الجزء التاسع

111 4 0
                                    

#مارد_من_الإنس
#الجزء_التاسع
[ ميرا الدويري ]
لهثت بغرفتي من وراء عقارب الساعة منذ الثانية عشرة بمنتصف الليلة السابقة للثانية عشر ظهرًا لليوم الأخير والمتمم لسنوات الجحيم والان موعدي مع الحياة. حقيبة سفري مفتوحة ترى أغلقها على ماذا, ملابس مهترية لا يفضل رؤيتها علي, كتب وروايات لم أعد في حاجه إليهم بعدما كللني بطلة لروايته, أم وجهه الذي يحاوطني بكل مكان ولن يكون له وِجهة بعد اليوم إلا لوجهي. إلا هذه المرة لن أدفن بأحشاء غرفتي ببناء الخضوع لأهرب رغم أنني لم أكبل بأصفاد أو صفدت علي أبواب. لم يطلب مني أحداً يوماً المكوث إذاً لأكن هاربة من عشرون عام أحترق لأحرقهم وأذر رمادهم من أعلى ققم الآماد البعيدة.
جاء من تدعوه الأوراق الرسمية أخاً يصف سيارته أمام مدخل القصر إنما لما رءاني مقبلة صف سيارته بالخارج ليترك لي حرية الولادة من الخاصرة. أبعدت ناظريَّ عن عيونه التي خذلتها فلم أكن بالأمس اللاهثة الوحيدة من وراء ساعات السأم فقد كان من خلفي عيونه تتبعني بكل مكان إنما لم تمنعني من حياة سرقت مني بينما أنا الساكنة المستكينة لأهوائه وأهواء أبيه, ثلاثون عام أبحث عن مخرج, منفذ للهرب من كهفهم الفاسد وها أنا الان أرحل إلي من حسم النتيجة لصالحي أخيرًا.
حملت حقيبتي لأضعها بالبورشا خاصتي إنما ثقلت الحقيبة وتسمرت أرضاً رغم إنها نفس الحقيبة التي حملتها من غرفتي ونزلت بها الدرج والان لا أستطيع وضعها بحقيبة السيارة بعدما أثقلتني عيون أخٍ لائمة. حملها عني ووضعها بالسيارة عني ثم أسكن رأسي صدره عني أيضا لأخر اللحظات معه ولا غيرها فقد منحته العديد من لحظاتي والان حانت لحظتي.  يقبِّل رأسي ويملأ صدره من عبقي فإبتعدت عنه فلم يكن أخاً يومًا ولم أكن لأبقى لتكون عيون أمه من حوله وأنا لست أمه حتى لو إمتلكت قسماتها.
فتحت باب السيارة فقال :
- علي فين ؟
لم ألتفت حتى إليه وقلت :
- ما دخلك
- ضعيف يا ميرا ما فيه يحميكي
وحينها حان إلتفاتي لأواجهه بحقيقته وقلت :
-  وانت اللي فيك تحميني ؟! انت الضعيف مانك رجال أصلاً
تركته وركبت سيارتي وخرجت من قصر التجمع الخامس لقصر المريوطية وجدته كما تركته على كرسي بالردهة جالس عليه منذ ساعات يدخن سجائره المحلية الصنع. يبتسم بثقل لعودتي إنما يبتسم بأي حال وحينها عاد الأمل إلى نفسي لما تفرستُ بثنايا وجهه الحالم الذي فقد بعضًا من الأمل بعد صنيع الأب والأخ والذي لن يردعني عن مسعاي. العاشق المخطأ فقد أخبرته أنه الوجود ودونه لا وجود وأصرّ على الصحيح فإصطحبته لصرح الدويري بالسادس من أكتوبر لما رءاه ملئه الضيق أكثر عن ذي قبل فقد شعر بضئالة ليست له لأنه فتي المشاعر مثل سنوات عمره الصغير ولا يعلم أن الصروح تبنى على رفات الجثث ومنهم جثماني. يده بيدها منذ دلفنا لبداية الصرح لنهايته حتى مكتب مدير مجلس الإدارة؛ أبي.
كان أبي بإنتظاري وبرفقته شيطانه المرديد يقف بجانب مكتبه يعرض عليه صفقة جديدة لا تسقط إلا لصالحه أو لا تسقط. الشيطان الأعظم يحدق بالعاشق بغيلًا دفين كما كان يحدق بأبيه كلما إلتقيا بعدما سرق منه السعادة الوحيدة التي أمنتها له الحياة؛ مجرد إمرأة تدعى فدوى.
