الاخير

155 4 0
                                    

#مارد_من_الإنس
#الجزء_الأخير

أنا الأحمق .. أنا من أحبها..  وهي من أحبتني دونًا عن كل وغد إدعت حبه ودعتكم لتصديق . قدري الأسود المنتظر منذ عقود وللعجب لم أبالي فقد عشت طيلة حياتي أبحث عن من تجرعني مرار يتسرسب بحلقي كالشهد المصبب لأني وبعد كل تلك السنوات الماضية لم أتجرع إلا المرار إذاً لا بأس بالمزيد . بمحض إرادتي الواسعة إخترت الطريق الأزرق المضني لرجل بقامتي وإن كنت أقصر منها وبحسابات النساء وبعض الرجال وجب علي الإنسحاب أو على الاقل قتلها قبل أن تقتلني عشقًا فالنساء أحلامهن تنحصر على طوال القامة ذوي الجسد الجهم والوسامة النسائية و لا أملك أيهم . عقاب الله الرادع وتقبلته وإنتظرت القصاص العادل, أنا مقصد شيطانها الأول والأخير ولا خلاص لها إلا بتنفيذ العدالة الالهية.  أنا رجل المملكة وليد الرياض ولم أعلم يومًا لما سميت الأتربة العاصفة والحر المكفر والشتاء المكفهر برياض . أسمر البشرة كسائر معشرنا قامتي لا تتعدي مائة وستون سنتيمتر, إختصاراً للوقت المهدور أعرفكم على شبيهي الأسيوي من نفس قارتي فأنا وليس لي أي فخر أشبه جاكي شان ولكن عابس الوجه دائمًا وإن كنت لست عابوساً ولكني لا أجد سبب للإبتسام إلا لنكاتها. نعم هي الشقراء الفارعة القوام سليلة الأنساب العريقة إبنة عدوي اللدود وإن كنت لا أعلم يومًا لمَ يراني عدواً بعدما كنا أصدقاء وزملاء معارك عدة ظهر كلاً منا حمى الأخر أو بمعنى أصح طيارة كلاً منا حمت طائرة الأخر إلى أن جن وقذف مروحتي الخلفية بمعركة ضارية خضناها سويًا ضد عدوٍ واحد. سقطت طائرتي ومات طاقمي فور الإرتطام أما عنما كان بجعبتي من جنود أسقطتهم نيران العدو فور خروجهم من الطائرة التي كانت بطريقها للإنفجار بعدما ثقب حزان الوقود برصاصة طائشة وينتظر شرر رصاصة أخرى للقضاء على كل مخلوق على مسافة مائة متر إنما وللمفارقة المضحكة أنقذني زميل له مصري ضابط صاعقة قدير يدعى وحيد  . من جلال أم الرياض تريدون الحكاية لتكن من بداية البداية لنتجه من نيويورك للرياض بعد فراق دام لخمسة وعشرون عام.
أبي حلاق يملك محال بنهاية الشارع الذي سكناه .. حيينا كان متواضع للغاية أم فقير أصلح تعبيراً , مليئًا بالبيوت المتجاورة الغير متوازية فالدولة أغفلت عن تخطيط حينا المترامي على أطراف البلدة, زحام يعم تلكم البيوت ذات الألوان الباهتة المصفرة, زحام إلزامي لمعشرنا غير مفسر الأسباب فجميعنا فقراء طعامنا العدس عشائاً وغداء وإن منت الاقدار بالرخاء تتقاسم عائلة من إثنى عشر شخص دجاجة يكون للأب ربعها أو أكثر. لي أسرة كبيرة من ستة أخوة وثلاثة أخوات أحمل رقم تسعة لذلك كنت مدلل أبي يستقيظ صباحاً يصفقني على قفاي ويجرني جرًا لمحاله, أكنس المحال, أمسح الكراس, أرش المياة أمام المحال وانتظر توافد الزبان مع أبي. أبي كان نيق للغاية ولقبه الأخيل المغرور بين أبناء الحي لأنه لا يقبل عملاً خارج محاله, لا يقبل عملاً خارجياً إلا لأصحاب النفوذ الاثرياء.
يوم الجمعة كان مخصص لأصحاب النفوذ الأثرياء وعلى رأسهم أول من يمر عليه أبي بالسابعة صباحاً من كل جمعة بكل أسبوع. ندخل كلانا البيت الكبير على إستحياء ونظل بحديقة القصر لساعة أو ساعات إلى أن يستيقظ صاحب الدار وينعم علينا بظلاً بعد قيظ أو بمأوى بعدما إنهمر عليهما سيلًا من إمطار الشتاء . باب خلفي يفضي إلى المطبخ الذي نتناول به القهوة والكعك المنزلي الصنع الأشهي على الإطلاق ثم مزيدًا من الإنتظار. بمرة مجرد مرة لأنني لم أكن أخاطب أبي كثيرًا سألته لماذا لا نذهب لزبائن متيقظين لحلاقة الجمعة عوضًا عن النعس الذي يستبقه لساعات من الهدر فأجابني أبي بكفه التي صفقت ظهري حتى قصمته وترجَّع من جوفي الكعك الشهي وسألني هو الصمت . لكم أن تتخيلوا لكم كانت علاقتي بأبي طيبة إنما لا ضغينة فعلاقة أبي بباقي أخوتي وأخواتي كانت متشابة للغاية وكما يقولون المساواة بالظلم عدل, حياتنا تلخصت بأوامر من رب البيت لساكنيه تليها الطاعة المطلقة والتلبية اللا نهائية.
