الفصل الاول

32.5K 470 12
                                    

كما توقعت أسيل تماما .. ما أن أغلقت حاسوبها المحمول .. وبدأت في ترتيب أغراضها الكثيرة .. حتى اقتحمت أرزو الغرفة بأكبر ضجة ممكنة .. وهي تضمها من جديد بين ذراعيها قائلة بلهجة حالمة :- مازلت غير مصدقة لوجودك هنا ... انت حقا هنا
ضحكت أسيل وهي تبعدها قائلة :- أنا هنا .. وبحاجة إلى مساعدة في ترتيب هذه الأغراض
بدون تردد .. بدأت أرزو تساعدها في ترتيب الملابس الكثيرة وهي تثرثر بدون توقف .. بينما تستمع إليها أسيل وتشاركها الحديث بخلو بال لم تشعر به منذ فترة طويلة .. محاولة ألا تتذكر آخر مرة أحست فيها بأنها داخل بيت يحبها ويحتضنها .. لقد مر أكثر من عام على وفاة والديها .. قضت معظمه برفقة جهان وزوجها الرائع إياد الذي كان خير سند لهما في محنتهما .. حتى حصل على تلك الفرصة الكبيرة للوظيفة المرموقة في دبي قبل ثلاثة أشهر .. والتي اضطرته للسفر فورا .. كانت جهان تنوي الانتظار حتى تنهي أسيل امتحاناتها كي تسافرا معا .. إذ كانت رافضة وبشكل قاطع تركها ورائها وحيدة في حلب .. إلا أن أسيل التي أبت أن تسمح لزوج شقيقتها العزيز أن يسافر وحيدا .. أعلنت بأنها ستنهي آخر أشهر دراستها في منزل عمتهما الوحيدة .. مخفية قدر الإمكان امتعاضها من الفكرة .. فالشقة الضيقة التي تعيش فيها عمتها مع عائلتها الكبيرة .. بالكاد اتسعت لفرد إضافي .. في الواقع .. نومها على الأرض في تلك الزاوية المزدحمة من غرفة الطعام الصغيرة .. ما كان ليزعج أحد أبناء أو بنات عمتها الكثر .. لو كانوا أسمى خلقا بالتأكيد .. فمن ناحية .. كانت تجد نفسها دائما في حالة دفاعية ضد لمسات ولدي عمتها وتحرشاتهما الوقحة .. كما كانت تعاني من تعليقات بنتي عمتها التي لم تخلوا أبدا من الغيرة والحسد .. ومن ناحية أخرى .. كانت إقامتها في بيت عمتها يعني بالنسبة إليها أن تقوم بمعظم الأعمال المنزلية عندما لا تكون في الجامعة
الدعوة التي تلقتها من خالها فريد عندما اتصل بها بعد انتهاء امتحاناتها مباشرة .. كادت تبكيها فرحا وارتياحا .. من جهة .. ستقضي بعض الوقت برفقة عائلته التي كانت دائما تحتل مكانة كبيرة لديها .. سترفه عن نفسها .. وتنسى عذاب الاشهر الأخيرة .. وفي الوقت نفسه .. سيجد إياد وجهان الوقت الكافي لترتيب أمر إقامتها معهما ..
رسمت على شفتيها ابتسامة عريضة وهي تتمدد على السرير إلى جوار أرزو .. تحدق كل منهما إلى السقف .. تفكران بالسنوات التي مرت منذ زيارة أسيل الأخيرة برفقة والدتها .. قبل فترة قصيرة من وفاة جدتها .. وهو ما أثر بعمق في والدتها فمنعها من العودة مجددا .. تعرف أسيل من رسائل أرزو بأن غياب والدتها آلم خالها جدا وهو شقيقها الوحيد .. كما أحزن زوجته التي كانت إحدى أقرب صديقات والدتها حتى قبل أن تتزوج من شقيقها .. أما وفاتها المفاجئة في العام الماضي .. فقد هزتهما بعنف .. وقد ظهر هذا واضحا عندما جاء الخال فريد إلى العزاء .. وقضى بضعة أيام برفقة بنتي شقيقته .. لقد عرض على الفور على أسيل ان تأتي للإقامة معه .. وطبعا .. رفضت جهان بشكل قاطع ابتعاد شقيقتها عنها .. وأصرت على أن تبقى معها في بيتها تحت إلحاح زوجها هو الآخر ..
أسيل .. لا تشك على الإطلاق بأن الخال فريد سيعود للمحاولة مجددا إقناعها خلال إقامتها هنا بالبقاء مع عائلته .. وبقدر ما تحبه .. وتعشق هذا المكان .. إلا أنها كالسمكة لا تستطيع العيش بدون ماء .. وماءها كانت جهان وإياد .. والحياة معهما
قالت أرزو فجأة :- إذن ..
:- إذن ماذا ؟
:- ما الذي تحدثت به مع أسلان دار أوغلو
أطلقت أسيل ضحكة عالية وهي تقول :- كنت أتساءل متى ستنطقين بسؤالك هذا
قالت أرزو بضحكة عفوية :- تعرفينني أكثر مما ينبغي .. لا يعمل أسلان دار أوغلو كل يوم كسائق شخصي لفتاة من العوام .. كيف يكون شعور الشخص وحيدا معه في السيارة .. ما الذي قاله لك ؟ .. هل كان لطيفا ؟؟ هل ..