يبتسم أبي لحسام ويقول مرحبًا:
- يا أهلا بإبن صديقي العزيز وبلدياتي .. إتفضل يا حسام
حسام لم ينقل قدمه من أخر موضع تركته به فقد جمدته كلمات الشيطان الأعظم ولكن أذبتها وسحبته ليجلس أمام مكتب أبي ليستكمل تحديقه البارد بمعشوقي.
- تشرب إيه يا حسام ؟
- ولا حاجه يا منير بيه .. أنا جاي إنهارده أطلب إيد ميرا من حضرتك
إتسعت إبتسامة الشيطان بينما مريده أو أخي العزيز الذي يظن أنه حمايتي نظر لنا بنفاذ صبر مستنكر حتى المحاولة لنيل ما أمنته الحياة فمن هو لينكر أو أبيه الذي قال :
- الناس بتجوز كده يا إبن الأصول فين أبوك ؟! مش المفروض يجي لحد عندي عشان يخطبلك ولا أنا نسيت الاصول وفاكرها انت وأبوك لوحدكوا ؟!
وحينها إستعذت بالحب من كيد الشيطان وولده وصرخت به :
- انت اللي عملت كده في نفسك منير .. ياللا حسام
ألا أن حسام عاد للجمود أو عاد لمَا تبقى من حوزته من محاولات مضنية فقد قال:
- حضرت على دراية بالمشاكل اللي بين العيلتين واللي مالناش دخل بيها لكن أكيد أدام كل حاجة هتتحل ويرجع الوئام اللي كان موجود .. جوازي بميرا هيرجع الود ونبقى عيلة واحدة
سخر الشيطان الأصغر ضاحكاً من كلمات معشوقي الملهة ثم شاركه أبي منهياً كل محاولة لم أكن لأقدم عليها إلا من أجل العاشق الذي سحقته السخرية حتى أثقلت هامته العالية حد الأرض. ولدفن ما تبقى من أمل ببوار أراضيهم القاحلة قال أبي بجدية من بعد هزئه من معشوقي :
- تشبه أبوك في حاجات كتير يا حسام مش ناقصلك غير إنك تسرق اللي مش ليك .. طلبك مرفوض 
- الله بسماه منير راح تشوف مني إللي ما شفته العمر كله وانت معه كريم .. ياللا حسام
ألقيتها على جمع الشياطين وسحبت ملاكي الحارس من وقر الموتى وهما من جلبا ذلك لأنفسهم المريضة, موت سوف ينزل عليهما بعدما أخرج أموالي من شركات الدويري دفعة واحدة وأبيع أسهمي لكل جبار آثم ترائى له الإنتقام من الدويري ولم يجد طريق وأنا سوف أفسح الطريق.
رخو مترهل كان حال الحسام بعد الرفض رقم ألف بيومٍ واحد ولكن ليس اليوم أو الغد, حياتي لي وحدي فقد علمني الشيطان الأعظم أن النقود هى السبب والدليل والطريق وانا أملك الطريق الان ولن يغير مسارى أحداً أبداً.
نظرت إليه وجدته حقيقي لازال معي بعد كل ما مرر به اليوم من رفض من الجميع. فارس مغوار يفي بعهوده ويحارب الجبهات ليحصل علي ولم يحارب من أجلي أحدًا من قبل, ولكن سكنه الهم بوضوح ويريد التزود ببعض التفائل ليكمل الطريق. إصطحبته لفيلا المريوطية التى لا يعلم إنها حتى الان تحمل ملكية زوجة أبيه ولم تطالب بها يوماً فزوجها الطيار الفقير حالم عفوف النفس مثل ولده ويرفض الماضي للحاضر, يرفض أن يتذكر أن فدوى كانت لغيره يمنح ويمسك, يلامس ويبطش, يرفض مال الدويري الملوث بشتى الآثام, حتى أنه يرفض قبول زوجته للتعويض الوحيد الذي نالته من عشرة بلطجيًا خزي.
