-27-

7.5K 164 0
                                    

-27-
ساعدتها نيرة لتأوي علي الفراش, بينما كانا ينصتان لعراك عامر و شهد, و صياح شهد بعنف تهديدا لما حدث منذ قليل, لو كانت بصحة افضل لركضت من المنزل و لم تعد لكنها عاجزة الآن و قد تملكها العار حينما ضربها امام الجيران في طريقة شرسة و اهانت كرامتها امام العيون, بكيت في حضن نيرة حتي كادت تفقد البصر من قوة البكاء, مسحت نيرة دموعها بأصابعها الرقيقة و غسلت وجهها بقطرات المياة حتي تفيق و لا تفقد الوعي, ثم آتيت لها بثياب نظيفة و تساءلت نيرة متأثرة :
-اساعدك
كادت تجيب بالايجاب قبل ان تتذكر تشوة جسدها فأبيت في شدة, ربتت نيرة علي ظهرها و قالت في بسمة ضئيلة :
-خلاص خلاص غيري لبسك و انا شوية و هرجعلك..
خرجت لتري الشجار بشكل اوضح, فسمعت عامر و هو يسخر من شهد قائلا :
-احترمك ! نعم يا قطة دة انا جالي أتب عشان اعرف ابصلك..
لتقول شهد بانفعال :
-انا هرفع عليك قضية و كل دة هيتسجل ضدك في المحضر يا عامر و يا انا يا انت
دفع كتفها بقوة و هو يقول :
-والله لأنا قتلك دلوقتي لو مقولتيش اخدتي اختي فين يا حرامية!
وضعت يدها علي خصريها و هي تقول بصرامة :
-اتكلم معايا عدل و انا هقولك!
لم يتمالك اعصابه فانتشبها من قميصها و زجرها بقوة صارخا بغضب "انطقي يا بت", اسرعت اليهما نيرة و هي تقول :
-بس يا عامر استهدي بالله..
ثم تابعت حديثها لشهد :
-لو سمحت كلنا اعصابنا تعبانة..ريحينا البنت كانت فين
تأثرت شهد بحديث نيرة الهادئ, لترتبك و لا تعرف بأي شيء تجيب, أتقول الحقيقة لكن وحشية عامر تمنعها, لو ادرك بالأمر لقتلها في الحال كما اخبرتها بسمة, و لو كذب ستكون العواقب علي نفسية بسمة فقط! تلجلجت في الحديث و هي تنظر لجميع العيون المتعلقة بها في لهفة تنتظر منها الحديث, نظرت صوب غرفة بسمة للحظات حتي قالت ناكسة الرأس :
-اختك حصلها حادثة بالسيارة و السواق افتكرها ماتت فسابها و مشي..
ثم تابعت حينما سمعت شهقة نيرة و قالت :
-انا لاقيتها و اخدتها عندي البيت..هتسألني لية مسيبتهاش في المستشفي لأن اقرب مستشفي لبيتي هتاخد مسافة و هي حالتها كانت صعبة, فأخدتها بيتي و راعيتها انا و بنت عمي و يا دوب فاقت من يومين و قالت لنا علي عنوان بيتها..
عام الصمت و تلحف الاجواء, تبادلت النظرات المرتبكة بين ثلاثتهم, أمعن عامر النظر في وجهها حتي قال حازما :
-انتِ كدابة !
فسارعت بالنظر اليه و قالت في حدة :
-مبكدبش..
-انا اية الي ضمني العك الي قولتيه دة..
لتقول باقتضاب :
-اسأل اختك و هي هتجاوبك بنفسها..
و تابعت بلهجة استعطاف :
-انا واحدة طول عمرها ماشية جمبب الحيط بس اختك صعبت عليّ حسيت اني هعمل حاجة صح لو اخدتها عندي..متظنش وحش بيّ انا عمري ما هأذيها..
رمقها في هدوء و كأن مفعول لهجتها الرقيق قد نجح في الظفر بقلبه, توجه الي غرفة بسمة, لتسارع بالامساك بمعصمه و هي تقول معترضة :
-لا لا متحاولش تكلم معاها دلوقتي نفسيتها مش هتستحمل تكلم مع حد..
فأفلت يده منها و تجاهلها متوجها بخطوات ثبات الي غرفة, ترددت نظارتها مع نيرة القلقة, دلف عامر لغرفة شقيقتها فتابعته انظار الفتاتين في لهفة و اضطراب, انكمشت بسمة في مكانها و خافت رفع النظر اليه, فنفرت بوجهها بعيدا, جلس علي حافة الفراش و امسك بيدها, كانت تجلس قرفصاء تضم ركبتيها الي احضانها و تحيطها بهما ذراعيها, ملس علي شعرها الغجري و قال بصوت رخيم :
-انا اسف مكنتش أعرف ان دة الي حصل..
