الفصل التاسع

13.8K 310 9
                                    

هتفت أسيل بارتباك :- ماذا ؟؟؟ ماذا تعني ؟
وقف قائلا :- هل أنت جائعة ؟؟؟ لم أفكر بأنني سأحظى بأي رفقة .. إلا أنني جهزت الثلاجة بطعام يكفي جيشا صغيرا تحسبا لقضائي المزيد من الوقت وحدي هنا
أخفض رأسه ناظرا إلى عينيها المضطربتين .. دون أن يبذل جهدا في إخفاء نواياه في تغيير الموضوع .. أرادت بكل جوارحها .. بكل ما تشعر به من قلق وذعر أن تعرف الحقيقة .. إلا انها خشيت من المعرفة مدركة دون أن تعرف السبب بأن علمها بالحقيقة سيؤذيها .. لذا غمغمت :- لست جائعة حقا
:- ربما ترغبين إذن بالسباحة قليلا ... قد يبدو الجو باردا قليلا في هذا الوقت إلا أنك أبدا لن تجدي متعة تفوق متعة السباحة في أول ساعات الصباح .
ابتسمت مرتبكة قائلة :- لا .. لن أسبح .. لم أحضر معي ملابس سباحة على أي حال
رمقها بنظرة متفحصة وهو يقول :- لن تكون هذه مشكلة .. أذكر وجود بعض القطع في الأسفل .. أظنها ستناسبك
أحست وكأن ضجيجا يدوي في أذنيها وهي تهتف بخشونة :- لن أرتدي شيئا يعود لزوجتك
ساد صمت تخلله هدير الأمواج .. بينما التقت عيناها الغاضبتين بعينيه القاسيتين قبل أن يقول :- لم تأت دنيا إلى هنا منذ فترة طويلة .. وبالتالي ... لا متعلقات لها في هذا المكان
اصفر وجهها وهي تحدق به مصدومة ... ألم غير مفهوم اعتصر صدرها وهي تتخيل نساء .. الواحدة تلو الأخرى ترافقه في مركب الخطيئة هذا .. كما تفعل هي في هذه اللحظة .. تتعرين أمامه جذبا لأنظاره .. تمهيدا لنوع آخر من الرياضات الثنائية بعد السباحة .. كما يتوقع منها أن تفعل ..
التفكير بهذا جعل احمرار الغضب يشوب شحوب وجهها ... تخبطت معدتها بغثيان الازدراء ... وتجمعت دموع الإحساس بالإهانة والإذلال في عينيها الزمرديتين .. بينما كان يرقبها دون أن تتحرك عضلة واحدة في وجهه .. قبل أن يقول :- في الواقع .. اعتادت نورا أن ترافقني بين الحين والآخر .. وأعير المركب أحيانا لشقيقتي موشكان وزوجها لأيام يجددان خلالها شهر عسلهما .. لذا .. تتركان الكثير من المتعلقات الاحتياطية في المكان تحسبا لأي زيارة غير متوقعة .. وما فكرت به .. وجعلك ترمقينني بهذه النظرات التي كانت لترديني قتيلا لو أن النظرات تقتل .. غير صحيح بالمرة ..
احمر وجهها هذه المرة لسبب مختلف ... والشعور الخائن بالراحة والرضا يذيبان كل ما تشعر به من تشنج .. تمتمت بخفوت دون أن تنفي حقيقة شكوكها السابقة :- أنا آسفة
ابتسم برقة ... مستمتعا بمراقبة الاحمرار يلون وجنتيها الناعمتين .. وقال :- هذا لا يعني أنني لا أستمتع بغيرتك اللذيذة هذه ..
هتفت بعنف طفولي :- أنا لا أغار
ضحك وهو يتجه نحو الباب المؤدي إلى القمرة السفلية قائلا بتسامح :- بالطبع لا .. سأحضر بعض العصير البارد .. اعتبري نفسك في بيتك
بعد أن اختفى عن أنظارها .. شعرت بابتسامة غبية تعتلي شفتيها .. لماذا هي سعيدة .. ألأنه لا يحضر نساءه إلى هنا ؟ هذا يعني فقط أنه يلاقيهن في مكان آخر لا أكثر ...