لم يسألني حسام عن وجهتي وظل صامت منقاد لإرادتي حتي دخلنا الفيلا المهجورة. تهالك على أول كرسي رءاه أمامه فجلست بجانبه على الأريكة وطالعت ناظريه المطرقين عن العالم الرافض لحبنا وعني. أعدت وجهه للسماء بأناملي لأرى عيونه الحزينة وأقول مطمئنة :
- ما تقلقش يا حبيبي .. أنا معايا فلوس كتير .. محدش يقدر يتحكم فينا هنسافر سوا ونجوز ونعيش سوا على طول
أومأ بإستحسان ولم أرى إبتسامته فقد نال منه الوغد بأخر كلماته المسمومة فأخلاق الفارس بحبيبي تمنعه من السرقة لا يعلم إنني ولدت من روحه التى أعادت إلي روحي التي هجرت أضلعي لما سرقني منير وأهداني لشريكه مقابل بضعة دولارات يملك أضعافهم.
*****************************
[حسام جلال ]
سحبتني للأعلى حتى إحدى الغرف وكنت على إستسلامي لها ولكل محاولاتها لإدخال السرور إلى قلبي ولكن لم تفلح وإنتهى سحرها الذي لم أجده بغيرها.
إستلقيت بجانبها وإدعيت الكفاء قبل النوم علها تسعد بأخر لحظاتهما المرجحة من الجميع إلا نحن. لمَ الجميع ضدنا أبي, أخي, صديقي الصديقي حتى أبيها مسبب الخلاف العتيد, غابت عني تدريجياً الحقائق التي أقنعت بها كل من حولي ومن ثم تسائلت هل الجميع على الحق ونحن الباطل أم قبضة الشر تضخمت حتى أمسى كل خير باطل. أين الضرر بعلاقتنا ؟ ما ذنبها إذ ولدت لراقصة وبلطجي آثم لا يأبه لغير مصالحه الشخصية ونقوده المتزادية بإتخام.
لا أعلم كم مرر من الوقت وهى ساكنة بين ضلوعي تحلم بالسفر وترك الجميع من خلفها. مسكينة الحبيبة لم تكن إلا مجرد قطة تستجدى الدفئ بحوائط مراجيلي, بينما أنا تحولت لطفل خطفته حورية البحر للأعماق ولازلتُ للأن لم تبت لي الخياشيم وأختنق للموت .
وددت أن ألمس الحبيبة؛ الحلم إنما خفتُ تبدده لو أيقظتها لمسة الفارس المرتعشة  من أحلامها المشروعة, فارس في طريقه للتحول لشبح زائل أدركته هى قبل أن يدرك أن للبشر عيون تفضح ولا تستر فعيونها شمسي وقمري . يقظة من الغفوة بأي حال فقد دق محمولي, علّه أبي يسألني العودة ولابد أن أخذله لأول مرة بحياتي. قمت بتحسب عن السرير حتى لا أوقظها من سعادتها وسحبت محمولي من جيب سرواله الجينز الملقى على الأرض وطالعت بفزع إسم المتصل فقد كان أخيها في حاجة لمزيداً من التضاحك علي وعلى حالي البائس.
خرجت من الغرفة وأجبته ولكن قبل أن أجيب سمعتُ أمراً مباشراً لم أجد له إلا الإمتثال.
- عايز أشوفك دلوقتي يا حسام .. وما تعرفش ميرا 
وإنتهت المكالمة علي ذلك فالدويري الصغير يعلم أن أوامره واجبة النفاذ وليس في حاجة لأكثر من جملة لإمتثل أمامه. عدت للغرفة وجدتها تتمطى بعناج مبتسمة براحة وتقول :
- لما بتكون زعلان .. بتبقي تجنن
إرتديتُ ملابسي بينما أقول: 
- لازم أمشي دلوقتي 
رقبتني أرتدي ملابسه بريبة وقالت متسائلة :
- هتروح فين؟
- هرووح البيت وإنت كمان رووحي ونتقابل بكرة نتفق على كل حاجة
أجابتني بلهفة:
- أنا البيت حسام .. ما تتركني .. ضل معي نخلص إجراءات السفر ونسافر على طول
- خليني أحاول مرة كمان يا ميرا وانتي كمان إعملي زيي .. ميرا بابا عيان وحساس جداً وأخاف زعله مني .. لم يأتي بخلدي يوماً أن أكون سبب حزن أبي الذي قد يؤدي لموته فأردفت مقتضباً  .. أنا ماشي
إنتهيت من إرتداء ملابسي فأشارت لي أن أقترب فثابرت على دربها بكل قوتي إنما ماذا تعني قوتي أمام قوى الدويري. حطت شفتاي على شفتاها وأطبقتُ عليها بتوق صيديان منذ مأئة عام لنبع ماء ترقرق على شفتاها وصعب الإنسلاخ ولكن لا مفر إنسلخت عنها وتركها وذهبت ولم أعد .
