الجزء الثاني (ثورة) / الفاتنة الشقراء

64 11 17
                                    

محافظة الحلة  الساعة الواحدة بعد منتصف الليل .

في ذلك الحي المتهالك العشوائي تحديدا  في ذلك الزقاق المظلم وعند تلك النافذة الوحيدة المنيرة بشموع على شرفتها تطل منها فتاة شقراء فاتنة الجمال قصيرة القامة عيونها عسليتين وكأنهم خلقُ ليفتن بهم بني ادم .. يبدو وكأنها بأواخر
العشرينيات من العمر  .. كانت تنظر الى السماء بهدوء وتأمل وشعرها الحريري يرقص بلطف مع الريح تارة يداعب وجهها واخرى يلحق بك تفها .. فجأة يقطع هدوء وسكينة الموقف عودة النور للحي بقدوم التيار الكهربائي .. انارت مصابيح المنازل المجاورة الحي بأكمله .. بدأ الفرح يرتسم على وجه الفتاة استدارت ودخلت الى غرفتها  .. داخل الغرفة يوجد في احدى الزوايا سرير حديدي صغير موضوع بطريقة عشوائية الى جانبه يوجد جهاز مربع معقد تخرج منه الخراطيم لم اتمكن من  معرفه ماهو .. بالجانب الاخر من الغرفة يوجد كمبيوتر قديم جدا  موضوع فوق طاولة رثة عليها الكثير من الاوراق المبعثرة ..
وكرسي خشبي مزخرف .. اقتربت الفتاة نحو الكمبيوتر بشغف ضغطت على زر التشغيل واخذت بيدها تسحب الكرسي للجلوس بدأ ذلك الكمبيوتر بالعمل كالسلحفاة وهي وكأنها ارنب بري يقفز من شدة فرحه .. ماهي الا لحظات حتى بدأ الملل يخيم على الفتاة .. نطقت موجهتا يدها نحو شاشة الكمبيوتر: 
- هيا يا غبي اعمل .. التيار الكهربائي بات يأتي كل يوم ثلاث ساعات فقط وانا اضيع ساعة كاملة بأنتظارك تعمل!
يبدو ان الكمبيوتر استجاب لطلب الفتاة وهاهو قد أنتهى من التشغيل اخيرا  .. دخلت الفتاة الأنترنت وأخذت تتصفح المواقع ..
من هنا وهناك كانت تبحث عن بعض الاغاني الاجنبية التي سمعتها قبل ايام في هاتف صديقة لها .. انتهى بها المطاف في موقع ينشر الاشخاص به جميع الصوتيات التي يرغبون بنشرها ضغطت على زر للتشغيل التلقائي وبدأت الاغاني تعمل واحدة بعد الاخرى .. في أول البدء كانت اغنية راقصة قد اشتغلت ..
انسجمت الفتاة مع الاغنية بطريقة رهيبة حتى بدأت تهز رئسها الى ان انتهى بها المطاف وهية منتصبة وسط الغرفة ترقص على الانغام مبتسمة مفعمة بالحياة .. ماهي الا دقائق معدودة حتى انتهت الاغنية فجأة وبدأ بعدها مقطع صوتي غريب كما وانه تنهد شخص ما مصاحب له صوت ولاعة .. اقتربت الفتاة من الكمبيوتر .. ليبدء شخص ما بالحديث كان صوته بحوح جدا حين بدأ قائلا: 
- نعم .. اود اولا ان اعتذر لابي لاستخدامي الراديو الخاص به دون اذنه ، والاعتذار لأمي لبعثرتي لاغراض المطبخ ولتدخيني داخل البيت. 
ظنت الفتاة انه تسجيل عادي او اعلان ما .. اقتربت لتغلق التسجيل وحين اقتربها من اغلاقه أهم الرجل داخل التسجيل بالحديث مكملاً
- ثم بعد ، رسالتي الاخيرة لهذا الكوكب رسالتي الاخير لكل من أستنجيتهم وجعآ ولم يسمعو لي رسالتي الاخيرة لكل مسؤول عن دمار بلدي العراق لكل من هددني وهدد عائلتي بالموت رسالتي الاخيرة ونصها : تبا لكم انا لا اخاف منكم!. 
توقفت الفتاة ولم تغلق التسجيل وهي تستمع بفضول وبداخلها الكثير من التسائلات .. وهي تستمع دخلت الى معلومات التسجيل كان من شارك التسجيل امرأة من بلاد ما ..
مع وضعها معلومات عن التسجيل ولكن كانت اللغة التي كتبت بها هذه لمعلومات هي لغة غريبة بالنسبة للفتاة .. نسخت الفتاة الكتابة وقامت بترجمتها بأحد برامج الترجمة الموجودة على كمبيوترها .. ظهرت نتيجة الترجمة صادمة للفتاة كما كتب
