صحوة!

56 8 11
                                    

محافظة الحلة الساعة العاشرة صباحا 

كان وقع صوت مريم قويا جدا  ومأثرا  بجسد ذلك العجوز الممدد على سرير احد المستشفيات لدرجة انه ايقضه من غيبوبته التي دامت ثلاث وعشرون عام .. فتح عيناه وراح ينظر بغرابة للجدار المتهالك الذي امامه وللاجهزة التي كان موصل بها كان وكأنه يبحث عن مريم او عن الحشود التي وقفت بالميدان او عن الميدان ذاته .. احس بدوار  شديد وراحت يداه ترتعش .. اخذ ينظر الى يداه التي بدت وكأنها غريبة .. اراد الصراخ ولكن وقع
الموقف كان صعبا عليه جدا  ،
ان تصحو من حلم دام اكثر من عشرون عاما ليس امر سهل ابدا ..
فتح باب الردهة ودخل رجل يرتدي بدلة بيضاء ويضع سماعات الاطباء كان كبيرا بالسن
طويل وبدين قليلا ابيض البشرة .. رسمت على ملامحه الاندهاش فورا  ..  وقف عند السرير وبدء الحديث بنبرة عالية مندهشة : 
-لقد استيقظت اخيرا  يا ابراهيم ! كانت غيبوبتك قد استمرت كثيرا .. وكنا هذا الشهر  على موعد ان نفصل تلك الاجهزة عنك ظنا  منا ان حالتك باتت ميؤوسة وانك لن تستيقظ بعد كل هذه السنين ابدا  .
نظر الرجل الى الطبيب بدون ان يبدي اي تغير في ملامحه .. وكأنه جماد بعينين تتحرك فقط .. أخرج الطبيب من جيبه حقنة دواء وقام بحقنها في كيس المغذي الذي كان معلق بالقرب من الرجل ثم نظر الى الرجل ليقول: 
- من الطبيعي جدا أن لا تتكلم الأن .. ولكنها مجرد أسبوع لتعود تشاركنا الحياة بجميع حواسك سيدي. 
ثم بدأ ببعض الفحوصات الطبية وتسجيل حالة المريض ما الى ذلك .. ثم أنصرف تاركا الرجل بحيرة كبيرة .. عاد الرجل ينظر الى المكان بتمعن وهو يحاول تذكر كيف أتى الى هنا وماذا جرى ..
كان الرجل مصدوما  ولا يستطيع الحركة مطلقا  مجرد أستطاع تحريك عينيه .. مرت الساعات وهو على هذا الحال .. حتى حل المساء .. كان الرجل ينظر من النافذة المقابلة لسريره للخارج ..
وللشمس وهي تغيب .. فجأة سمع صوت فتاة يكلمه بلطف في أذنه اليسرى : 
- أبي .. أبي أشتقت اليك يا أبي 
كان الرجل يحاول الألتفات ولكنه لم يستطع .. حاول وحاول ولكن بلا جدوى .. مضت الساعات .. وأختفت الشمس من نافذته .. ولكن ذلك الصوت لم يختفي .. شعر الرجل بالملل من محاولته الفاشلة بالألتفات لذلك الصوت حتى غلبه النعاس ونام مضت الأيام على ذلك النحو .. كان يقضي نهاره يراقب الشمس وليله يحاول الالتفات لذلك الصوت حتى ينام .. وبعد عشرة أيام .. وفي غياب الشمس .. سمع الرجل ذلك الصوت مجددا .. لم يحاول الألتفات هذه المرة .. يبدو أنه قد اعتاد ذلك الصوت أو انه شعر باليأس من محاولته الفاشلة .. ولكن بعدد تكرار الصوت لعدة مرات .. حاول الألتفات ولكن في هذه المرة وعكس العادة أستطاع الرجل الألتفات لينظر الى جانبه كان شعوره لا يوصف من السعادة بنجاح محاولته لدرجة أنه أنساه ماكان يريد الألتفات لأجله .. حتى تذكر أمر الصوت .. ولكنه للأسف لم يجد أحد يناديه أستغرب قليلا .. ثم عاد رأسه مرة ثانية نحو النافذة لينام مجددا 
كان الرجل يتعافى بسرعة .. فبعدها بأيام أستطاع تحريك أصابعه .. و بعدها بفترة أستطاع النطق بكلمات متقطعة مجددا  وبعد بعض الاسابيع .. وهو جالس في غرفته ومعه الممرضة تتحدث معه لكي يتمرس الكلام قليلا  .. دخل الطبيب الغرفة ..
وقف بقرب سرير الرجل .. وبدأ الحديث بنبرة عزم وتحدي قائلا  :
- أبراهيم عليك أن تتحدث معي الأن وتسألني عن أي أستفسار يجول في خاطرك .. عليك أن تخرج بكل الكلمات من جوفك .. هيا أفعلها يا رجل .. الم تشتاق للحديث بعد كل هذه السنين التي كنت مغيب بها ؟!