أسرتنا الكبيرة لم تعترف إلا بتعليم الكتاتيب وذلك حتى السابعة منه للعمل ولكنني صنفت أكثر أبناء أبي ذكائاً فقد حفظت كتاب الله بالسابعة من عمري مما جعل شيخي يزور أبي بمنزلنا  ليلح عليه بإستكمال تعليمي بالمدارس الحكومية و حينها إستجاب أبي بترحاب وطرد شيخ الجامع وألحقني بالعمل بمحاله. أخواني الكبار منهم السائق ومنهم البائع والبناء أما أنا ورثتُ مهنة أبيه رغمًا عني. كم كنتُ بارع كما أثنى علي كل من أتى أسفل موسي ومقصي, بالرابعة عشرة من عمري كنتُ أتلقى بقشيشًا يعادل ما يخرجه أبي من مكاسب عبر مروره على بيوت الكرام. ولأنني أحمق صغير بات لدي حلمٌ ضئيل أن أرى إبتسامة على ثغر أمي الحزينة على الدوام فناولتها ما أخرجته سرًا عن أبي وإنتظرتُ الشكر والعرفان, تناولت أمي مني النقود بهدوء وإبتسمت كما تمنيت ثم بكت بلا أسباب . الأسباب جائت سريعة باليوم التالي فتحتُ المحال بموعده المثبت الثامنة صباحاً فقد أمسيتُ من يفتح المحال مبكرًا وأغلقه بعد منتصف الليل بعدما كبرتُ وإشتد عودي وبات في مقدرتي سحب صفحة الصاج الثقيل المتعرج التي تحجب واجهة المحال الزجاجية عن اللصوص, إنتظرتُ حلول أبي بعد أن يفرغ من إفطاره وشايه وقهوته وأرجيلته كذلك عراك كل صباح مع باقي الإخوة إن تحامق أحدهم وأخفى عن أبي راتبه أو بقشيشه أو حتى عطية أو صدقة من كريم نظر نظرة عطف لمترتدين ملابس الصيف بالشتاء كما تحامقتُ وصدقتُ أن النساء قد تصون سرَ وإن كانت تلك النساء أمي.  أول الزبائن يكونوا من طلاب الجامعة دومًا وهم أكثر من يخدقوا علي بعدما برعتُ بخط وتزجيج اللحى كما تذكي الموضات الحديثة إنما لا يذكيها أبي ويجد مكاني جهنم وبئس المصير بعدما جعلتُ من لحى الرجال دربًا من دروب المزان وليس الوقار إنما لم يجرؤ عن رد زبون يومًا. إنتهيتُ من الزبون وقام عن الكرسي بينما  أنفض عن ثوب الزبون ما علق من شعيرات بالمنشة القش إلا أن الزبون نهاني فقد خشى على ثوبه الأبيض من منشة قش أبي المسودة من قتل الذباب. ما إن خرج الزبون حتى ترك أبي كرسيه الخارجي وإندفع داخل المحال بيده عصى حديدية ذو طرف ملتوي, رفيعة بسمك إصبع تقريبًا وظيفتها سحب صفحة الصاج الثقيل التي يغلق بها المحال, بهذه اللحظة إبتكر أبي للعصى وظيفة جديدة مجدية للغاية فقد إنهالت علي تلك العصى مراراً و تكرار, تحاشيته وجريت منه بكل ناحية فعالج أبي هذا الأمر وضربني على ساقي اليسرى فإلتوت ولم يعد في مقدرتي الهرب أو التحاشي, نزلت علي العصى مرة ومرات حتى تنبه أهالي الحي لضجيج داخل المحال الهادئ وأنقذوني من غضب أبي .
نقلتُ واعياً لمشفى أولي وحيد بالحي لا يوجد به أي نوع من المسكنات القوية بخلاف مسكنات داء الشقيقة والأسنان وتلك متوفرة إن دفعتُ المقابل وليس بحوزتي نقود وأبي لم يترك محاله لمرافقة ولده المضخب بالجراح وقد يكون الان جالس من أمامه بإنتظار الزبائن, أما ولده الأصغر أخطيت جراحه واعيًا, أعيد له رد عظمة الظنبوب التي برزت عن ساقه واعيًا, سمع ثناء الممرضين والأطباء على شدة بأسه وتحمله الألم واعياً, سمع الحسبلة والحوقلة إثر أفعال أباً بولده واعيًا, طُلب منه أن لا يتكتم غضبه داخله وأن يصرح به صياحًا وبكاء وليس بذلك أي عيب إنما رفضتُ واعياً.
واعياً سحبتُ يدي من أسفل يدها ذو القفاز القطني لما أبدت أسفًا لما حدث منذ سنوات فهي إمرأة أجنبية ولو كانت بعمر أكبر بناتي وقلتُ :
- لا عليكِ فهذا الحادث ما وضعنا على أول الطريق
- طريق إيه ؟
- طريقي .. إمتنعِ عن العربية أرجوكِ وانت معي على أقل تقدير
أمائت بالموافقة فعدتُ للسرد المأساوي إنما هي لا تتملل أبدًا بل وتطلب المزيد. واعيًا خرجتُ من المشفى بعد ثلاثة أيام وعدتُ للمحال بعدما أمر أبي أن يكون محل إقامتي من اليوم فصاعد. لا أعلم لمَ لم يقدم أي نزيل من نزلاء بيت أبي على زيارتي ولا حتى أمي الواشية إنما هناك نزيل أو رحال وحيد والفريد بالعائلة المتميز بقامته العالية وجسده الجهم,  أنه مالك قوته وأيامه وقلب أمه, مالك أخي الرابع فقد أنجب أبي ثلاثة فتيان أولا ثم ثلاثة فتيات ثم هما أما التاسع كان توأمي الذي لم يعش إلا لأيام إلا أنني سمعتُ نسوة الحي يقولون أن أخي التوأم ولد معيب برأس كبير وأطراف صغيرة وعيون مطموسة فألقى به أبي بالخليج.
- ما تصدق حكي النسوان
قالها مالك أخي مكذباً فأجبته :
- وإيش تبغيني أصدق ؟
ناولني سيجارة من علبة سجائره وقال :
-  صدق خوك انت صاير كبير الحين .. تومك مات بيك دفنه في حديقة الجامع
- كنك رميته معه إيشلون بتداري عليه قعد ما فقع عينك ؟!
إبتسم مالك بتحسر بينما يلامس عينه اليسرى التي أغلقت لقدرًا غير مسمى وطلب مني المغفرة لزلة من زلات الفقر, أبينا فقير الهم يعتصر قلبه والقسوة والتنمر ما تبقى له ليجمع ما تبقى من كرامة بعثرها الفقر. ولكننا لم نكن فقراء فكما أشاع كنا من أعيان الحي فعلى أقل تقدير نسائنا لا تعمل في خدمة البيوت أو لهن بسطة في السوق الكبير, أمي لم تكن مثل نسوة الحي أيضا فقد كانت أجمهلن كما أشاع عنها, رضراضة القوام وليست نحيفة هزيلة مثل جاراتها الضعيفات اللاتي يكسبن قوت يومهن بالتنقل بين الأسواق وتنظيف بيوت الأثرياء, عيونها رمادية, قصيرة بعض الشيء, ذو سطوة على الجارات يستمعن جميعًا لنصحها ويلبين طلباتها الخارجية في الكثير من الأحيان, إحداهن تجلب لها حاجيات الطعام من السوق وأخرى تنتقي لها الأقشمة وأخيرة تفصله لأجلها . تلك السطوة تنزوي فور دخول أبي للمنزل معفرًا بالغضب عند كل عودة على حدٍ سواء وحينها تلملم ما تبقى من أخوة وتكسنهم الصمت البعيد ولكن عن الأب فقد كانت تخشى عقاله الذي يلهب أجساد أبنائها وجسدها على حدٍ سواء.