وكيف أعود وبأى طريق بعد أن عتم كل طريق, الديب سليل المنشاوية المؤمن بالرجال والعتاد دق الخوف قلبه وتوسل لصديقه أن يبتعد عن أخت الدويري فسواء كان كريم مهدداً بإختطاف الصغيرة للمراوغة أو عاقد العزم وجب الخوف فليس بعد تلطخ شرف العائلة حياة. شرف لا يعلم الدويري عن قدسيته شيئًا ولكن فلاح دمياط يعرف ويوقن أن السعادة لا تأتي أبدًا عن طريق شقاء الآخرين بل وأقرب الآخرين, أباً, أماً وأختاً صغيرة أوقعها حظها السيئ بأخ عديم النخوة مثلي.
إستنكرت كلمات مالك قائلًا:
- أنا مستحيل أسلمه هنا وهو عارف كده كويس
إحتد الصعيدي قائلاً:
-  ما هو مش هيستناك يا روح أمك لما تسلمهاله وهيخطفها هو .. ولمؤاخذه برضاها أختك عَيّلة لو شاورلها واحد زي كريم هتجري وراه
- أختي متربية يا مالك ومفيش راجل في الدنيا يقدر يمس ...
قاطعني الصعيدي:
- و ليه نحط النار جنب البنزين ونقول حريقه .. إبعد يا حسام لو معرفوش يخلصوا فيك اللي عملته في بنتهم بأختك هيلاقوا ألف طريق وطريقه.. إبعد وسيب سيناريو الهروب عليَّ
هاتفي يتراقص على طاولة أندريا المحملة بما سقط عن يد الدويري الغاشمة بعد أن صفقتها ضربة قاضية في الصميم زلزلت كيان رجلين, أسكت مالك هاتف صديقه الملتوي ألماً على الطاولة بعدما قرأ إسم الحبيبة على شاشته المضيئة, الحبيبة تصرخ وحيدة تطلب عودتي بينما الحبيب على خزيه تتساقط دموعه مثل النساء على فقد قريب.
الديب حمل هاتفي وخاطب الدويري مرة فأخرى فأخريات حتى عطف على حالي المذل وأجاب وحينها خاطبه مالك :
- خلاص يا كريم كل حاجه هتحصل زي ما انت عايز
عيون مالك عليه في جذل وتردد في نفس الوقت ثم ناولني الهاتف, لحظات طويلة حتى إمتدت يدي لهاتفي, لأسمع الدويري يقول وصوته ملآن بالسعادة :
- أطلب تلاقي يا صديقي .. معروف أصاد معروف وكريم ما ينساش معروف
- خلي بالك من ميرا .. سيبوها تعيش يا كريم
- من عيوني صديقي .. نتقابل في أمريكا
وإنتهت المساومة لصالح آل دويري كما تنتهي دومًا ولم يتبقى غير الخلع بشياكة طبقًا للنصوص الدويرية وبرعاية المنشاوية.
حبيس كهفي لأيام عديدة لم أحصيها, أحاول جمع شتات نفسي التى تمزقت على كل الدروب, كلمات أبيها وأخيها والعاقبة الأخلاقية التى سوف تنتظرني مهما طالت بي الأيام, ماذا لو أحبت الصغيرة بمن لا نرتضيه وتحدت الجميع وقررت الهرب للحب هل كنت لأذهب لحبيبها  بهدوء أحسد عليه وأتفاوض معه بكل تحضر بعدما ساقها لمركز الزمالك ثم لقصور الدويري المترامية, بالطبع لا, كنت لأقتلها وأقتله بلا ذرة ندم واحدة, كان ليموت أبي قهراً ويسجن أخي نفسه طواعياً بجُبٍ تحت الأرض مخافة نظرات الناس الباردة والصغيرة التى لا أتحمل دموعها أعتصر عنقها بين يدي قتلًا لأنها فعلت ما فعلتُ.