نظر أبراهيم الى الطبيب بتعجب لينفجر متكلما   بنبرة بحوحة وبصوت خافت يشبه فحيح الأفاعي :
- هل تقصد اني كنت مغيب ؟ هل تقصد انه لم تحدث الثورة ؟ اين الضابط ادم ؟ اين احمد وبسام ؟ مريم ؟ 
ضحك الطبيب وسحب كرسي كان موجود بالجوار وجلس .. خرج من جيبه ورقة وبدأ يقرأ بصوت عالي :
- اذن ابراهيم انت متزوج من مروة المتوفية قديما  ، ولديك فتاة وحيدة اسمها مريم تبلغ من العمر الان ثمانية وعشرون عام ..
كما وانك دخلت تلك الغيبوبة نظرا  لتأثرك بانفجار في بغداد وكان هذا من زمان بعيد.. وانت الشهر الفائت استيقظت الحمدلله ..
ولكنك تعاني من بعض الهلاوس البسيطة التي سنعالجها لك .
نظر ابراهيم الى الدكتور مطو لا وكانه مشتت البال ثم عاد بسؤاله بنبرة التذكر :
- أين مريم ؟ هل كانت تزورني في تلك الفترة ؟
- نعم بستمرار وطوال فترة غيبوبتك .. ولكن هذه الشهر لم تأتي يبدو أنه حصل شيء ما أخرها ..   ولكنها ستاتي بعد ساعات ..
فهي تزورك في مثل هذا الوقت من كل اسبوع.
-جيد سأنتظرها .. حدثني يا دكتور ماذا فاتني ؟ على ماذا سارت الامور في تلك السنين ؟
نظر الدكتور الى النافذة وسرح قليلا ثم اجاب بنبرة عميقة جدا  وهادئة: 
- لم يفتك الكثير يا سيدي مجرد اكثر من مليون قتيل واكثر من مليون جريح و الاف الارامل والاف الايتام ! اكثر من نصف الشعب عاطل عن العمل والكثير من المهاجرين واللاجئين العراقيين حول العالم والفساد مستشري بكل مفاصل العراق ونسب الفقر بازدياد ، حتى الامراض والاوبئة افتكت بنا ، حتى الاخلاق لم تعد مثل السابق .. كل شيء بات اكثر ظلاما ، يارجل كنت دائما اقف عندك وانت نائم .. واحسدك لانك نائم بدون ارادتك بينما نحن نائمون بارادتنا ومغيبون بعلمنا .. تبا! .