قاطعتها أسيل ضاحكة وهي تقول :- تمهلي في طرح الأسئلة لأن أملك سيخيب تماما .. بالكاد تحدث إلي الرجل .. أظنه حتى لم يلقي نحوي نظرة أكثر مما يجب .. لقد كنت موجودة عندما حمل حقائبي إلى الباب الأمامي وألقى التحية على والدتك .. لم يتعب نفسه بقول كلمة مع السلامة لي ..
قطبت أرزو قائلة بحيرة :- ليس هذا من طبعه .. أسلان ألطف شخص قابلته في حياتي .. إنه مرح للغاية .. ومتحدث بارع .. وما كان ليفوت فرصة الثرثرة مع فتاة جميلة
اتسعت ابتسامة أسيل سائلة إياها :- وهل أنا جميلة بما يكفي لألفت نظر رجل مثله ؟
قالت أرزو باكتئاب :- تعرفين بأنك جميلة جدا ... أنت نسخة عن عمتي المرحومة .. لك شعرها النحاسي .. وعينيها الخضراوين .. وملامحها المليحة .. ماكان أسلان دار اوغلو ليغفل عنك .. صدقا
تذكرت ما قالته لها أرزو في إحدى رسائلها عن الشاب الثري المدلل .. عن مغامراته النسائية التي لا تعد ولا تحصى حتى بعد زواجه من فتاة جميلة تنتمي إلى عائلة لا تقل ثراءا عن عائلته .. هزت أسيل كتفيها قائلة بلا مبالاة :- في الواقع .. أظنه قد حسبني بلهاء أو خرساء .. لقد أخذت تماما برؤيته في انتظاري .. فظنني لا أجيد التركية .. وعندما وجدني أحدق به .. فضل على ما يبدو أن يتحاشى التحدث إلي طوال الطريق .. ربما ظنني مهووسة بالرجال .. من يدري
ضحكت أرزو بسبب الطريقة التهكمية التي تحدثت بها أسيل دون أن تفطن للنظرة الباردة التي أطلت من عينيها قبل أن تشيح بهما بعيدا .. ما أغفلت عن قوله لأرزو .. وتجاهلت كتابته لجهان .. أنها كانت تغلي غضبا طوال الطريق إلى منزل خالها .. تتمنى لو تستطيع الاستدارة نحو سائقها الوسيم .. ولكمه على وجهه .. كانت تنوي حقا تصحيح معلوماته بعد أن فتح لها باب السيارة الأمامي لتجلس إلى جواره .. وتخبره بأنها غير جاهلة باللغة التركية .. إلا أن رنين هاتفه فور أن استقر إلى جانبها وراء المقود أسكتها وهي تستمع إليه يتحدث بأريحية إلى شخص ما .. امرأة في الواقع .. امرأة قطعا لم تكن زوجته وهو يتفق معها على موعد للقاء .. احمر وجهها حينها وهي تستمع إلى كلمات الغزل التي وجهها إلى محدثته بصوت منخفض أبح .. ظنا منه أن رفيقته داخل السيارة لا تفهم حرفا مما يقول .. ثم إلى حديثه عنها هي .. واصفا إياها بالمراهقة البلهاء التي تبرع بإحضارها من المطار ... فتاة تبدو مفتونة به بما يكفي لتعجز عن قول كلمة حتى لتقدم نفسها إليه .. ثم صمت للحظات .. قبل أن يقول ضاحكا بانه انتقائي للغاية في اختيار صحبته .. وفتاة بدينة غبية لا تجيد الكلام ليست من طرازه على الإطلاق
هي .. التي كانت أمها تلاحقها منذ طفولتها بالطعام كي تكسب بعض اللحم فوق عظامها البارزة .. هي .. أسيل فاضل .. التي لوحقت من قبل أكثر فتيان الجامعة شعبية دون أن يلقى صدى الاهتمام منها.. هي .. التي اعتادت أن تخطف الأنظار أينما ذهبت بجمالها الطبيعي وابتسامتها المشرقة .. بدينة وغبية ولا تجيد الكلام ؟؟؟؟؟؟
:- أسيل .. أين شردت ؟ لماذا بدوت غاضبة فجأة ؟
ابتسمت أسيل بشحوب قائلة :- لست غاضبة .. أنا متعبة قليلا فحسب
أحست أسيل بالذنب لكذبتها فور أن أطل الأسف من عيني أرزو العسليتين .. وهي تقول :- أنا آسفة يا حبيبتي .. ليتك أخبرتني كي لا أزعجك بثرثرتي ... سأتركك ترتاحين قليلا قبل العشاء
غادرت أرزو على الفور تاركة أسيل وحيدة في الغرفة .. وبدلا من أن تنام قليلا كما وعدت أرزو القلقة .. قفزت نحو النافذة .. لتنظر إلى الشارع الصاخب .. إلى الأبنية القديمة .. إلى ما ظهر من الميناء حيث البحر بزرقته الجميلة والرائعة ..
قررت بأنها ومنذ الصباح الباكر .. ستنتزع أرزو من سريرها .. وتأخذها للسير على الميناء .. فهي تذكر تماما مدى روعة البحر في الساعات الأولى من الصباح .. ابتسمت بإشراق ... وأحست بأن كل أحمال الدنيا قد انزاحت عن ظهرها .. فهي في استانبول الآن ..

في محراب العشقحيث تعيش القصص. اكتشف الآن