الصغيرة غاضبة علي لأنني تسببت في مرض أبيها, كم من مرة طلبت مني العودة للمنزل لزيارة العائلة الحزينة على فراقي مثل أي ضيفاً والعودة من حيث أتيت ولن يعترض أحدًا طريقي ولكن لم أستمع لنصحها وإن سبقتها دموعها بمرارة بأخر مكالمة دارت بيننا فأبيها راقد بالفراش منذ أيام ولم يعد حتى يقوى على الذهاب للصلاة بالمسجد.
ما توقعت حدوثه الجميع يمر أمام عينيَّ الان وإنسابت الحياة من بين أصابعي وقصم الحزن ظهر أبي, ميرا دقت علي مئات المرات ولم أجيبها ولكن بمَ يجيبها فحبيبها الفارس الشجاع خائف مرتعد من قدر قد يضعني بموضع أبيها وأخيها, من قدر سطر متنه بأنني من تسببت بموت أبي, من قدر قدرني الخائن للعهود ففضلت الصمت المطبق ومراقبة محاولات أمجد ومالك للترفيه عني وإقناعي بنسيان الماضي والإلتفات لمستقبل ظننتُ أنه مستقبلنا السعيد وليس المرير بمرارة الفراق.
دقات على الباب وأنا الوحيد المستيقظ بالمركز فكلا الأستاذين الأجليلين قضيا ليلة ماجنة حتى أطراف الصباح ولم يوقظهما سقوط نيزك على رأسيهما. وضعت سيجارتي بالمرمدة وقمت عن الأريكة التى قضيت عليها الليل والصباح وفتحت الباب لزائرة جديدة تبغى خدمات أحد الديبين فوجدت زائرة لا تبغي سواي.
- أخيراً لاقيتك أقدر أفهم انت هربان ليه؟
- خليكى هنا هلبس وأجيلك
دلفت للغرفة التي قضى به مالك ليلته مع فتاته وجدته متيقظ بدوره بجانبه الفتاة التى نهضت طبقًا لإشارة منه لتشرع بإرتداء ملابسي بينما مالك يلفظ أدخنة سيجارته ويقول:
- علا .. زى ما فهمتك .. وماتقليش أدبك جامد .. تبقى أخت كريم الدويري 
إنتهت علا من إرتداء قميص يخصني وأومأت بالموافقة. علا أقرب صديقه من معشر النساء لمالك ولدت بالزمالك ثم هجرتها وهجرت الوطن وذهبت للعيش برفقة عائلتها بالسويد, بالحضر والمدنية وتنكر على العاشق فراق أحب الناس إلى قلبه من أجل تهديداً ووعيد, ترى الحب من أنقص الموارد البشرية ووجب إحتوائه وليس هدره على قارعة الطريق من أجل أبًا, وأماً وأخت ولكن للمفارقة علا تلك تنكر كل الثوابت, لا تعترف بإله وضع الثوابت أو عائلة تماشت على ثوابت إلاهية نظمت لها الحياة, علا لا تعترف إلا بالحياة من أجل الحياة والحياة الحب والحياة الصداقة من مخلوق مثل الديب ينتظر زيارتها السنوية على الجمر لتكون زائرة لا تبغى إلا خدماته فهو يتدعي أن عقلها لرجل وجسدها لإمرأة تعي قيمة رجل يترك من أجلها الساكن والعالق ويتفرغ لإرضائها.