أبتسم الطبيب وراح يفرك يداه ببعضها ثم ضحك قليلا  وعاد للحديث بنبرة ساخرة: 
- لم يكن علي كطبيب ان اتحدث بكل هذه التشائم لرجل مثلك .. اعتذر ياصديقي ولكن الضغوط التي اعيشها صعبة قليلا  .. حدثني انت عن غيبوبتك ماذا جرئ وماذا رأيت ؟
وضع ابراهيم يداه على السرير ليتكأ عليها محاولا الجلوس ولكنه لم يستطع ، نهض الدك ور من على الكرسي وساعده حتى جلس ، جلس الدكتور جنبه تنهد ابراهيم تعبا ثم بدأ الحديث بنبرة حالمة:
- صدقني يادكتور مارأيته في غيبوبتي كان مؤساويا  قليلا  ولكنه ابيض كثيرا  عن ما كنت تتحدث عنه ، فقد صنعت في افكاري ثورة كانت بطلها ابنتي مريم .. شعت لعنان السماء واصرخت مدوية بكل الارجاء .. قد كان الناس في احلامي اكثر ايجابية قد رئيت الكثير من الاحرار في حلمي صدقني. 
قاطع كلام ابراهيم طرقة الباب ودخول مريم التي كانت لاتختلف عنما رسمها ابراهيم في مخيلته كثيرا  مجرد تصفيفة شعرها كانت مختلفه وبعض التفاصيل البسيطة في ملامحها ، عند فتحها للباب ودخولها صدمت بابراهيم وهو جالس بعدد
ماتعودت في كل زيارة ان يكون مغيب ، صرخت لا اراديا  وراحت تذرف دموع الفرح ، اقتربت وعانقت ابراهيم الذي كان مندهش جدا  هو ايضا  ، راح يلمس شعرها .. ويستنشق عطرها .. احست
مريم وكأنها بحلم جميل جدا  لم تشاهد مثله قط واحس ابراهيم وكأنه بواقع جميل لم يشهد مثي لا  له ،
بدأ ابراهيم حديثه :- كنت كل يوم اراك بأحلامي ولكنك بالواقع اجمل جدا فتاتي.
وقف الطبيب وابتسم قائلا: 
- استركم وحدكم قليلا  .. اسعدني رؤيتك تتكلم اخ ابراهيم .. عن اذنكم. 
ثم انصرف مغلقلا الباب خلفة .. نظرت مريم لعيون ابيها التي لطالما اشتاقت ان تراهم مفتوحتان وقالت بصوت باكي بحوح :- احبك جدا ابي لا تتركني مجددا  .. الحياة صعبة جدا بدونك ..
اشتقت لك !
-لا تلوميني يا فتاتي ، لم اختار ان احبس داخل جسدي عشرون عام لكنه القدر يا فتاتي .
-لم الومك صدقني ولكنني اردت التعبير عن شوقي لك ولكن بسبب هول الموقف تتلعثم كلماتي 
-اريد ان اسألك بعض الاسئلة ابنتي .. هل تسكنين مع عمتك في الغرفة العلوية ؟
دهشت مريم قليلا واجابت بنبرة متسائلة: 
- نعم ولكن من اخبرك ؟
ابتسم ابراهيم وعاد لسؤالها مرة ثانية: 
- هل لديك كمبيوتر قديم بطيء جدا في تشغيله ؟ توسعت عيون مريم وراحت تمسك شعرها بيديها وقالت: 
- اخبرني كيف عرفت من اخبرك ؟ أجاب ابراهيم بهدوء: 
- سأخبرك بكل شي ولكن عليك اجابتي الان عن اسألتي حتى استطيع فهم بعض الامور 
والان لنكمل .. هل تعرفين شخص اسمه ادم ؟ اخذت مريم تفكر قليلا حتى اجابت: 
- نعم انه ضابط شرطة قد تقدم لخطبتي قبل سنين ، ولكنني رفضت. 
-هل تعرفين شابين اصدقاء يدعون احمد وبسام ؟ فكرت مريم قليلا ثم اجابت : 
-نعم لقد كانوا يدرسون معي في الكلية انهم من ديالى. 
طلب ابراهيم من مريم ان تساعده بالوقوف .. حاولت مريم مساعدة ابراهيم ولكنها لم تستطع .. تنهد ابراهيم تعبا وراح قائلا بنبرة سخرية: 
- يبدو ان الوقت باكرا قليلا على النهوض عزيزتي .. كدت ان انسى من هو روبرت ؟ 
ضحكت مريم من قول والدها ثم اشاحت بنظرها قليلا وعادت الاسم متمتمة :
- روبرت روبرت .. اعتقد انني لا اعرف احدا  بهذا الاسم يا ابي ضحك ابراهيم قليلا ثم عاد قائلا: 
- مستحيل يا فتاتي تذكري قليلا .. روبرت مسيحي هاجر خارج العراق؟
قاطعت مريم والدها فورا وقالت: 
- نعم لقد تذكرت انه جيراننا قد هاجروا الى تركيا قبل سنين ..
اجبني الان هل كنت تسمعني حين احدثك وانت مغيب ؟
نظر ابراهيم الى مريم مندهشا وقال: 
- هل كنتي تحدثينني وانا مغيب ؟
- نعم كنت كل يوم احد اقوم بزيارتك واحدثك كثيراً جداً .
- امم .. هذا يفسر الكثير من الامور .. لم اكن اسمع ما تقولين يافتاتي ولكنني كنت أحلم بما تقوليين! 
قاطع حديثهما طرق الباب .. فتح الباب ودخل الطبيب قائلا :
- نحن بحاجة لاجراء بعض الفحوصات العاجلة الان سيدي. 
-انا مستعد يا طبيب. 
طلب الطبيب من مريم الخروج من الغرفة قليلا  .. ثم بدأ  بسحب بعض العينات من الدم .. مع بعض الأجهزة الطبية التي كان يقيس بها درجة الحرارة والضغط وما الى ذلك .. طلب ابراهيم
من الطبيب ان يساعده على النهوض ولكن الطبيب رفض بدواعي ان ابراهيم ليس جاهزا بعد للوقوف .. قبل خروج الطبيب طلب ابراهيم ورقة وقلم من الطبيب .. قام الطبيب باخراجهم من جيبه ووضعهم على السرير .. خرج الطبيب وعادت مريم مباشرتا .. وجلست على الكرسي بالقرب من ابراهيم .. راح ابراهيم يسألها عن حياتها ودراستها ومعيشتها وما الى ذلك . مرت الساعات بسرعة .. حتى اتى الليل.. شعر ابراهيم بالنعاس فنام على سريره
ونامت مريم على كرسيها .. في صباح اليوم التالي عند الساعة السابعة صباحا  .. شعرت مريم بشخص ما يوقظها .. فتحت عيناها اذ به ابراهيم واقف على قدميه دهشت مريم .. بدأ ابراهيم قائلا  بسخرية:
- صباح الخير يا كسولة .. عليك تعلم النشاط من شخص نام لعشرون عام متتالية.
ضحكت مريم وقامت لتعانق ابيها .. طلب ابراهيم من مريم ان تعلم الطبيب انه جائع .. ذهبت مريم للبحث عن الطبيب في ازقة المستشفى وبجميع الطوابق .. ضلت تبحث مريم ساعة كاملة ولكنها لم تجده .. عادت مريم الى غرفة والدها .. فتحت الباب
لتجد ابراهيم ممدد على الارض بجوار النافذة .. هلعت مريم

