الفصل العاشر

14.3K 371 6
                                    

قال أسلان :- هلا توقفت قليلا عن القلق ... لقد وعدتك بأن أعيدك إلى بيتك في الوقت المناسب ..
كانت الساعة قد أتمت الخامسة مساءا عندما أوقف أسلان سيارته الضخمة .. الرباعية الدفع أمام مطعم يقع خارج المدينة .. لم يكن فخما أو مترف الديكور من الخارج .. بل كان يبدو وكأنه بيت بسيط عادي محاط بسور خشبي ريفي .. لولا اللافتة التي حملت اسم المطعم لما صدقت أسيل زعم أسلان قطع كل هذه المسافة فقط لإطعامها في مكان يفضله عن غيره .. ولا يرتاده الكثيرون ممن يحبون تناقل أخبار الأثرياء مثله هنا وهناك ..
نظر إليها وقد انعكست أضواء النهار الساطعة على شعرها الجميل .. وقد ارتسم على وجهها قلق أزعجه .. واثار عطفه في الوقت نفسه .. قال برقة :- ألم تقض نهارا جميلا برفقتي كما وعدتك ؟
قالت بصدق :- بلى
في الواقع ... مازالت عاجزة عن تصديق السعادة التي مازالت تخدر حواسها وعقلها بعد ساعات قضتها برفقة أسلان على يخته .. وحيدة معه .. كان أفضل رفيق قد تحظى به فتاة بحيويتها .. كان مرحا .. مشاغبا .. خبيثا بمداعباته المبطنة .. دون أن يحاول تجاوز أي خطوط جسدية معها .. كان يكتفي بالاستماع إلى حكاياتها التي لا تنتهي عن حياتها في الوطن .. يطلق التعليقات الماكرة ... يتجاوب مع رنين ضحكها الموسيقي .. يرمقها رغما عنه بين الحين والآخر بنظرات كانت تختصر كل المسافات بينهما .. وتوحد روحيهما للحظات من الصمت سرعان ما كان يقطعها أحدهما بدعابة ما .. أو موضوع جديد للحديث ..
ما الذي تفعله هنا معه ؟؟؟ فكرت تعسة بالسؤال مدركة بأنها حتى الآن لم تجد عذرا مناسبا لقضائها ساعات برفقته .. واستمتاعها بها .. وماذا بعد ؟ ... ما الذي ينتظرها من رجل مثله ؟ متزوج .. لعوب .. زير نساء رغم الاحترام الغريب الذي عاملها به والذي ناقض بشدة ما سمعته عنه .. والذي تشك بأنه سيستمر طويلا .. خاصة إن تمكن من التلاعب بمشاعرها .. وإغراقها بحبه كما تخشى أن تفعل ..
أبدا لم تشعر أسيل في حياتها بأنها مهددة عاطفيا كما في هذه اللحظة .. بأنها على وشك أن تخسر عقلها وقلبها وروحها لأجل رجل .. أبدا لم تصادف رجلا يذهلها بابتسامته .. بضحكته .. بصوته حين يتحدث .. يؤلمها فقط بمجرد تفكيرها بفراقه .. يا الله .. إنها تشتاق إليه بالفعل قبل حتى ان تفارقه ..
قال بلطف :- هيا بنا .. سيعجبك الطعام .. يمتلك المكان صديق لي .. يقدم أشهى مشاوي في المدينة ..
ترجلت من السيارة وهي ما تزال ترمق المكان بريبة .. ابتسم وهو يلمس ظهرها بخفة موجها إياها نحومدخل المطعم حيث تعالت الألحان الجميلة للموسيقى التركية التقليدية .. عندما دخلت برفقته إلى الصالة الكبيرة اتسعت عيناها .. وأنطلقت منها شهقة ذهول لا إرادية اتسعت لها ابتسامة أسلان وهو يراقب مستمتعا ردة فعلها على رؤية الديكورات الشرقية المتقنة والحميمة للمكان .. السقف المنخفض .. كان مصنوعا بالكامل من الخشب المنحوت بدقة برسومات شرقية مثلت بجدارة الفن الإسلامي في العهد لعثماني ..