مالك أخي أخبرني أن حياة التقشف لداع ملح لأن أبي ذو طموح مكنه من ترك حياة البدو للحضر وكذلك يطمح أن يسكن القصور والتزوج من فتاة بكر جديدة وتركنا في حارة الفقر أبد الدهر. أبي يعمل على حلمه بقوة يطعمنا العدس, يقبض عنا رواتبنا, يحرمنا من التعليم , لا يبتاع ملابس جديدة لمن تهالكت ملابسه وكلاً من أجل الحلم. مالك فقط من تثنى له النجاح لما هرب من المنزل فور طريحة ساخنة من أبيهم ولسبب واه, فقط رءاه أبي برفقة فتاة خارج السوبر ماركت الكبير الذي يعمل به لثمانية عشر ساعة هذا السبب المعلن أما المستتر الفتاة كانت إبنة لبقال صغير ينتهز فترة العروض الترويجية قبل الأخريين ليغذي محاله بالبضائع الرخيصة والمكسب مناصفة بينه وبين مالك ومالك فعل كما يفعل كل ذي عقل وأخفى الربح عن أبي. المثير للسخرية أن مالك من باح بهذا الإعتراف لأبي خوفاً من أن تلعب برأس أبينا الظنون فهدأ الاب وطلب إثباتًا دامغ؛ أين النقود وأتاه الأحمق بالنقود وحينها ثار أبينا علينا, خلف السوء والزنا من يأكلوا لحمه وحياته وأيامه المتبقية وكل الأشياء البديعة التي يقولها كل أب لإذلال أبنائه وكأنهم لم يكونوا لحظة نشوة لم ينتشوا لها يوماً خاصة لو ولدوا لأب مثل ذاك. ضرب مالك بالطبع بعدما إنتزعت منه نقوده بالقوة الجبرية فالمسكين كان ممسك بها وكأنها طريقه لبرزخ الجنان ومن بين محاولات مالك بالهرب ومحاولات الأب بالتصدي سقط مالك على أرجيلة أبيهم وفقعت عينه.  
إقشعر جسد الشقراء وإنتصب على رسخيها شعيراتها الشقراء الصغيرة, فهي طبيعية غير مصطنعة على الإطلاق وترى ذلك واجب على كل إمرأة وإن كن ليسوا بجمالها الأخاذ. أغمضت عيونها الزرقاء في ألم حقيقي للحظات عدة بينما تبحث عن شهيقًا بعيد عن غلافي الجوي المأساوي ولما عادت قالت :
- مش قادرة أصدق إن في أب بالمواصفات دي انت بتبالغ يا إياد
وماذا تعلم شقراء جميلة كان أبيها يقطع القارات لطلب الرزق من بين المعارك الطاحنة الدائرة بالعالم إن ذاك, يبحث عن دواء بالخارج ليداوي فتاته الوحيدة التي ولدت ضعيفة هشة بنصف رئة وحياتها للأن معجزة ولا أمل بحياة طبيعية بالقريب كما أخبره الأطباء ورغم ذلك لم ييأس يومًا حتى أصبحت الضعيفة الهشة جيشًا يدق الارض دقًا يحمي وطنه العائلي والإستيراتيجي على حدٍ سواء وأحيانًا يستجير بها كل مظلوم والمثير تلبي النداء. هل تعلم الشقراء أن الحلوى التي لا تفارق حقيبتها كانت أقصى أحلامي وحتى بلغتُ العشرون وصرت في مقدوري شرائها وللمفارقة لم أقدم على شرائها يومًا ورقبتها داخل المحال كما إعتدت. بأي حال إعتدتُ على العديد من الأشياء مما تركتها من خلفي ومنها مراقبة الحلوى بأيدى الأطفال, إنصراف أفراد عائلتي كلا لشأنه, الوفر الكثير من الوفر لنقود ضاق بها مخبئي الآثير داخل محال أبي فلم أجد شيء قد أبتاعه ولا أدان.
- مالك كان شبه أخوك عشان كده بتحبه ؟
- اللعنة يا إمرأة كيف تكونِ بهذا الذكاء وتنسين دائمًا نصحي .. تحدثِ بالإنجليزية أرجوكِ هنا
- حسنناً .. هيا إخبرني هل مالك كان....
قاطعتها :
-  نعم .. يذكرني مالك بأخي رغم أنه لم يكن يشبهه بالطبع فمالك قامته طويلة للغاية مثل لاعبي كرة السلة ولكن مالك .. لا أعلم كيف أصنف هذا .. مالك قوي و تلك القوة ذكرتني بما كان علي فعله لو تركت الحقد والكراهية جانبًا مثلما فعل
- ولكنه لم يترك الحقد و الكراهية وحاول قتل اليهود الشواذ
- ذلة قد يقع بها أي إنسان و لكن كنت أعرف معدنه الحقيقي لذلك ساعدته ومن حينها لم أعهد به حقد على مخلوق
- يبدوا إنك أحمق عجوز
طافت روحي قبل عيوني ببشرتها الناعمة الناصعة البياض, وجنتيها الشاهقتين, شطئان الخلود الزرقاء فمها الزنبقي المتورد وقلت والهيام يملأ كياني السابح في كيانها :
- وأنت صغيرة .. صغيرة للغاية
- أكمل  
لازلتُ أرى أبي بأحلامي, أشتم رائحته المعبقة بالدخان, على كتفه غترة بيضاء, عاقد ما بين حاجبيه, عازم على قتلي جزاء ما إقترفتُ فقد إكتشف المخبأ . أتتني الضربة مرتين ومن نفس الشخص, مرضت أمي مرضاً عسير والخلطات والأعشاب لم توقف توغل المرض بجسدها فباتت طريحة الفراش تستجدي الموت . لم أتحامل على نفسي كنتُ صغير وكل صغير أمه عالمه الصغير, ولذلك ذهبتُ للمشفى ووصفتُ الأعراض التي تنتاب أمي للطبيب فلم يكن من الشائع حينها زيارة النساء للأطباء خاصة الرجال كذلك أبي – لا أعرف كيف سأقولها ولكن لابد أن أقول – كان يغار على أمي بشدة ولا يخرجها من المنزل أبداً, بأي حال  إبتعتُ وصفة دواء أوصى بها الطبيب وأودعتُ الوصفة لأمي وعدتُ لنومتي بالمحال البارد على فراش أرضي هل تريد الشقراء المدللة معرفة كنة فراش إياد مرتدي الكلفن كلاين كما أوصت الشقراء
- لا أشكرك سوف أتنازل عن تلك المعلومة .. لم أعد أتحمل
سجادة صلاة مهترية وغطائي السماء ولكن كما كان يقول أبيها مبتهلاً عندما توافينا ليلة سقيعية وهم من داخل خيام لا تحمي من بردًا أو مطر ؛ يبعث الله البرد بالتساوي مع الغطاء كذلك أرسلت السماء أبي بليلة ممطرة يفتح المحال على النائم فجرًا ولكن لم يضربني هذه المرة, فقط طلب مني جمع حاجياتي إن وجدت لأنه أوجد لي عملاً أخر لن أستطيع من خلاله سرقته.