" مرحبا .. انا فتاة تركية من ولاية سامسونك ادعى سيفدا ..
سلمني هذا الشريط شخص في احد الليالي ولم اكن افهم ماذا يوجد بداخله رغم اني سمعته عدة مرات متتالية .. لم افهم سوا اسم الشخص يبدو انه يدعى روبرت..  ولم استطع سؤاله عما يوجد بداخله لانه لم يكن يتحدث التركية وبعد يوم عدت الى المكان اذا بالمنزل محترق بالكامل .. ولم اتمكن من التواصل مع هذا الشخص ثانية .. دعاني فضولي لمشاركة هذا المقطع ..
على من يعرف ترجمته لي ان يساعدني .. شكرا لكم" 
عادت الفتاة لتشغيل المقطع وسماعه بهدوء .. كان المقطع حزينا  جدا  عليها .. تحركت كل مشاعرها وهي تستمع لروبرت ينوح على موت اهله .. دخلت كلمات روبرت كلسهام في قلبها الرقيق بدت عيونها مغرورقة بالدموع ويديها تغطي شفتيها حتى سرح تفكيرها بذكريات الماضي البعيد .. يوم كانت جالسة مرتعبة من شدة الخوف بسيارة مركونة على جانب الطريق ووالدها ينزف عند الجانب الاخر وينادي مريم ابنتي اياك ان تنزلي من السيارة وهو يتلوى متأثرا بجراحة امام ناظريها  .. وقعت مريم من على الكرسي مرتطمة بأرضية الغرفة .. حاولت القيام مجددا ولكنها لم تستطع .. راحت تزحف على الارضية متجهة نحو زاوية الغرفة المقابلة التي يقبع بها سريرها وذلك الجهاز .. كان الوصول سهلا نسبتا لصغر حجم غرفتها .. اقتربت من الجهاز  وقامت بالتسطح على ظهرها أخذت تخلع ملابسها العلوية بصعوبة  حيث كانت ترتدي ثوب أخضر غامق  طويل ضيق قليلا من منطقة الخصر  .. عانت قليلا  حتى تخلصت من ثوبها ولازت معاناتها مستمرة مع حمالة الصدر .. ولكن للفتيات خبرة بفتح زر حمالة الصدر الخلفي بسرعة ودقة كما وانه امامها ..  مدت يداها نحو الجهاز لتسحب منه بعض الخراطيم والوصلات الكهربائية تربطها على جسدها وقناع للتنفس قامت بوضعه على وجهها .. بات كل شيء روتيني بالنسبة لمريم فهي تمارس هذا الشي من زمن بعيد .. قامت بتشغيل الجهاز وبدء يظهر على شاشتة الصغيرة بعض من الارقام مثل نبضات القلب وغيرها مع صوت صفير منخفض يطلق كل بضع ثوان .. شعرت مريم بالارتياح قليلا  وهي ممدة على الارضية مع كل هذه الكمية من الاسلاك التي تلتف حول جسدها .. سرح نظرها نحو السقف وبدء جسدها بالتعرق كاملاتنا .. كان صوت روبرت المسجل وكأنه لم يفارق اذنيها .. غرقت مريم بافكارها المتشتته كما ومرت الدقائق بهدوء في تلك الغرفة  .. وبعد نصف ساعة تقريبا..  بدء جسد مريم العاري يرتعش بردا  فهو مبتل بتعرقها وكما وتركت النافذة مفتوحة يدخل منها نسمات هواء باردة .. أستجمعت مريم قواها مجدد  .. مدت يداها نحو الجهاز لأطفائة .. أخذت بيدها تخلع كل الاسلاك من جسدها حتى تخلصت بالكامل من ذلك الجهاز .. وضعت يدها على الارضية لتتكأ بها ولتساعدها على النهوض مجددا .. نهضت مريم وأخيرا  بعد عدة محاولات راحت تتمشى نحو الكرسي .. قامت بالجلوس ووضعت يديها على وجهها كما وخصلات شعرها الحريري بدأت تنساب على وجهها ..
أخذت تتأمل قليلا  ثم تنهدت وأخرجت من خلف الكمبيوتر دفتر صغير وردي اللون قامت بفتحة وسجلت  : " لم يكن يومي الاخير ،شكرا للرب ، انها المرة الثالثة هذا الشهر مما يزيد اصراري على
فعل شيء ما ، قبل رحيلي الذي بات قريب كما ارى !" 