وكما يرضيها الديب أرضته وخرجت للحبيبة مرتدية ملابس حبيبها من أجل حبكة قديمة ولكنها تفلح مع سائر النساء خاصة لو كانت إمرأة ببرائة من كانت حبيبتي. وحدثت حرب النساء المنتظرة لما سمعت علا تتثائب بينما تقول بتملل:
- إنت مين يا حلوة ؟
صاحت حبيبتي بعصبية :
- إنت اللي مين وبتعملي إيه هنا؟
بلهجة سوقية لا تتقنها مهاجرة عن الوطن أجابتها علا: 
- بقولك إيه .. الشقه دى تبعي إسرحي بعيد أحسن relly أرمي على وشك الحلو ده ماية نار
نالت اللهجة السوقية من حبيبتي وصرخت بإسمي كما صرخت لأيام ولم ألبي إلا الان. خدعة خفيفة من تأليف وإخراج ذئب النساء ولكن أخف وطئة من تجابني عن وعود قطعتها على نفسي منذ رأيتها. خرجت لحبيبتي وجدتها تنظر لملابسي على جسد إمرأة غيرها فما كان جوابها إلا أن صرخت قائلة وهي تضربني على صدري بقوة :
- يا حيوان يا وسخ .. وأنا اللي بلف عليك بقالي أيام وفي الأخر الاقيك هنا بتخوني
- ما تفهميش غلط يا ميرا انا كنت بس
قاطعتني صفعة من بيدها الحانية على وجهي, صفعة أستحق المئات منها وغادرت إلى الأبد كما المرجح كما يرجحون وأنا أداتهم الفعالة لذلك ليس أكثر. صديقي الصديقي يربت على كتفي ويقول:
- مبروك أول قلم حريمي من الحبايب .. صدقني بيبقى أطعم كتير
إلتفتُ لوجه صديقي البارد الخالي من أي عطف على حالي الأليم وإبتسمت إبتسامة شاسعة لم تمنع عيناي من سفح دموع الفراق, دموع نالت من ملحدة لا تعترف بعطف أو تعاطف ألا إن عيناها حزنت لحالي وقالت:
- حسام هي دي حبيبتك ؟
- أيوة هي
وحينها صاحت بمالك بحدة :
- مالك إنت جبان وواطي ومش عايزة أعرفك تاني 
ودلفت لغرفة النوم غاضبة, فلم تكن تعلم إن خدعتها سوف تكون بهذه القسوة فقد ظنت ميرا مجرد فتاة ثقيلة الظل أريد التخلص منها كما لقنها مالك وليست الحبيبة التى قصصتُ عليها قصتنا الحالمة والان طردتها من حياتي كمن يطرد ذبابة عالقة على نافذته كما أوصى الدويري.
نظر لي مالك بغضب وقال بعصبية :
- عجبك كده .. ده اللي بناخده من معرفتك الطين...ثم أردف لعلا معللاً متوسلًا.. إستني يا لول هفهمِك
*****************************
[ جلال عبد المقصود ]
يحسبني صنم من جس ليس لي قلب لأشعر بعذابه, جربت عذابه من قبل وتألمت أكثر مما تألم ولا أتمنى له نفس المصير, ولكنه مخطئ قلبه النقى دفعه لبشر ليسوا بصفائه فالسند يستحق ما هو أفضل. سند إبيه وأخوته, إبني البكر مصدر فخري وينتظره مستقبل مشرق سوف تغيب عنه الشمس إن تزوج إبنة السفاح والراقصة, ولكن الخطأ الحقيقي لم يكن لحسام فقد كان لي فلو كنت قويًا كفاية ولدي الإرادة الحرة على السعادة لكنت تزوجت فدوى ببادئ الأمر ولكان أصبح أبنائي الذكور والإناث منها وظل منير صديق وليس عدوي اللدود وأمسى بعيدًا عني بأولاده ولكنها الحياة.
أثقلتني الهموم, كثير من العمل وكثير من الإحساس بالذنب يتزايد مع الأيام, إبنة تتفتح للحياة مريضة بمرض مزمن يأكل جسدها شيئاً فشيء, لا أعلم جزاء لي على فعلت أم جزائها على ما فعلِته ولكنها كانت مجرد طفلة حينها فأيقنت أنه جزائي فأنا من جلبت اللعنة من أقاصي أفريقيا لأوسطها ولم أرضى بقضاء الله . إبني البكر لا أعلم عنه خبراً لأسابيع عدة والإبن الأخر شارد بكل مكان ولا يكف عن إختلاق المشكلات مع الجميع بدايةً من زملائه في كليته, لأصدقاءه وحتى مدرسيه, مستغل نفوذ أبيه الذى منعته عنه من اليوم الأول ولكن زملائي بنفس المجال لازلوا يكنوا لي الإحترام ويتساهلوا معه إلى أن تفاقم الوضع  والإبن الأوسط مهدد بالطرد من كليته.
لما تزايدت الهموم وفاقت الإحتمال إلتزمت الفراش وبجانبي رفيقة دربي, الوحيدة التى تشعر بآلامي إنما أثرت الصمت بعدما حملت نفسها مسئولية كل ما حدث للزوج المسكين الذي وجب عليه الإصغان لأراء عائلته وتركها بما أوقعها لأحيى بسلام مع أولادي وكأن نارها لم تنزل على قلبي برداً وسلاماً.