ومن هنا نقطة التحول والسرد هذه المرة ذاتي؛ لم تتحمل أذن الشقراء المرهفة سماع باقي قصتي, أرسلتُ للعمل بنفس القصر الذي كنت أقبع بحديقته لساعات حتى يستيقظ رب البيت لحلاقة الجمعة. عملتُ كل شيء وأي شيء بستاني, عامل نظافة, مساعد طاهي ثم إستخرج لي صاحب القصر رخصة قيادة وأصبحتُ سائق الأولاد الصغار حتى أتت من الخارج وتبدل العالم للأبهج . إبنة صاحب القصر البكر من زوجته الأولى الأمريكية, جميلة بالطبع كما يزين لنا الشيطان ذلاتنا, عيون خضراء لأمها بشرة خمرية لأبيها, قدًا مشدود, علمًا واسع يصعب على إمرأة إكتسابه وليس فتاة بالسابعة عشر. تستطيع القيادة, الرقص التسوق, القراءة بالعربية والإنجليزية علاوة على بعض الفرنسية التي تجلد بها أباها وزوجته إن إنتقدا أي فعل من أفعالها الطائشة, وما أكثرهم فقد تفاجأت حقاً بالبلد التي إنتقلت إليها على حين غرة بعد وفاة أمها بحادث سير, بلد ترفع شعار لا للنساء . حينها لم تكن هناك جامعة للنساء بعد أو مراكز تجارية عديدة كما الان والنزهة الوحيدة كانت المحيط والشواء من أمامه. أما الملابس فكانت معضلة بحق لم تقنع يومًا بحاجة المرأة لما يغطي رأسها ووجها أو تلحفها بالسواد بمناسبة وغيرها. أكثر ما أثار حفيظتها وللحق كل شيء كان يثير حفيظتها كان الفصل بين النساء والرجال فهي تجد كلاهما حمقى وإن جلسا كلاهما بمجلس وعرايا لما أدرك الأول ماهية الثاني. كنتُ أسمع لكنتها العربية المصرية وأضحك فكانت تسعد لضحكاتي لأن أخر نقل ما تقوله لأبيها وحينها عوقبت بالحبس الإنفرادي بغرفتها لمجرد أن أخر سمع صوتها وتهكماتها على بلدها الأم .
كما عاقبوها عاقبتهم جميعًا بفعل كل نقيض ورفضت الإقتران من كل رجل تقدم لها, أصرت على إستكمال دراستها ولكن بجامعة بغداد فأبيها رفض عودتها لأمريكا تحت أي ظرف. لنعد للعقاب ما أجمله, نمى لمسامع أبيها علاقتها برجل تقابله بالمطاعم العامة والفنادق وقبل البحث والتدقيق أمر بإيداعها لغرفتها من جديد والحرمان من الدراسة والسفر للتسوق وغيره حتى النزهات الخلوية مع باقي الأسرة . كنتُ من يوصلها للرجل الأخر ولم يكن هناك أخر فقد كانت تقابل باقي زميلاتها من جامعة بغداد لما يقمن بزيارة المملكة ومن إختلقت تلك الشائعة زوجة أبيها للكيد النسائي المشهر. شعرتُ بالأسى حيالها خاصة لما جاء الصيف وسافرت العائلة للقاهرة لتبديل الأجواء القاسية ببلادنا وتركوها بغرفتها, تبدل الأسى لما أرسلتني لمكتبات بحيي الفقير تبيع الكتب والمجلات المسمومة بالشرور الأمريكي, بها الرجال والنساء كما ولدتهم أمهاتهم أحرار وليس عرايا كما أقول بعيوني المغلقة هى قالت وأنا إستمعتُ كما إعتدتُ ولم أحدث بأحاديثها أخر. أحاديث وأحاديث تلقيها على مسامعي بغرفتي الخشبية بالحديقة, الحياة الحرية أمريكا ولما فرغ الحديث فرغت الأحاسيس المختزلة داخلنا لأنني كما قالت أيضا أكثر من يفهمها بهذا الحجيم وإن لم أفهمها يومًا. رغم إنها أنثاي الأولى لم أكن رجلها الأول ولم أجرأ ابدأ سؤالها عن الأول, إكتفيتُ بلحظاتنا المسروقة حتى جاء المحتوم. أحدهم تقدم للتزوج منها سوف يجعل منها زوجة ثانية. من أسرة نبيلة متوغلة حتى القصور الحاكمة رجل جيش يعمل طيار حربي ثري للغاية حتى أنه أكثر ثرائاً من أبيها ويملك قصراً بسياتل, لم تراه, فقط سمعت أخر الأنباء مني إلا أنها ألقت بكل الأنباء جانبًا ولم تسمع إلا سياتل إذاً العودة الميمونة لأمريكا والخروج من سجن الوطن فرض عليها فرضًا . السعادة بعيونها تتراقص تنتظر حلول الخطيب على أحر من الجمر إنما ذلك لم يمنعها من زيارتي, تعتلي سائقها وتصرخ بإحتقان إلى أن همدت فزنزلت عني تبحث عن سجائري المريكية وتشعل واحدة
- ليش مبوز ؟
- حزين عليكي
- ليش ؟
- إيش راحه تقولي للعريس يا عروس ليلة العرس
- بدوي ما تفهم شيء .. انت غيران .. ما تخاف باخدك معي
- صاير كاميريرة الست
- لا أبو الولد .. فهد رايح جوزني مشان مراته ما بتجيب ولاد
كان زوجها أحمق أخر لا يتابع صرعات الطب الحديث الذي أثبت أن المرأة ليست إلا معون والرجل طاهي يطبخ البنبن أو البنات. صدقت الأيام على كلماتها وأمرني أبيها أن أكون سائقها الخاص بقصر الزوج و إلى هنا توقفت العلاقة. زوجها كان طيب القلب أحسن إلي كثيرًا وإقتص جزئًا من راتبي لي فقد كان أبي من يتحصل على راتب بالكامل, إصحبني معه بكل مجلس فقد كان ولد وحيد لأسرته وليس له أخوة ولكن له العديد من الأصدقاء لمحوا بسائقه الذكاء والنبوغ وشدة البأس رغم صغر سني.
بيومًا من الأيام إصطحبني معه لعمله, لأول مطار حربي أو مدني أراه بحياتي, العديد من الرجال ذو اللحى يقفون في إمتثال ويؤدون التحية العسكرية للطيار ومن خلفه خادمه الصغير المبتسم ببلاهة لأولى المظاهر الفخمة التي يراها ببلاده فلم أكن أعلم أن ببلادي جيش نظامي وبهذا التعداد والعتاد. أفواج من الرجال بصفوف منظمة بأردية مماثلة يجولوا بالساحة الشاسعة, عربات مموهة بالأصفر والبني, دبابات , مدرعات وكل ما رءايته بالأفلام الحربية الأمريكية التي يعشقها سيد الدار وأتابعها معه وعندما يكون رائق المزاج و يترجم لي أحاديث الابطال ويشركني الرأي ...
وقفتُ مشدوهًا أطالع الطائرات التي وردت منذ أيام من أمريكا وطلب الطيار لمعاينتها بنفسه والتحليق بها لإختبارها ولكن الطيار دلف من باب المطار لباب مكتبه وطلب من خادمه الإنتظار بالخارج فلبيتُ. لم أستطع الإنتظار كثيرًا فقد سحبتني قدمي للحلم وإن لم أحلم به من قبل ووافاني الحلم فور رؤيتها, جاذبيتها آسرته, توجهها أسفل قيظ الظهيرة أيقظ أعمق حواسي, قوامها الهجم دفعني دفعاً لملامسة مفاتنها البارزة فوجدتُ نفسي التائقة متحيرة بين فيضًا من المفاتن البضة.