صوته نزل علي أذنها كألحان عازف مبتدئ ألحان رديئة رغم جمال الألة, لا تريد الأنصات لمزيد من صوته القذر الثقيل, نادته فيما يكفي فلم يجيب و الآن يهينها امام عامة الناس و يضربها بكل اهانة, ألا تكتفي من الظلم! بصقت علي وجهه بالهواء و عرضت وجهها عن النظر اليه لو قتلها لفعلتها تلك لكان حقق أمنيتها, تعرف ان فعلتها لن تمر علي خير لكن ما من شيء قد مر علي خير حتي تلك اللحظة, توقعت كل شيء الا هذا, توقعت ردود افعال عنيفة قوية, او ربما توقعت تركها لحالها لكن ما لم تتوقعه رد الفعل تلك فقد انحني علي قدميها العاريتان و قبلهما باكيا و هو يقول :
-انا استاهل انا غلطان..سامحيني..
اعترتها دهشة عنيفة علي وجهها و نظرت اليه فازعة, لف ذراعه حول خصريها, ظلت منتصبة الملامح خائفة, فاعتدل و ضمها قوة الي صدرليحتضنها في عنف, حاولت منعه من شد خوفها لكنه أبي و بكي فوق كتفها, لأول مرة تري عامر يبكي من أجلها, لا تريده باكيا, بل تريده سعيدا, تساءلت في نفسها لم يبكي الآن ؟ شاركته البكاء بنفس حرارته و بقيت هادئة بين ذراعيه و هي تستمع لكلمات الاطمئنان الذي همسها بها, اخبرها انه يحبها لأنه اكثر من أبنة وشقيقة اخبرها انها غبي لأفعاله العنيفة اخبرها انه كاد يموت لو لم تعد وقتها و ختم كلامه بأنها أهم شيء في حياته, سكتت تاركة رأسها فوق كتفه, عجزت عن احتضانه و ضمه اليها و اكتفيت بعناقه..
أطال بمعانقتها حتي شعر بأنفاسها المنتظمة, صدم انها نامت و ابهامها داخل شفاتيها تمتصه كألاطفال, كانت عادة قديمة في طفولتها لكن منذ دخولها لعالم الصبايا و قد نفرت من تلك العادة, مسح علي وجهها ذو الخدود السمينة, كان العرق يتصبب من وجنتها فيلتصق شعيراتها حول وجهه بسواده الداكن, غرز يده بين غدائر شعرها بحنان ثم ساعدها في الاستلقاء علي الفراش..
وضع الغطاء علي جسدها و طبع قبلة ساكنة فوق وجنتها و يدها, ليسمع صوت نيرة اللطيف و هي تقول :
-مبروك يا حبيبي..
تلفت اليها و ابتسم, قالت في رقتها المعهودة :
-يا بخت بسمة بيك..
ليقول عامر في حبور :
-يا بختي انا بيكِ..
ضحكت في غنج و اكتفيت بالصمت فقال :
-ان شاء الله امي هتيجي هي و خالي
فتساءلت :
-هما يعرفوا الي حصل؟
هز رأسه بالنفي قائلا :
-لا الحمدلله
-و مهاب ؟
ليتذكره فجأة و يقوله :
-نسيت الراجل دة لا هقوله دلوقتي..
ثم تساءل مقتضبا :
-البنت القصيرة فين دلوقتي؟
-ياااة روحت من زمان..
لوح بيده :
-في داهية..
فابتسمت ضاحكة و قالت :
-طب انا مضطرة اروح
زرع قبلة علي شعرها و قال بصوت عذب :
-ربنا يخليكِ ليّ..سلام يا نيرة
رحلت نيرة الي منزلها, بينما اتصل عامر بمهاب و اخبره بما حدث, ارتاح مهاب لسماع الخبر المفرح و ذاع الاطمئنان بينهم, نام عامر لأول مرة مرتاحا البال, سعيد القلب, فيما نامت بسمة من ارهاق البكاء, لم تحلم ليلتها بأي شيء و ظلت نائمة حتي فجر اليوم الثاني, مستيقظة علي وجه والدتها البشوش, لم تتحمل رؤيتها و السكوت فسارعت باحتضانها باكية في حضنها تشتكي همها بالدموع, علل عامر بكاءها بأنها اشتاقت اليها فصدقت نعمة..
                                  ***
مرت ليال لم تتحدث بسمة مع افراد اسرتها كثيرا بل كانت متحججة دوما بالنوم و النعاس, لا ترد علي الاتصالات, ظن عامر انها مازالت حزينة متضايقة لم فعله, بعد اسبوع باءت تحلم بالكابوس و تراهم و هم يلتفون حول فريستهم -هي- فأمسيت لياليها مستيقظة علي شهقة عنيفة و انقباض قلب, عاودها الخوف و حصنها, تدخل والدتها خلسة في نوم فتاتها فتعقد حاجبيها خوفا حينما تري قسمات البكاء بادي علي وجهها النائم, و ارتعاش جسدها المتواصل فتظنه من شدة البرد, عاودتها عادة مص اصبع الابهام في فترة النوم عساها تطمئن و لا يحدث..
