.....................

مــر كلاهما على حــــارس البناية الذي إنتفض فزعاً من على مقعده الخشبي شبه المتهالك حينما رأي أوس أمامه ..
كانت ساقيه تهتزان من أسفل جلبابه الرمادي القديم ، وأسرع يؤدي له ما يشبه التحية العسكرية ، وقال له بصوت متلعثم وهو يقترب منه :
-نــ... نورت البرج يا باشا

حدجه أوس بنظراته الشرسة ، فتراجع الحارس للخلف ، وأطرق رأسه للأسفل في خزي بائن .. ثم أكمـــل سيره إلى الداخل

وقفت تقى حــائرة في مدخل البناية ، تجوب بعينيها المرتعدتين جوانب ذلك المدخل الباهر ..
لفت أنظارها المرايا المتعددة على جانبي الجدران الرخامية ، وكذلك الشجيرات الصناعية المصفوفة على الجانبين ..
جف حلقها أكثر ، وإزدادت حاجتها للإرتواء بالمياه ، وأصبح جوفها أكثر مرارة ..
هي كالشريدة لا تعرف إلى أين تتجه ، وكيف سيكون مصيرها ، وما الذي يمكن أن يحدث لها بعد أن تصعد إلى الأعلى ..
كانت تخشى أن تجيب على تلك التساؤلات ، ولكن سريعاً ما أفاقت من حالة الشرود تلك على صوت من تبغضه ، فإستدارت برأسها قليلاً - على إستحياء – للجانب لتلمح شفتيه الغليظتين تنطقان بصرامة بـ :
-الأسانسير من هنا .. تعالي

لم يكف أوس عن مراقبتها لثوانٍ مستمتعاً برؤيتها ضائعة عاجزة أمام قوته  - وساديته - التي إتخذها منهاجاً لحياته ، ثم تحرك بخطوات واثقة نحو رواق جانبي صغير حيث يتواجد المصعد ...
تنهدت تقى في يــأس وخضوع ، وتبعته دون أن تنبس بكلمة واحدة ، فليس هناك فرصة للإعتراض .. فهي لم تعد مليكة نفسها ..
كانت خطواتها أبطأ من المعتاد رغم جسدها الهزيل ، فهي تعلم أنها تتحرك قبالة مصيرها محتوم ..
كانت على وشك الإصطدام به نتيجة شرودها ، ولكنها لملمت شتات نفسها وتوقفت في اللحظات الأخيرة ، ورغم تقلص المسافة في تلك المنطقة الجانبية إلا أنها حاولت أن تخلق لنفسها مسافة آمـــان تحول بين إقترابه المحظور منها
تتبعت بعينيها ظهره المتصلب الشامخ أمامها ، ولاحظت فــرق القوى الجسمانية بينهما ، وأدركت مدى ضئالتها بالمقارنة معه ، هي حقاً يمكن أن تسحق تحت قدميه ..
تراجعت بهدوء حــذر خطوة للخلف ، وراقبته وهو مركز أنظاره على الأرقـــام المضيئة أعلى باب المصعد ، وراودتها فكرة الهروب منه ، وإستغلال تلك الفرصة في النجاة بنفسها ..
إلتفتت برأسها قليلاً نحو بــاب البناية الزجاجي ، وبدأت تحسب المسافة المطلوبة تقريباً للركض بأقصى سرعة فراراً من جبروته ، وحدقت بأعين حالمة في الطريق الذي كان الأمـــل بالنسبة لها .. وتسربت قوة خفية إليها ، لا تعرف من أين مصدرها ، ولكنها كانت كافية لتحفيزها على تنفيذ فكرتها الجامحة ..
ولكن .....
قطع تفكيرها كف أوس القوي الذي أطبق على فكيها ، فإرتجفت كليةً أمامه ، وتلاشى بريق الأمل من عينيها لتحل محله لمعان الذعر الذي يشتهي رؤيته فيهما ..
أدار هو وجهها نحوه ، وظل ضاغطاً على فكها ، فحاولت أن تصرخ ،و لكن صدر منها أنيناً خافتاً ، ثم أحنى رأسه نحو رأسها قليلاً لتصبح المسافة بينهما سنتيمترات معدودة ، ونظر مباشرة بعينيه القاسيتين إلى عينيها ، فشعرت به يخترقها بسهولة ، ويقرأ أفكارها ، وبلهجة شرسة هتف بـ :
-مش هتعرفي تهربي ، شيلي الفكرة دي من دماغك

ذئاب لا تغفر .. ذئاب لا تعرف الحب الجزء الثانيحيث تعيش القصص. اكتشف الآن