- يا خرابي وعاملي فيها محترم ومش بتاع ستات مين دي بقه ؟!
- أجمل أثنى بين كل مؤنث
- بيضا و لا سمرة ؟
- رمادية
- رمادية .. إزاي .. انت مجنون يا فهد ولا إياد جننتني ؟
إبتسمتُ وقلتُ :
- انا  لا فهد و لا إياد .. انا جابر .. انتي يا هنا قوليلي يا جابر
نظرت لي بأسى وقالت :
- انا بحب إسم جابر أكتر .. معناه رقيق في حنيه .. جابر الخواطر .. قولي يا جابر مين الحلوة اللي شفتها
- طائرة 
- قد كده بتحب الطيارات ؟!
- طيارة يا هنا يعني سما .. يعني مكان جديد تبتدي فيه من جديد وانا كنت محتاج الحاجه دي جدا
ضحكت بشدة ثم قالت :
-  بيتكلم عربي زيي وبطلت جبن
عدتُ للإنجليزية و قلتُ :
-  انا لست جبان هنا .. انا فقط أخاف عليكِ .. انا إنسان خطر معرض للإغتيال بأي وقت وقد يطالك أذى لوجودك معي خاصة لو كنت عربية
- حسنناً لن أتحدث العربية أبداً .. عد للطائرة الاولى بحياتك
في الواقع لم تكن طائرة واحدة بل عشرون مشيت من بينهن أتحسس بيدي أجسادهن المعدنية, مطاط العجلات القوي, إتشممتُ وقودها الداكن وتمنيتُ من الله الذي حرم علي كل شيء أن يمن علي بالصعود على واحدة.
- انت يا جصير
إلتفت لصوت يناديني وقلتُ متحفزًا :
-  مين انت إيش بتغى ؟
نظر لي الرجل ذو البدلة النظامية العسكرية بتعجب لقلة تهذيبي وقال :
-  الشيخ فهد بناديك
تركُ الجميلات وتقدمت نحو الطويل البدين ذو البدلة النظامية التي لم تخيف القصير كما نعتني بل وحدجته بإذراء بينما أقول :
-  رايحله الحين
تضحك الشقراء وتقول :
- إذاً انت شجاع ؟!
- بالطبع لا .. كنت أستمد شجاعتي من وجودي مع الشيخ فهد رحمه الله    
ذهبتُ للطيار بمكتبه وجدته يقف على رأس مائدة كبيرة للإجتماعات يده اليمنى على خريطة كبيرة, من حوله العديد من الطيارين مثله لم أكن لأميزهم إلا للبدلات المتطابقة اللاتي يرتدوها جميعًا . نفث دخان سيجاره ونظر لي وقال :
-  وين كنت ؟
- بالخارج مثل ما طلبت سيدي
- كان بيطلع على الطيارات ببغى يكون طيار الجصير
قالها أحد الطيارين فضحكوا جميعًا وحينها لم أستطع تصدير إذرائي بوجود سيدي الذي طلب منه القهوة العربية. كان من المستحيلات بالطبع قبولي بأي جيش بالعالم بعدما كسرت ساقي بكسر مضاعف فحتى الخدمة الإلزامية الذي زحفتُ إليها رفضتني بعض الكشف الطبي فعدت لخدمة سيدي
- و كيف أصبحت طيار؟
- ماردك قدم لي بعض الخدمات وقبلتها 
- وماذا قدمت له بالمقابل ؟
- روحي .. بعت روحي للشيطان لأكون طيار
- سوف تتوقف الان أليس كذلك ؟
- ليس خوف أو تكتم ولكن أخشى جرح برائتك
- اووووه عزيزي فهد انت الوحيد الذي يرى تلك البرائة المزعومة .. أنا أحبك
- انا أيضا أحبك
نظرت لي بخبث نسائي وقالت :
-  لأني جميلة
نظرتُ للجمال ملياً ثم قلتُ :
-  انت جميلة بالطبع ولكن بك شيئاً أخر يجذبني ولا أعلم ما هو
إبتسمت برقة وتركت ميوعة ليست من طباعها وقالت :
-  أسقط ما تريد إسقاطه من روايتك وأكمل لي
- تأخر الوقت .. عليكي العودة للمنزل
وينتهي الحلم ككل مرة, لا أستبقيها بأي مرة إلتقينا بها بل أطلب منها الرحيل عني, على يقين بأنها ليس إحدى زوجاتي ولكني لا أعقد صداقات مع النساء كعهد إتخذته على نفسي منذ ذهبت عني اللعن وتبت إلى البارئ . أكيد بكونها رؤية و ليس هاجس من هواجس الشيطان, أعرف من هنا ولكن من مالك ذاك الذي أحبه وأقدره و منزلته عندي منزلة إبناً وأخ. ترى جلال يعرف ولو يعرف ليس في وسعي سؤاله فقد أنظرني قتلي لو رءاني مرة أخرى ولا أريد الموت الآن فلدي الكثير من المهام أولهم العودة لما كنت عليه جابر الحلاق إذاً العودة للماضي العفن الذي أخفيته عن الشقراء الجميلة .     
ومن الرياض للكونجو - زائير – كما تفضل الشقراء نعتها. طائرة حقيقية أراها للمرة الأولى عرفت أنها تلقب بالجامبو فهي بحجم جامعة الرياض, بيضاء ناصعة شعارها مصر للطيران مع تلك الأيقونة السخيفة التي لم أعرف حينها عما تعبر نسر أو صقر مسرح الشعر بحدة إنما سيدي أخبرني أنها نسر لأن العلم المصري يحمل بمنتصفه نسراً  كذلك وحينها ينظرون زملاء سيدي تجاهه متعجبين من تجاوب الطيار المتميز مع خادمه بهذه الحميمية, يتسائلون فيما بينهم لماذا لا أخرس وأهتم لحال سيدي كسائر الخدم وكانت الإجابة بأنني أكثر من خادم وغمز لي الزوج.
الدرجة الثانية بالطائرة ؛ لم أراها إلا الاولى بكل شيء بكرسي يحتويني, نافذة مطلة على المطار وطاقم خدمة يقوم على خدمة الخادم ويربطوا له أحزمته للأمان. هرج و مرج والمضيف يلح بالصاخبون بالسكون والجلوس بكراسيهم, يمتثل البعض ويماطل البعض إنما لا أعرف لأي شيء. تنتهى الممطالة بعد ثوان ويجلس الكل بكراسيه ويربطوا الاحزمة وحينها أتت أوعر اللحظات بحياتي حينها عندما تسحب قلبي عن جذعي حتى سقط بين أرجلي, لحظات وضاق تنفسي حتى أنني شعرتُ أن الهواء غادر الطائرة بمغادرتها للأرض التي تمشت من أسافيلها حتى حلقت بالسماء, الجالس بجانبي يحدجني بتعجب ويتغمز علي برفقة مرافقه بالكرسي الثالث ثم يشير للمضيف الجوي لينقذ الرجل الجالس بجانبه والذي يعاني من سكتة قلبية . لم أعي أي رجل يقصد حتى أتي المضيف الجوي وطلب مني تحديدًا أن أهدأ وأشرع بالتنفس ببطئ, يسألني المزيد من الأسئلة فأصبحتُ لا أعرف الى أين يصبوا التنفس أم الثرثرة حتى نجدة القدر فقد عاد تنفسي للإنتظام بلا أسئلة وليس للمضيف أو للرجلين الهازئين أي صلة بنجاتي لأنني قرئت الفاتحة والمعوذتين ولما إنتهيت هدئت من تلقاء نفسي.
