت داخلها وعيونها تلمع ببريق الانتقام «إذا فلتتحمل.. لسع النيران وسم الغيران». 

Continue Reading

You'll Also Like

1M 52.4K 61
جميع الحقوق محفوظة للكاتبة الجزء الأول.... الجوكر_والأسطورة الجزء الثاني... الجبابرة.. وعشقها ذو القلب المتبلد بعينيك حلم تدلى على ظل الهوى والروح...
1.1K 65 17
واخـتر خليـلاً لِـ قلبِـكَ بِحڪمة فَـ ليست ڪُل القُلـوبِ بِالقُلـوبِ تليـقُ 🐣🫂""))
2M 55.9K 46
وكأن قُبلتها ضربت بوميضٍ قوي إخترق قلبه ! وكأن ما يُنقصه الأن سحر قُبلتها عليه ! وكأن ما لديه من سحر وعشقٍ لها لا يكفي! وبين كأن وكأن.. تعلق قلبه...
1.8M 86.1K 82
الماضي هل يُمحى؟! سؤال يعرف إجابته الجميع فـليته كان يُمحى لما وصلنا إلى ما نحن عليه الآن كُلًا منا يريد العودة بالزمن ليصلح أخطاء فعلها و ندم عل...