الأثاث من موائد ومقاعد ضخمة كان مصنوعا من الأرابيسك القديم المحلى بالصدف .. بينما تناثرت السجادات الشرقية المبهرة الألوان فوق الأرضية اللامعة لتكمل مع الرائحة النفاذة لعطر الصندل .. صورة خيالية ظنت لوهلة أنها غير حقيقية أبدا .. قالت باضطراب :- ماهذا المكان بالضبط ؟
ضحك أسلان .. في الوقت الذي اندفع فيه رجل ضخم الجثة .. يبدو في مثل عمره لتحيتهما .. احتضنه بجلافة رجولية قبل أن يربت على كتفه بما يشبه الصفعة .. وهو يبادله المداعبات المرحة حول غيابه الطويل .. وانقطاع أخباره .. قال باسما :- أسيل .. أقدم لك صديقي ( حمدي ) .. صداقتنا تعود إلى ايام الجامعة
صافحها حمدي محييا إياها بتهذيب دون أن ينجح في إخفاء الفضول في عينيه وهو يتأملها من رأسها حتى أخمص قدميها .. مما أحرجها ودفع بعشرات الأفكار المؤذية إلى عقلها المتشكك .. عرض عليهما حمدي قائمة الطعام فور جلوسهما في الزاوية إلى جوار نافذة ضخمة مطلة على الحديقة الكثيفة الأزهار.. بعيدا بما يكفي عن باقي الزبائن القلائل .. ثم تركهما ليحضر لهما شرابا منعشا قبل أن يختارا عشائهما ..
قال أسلان باسما :- هل أعجبك المكان ؟
قالت بتوتر :- كثيرا .. هذا المكان يجب ألا يكون خافيا عن الأنظار في مكان نائي كهذا .. وإلا لن يحصل على ما يستحقه من نجاح ..
قال مسترخيا على مقعده بارتياح :- يلقى المكان نجاحا كافيا بالنسبة لحمدي .. زبائنه مختارون .. وممن يستطيعون تحمل الأسعار المرتفعة لأطباقه المميزة .. هو إنسان مخلص وصادق ولا يغره المال أو المجد .. يهمه فقط أن يقوم بعمل متقن وأن يلقى التقدير ممن يهمه أمرهم ..
نظرت إليه بفضول بينما كان يتحدث باحترام ومودة عن صديقه .. وتساءلت عما جمع بين شخصيتين متباينتين كأسلان وحمدي .. الذي بدا واضحا انتمائه إلى بيئة عادية لا تضاهي ثراء بيئة أسلان وعائلته ..
اقترب حمدي مجددا بكوبين من العصير البارد .. وأحد موظفيه يتبعه ليقوم بترتيب المائدة وتجهيزها لشخصين .. لم تتوقف نظرات حمدي المختلسة نحوها حتى وهو يتلقى من أسلان اختياراته للأطباق ويسجلها في دفتره الصغير .. بعد أن ابتعد .. لاحظ أسلان انزعاجها فسألها :- ما الأمر ؟؟؟ ما الذي أزعجك ؟؟
كادت تكذب مختلقة سبب ما .. كضيق حذائها أو إصابتها بالصداع .. إلا أنها وجدت نفسها تقول بجفاف :- ينظر إلي صديقك بطريقة غريبة .. يبدو أنني لا أشبه رفيقاتك المعتادات .. هل أنا أقل أناقة منهن .. أم أقصر قامة ؟؟؟ أم أنه يقارنني فقط بزوجتك .. كما يفعل مع كل امرأة تأتي بها إلى هنا
لم يظهر عليه الغضب لسخريتها ووقاحتها .. بل تفحصها بهدوء قائلا :- لا مبرر لغيرتك أسيل .. سبب نظرات حمدي الغريبة إليك هي أنك أول امرأة آتي بها إلى هذا المكان ..
زمت فمها وقد ظهر عدم التصديق جليا على وجهها .. فقال ساخرا :- هل أنت سطحية بما يكفي لتصدقي كل ما تقوله الصحافة عني ؟
قالت ببرود :- لا دخان من دون نار ... فلا تحاول إقناعي بأنك قديس .. لقد سمعتك تتحدث يوم أحضرتني من المطار إلى إحدى صديقاتك ..
قال بجفاف :- أنا لا أدعي القدسية .. نعم أرافق النساء بين الحين والآخر .. لكن ليس بالطريقة التي يصورها الإعلام .. أوكما يحكي عني الناس من حولي .. ما انا إلا مجرد رجل ..
قالت كارهة :- رجل متزوج ..
لوى فمه بسخرية قاسية وهو يقول:- هل تدافعين عن زوجتي الآن يا أسيل ؟؟؟ منذ متى تعملين كمحامية عن الزوجات المخدوعات ؟
قالت بتوتر :- عندما تكن مغرمات بأزواجهن كما تفعل دنيا .. لا أصدق بأنك تجرحها بهذا الشكل .. لا أصدق حتى أنني قد قبلت بمرافقتك لنهار كامل وأنا أعرف إلى أي حد تحبك زوجتك ..