وصلنا الكونجو وحملت أمتعة سيدي كافة على تعجب من الجميع كذلك فقد حسبوا أن قامتي الضئيلة لا تملك قوى الرجال . ركبت برفقة سيدي تاكسي سار بنا حتى معسكر بشيء يشبه الصحراء, تغمرها معسكرات لرجال من مختلف الجنسيات وليس بهم زائيري واحد . ترجل سيدي من السيارة تبعته ثم سار نحو رجل أجنبي خاطبه مستهجناً : 
- أين السيارات حتى لم تكلف جنودك بنقلنا من المطار جون
- ان تكون مدني أفضل فهد لم نأمن الطرق بعد .. كيف كانت رحلتك ؟
جاء أخر يبدوا عليه معالم الوطن صافح يد سيدي  بحميمية ثم إحتضنه وقال :
-  هباب طبعا ولاد كلـ*** ما يعملوش رجاله إلا علينا
- حصل شي جديد ؟
- موتوا من الامريكان أربعة من يومين
- وانتم ؟
- احنا متسخبين هنا ما احنا عارفين الفوله .. نحمل و نتكل على الله مالناش فيه داهية تحرق الكل .. مين الواد الاهبل ده بيضحك علي ايه ؟
- الخدام سعيد بالرحلة
ربت على كتفي المصري بخشونة و قال :
-   هتظيط يا إبن العبـيـطة انت شفت حاجه لسه .. تعرف تعمل شاي كويس؟
أجبته بحماسة :
- بعرف سيدي
وحينها نظر المصري لسيدي و قال :
-  جبت معاك مونه يلا ؟
ضحك سيدي ثم قال :
- فقرا ملعونين يا مصريين جبت .. حتى طالعوكوا من غير الشاي
- ومن غير غيارات وحياتك
وإمتدت الرحلة كنت سعيد أيما سعادة برفقتي لوفد بلادي ووفد المصريين, الجميع يثني على عملي و حماستي ولو في وسعي لكنست كل ذرة غبار عن أراضي زائير جزاء رحلتي الأولى خارج الوطن . أرى الطائرات ليل نهار تحلق وتهبط نومتي من أسفل طائرة سيدي رغم أنه سمح لي بمشاركته خيمته ولكنني حفظت المقامات وقبعت بالعراء إكرامً له. أصحو قبيل الشروق أصلي الفجر و أدعو من الله أن يكرم سيدي ويبلغه أعلى المناصب عله يضمني فيما بعد لجيش بلادي, تتسع الآمال لما أعافر وأعافر حتى يتثنى لي بلوغ بابها, أنزل سلمها أرضاً وأصعد من عليه حاملاً دلو الماء واللوفة و الصابون, أمسي بداخلها أتأمل جمالها الآسر مقودها الصغير ,عداداتها العديدة, كرسيها الحديدي المبطن بالإسفنج ومن ثم ألهج بالدعاء؛ مكن عبدك المسكين وأجعلها حوريتي على الأرض يالله يا ولي الصابرين .
- إحلم على قدك يا أعرج
تصرعني الجملة قبل محدثها فحلمي كان يحتل كل تفكيري أما عن وجودي وحيد من داخل طائرة بل داخل المعسكر لأن مجتمع المعسكر لا ينشط إلا السادسة صباحاً لم يفزعني البتة بل بحثت عن مصدر الصوت لقتله قبل أن يسمم حلمي . كان رجل أراه لأول مرة يرتدي زي رجال المعسكر العسكريين, بهي الطلعة مبتسم الثغر بعيونه خبث عظيم إنسكب بأواصيلي ودعاني للصياح به :
- ما حد بيطلع على طيارة سيدي .. راح أقوله يجازيك
تحرك من أمامي بخفة عجيبه و كأنه طافي في الهواء إلى أن وجدته يجلس على كرسي الطيار المساعد ويشير لي أن أحذو حذوه وأجلس على كرسي القائد. قلبي حدثني بما ألحه مراراً تحسس الكرسي بجسدي عوضاً عن غسله بالماء والصابون يومياً من أجل سيدي, الإرتكان لكرسي العرش الطائر المحلق بالهواء ولكن أعادني العقل للواقع وصرخت بالرجل :
- انت مانك طيار راح انادي سيدي مشان يقتلك
إلتفت إلي برأسه فقط عيونه بعيوني يداه على نفس الوضعية يدعوني لكرسي القائد ومرة واحدة أضيئت كافة مصابيح الطائرة و التي تفيد بتهيأها للطيران رغم أن الرجل يداه بالهواء لدعوتي فكيف إديرت الطائرة, لم أفكر مرتين في تلك المرة لأنني حسبته حلمٌ من أحلام عدة جرت على نفس النهج إنما دون ذاك الرجل المريب. ترك الدلو وأدوات النظافة أرضاً, نقلت قدمي بالكاد من موضع لاخر لأتقدم من الكرسي حتى وصلت لغايتي . أجلس على كرسي القائد فينشرح صدري فخراً وينتصب ظهري بالعزة, أمسك بالمقود بقوة عاتية أعرف أن لا داعي منها فحبيبتي مرهفة الحس للغاية بلمسة تأكل الأرض من أسفلها, تبدل قوانين الجذب وتحلق بي للفردوس . عبر زجاج القمرة المقعر أرى النجوم تتسابق علي ملاحقتي وكأنها تقرئني السلام فسلامٌ عليها, أدنو ببصري أبصر الرواسي تسبح الخالق, شعوباً و قبائل من أسفلي في لغوهم المعتاد وأنا بسمائي أترفع عن كل لغو فالموسيقى الهادرة من محركها تطرب أذناي وكل ما أردته أن لا يتوقف اللحن أبداً .