لأنها معه .. أليس هذا مبتذلا منها ؟ أن تنعم بصحبة رجل متزوج سيء السمعة .. لمجرد أنه بالغ الوسامة .. شديد الرقة .. بارع في الغزل .. ينظر إليها وكأنها المرأة الوحيدة في الكون ؟؟
تنهدت وهي تنهض محركة ساقيها .. اتكئت على الحافة .. وتأملت زرقة البحر شاردة الذهن .. وقد أعاد وجودها على سطح المركب ذكريات سعيدة .. ابتسمت وهي تتذكر والديها .. أغمضت عينيها وهي تتذكر الأغنية التي كان والدها يدندنها على مسامع والدتها الخجلى كلما جلسا على مشارف البحر .. يتذكران لقائهما الأول ... دون أن يدرك احدهما تجسس ابنتيهما المراهقتين والضاحكتين عليهما
أخذت تدندن الأغنية بخفوت ورقة .. وهي تحس بروحها تتأرجح من شفافية الذكرى .. أرادت أن تبكي .. ليس حزنا على فراقهما الذي لم يمض عليه الكثير .. بل فرحا .. لأنهما قد وجدا طريقهما إلى ذاكرتها بهذا الوضوح النادر .. وهي التي وجدت صعوبة في استعادة الأوقات الفرحة معهما خلال الأشهر السابقة .. تحت تأثير الصدمة .. والخوف من استعادة قوة الألم .. ألم فراقهما ..
أتاها صوته يقول بخفوت من ورائها وكأنه يخشى إخافتها :- تغنين كالملاك
التفتت إليه فجأة دون أن تجد الفرصة لمسح دموعها .. نظرته الرقيقة وهو يمسح صفحة وجهها بها اخترقت كيانها .. وتركتها ترتعش ونسيم البحر العليل يداعبها بلا حياء .. اقترب منها حتى وقف إلى جانبها .. كان يمسك بزجاجتين من العصير البارد .. ظل حاملا لهما وهو ينظر إلى وجهها المبلل بالدموع قائلا بقلق :- لماذا تبكين ؟ ... هل سببت لك الحزن بأي كلمة تفوهت بها أمامك ؟
اهتمامه ورقته كانا اكبر من طاقتها على التحمل .. فعادت دموعها لتسيل مجددا فمسحتها بسرعة وهي تغمغم :- باستثناء خطفك لي .. وحرماني من رفقة أرزو وتعريضك لي لسخطها ... وتشويهك لسمعتي في حال رآنا أحدهم معا أو عرف بوجودنا هنا وحدنا ... لا ... أنت لم تكن سببا لدموعي هذه .
وضع الزجاجتين على أحد المقاعد .. واستند بدوره إلى الحافة إلى جانبها قائلا :- ما الذي يحزنك إذن ؟ أخبريني
شعرت بالحرج إذ أنها لم تكن من النوع الصريح بمشاعره .. لم تحب يوما استعراض أحزانها أو البكاء علنا .. تمتمت بنبرة مقتضبة :- لا شيء .. لقد تذكرت والدي فحسب .. كانا يحبان رفقة البحر .. لطالما ذكرهما بفترة لقائهما الأولى .. أنا وجيهان كنا نحب استراق النظر إليهما في غفلة عنهما ... عندما كانا يتغازلان خفية .. عندما كان يغني لها أبي الأغنية تلو الأخرى مجتذبا تورد وجنتيها .. لا أذكر أمي محمرة الوجه إلا عندما كان يغني لها أبي
قال بهدوء :- من الواضح أن حبهما كان عظيما
أومأت برأسها وهي تنظر إلى البعيد .. حيث بدأت الشمس تسير ببطء نحو كبد السماء .. قال فجأة :- وهذه الأغنية التي كنت تدندنينها ... هل تعني لك الكثير ؟
ابتسمت بحنين قائلة :- كانت أغنية ابي المفضلة ..
سألها برقة :- هلا كررتها على مسامعي مجددا ..
احمر وجهها وهي تبتعد عنه قائلا :- لا .. وألف لا ... لا أحد على الإطلاق مسموح له بسماعي أغني ..
:- لقد سبق وسمعتك تغنين ... أي أن الضرر قد وقع وانتهى الأمر .. أؤكد لك بأنني قد أحببت صوتك
ارتسم العناد على وجهها بوضوح وهي تكرر :- لا
تنهد قائلا :- حسنا .. لا بأس .. أخبريني بما تقوله الأغنية على الاقل .. لا افهم العربية كما تعلمين
فكرت قليلا في معاني الأغنية الجريئة .. وكادت ترفض .. إلاأنها وجدت نفسها تفسر له بعض معانيها السامية قائلة :- تتحدث الأغنية عن حبيب مهجور من قبل حبيبته الخائنة .. يستعطفها من خلال الكلمات مذكرا إياها بحبهما الكبير .. بعشقه لها الذي وصل يوما حد العبادة .. يوصيها بأن تزور قبره بعد موته حبا .. أن تعترف بحبها له ... بخيانتها له رغم وفائه .. أن تعتذر .. أن تنفي الذنب عن نفسها معللة بأن الخيانة جزء من طبع النساء لا يد لهن فيه
نظر إليها وهي تحكي بشيء من الحرج .. ثم قال مداعبا :- أليست كلمات الأغنية إجحاف تام في حق النساء ؟
التقطت ضحكته قائلة بمرح :- بالتأكيد .. إلا أنها وجهة نظر ذلك العاشق فحسب .. لا تستطيع لوم شخص هجرته حبيبة كن لها كل ذلك الحب ..