برقت عيناه بغضب أخيرا وهو يميل إلى الأمام قائلا بصوت منخفض إنما بارد :- تبدين واثقة تماما من مشاعر زوجتي .. هل لي أن أعرف بمصدر معلوماتك ؟
أطبقت فمها بقوة وهي تنظر إلى وجهه الوسيم القاسي .. مدركة بأن الوجه الآخر للرجل الرائع ذي الرفقة الممتعة الذي قضت برفقته ساعات كانت من أجمل ساعات حياتها .. قد تجسد لتوه أمامها .. لم تستطع أن تجيبه .. فإن فعلت لكذبت .. وإن كذبت لكشفت نفسها بسبب قلة براعتها بالكذب .. إلا أنه لم يكن بحاجة لسماع الإجابة منها ليعرفها .. قال بصوت بدا أشبه بالزئير :- هل تحدثت إليك دنيا ؟
قالت بتوتر :- لقد .. لقد تناولنا الغداء معا منذ يومين ..
لمحت أصابع يده الكبيرة تنقبض بشدة فوق الطاولة حتى ابيضت سلامياتها .. شيء وحشي ومض في عينيه الزرقاوين وهو يقول بابتسامة جمدت أوصالها :- وأنت لم تفكري طبعا بالتحدث إلي حول غدائك هذا مع زوجتي .. صحيح ؟
قالت بصلابة رغم ارتعادها توترا :- ولماذا أفعل ؟؟؟ لست مجبرة على إخبارك بأي شيء .. هي زوجتك لا أنا ..
هل أخطأت في القول ؟؟؟ انكمشت في مقعدها عندما هبت نحوها ذبذبات غضب أعمى فاحت منه وكادت ترميها عن مقعدها وهو يميل نحوها أكثر .. وقسوة ابتسامته جعلت المكان يختفي من حولها فماعادت قادرة حتى على تمييز الموسيقى الجميلة التي صدحت من مكبرات الصوت الخفية ..أو صوت زكي موران وهو يتغنى بصوته الرخيم المخنث عن هجران حبيبته له .. قال بنعومة :- وما الذي قالته لك زوجتي بالإضافة إلى وصفها الشيق لمشاعرها الجياشة نحوي ؟؟ ولعلاقاتي المتعددة .. أنا .. زير النساء الفاسق عديم الحياء ..
احمر وجهها وهي تتحاشى النظر إليه .. متساءلة عن المعجزة التي تحتاج إليها كي تغادر هذا المكان وتختفي عن انظاره .. تابع حديثه قائلا :- هل حكت لك مثلا .. بما أنكما قد صرتما صديقتين .. وبت أنت بئرا لأسرارها .. عن الطريقة التي خدعتني بها وأوقعتني في فخ الزواج منها ؟
حدقت به مذهولة هذه المرة .. عاجزة عن تصديق ما قاله للتو .. فابتسم بسخرية وهو يتراجع ليسند ظهره إلى مقعده قائلا :- لا ..لا أظن أنها قد فعلت
مررت يدها على صفحة وجهها الساخنة وهي تقول باضطراب :- لقد .. لقد أخبرتني بأن زواجكما كان ترتيبا بين والديكما لإسكات الفضيحة التي افتعلتها أرزو .. وأيضا تتويجا للعديد من شراكات العمل بين العائلتين .. لقد ظننت .. لم أحسب أبدا ..
كانت ضائعة .. وغاضبة جدا من ضياعها هذا .. أحست برغبة شديدة في البكاء كراهية لنفسها .. للتبرير الذي أرادت سماعه منه حول طبيعة علاقته بدنيا
نظر إليها بهدوء وقد اختفى غضبه .. وكأنه قد أدرك بأنه يصب غضبه على الشخص الخطأ .. وكأنه قد أحس بالصراع الذي بدأ يدور داخلها .. قال برزانة :- لقد كانت دنيا صادقة في شيء واحد على الأقل .. في الضغوط التي مارسها والدي علي كي أتزوج بدنيا .. وأنا عجزت عن الاعتراض ليقيني بمسؤوليتي عما حدث مع أرزو .. لقد كانت مجرد طفلة .. وأنا لم افكر أبدا بأنها قد تنظر إلى اهتمامي بها بطريقة رومانسية .. لقد كانت هشة ويافعة جدا .. وعندما انهارت في مكتبي ذلك النهار معترفة بمشاعرها نحوي أحسست وكأنها توجه إلي صفعة قوية أربكت كل كياني .. عرفت بأنها لن تنسى الأمر أبدا إلا إن وجدتني مرتبط بأخرى .. وهذا كان أساس خطوبتي بدنيا .. التي أوهمتني بأنها مرغمة هي الأخرى على القبول بالخطوبة إرضاءا لوالدها .. ظننت بأننا سنتمكن من التوصل إلى تسوية ما قبل أن يتطور الأمر إلى تخطيط للزفاف .. أن تختلق خلافا ما ..أو شجارا ما يفرقنا ..