وكأنه مراقب نجواي فقد توقف البث والحلم ووجدت نفسي بموضعي الأول بنهاية الطائرة الساكنة على الأرض أحمل الدلو بيمناي واللوفة بيسراي أما هو لازال بكرسي الطيار المساعد وقبل السؤال أجاب :
- انا صديق حاسس بألمك ونفسي أساعدك
- مين إنت ؟
نهض عن الكرسي وتوجه نحوي بينما يقول :
- مندوب .. من قوة عليا . نظرت ليك نظرة عطف .. انت طموح جدا يا جابر .. وإحنا بنحب الشخص الطموح وبنساعده و بندعمه
- مندوب مين ؟
- هتعرف في الوقت المناسب .. دلوقتي إمسح و أكنس وإخدم سيدك .. سلام يا صديق
ناديته, إستوفقته, حاولت الإمساك به ولكنه كان كيان دخاني تلاشى من بين يدي ثم إختفى تماماً و كأنه لم يكن بالوجود . إنتظرتُ الإفاقة من الحلم أجد نفسي واعياً, يسكن رأسي الآلم بالكاد عيناي تبصر غشاوة الفجر البيضاء تبدد سواد الليل ومع تبدد الليل ينشط المسعكر ويستيقظ سيدي ويطلب خادمه وحينها عدت لواقعي الأول وملئت كفي من الدلو المليئ بالماء ومسحت وجهي بغية الإفاقة لليوم الجديد وباشرتُ عملي .
كنت صغيراً للغاية حينها بالثامنة عشرة من عمري و راودت نفسي بأن ما حدث حلم منام تحول ليقظة من شدة توقي ونسيتُ الأمر برمته وحاولت أن أوقف توقي للمستحيل حتى لا أرى هذا المخلوق مجدداً فرغم تكذيبي لرؤياي كنت أعلم يقيناً أنه مندوباً بالفعل لقوة إسترجيت منها المساعدة لما خذلتني الحياة. ولكن عدت لرشدي ودعوت الله أن يغفر لي ذلتي وعشت خادم لسيدي وسيدتي التي جنت مؤخراً وأودت بكلانا للتهلكة .
الزوج كره عشرتها من كثرة إلحاحها على الهجرة للخارج وكذلك مل من الإنتظار فقد مرر عامان و لم يحدث حبل وحلم الولد أصبح بعيد المنال . أنظرها نهاية هذا العام إما تأتيه بالولد إما ثالثة تشاركها البيت الكبير وتكون سيدتها إن فلحت فيما أخفقت فيه .
تعالي الصياح وسيدي يكره الصخب لذلك ترك لها البيت و خادمه وعاد للزوجة الأولى و أم بناته ومن هنا أتت النكبة التي أبدلت المواضع والأماكن والشخوص.
الزوجة المصون لا تكف عن الإلحاح و لكن على الخادم المطيع تريد الولد بدورها أما الخادم حافظ على أمانة البيت قدر المستطاع فلم أكن لأخون سيدي أبداً بعد كل ما فعله لي, حافظت على أسرارها كذلك ورقبتها وهي تبغى وصال رجلاً تلو الأخر باحثةً عن الشيء ذاته إلا إنها لم توفق مما دعاني للضحك أحياناً والبكاء أحيايين فسيدي لا يستحق ما تفعله به اللعينة.
صمتي كان أهم سماتي ولازال, صامت على حق وباطل فذلك جنبني الكثير من المشكلات, صمتي كان ثروة أحسنت إستخدامها, صمتي أوقعني بمصيدة الشيطانة لما تسحبت لغرفتي بالحديقة وهمت بي بعد أن أرتني من صنوف الفتنة ألوان و أشكال إلا إنني لم أكن يوسف عليه السلام. وكأن الشيطان راعاها قبلي فقد حبلت اللعينة وأرسلت لزوجها البشارة فعاد لنحرها يكسوه بالقبلات والغالي والنفيس . سكن إليها من جديد و ترك المهمات الخارجية وتفرغ للعبادة و شكر الله على عطاياه خاصة لما بشره الأطباء بأن ما تحمله ذكر وافر الصحة بإذن الله .
جاء الولد كما بشر الأطباء ما أن حمله سيدي بين يداه إلا وتبدل وهج عيناه من الإشراق للعتمة رغم إنني لم أرى بالولد أي صدع أو علامة تنسبه لأبيه الحقيقي . لم يتم الولد أسبوع إلا وغادر سيدي وإصطحبني معه كالعادة, أحمل أمتعته, أعد طعامه, أنظف طيارته إنما لا حديث يربطنا . حينها لم أتوقع الأسوء فقد ظننته مهموم من الأعباء الجديدة أو حزين لأنه لم يتزوج الثالثة بعد أن أتيت الثانية بالولد أو شيء بخلاف أنه كشف الخدعة وحان القصاص.
طلب مني أن أعد له ولصديقه المصري جلسة بالغاب للسمر وفعلت ما أمرت وإنتظرت سيداي. كسوت الأرض بالبساط, جهزت الماء الساخن للمشروبات و البارد للتحلية والإرتواء, صنعت الشطائر, إنتصبت واقفاً في إذلال كعادتي فور رؤية سيدي مقبل علي مع صديقه المبتسم لي ببعض الريبة التي تفيد التعجب كما فطنت لاحقاً.
- كل شيء جاهز سيدي .. يسعد مساك دايما
إبتسم المصري هذه المرة للتهكم ثم تسارعت خطواته إلي و إلتف من خلفي وقيد يداي بيده وشل حركة ذراعاي بقوة عاتية بينما سيدي صاح بغضب مروع إمتزج بأسى مهين :
- ليش يا جابر .. ليش ؟
- وأنا عملت إيه يا سيدي ؟
صفعني مرة و أخرى و أخريات و لم ينتظر رد إلى أن خارت قواي و قواه فسقطت أرضاً عن المصري. يبصق سيدي على وجهي المغروس بالأرض من فعل صديقه المصري الذي وضع قدمه اليمني من فوق رأسي  واليسرى تركل بطني إلى أن تمزقت أحشائي وتقيأت الدماء الداكنة وبعض الكتل التي لا أعرف ماهيتها . شارك سيدي الطقس, المصري يركلني في بطني و سيدي في ظهري والسباب ينساب فمي كما إنسابت دمائي و إنتظرت خلاصي ورجوت الله الموت فأرسل لي سيسكا.
جائت للإنتقام من مغتصبوها لأن سيدي كان واحداً من الأربع فقد كان لديه ولع شديد بالسمروات وسيسكا أغرم بها كل الرجال المعسكر إنما لم  ترضخ إلا عنوة.
رأيتها مقبلة في الخفاء تحمل بلطة كبيرة أنزلتها بمنتصف ظهر سيدي تماماً ثم إنتزعتها وحاولت ضرب المصري الذي إلتفت للخلف بعدما سمع صراخ سيدي من الألم. بالطبع إنتزع المصري منها البلطة وحاول قتلها بها ولكني كنت إستعدت بعضاً من وعيي وأمسكت بساقه التي غرست ببطني موضع بحجمها فتعركل وسقط على وجهه وسقطت عن يده البلطة لتمسكها سيسكا و تنزل بها على رأسه مراراً بينما تصرخ في فزع . لم تتوقف عن الصراخ للحظة , رأس المصري ضاعت معالمها وأمست قطع من اللحم و العظم وسيسكا لم تتوقف عن الضرب إلا عندما إنتصبت جلوساً أمسح دماء رأس المصري التي إمتزجت بدمائي لما إنتفضت عن رأسه وحينها تذكرتني فقد كنت الرابع وتقدمت مني بالبلطة فرفعت يداي إليها  مستلماً وقلت والدموع بعيوني أرجوها :
- ما كان بإيدي غصبوا علي .. انا خدام مثلك .. خدام
وإنسابت الدموع إنهاراً من مقلتاي وأظن أشفقت علي لذلك وألقت البلطة من يدها ثم أشارت لبطنها المنتفخ ثم أشارت إلي. ودون لغات أو لهجات فهمت مقصدها أنا الأب لما تحمله وغادرت وتركتني وسط الكارثة مقتل ضابطين مهمين مثل سيدي و صديقه و الملام الخادم بالطبع.