:- من الغريب أن يردد والدك أغنية كهذه على مسامع والدتك .. فأنا لا أجدها عاطفية .. بل كئيبة وسادية أيضا
لم تتمالك نفسها هذه المرة .. ضحكت عاليا وهي تقول :- هذا ما كانت تقوله أمي ... كان أبي يرد قائلا بأن الحب يجرح حتى عندما تظلله السعادة .. الحب مؤلم .. حتى والحبيب على مرأى منك ومسمع .. حتى وأنت تعرف بأنه لن يتركك قط .. الحب قاسي عندما يقيدك بأغلاله .. حتى إن كنت من يمتلك المفاتيح .. دائما الحب يمنح الشخص الآخر سلطة جرحك وإيذائك .. حتى بمجرد التفكير باحتمالية تركه لك وهجرك ..
لم تدرك بأنها قد استرسلت في الكلام حتى لاحظت الصمت الشديد الذي قابل كلامها ... نظرت إلى أسلان .. فوجدت ملامحه جامدة .. وقسوة ظللت زرقة عينيه وجعلت لونهما يزداد ظلمة .. قال فجأة :- غنها لي
:- لقد أخبرتك بأنـ ....
:- أعرف ما أخبرتني به .. إلا أنني مازلت أريد سماع الأغنية .. منك أنت بالذات
قالت بانزعاج وهي تتحرك مبتعدة :- وما الفائدة إن كنت لن تفهمها .. أنا لن ... آه
صرخت مذعورة وهي تشعر بنفسها تطير مرتفعة عن الأرض ... كان قد أمسك بها حاملا إياها قائلا بجدية :- هل ستسمعينني الأغنية أم لا ؟
تمسكت به غريزيا خوفا من أن تقع .. ثم نظرت إليه وهي ما تزال مبهورة الأنفاس .. كان وجهه يخفي توترا وتصميما وراء ابتسامة العبث الماكرة على شفتيه ... إحساسها بقوة صدره ملاصقا لجسدها .. بنبضات قلبه مسموعة بوضوح لها .. بأنفاسه الدافئة .. برائحة عطره الممزوجة بعبير البحر المالح .. منحها الذعر والقوة الكافيين لتقول بتحدي :- لا
أطلقت صرخة أخرى عندما سار بها إلى حافة اليخت ... وقال محذرا :- سألقي بك في الماء في لحظة إن لم تمتثلي لما أقول
تشبثت أصابعها بقميصه القطني وهي تمد رأسها لترى صفحة المياه الداكنة والمخيفة ... وقد انعكست اشعة الشمس عليها لتمنحها مظهرا جميلا خادعا يخفي عمق المياه ... لم تكن قط سباحة ماهرة .. ابتعلت ريقها قائلة بتوتر :- لن تجرؤ على رميي
اقترب أكثر من الحافة حتى لامس الحاجز المعدني ردفها قائلا :- هل تراهنين ؟
لا ... قالت بعصبية :- أنزلني وسأفعل ما تريد ايها المبتز العنيد ...
أنزلها فابتعدت عنه على الفور وهي تصلح ثيابها .. نظرت إليه بطرف عينها فرأته عاقدا ساعديه أمام صدره منتظرا .. قالت مؤخرة المحتوم :- لا أصدق بأنك قد هددتني برميي في الماء
:- ما يزال التهديد ساريا .. أنا أنتظر
اتسعت عيناها قائلة باحتجاج :- أنا لا اجيد السباحة
:- ما كنت لأتركك تغرقين ... فقط تتخطين قليلا في الماء قبل أن أنتشلك .. في جميع الحالات لن يكون الأمر مسرا لك
زمت فمها وهي تهتف في وجهه :- أنا لا تطاق ... لا أفهم كيف تحتملك زوجتك
قال ببساطة .. وبشيء من التصميم :- ومن قال بأنها تحتملني ؟؟ .... أنا مازلت أنتظر ..
تنهدت بقوة ... ابتعدت عنه .. وأمسكت الحاجز الرخامي بقبضتيها مغمضة عينيها كي تنسى وجوده قريبا منها تماما .. أخذت نفسا عميقا .. ثم رددت بصوت تمنت ألا يكون مضطربا كما تشعر هي :-

في محراب العشقحيث تعيش القصص. اكتشف الآن