أغمضت عينيها للحظات مانعة دموعها من تجاوز عينيها .. دموع غضب من نفسها لاهتمامها .. لارتياحها .. للهفتها إلى معرفة الحقيقة .. لتبرئته من كل التهم التي لم يتوقف الجميع عن رميه بها منذ وطأت قدمها أرض استانبول .. تابع قوله بشيء من الغضب :- تمكنت من خداعي يوما عندما تحدثت عما سيقوله الناس إن فسخنا الخطوبة باكرا .. سيخمن الجميع بأنني انا من رفضها .. لن يصدق أحد بأن القرار كان مشتركا ..
لا أعرف كيف أقنعتني بأن أحدا من عائلتينا لن يتوقف عن الإصلاح بيننا ومحاولة إعادة ارتباطنا .. بأن الوسيلة الوحيدة التي قد تقنع الجميع بأن لا أمل في عودة كل منا إلى الآخر ... هي أن تهجرني دنيا ليلة الزفاف .. قبل عقد القران مباشرة
همست أسيل وهي تتنفس بعنف :- إلا أنها لم تفعل
لوى فمه بسخرية مريرة وهو يقول :- لا .. لم تفعل .. وكما توقعت .. كنت انا أجبن من أن أحرجها وأحرج والدها وهو رجل أحترمه وأقدره بشدة أمام المئات من المدعويين ..أن أسبب لوالدتي وهي سيدة رقيقة ومرهفة الإحساس الصدمة والخجل امام أصدقائها .. لقد أتممت الزواج .. إلا أنني لم أسامح دنيا قط على فعلتها ..
أخفت أسيل وجهها بيديها وهي تهمس بتعب :- يا إلهي
بماذا تورط نفسها ؟ .. عاد حمدي لحسن الحظ بالطعام .. أحس بالجو المتوتر بينهما .. إلا أنه تجاهله بمهنية .. رص الأطباق التي تعالت منها رائحة الأبخرة الشهية .. ثم ابتعد بعد أن أكد له أسلان رضاهما وعدم حاجتهما إلى أي شيء آخر .. مد أسلان يديه من فوق الأطباق ليمسك بيديها ... ويجبرها على النظر إليه
قائلا بحزم :- لم أكن مخلصا لها يوما يا اسيل .. لأنني لم أعتبرها يوما زوجتي .. وكل حقوق لها علي اكتسبتها بالخداع .. لا تساوي عندي شيئا .. أتفهمين ؟
قالت بعجز :- أنت ما تزال متزوجا بها .. ومنذ خمس سنوات ..
قال بابتسامة قاسية :- نعم .. مازلت متزوجا بها .. هل تظنين بأنها تستحق خروجا لائقا من هذا الزواج ؟؟؟ لقد اقسمت لها ليلة زفافنا فور أن أصبحنا وحيدين بأنها ستتمنى الموت قبل أن تتوسل إلي فسخ الزواج .. ومنذ ذلك الحين وهي تعاني نتيجة إجباري على الزواج بها .. لا .. لا تجزعي .. أنا لا أسيء معاملتها على الإطلاق .. أنا فقط أنفي وجودها في حياتي .. أمام الناس .. أنا متزوج .. في المنزل الكبير الذي أهداه لنا أبي بمناسبة الزواج .. يعيش كل منا حياته الخاصة بعيدا عن الآخر ..
ضحك بمرارة قائلا :- المذهل أنها لم تطلب الطلاق مرة خلال سنوات زواجنا الخمسة .. حتى وقصة زواجنا الفاشل تجري على كل لسان .. حتى وصوري برفقة نساء أخريات تملأ الصحف ..
تمتمت أسيل بمرارة :- لأنها ما تزال مغرمة بك .. المسكينة ..
دوى صوت تهشم جعلها تنتفض قافزة من مكانها .. حدقت مذهولة بالكأس الزجاجية التي تحولت إلى شظايا متناثرة فوق الأرض الرخامية للمطعم
سمعت أسلان يقول بغضب شديد :- لا أصدق .. أنا لا أصدق بأنك ستتخذين جانبها أنت الأخرى
حدقت به مذعورة عندما انتفض هو الآخر واقفا .. كان باقي الزبائن قد توقفوا عن الأكل .. وحدقوا فيهما بخوف ممزوج بالفضول والإثارة ... العاملين أيضا وضمنهم حمدي توقفوا عن الحركة وأخذوا يراقبون أسلان بقلق .. قال بجمود :- سأخرج قليلا لاستنشاق الهواء الطلق

في محراب العشقحيث تعيش القصص. اكتشف الآن