زهرة الربيع والخريف المزدهرة دخلت علي غرفة نومي بلا إستئذان كعادتها تقبل علي بإبتسامتها الرائقة وعيناها اللامعة بالفرح. كبرت على غفلة مني وصارت عروسا يطاردها الخطاب وهي بالكاد أتمت الرابعة عشر, ولكنها أجمل غفلة فقد إقترب الموعد لتصير لرجلاً أخر يحمل عني الهموم ويزيل عنها اللعنات فقد بشرني ماردها مختار أن زواجها من بشري يرفع عنها القوى ويرسل آمال ملك ملوك الآراضي السفلية للهباء فتسلمها للعرش يشرط عذريتها ثم الزواج من سلالة الجان وحينها تتسلم العرش رغم أنف الإنس والجان.   
تدغدغني وأنا مخلوق غير قابل للدغدغة إنما أضحك لأجلها فهي سعيدة بمرضي الذي ألزمني الفراش كما ألزمني أن أكون سارد للحكايا والنوادر على مسامعها الرقيقة. حكايا مفزعة ولكن الصغيرة لا تفزع لأن أبيها بعيونها بطل بقامة أبطال السينما الأمريكية الخارقين, لا تعلم أن أبيها إتخرقت اللوعات قلبه ولم يعد بطلها وصار مسخاً بارد يدير هو الحروب الخاسرة .
بعثتي لأمريكا, حرب اليمن, حرب البوسنة, حرب الأفغان, حرب الصومال, حرب العراق الأولى وإلى هنا إنتهت الحكايا ولم يعد لديه المزيد.
رفعت رأسها عن صدري ونظرت لي بخبث وقالت :
- شكلك بتكدب يا جلال وعندك أسرار عسكرية مخبيها عليَّ
- عيب كده يا هنا بابا عمره ما كدب
أجابت أمها :
-  لا بيكدب عادي .. الكدب صفة إنسانية مش كده يا جلال ؟
رأي الصغيرة في محله الأمثل فمن لا يكذب والكذب هو المتنفس الوحيد في عالم تحبس أنفاسه سرابات الحقيقة
- يا جلال الكلام بتاعك ده هيخلبط دماغها أكتر .. انا خلاص ما عدتش عارفه أتكلم معاها عامله عليَّ نيتشه
تحتد زوجتي علي فتجيب حدتها الإبنة :
- وبعدين معاكي ما تخليكي في حالك .. دايمن توقعي بينا .. غيرة أوفر يعني
قامت فدوى عن كرسيها الجالسة عليه بجانب أمي لتأدب الصغيرة عبر كمش وجنتها المتوردة فأعدت صغيرتي لصدري للإحتماء وطلبت من فدوى هانم العودة لكرسيها ولتبعد عن دربي طالما بالدرب هنا فقالت متأففة :
-  خليك دلع فيها
- تصدقي يا هنا شكلها بتغير منك بحق وحقيق
قالتها أمي لتبدأ حرب النساء ولكنها أجمل الحروب وقعاً على قلبي.
-  أخبار أونكل عبده إيه يا نقاوة تصدقي وحشني ما وحشكيش ولا تلاقي العروسة الجديدة واكلة عقله؟
- والله لولا ركبي ناقحة عليَّ لكنت جِبتك من شعرك يا قارعة 
شاركتُ صغيرتي الضحك على مزحة أمي الثقيلة التي أثقلت أنشوطة جمعت خيوط الحرير البنية عن كتفي فدوى كيدًا لأمي .. الأنشوطة تلفها فدوى على سبابتها بمرح ثم تلقيها أرضاً بينما حاجبيها يتراقصان لأعلى والأسفل في مرح .. أصابعها الدقيقة تخلل شعرها الطليق وتنثره على وجها الباسم كيداً أيضا ورغم ذلك لازالت أمي تراها صلعاء عجوز متصابية وقع ببراثنها ولدها الأصغر.