أغلقت مريم الكتاب بقوة وقامت برميه بعيدا  ،  عادت الى حاسوبها وقامت بتشغيل مقطع روبرت مجددا ، بدء شيء ما بالتدفق داخل جوفها حتى احمر وجهها ، لا اراديا  قامت مريم بفتح بريدها الالكتروني وبدت بالكتابة بعجلة : 
" يا عراقيين يا اخوتي يا ابائي يا اخواتي ويا امهاتي يامن تنتظرون موتكم بدم بارد  ، ويامن تقاومون من اجل رغيف عيشكم يامن ماتت احلامكم مرتطمة بفشل حكوماتكم المتعاقبة 
رسالتي هذه من أجل كل طفل حمل انقاذ منزله فوق جسده الرقيق حتى توفى حاملا  داره على كتفه ، من أجل كل قطرة دم سالت من جثث كل ذنبها انها سميت عمر  و علي ، من أجل كل أثر سوط على جسد رجل كهل عذب ظلما  ، من أجل كل عصفور حمل رسائل السلام ولكن الرصاص لن يسمح له بالهبوط على ارض العراق ، من أجل كل من فارقه الاجل ونقش اسمه فوق سور الوطن شهيدا خالدا  ! 
انتفضوا ثوروا وتجمهروا احشدوا الحشود واكسروا القيود عانقوا السماء ، لم يعد هناك وقت للخوف من الموت فنحن نموت بلا سبب جملتا ومفردا نموت محترقين بالانفجارات ومقتولين بالرصاص ، ولم يعد هناك وقت للخوف من السجون فنحن نسجن ونعذب ونعد السياط مع الجلاد بلا سبب ايضا فلما الخوف ؟ هل تعودنا على الاغلال وهي تمسك في رقابنا ام ان روح الثائر التي بداخلنا قد تبددت ونيراننا قد رمدت ؟ 
سأقف وحدي يوم الاحد القادم في ذلك الميدان وسط المدينة وسأنادي بعالي صوتي باحثتا  عن حقوقكم المسلوبة ، من يريد مشاركتي بالوقوف سأرحب به وسيسعدني ذلك كثيراً ، وان بقيت وحدي فلم يحزنني ذلك ايضا .
مريم "
قامت مريم بأرفاق مقطع الصوت المسجل لروبرت مع رسالتها وبدأت بأرسالها الى جميع من تعرفهم وقامت بمشاركتها بجميع وسائل التواصل الاجتماعي المشاركة به ثم تركت الحاسوب متجهة نحو سريرها .. تسطحت فوق سريرها واخذت تنظر نحو السقف كما وانها في مكان اخر .. يبدو انها ادركت حجم ما اقحمت نفسها به .. وحجم المشقات التي ستواجهها ..
فمهمة ايقاظ شعب نائم اصعب تحدي يمكن ان يواجه البشر على مر التاريخ ، كانت قلقة والمهلة التي وضعتها لنفسها كانت قصيرة نسبيا  .. كلها ثلاثة ايام ويأتي يوم الاحد الموعود،  لم تعلم هي ذاتها ماسبب اختيارها ليوم الاحد .. هل هو مجرد مصادفة ام انه تقديسا  لروبرت الذي كان يقدس هذا اليوم من كل اسبوع ، ضلت مريم غريقة افكارها حتى غلبها النعاس لتنام كما لو انها لم تنام دهرا فهي متعبة الجسد والفكر .

فشل وطنيحيث تعيش القصص. اكتشف الآن