قمت عن موضعي وذهبت بلا إدراك لسيدي المسجي على وجهه والدماء تنساب عن ظهره وجدته لازال على قيد الحياة فحمدت الله لأن تبرئتي قريبة :
- إقتله
نفس الصوت لنفس الرجل مرتدي الملابس العسكرية بهي الطلعة , إقتربتُ منه أسحب خطواتي بالكاد بينما أقول :
- سيدي لسه عايش نقدر ننقذه
- لو عاش هيتقتلك .. لازم تقتله .. بسرعة يا جابر قبل ما حد يشوفك
- راح يعدموني
- إطمن انا معاك .. إقتله
قالها بثبات لم يخدعني فإدانتي أقرب من تبرئتي سواء بحياة سيدي أو مماته وحينها حان سؤالي :
- انت مين ؟
- انت عارف انا مين .. انا اللي إترجيته يساعدك ومسحت وشك في التراب عشان يقبلك من رعاياي وقبلت وأديني بمد لك إيدي .. لكن لازم برهان لجدية التعامل .. والرباط عندنا لازم يكون دم .. إقتله
- مش كفايه أنا لسه عايز حاجات كتير
إبتسم الشيطان بإستحسان وقال :
- عايز إيه يا جابر
أشرت لسيدي و قلت :
- عايز أبقى هو
إتسعت إبتسامة الشيطان إلا أن ظهرت كامل أسنانه وقال :
- لك ذلك
كان سعيد ظننا منه أنه خدعني ولكن جابر من خدع الشيطان ولو لبعض الوقت. طلب مني أضع راحتي بجرح سيدي إلى أن أصل لقلبه وفعلت . سمعت صرخات سيدي و توسله إلي أن أقتله من فوري عوضاً عن تعذيبه كما خيل له ولكني لم أتوقف كسرته عظام قفصه الصدر من الظهر إلي أن وصلت لصدره وأمسكت بقلبه وإعتصرته بيدي وحينها تحقق ما أملته . دماء سيدي خرجت من جرحه و تمشيت على يداي, ذراعي, جذعي إلى أن كستوني بالكامل لحظات وإكتمل التحول وصار هو الخادم وأنا السيد .
قمت عنه أنظر ليداي, أتحسس وجهي لا أشعر بأنفي الأفطس المكسور العظم, وجهي الذي يكسوه جراح المراهقة وتعذيب أبي, قدمي اليمنى تحررت من الألم الذي لازمها منذ كسرت, جسدي إشتد و إمتد ولم أعد أمتلك  قامة قزم لا تتعدي المائة خمسة و أربعون, مكسو ببدلة للطيران كانت كبدلة عرسي للسموات. لحظات النشوة بالظفر إمتدت للكثير وسهيت عن جريمتين قتل أنا المشتبه الأول بهما فخطة الشيطان بنيت على ذلك سواء كنت فهد أو جابر سوف أعدم جزاء الجريمتين ولكن يبدوا أن مندوبي من الجحيم لم يكن محنق كفاية في عالم البشر .
إنتهت اللحظات وحينها قررت طمس معالم الجريمة لما أدفن الجثتين بالغاب وأهرع للمعسكر لأبلغ عن إختفاء خادمي و صديقي عندما ذهبا للصيد . أمسكت الفأس الخاص بسيسكا وشرعت بالحفر حتى صنعت قبراً كبير يتسع للمصري ووعائي البشري القديم . خرجت من القبر وسحبت وعائي أولاً للقبر ثم عدت للمصري لسحبه كذلك إنما بتلك اللحظة كشف أمري . أنزلت قدما المصري عن يدي و أبصرت الجنود الذي إلتفوا من حولي و طلبوا مني تسليم نفسي لهم وإلا قتلوني وسحبوا زنادهم دفعة واحدة إستعداداً. إستسلمت بالطبع ثم إبتسمت بتحسر فقد تحقق الحلم صحيح ولكن لثوان معدودة حتى لم يتثنى لي قيادة طائرة وظننت أن الشيطان خدعني إنما لاحقاً الحظ أو الشره البشري للنقود أنقذني .
الجنود إقتادوني من الغاب و حتى المعسكر الذي ما إن إقتربنا منه حتى ثار المصريون و تصارعوا مع باقي الجنود حتى يتثنى لهم قتلي إنتقاماً لصديقهم . وبعد معركة كبيرة إنشلت من أيادي المصريين ومختلف الجنسيات لما خرج الرجل الثاني بالمعسكر و أمر الجميع بالتوقف وإلا قتل الجميع , سحبني الرجل الثاني من من بدلتي فقد كنت ممدد أرضاً غارقاً في الدماء إثر المعركة الأخيرة وعاد بي لمكتب الرجل الأول قائد المعسكر, مثلت أمامه مبتسم البشارة على وجهي
صاح بي قائد المعسكر :
- وتضحك لمَ فعلت ما فعلت فهد .. لقد صديقك هل جننت ؟!
- خادمي من قتله
جزعت لما وجدت نفسي أنظق بصوت ليس لي وبلغة إنجليزية سليمة إنما عدت لرشدي سريعاً و قلت :
- كنت اؤدب خادمي و لكن ثار علينا و قتله و حاول قتلي إلا إنني قتلته
قال الرجل الثاني :
- لقد رءاك الجنود وأنت تدفنهما
أجبته :
- جزعت ليس أكثر
نظر لي قائد المعسكر بخبث ثم قال :
- وإن صدقتك الوفد المصري لن يصدق و سوف يطالبوا بتحقيق إن لم يفتكوا بنا الان
- هذا ما حدث سيدي ؟
نظر لي الرجل الثاني بتعجب ثم قال متبحثاً :
- كيف لا تشعر بالجرح الذي بظهرك ؟
جرح !!  لامست ظهري وجدت الدماء تنساب عن الجرح الذي سسببته سيسكا فقد إنتقل لي جسد سيدي بجراحه و قد أموت بأي لحظة و حينها صحت :
- أرجوك سيدي أودعني مشفى قبل أن أموت
- كم تدفع ؟
- ماذا تقول ؟
- في وسعي كتابة تحقيق يبرئك من قتل صديقك وإيداعك بمشفي و إضافتك لبرنامج حماية الشهود كل تلك الخدمات مقابل مبلغ زهيد عشرة ملايين دولار وبيتك الذي في سياتل .. أعشقه يا رجل.
تنويه :
المشهد لم يتكمل بعض

مارد من الإنسWhere stories live. Discover now