أنهي عمله متأخرا تلك اللية فعاد الي المنزل مرهقا, استحم بماء ساخن يدفء جسده, اصبحت ايامه في افضل حال, العمل ممتاز و نيرة دوما جواره و عائلته بخير كما يظن..ارتدي ملابسه و استعد لنوم فهاجمه الأرق, تعصب و تضايق لا يآتيه الأرق و كثرة التفكير الا عندما يأوي لنوم في ليلة متعبة مرهقة.
هم من مكانه متوجها لمطبخ ليصمع مشروبا يساعده علي النوم, مر جوار غرفة بسمة الأميرة النائمة ليلا و نهارا, فتفاجئ بها في حالة انكماش, تنام بوضع جنين يظهر منكبها العاري من قميصها بينما احدي يديها تقبض علي قميصها باحكام و اليد الأخري تحيط بخصرها في خوف, اسنانها تجز علي بعض و بعض الرعشة تظهر علي جسدها شعرها الغجري الأسود يغطي معالم وجهها لكنه لا يغطي عبوسها, كان فخذيها ملتصقان و يضمان لصدرها في قوة فكان تقوس ظهرها ظاهر, نظر اليها طويلا و شرد, غير المشروب و صنع فنجان قهوة ليستطيع قضاء الليل بطوله في رسم تلك اللوحة المبهرة..آتي أدوات الرسم و اقام طقوسه الخاصة لرسم في جو هادئ لحسن لحظ انها لم تتقلب كثيرا بل ظلت علي وضعها لمدة طويلة, و بريشة فن استطاع ابراز رعشة ذراعيها في النوم و ضغط صفي اسنانها اللؤلؤية علي بعضهما, اغماض عينيها بالاكراة و تأوة فمها الخافت, قبضة يده علي القميص كانت قوية و كأنها تخاف ان يري احدهم جسدها و تحرص الا يظهر من مفاتنها شيء, رغم ذلك طغيت انوثتها علي الصورة, انتهي من رسمها و وقع علي زاوية الصورة بتوقيع فنان متمكن من موهبته, امسك بلوحة اخري اقل طولا و عرضا و كتب كلمات صغيرة رقيقة و وضعها جوار اللوحة الكبري, بينما جاء بالهدية الذي حضرها لها منذ مدة و خجل ان يعطيها لظروف القاسية, انهي مهمته الانسانية في اسعاد شقيقته ليمضي الي مضجعه بعدما احتل النوم عينيه..
                             ***
استيقظت اليوم التالي علي شخط والدتها بها, و عتابها علي نومها الطويل و الصياح بها "المدرسة بدأت و الدروس و انت نايمالي بضيعي نفسك بكسلك دة", ثم اخذت تطرق عليها باب الغرفة و تقول غاضبة :
-اصحي و فزي من السرير..
تأفأفت بسمة علي هذا الصوت العال, و اعتدلت جالسة و الصداع العنيف يبتلع رأسها, فركت عينيها و مسحت علي وجهها, لتنظر امامها فتفاجئ بلوحتها و هي نائمة, اعتقدتها في البدء مرآه لكن حينما دققت عرفت انها ريشة عامر المبدعة, ابتلعت لعابها و اشتعلت عينيها بالسعادة رغم عدم ابتسامتها, وثبت من الفراش و التقطت اللوحة الصغيرة الذي كتب عليها بخط رسام "آسف, بحبك", هنا ضحكت في حياء عذراء, وجدت حقيبة هدايا وضعها جوار اللوحة, فالتقطتها باسمة و فتحتها لتجد الهاتف الجديد الذي طلبته منه قبل عيد مولدها بشهر, بحثت مرة اخري في شوق فوجدت ما توقعته, العقد الفضي التي اعجبت به منذ فترة و طلبته من عامر, ابتسمت ابتسامة ودودة رغم لحن الزعيق الذي تشخط به نعمة منذ الصباح..
                                   ***
دخلت نيرة الي بقالة عامر, كان جالس علي الكرسي يحادث والدته و يقول لها بهدوء :
-عادي يا ماما مش لازم تروح المدرسة علطول..
فقالت حدة :
-انتم هتجنوني عايز تصيع البت زيك يا صايع..
-كل دة عشان غابت يا امي! عادي...خلاص خلاص لما أرجع هكلم انا و هي..
قالها ليغلق الهاتف مسرعا, و ينهي تلك المشكلة التافهة, تقدمت الي نيرة و كعبها يقرع في غنج, وقفت جواره بعدما حييته في شوق, ثم تساءلت :
-مالك انهاردة مضايق كدة لية ؟
-لا مش انا..امي متعصبة علي بسمة عشان مهملة و مش راضية تروح المدرسة..
لتضحك رغم انقباض قلبها الذي حدث, فقد نسيت تماما انها لم تخبره بعد بدخولها طب بدلا عن صيدلة, توترت ملامحها و حسمت الأمر في الافشاء عن سرها لتقول حازمة :
-عامر انا دخلت طب..
*
*
*
*
يتبع

مدمن قلبكحيث تعيش القصص. اكتشف الآن