تركت الحروب الناعمة لأطفئ لهيب الحرب المعتملة في صدري وسألت الصغيرة عن أحوال أخيها الأكبر فالسند إمتنع عن عائلته وإكتفى بها :
-  اه بيكلمنى و بيسلم عليكوا كلكوا
- هو قاعد فين ؟
- عند واحد صاحبه إسمه مالك 
إسترعى الحديث إنتباه فدوى وسألت بدورها عن الغائب :
-   وهيرجع إمتى ؟
رفعت الصغيرة منكبيها دليلاً على الجهل بنوايا السند فعادت أمها لتساؤلاتها:
- هو عارف إن بابا عيان ؟
إعترضت على إمتثال فدوى المغلف بشفقة لم يستشعرها السند بمفرده وقلت :
- ما يعرفش وأوعى حد منكوا يقوله .. انا هشحته .. خليه براحته
وماذا عن راحة الأب المكلوم بسنده بالحياة والراحة لا تأتي لأباً إلا بجمعة بنوه نصب عيناه. أيام  ويترك السند المنزل والوطن ليستكمل دراسته بالخارج وبخل بهذه الأيام القلائل على أبيه. كل من بالمنزل يفتقده من الان حتى جده أرسل له مئات الدعوات للقائه قبل سفره فالحسام لم يكن سند أبيه فحسب فقد كان سند جده وعمه الأكبر, الثاني لم يعد في مقدوره مجاراة أعباء العمل منذ رحيل الحسام أما الاول تفرغ لإستمالة زوجته إليه أملاً أن تكون لها عودة لدمياط بالقريب ولكن هناوة لا تملك قلباً غفور وعلتها أن المغفرة من الخواص الربانية وهى بشر. بشر وله قلباً تقي في وسعه المغفرة على عكس جدته فقد أعان كل من يحتاج العون ولم يسأل عن مقابل يوماً عون الجميع وسنده. أعلم أنه لن يخذلني فما خذلني يوماً وعودته قريبة لما يعي إن كل ما أبحث عنه وأحرص عليه؛ هو, ولا دخل لقصص ملفقة أو تاريخ قديم أدى لرفضي لتلك العلاقة المشوهة وكل ما أستجديه هو نجاحه المنتظر الذي تنبأ به أساتذته ونصبوه سند أبيه وخليفته حتى قبل تخرجه وزيجة كتلك سوف تدمر ما عمل عليه لسنوات.
جاء خائب الرجاء بمشكلة جديدة وما أكثر مشكلاته, يطلب عون أبيه ولن يناله فأرسل جدته وأمه والصغيرة للشفاعة ولا شفاعة بعد يوم إلا للصحيح ليتحمل أوسط أخوته حيلة وعقل العواقب. متى ينضج وينتقل إليه بعض الإتزان من رزانة عقل أخيه الاكبر, كيف لم يراعي أنني مثقل بالمرض ولم أعد لديه القدرة على تحمل تفاهاته. نساء البيت أجمع بغرفتي لمزيداً من التوسل من أجل آسر, ينشدون نغمة توسل ركيكة أوقفها دقات على باب الغرفة أفزعتهم جميعاً ما عداي فالبيت خالي إلا من العائلة التي إكتملت الأن.
- أدخل يا حسام    
بثق مصفر الوجه حزيناً على ما تركه, أياماً أسابيعاً أو حتى شهور ويجد ما يناسبه ويطرق بابي مجدداً وسوف ألبي هذه المرة . نال السند أولى المكافآت من الصغيرة ثم أمها, قبلاه على وجنتيه فضمهما لصدره بإشتياق بينما إشتياق عيناه على أبيه.
ترك النساء وتقدم حتى سريري وقال :
-  إزي حضرتك دلوقتى ؟
- الحمدلله .. إزيك انت و إزى مالك و أمجد إنشالله مبسوطين دايمن و نرتاح منكوا عن قريب
جمعت زوجتي كل من بالغرفة وتركت لنا المجال بعدما ربتت بحنان على كتف الغائب وخلت الغرفة إلا مننا فقال والحزن يقطر من كلماته :
-  انا أسف يا بابا .. انا سيبت ميرا
- ليه كده يا بنى خسارة انا عرفت إنهم عن قريب هيشتروا طيارة خاصة وهيخلوك السواق بتاعها إبقى خد معاك مالك وأمجد .. واحد مساعد والتانى تتباع .. و الله انا ما عارف أنتوا أوائل الكلية على أى أساس
تقت لهذه البسمة وهذا الأمان وهذا الإرث الذي سوف أتركه بالدنيا ليخلد ذكراي ويحمي أخويه, يتقدم مني ويمسك يدي اليمنى ويقبل ظهرها لمزيداً من الأسف فقلت  :
- والله يا إبني ما يشغلنا حاجة في الدنيا غير مصلحتك
- عارف يا بابا

مارد من الإنسМесто, где живут истории. Откройте их для себя