كثيرا  .. اقتربت منه وراحت تناديه وتحاول ايقاظة ولكنها لم تستطع .. ركضت خارج الغرفة باحثة عن احد الممرضين او الاطباء .. عادت ومعه احد الاطباء لتجد طبيبين وعدد من الممرضين بالقرب من والدها .. حملوه وقاموا بوضعه على
السرير .. اخرجوا مريم خارج الغرفة .. وبدأت محاولاتهم بانعاشه باستخدام الصاعق الكهربائي كانت مريم قلقه جدا بالخارج ..
فهي لا تريد خسارة والدها بعد ان شعرت بقربة بالامس وبعد ان ملئ لها ذلك الفراغ التي كانت تشعر به كل تلك السنين .. بعد طيل انتظار خرج الطبيب وهو عبس الوجه .. نظر الى مريم قائلا : - البقية في حياتك .. كوني قوية يا ابنتي. 
ثم اخفض رأسه وانصرف .. صدمت مريم وراحت الدموع تذرف من عينها الدموع ولكن بصمت جاف ، كما وانها لم تصدق ما يحصل .. دخلت الغرفة للتأكد بنفسها .. حاول الممرضون بالداخل منعها ولكن دون جدوة .. حتى امرهم احدهم بتركها والخروج .. جلست عند والدها تبكي ..حتى جذب انتباها ورقة كان بيد والدها .. يمسك بها بقوة .. اخذت الورقة وفتحتها وبدأت تقرء والدموع تنهمر من عيناها كما مكتوب : 
" عزيزتي مريم .. اكتب هذه الرسالة وانا انظر اليك وانتي نائمة
لقد كنت جميلة جدا وكأنك شهاب في سماء حالم .. او قمر بليل عاشق ، كأنك دمية في مخيلة طفلة او لحظة بريق بعيون اعمئ كانك وطن لغريب او بغداد لعراقي .. كل ما اود قوله لك يا فتاتي ..
اني اشكرك على كل ما فعلتيه لي بفضلك لقد استطعت ان اسرق من الحياة بعض الايام .. استطعتي يا فتاتي ان تشعلي داخلي
ثورة وان توقضي جميع اعضائي .. تمنيت لو تتوفقين بايقاظ ملايين المغيبين مثلي في هذا البلد .. ابدا  لن انسى كلماتك التي كانت تستعر في عقلي وانت تقولين .. انا العراق لن يحكمني الفاشلون والفاسدون والسراق ! .. انتي العراق وكلنا العراق .. اذا لم نوافق ان يحكمنا الفاشلون والفاسدون والسراق .. سنبقى
العراق بشموخنا .. استودعك الله يا جميلة الجميلات بعد شعوري ان المنية باتت قريبة .. احبك جدا  "

فشل وطنيWhere stories live. Discover now