الفصل الثالث والعشرون

14K 305 10
                                    

سأل إياد جيهان وهو يلاحظ اضطرابها :- ما الأمر ؟؟
نظرت إليه بحيرة بينما لؤي الصغير يلعب أمامهما فوق السجادة بألعابه :- غادرت أسيل المدينة في مهمة عاجلة
قال مستغربا :- أين المشكلة ؟
قالت بقلق :- لا مشكلة لو أنها أخبرتني بالأمر مسبقا .. أو أن صوتها كان طبيعيا .. او أن هاتفها المحمول ليس مغلقا منذ ذلك الحين بحيث أعجز عن الاتصال بها .. هناك ما تخفيه أسيل عني
تنهد إياد وهو يمرر يده تلقائيا فوق بطنهاالمكور وكأنه يطمئنها :- لا أظنها تخفي عنك شيئا .. ربما هي غاضبة بسبب موضوع عمر .. ما كان علي فرض الموضوع عليها بهذه الطريقة .. لقد بدت متوترة ومضطربة خلال وجوده عندنا ذلك اليوم
ربتت على يده قائلة :- أنت تهتم لأمر أسيل ... وتريد لها السعادة .. أنا متأكدة بأنها تفهم هذا جيدا .. ما يضايقها بالفعل هو عجزها عن تقبل عمر .. أظنها أرادت فعلا أن تعجب به علها تتخطى الماضي أخيرا فعجزت
صمت مفكرا بكلامها .. ثم قال :- أتظنين هذا سبب ابتعادها ؟
قالت بارتياح وكأنها قد استنبطت أخيرا سبب غرابة أطوار شقيقتها :- نعم .. أظن هذا .. تحتاج فقط للانفراد ليومين بعيدا عن الضغوط .. ثم ستعود إلينا أكثر ارتياحا واستعدادا لتقبل فكرة المضي في حياتها
ابتسم لها إياد موافقا .. غير أنه ما كان يشعر بنفس الارتياح اتجاه غياب أسيل المفاجئ

لم تنطق أسيل بكلمة واحدة طوال الساعات التي استغرقتها رحلتها إلى استانبول برفقة أسلان .. كان يجلس إلى جانبها حيث حجز لهما في الدرجة الأولى .. منهمكا طوال الرحلة في العمل على حاسوبه الشخصي .. متجاهلا إياها وكأنها غير موجودة .. مما أراحها إذ اكتفت طوال الطريق بإسناد رأسها إلى النافذة .. والصمت .. عاجزة عن استيعاب ما يحدث لها .. عاجزة عن نسيان تفاصيل الساعات السابقة ... تكبت بصعوبة دموعا أقسمت بأنا لن تسمح له برؤيتها مجددا .. عاجزة عن التفكير في المستقبل .. في خطوتها القادمة ..
إن ظن أسلان بأنها ستسمح له بالسيطرة عليها وتنفيذ مخططاته الحقيرة بها فهو مخطيء .. استسلامها القهري لتحكمه بها وتسييره بها والناتج عن الصدمة قد انتهى الآن .. هي الآن أكثر هدوءا .. والصورة أمامها أكثر وضوحا .. لقد اغتصبها أسلان .. كانت الكلمة بشعة .. إلا أنها اقرب وصف للواقع .. وهي رفضت أن تمنحها أي مسمى آخر .. هذا الرجل الجالس إلى جوارها .. والذي أفنت ما يزيد عن عامين من عمرها في التوق إليه .. والتفكير به ليلة بعد أخرى .. قد اغتصب جسدها وروحها .. وهي أبدا لن تسامحه على فعلته .. وقد كان هدفه الوحيد هو الاستحواذ على ما أراده قبل سنوات أكثر من أي شيء آخر ... ثم الانتقام منها ومن فريد .. على التمثيلية التي قاما بها كي يبعداه عنها ..
لم يخبرها بأي شيء عن خططه لها .. فمنذ أجبرها على القيام بذلك الاتصال بجيهان .. والصمت يلفهما وكأن على رأسيهما الطير .. عندما كانت تسترق النظر إليه دون أن يشعر .. كان تجد بؤسا غريبا .. وغضبا يائسا على ملامحه الوسيمة .. كان يجعلها تنكمش خوفا .. وتتساءل إن عرفت قط هذا الرجل الجالس إلى جوارها .. والإجابة كانت لا .. لم تعرفه أبدا .. إلا أنها عرفته بما يكفي لتهرب منه قبل سنوات .. وهاهو الزمن يدور بها ليثبت لها بأنها كانت محقة .. رجل لا يتورع عن القيام بأي شيء للحصول على ما يريد .. رجل يفقده الغضب ضميره وإنسانيته .. رجل لا يجد مضرة في ذبح إنسانة لمجرد أنها أفسدت عليه متعته
يا الله .. شهقت بصوت منخفض محاولة كبت موجة بكاء شديدة كادت تجتاحها .. لا بكاء بعد الآن .. تذكري .. اشتدت أصابعها فوق ذراعي المقعد .. فلم تفطن لنظراته الجامدة إليها .. قال ببرود :- ألن تأكلي ؟
حدقت به مجفلة .. كانت هذه المرة الأولى التي يخاطبها بها منذ ساعات .. نظرت إلى صينية الطعام التي وضعتها المضيفة الحسناء والمتأنقة امامها .. وهزت رأسها نافية .. لن تستطيع إدخال لقمة في جوفها وإلا تقيأتها على الفور .. صينيته كانت كما هي أيضا .. رأته يشير للمضيفة طالبا منها حمل الطعام بعيدا .. ثم عاد يتابع عمله وكأنه لم يتحدث إليها أبدا .. لأول مرة منذ رأته مجددا .. لاحظت أسيل التغيرات التي طرأت عليه خلال بعادها عنه .. كان قد نحل قليلا .. مما جعل وجهه الوسيم يبدو أكثر قساوة ونضوجا .. وهالات داكنة أحاطت بعينيه الزرقاوين فزادت لونهما غرابة وتأثيرا .. شعره القصير كان ما يزال ناعما وكثيفا عند مقدمة رأسه .. إلا أنه بشكله الجديد قد محى ملامح العبث والصبيانية التي كان شعره الطويل يمنحه إياه .. ثم كانت هناك تلك الندبة التي لم تلاحظها إلا في هذه اللحظة ..
لم يكن ما خفي منها تحت شعره الكثيف ظاهرا .. إلاأن ذيلها الذي امتد ليرسم خطا أفقيا أبيضا عبر جانب جبينه ليتوقف فوق حاجبه الأيسر بالضبط .. كان واضحا للناظر عن قرب .. لقد كان مخيفا .. ومؤلما .. بدا لها أشبه بقرصان يتعذب ..
في تلك اللحظة .. أدار رأسه نحوها وكأنه قد أحس بنظرتها .. فانتفضت عندما ضبطنها عيناه الثاقبتين .. أدارت وجهها منكمشة على نفسها فقال ببرود :- ألهذا الحد يزعجك النظر إلي ؟؟
لم تمنحه ردا .. كانت قد اتخذت قرارها بالتجاهل التام له خلال رحلتهما .. فلم تحسب حسابا لتأثيره عليها .. قال بخفوت .. وبشيئ من القسوة :- مؤسف .. لأنك ستحتملين صحبتي الكريهة مرغمة خلال سنوات حياتك المتبقية ..

في محراب العشقحيث تعيش القصص. اكتشف الآن