chapter 8-1

54 5 0
                                    

"ليت السعادة شئ يُلجم, تُلجم بإحكام حتى لا تهرب أبداً! وليت الاقدار شئ يُتحكّم به, تُدار كما نهوى!. لكنها فقط 'ليت' !."
*
أثناء فترتي التي قضيتها في المشفى,
عاودتني حالتي الكئيبة مجدداً! قلة النوم وعودتي إلى أقراص الفيتامينات والبروتينات وماشابه, نوبات بكاءي التي دوماً ما تأتي ونادراً ما تتوقف.. أيضاً كوابيسي عادت, العجوز التي تقوم بتقطيع أحشائي وأنا حية, وقطاع الطرق الذين يركضون خلفي.. الافاعي التي تحوم حولي.. والهوَّة التي لا قاع لها.. وصراخي الذي لا أسمعه!!
كل شئٍ سئٍ عاد.. لا ينقصني سوى غرفتي وأعود كما كنت.. تماماً!!
ما أخشاه صار حقيقةً سوداء, كنت أريد أن ترجع أمل الصحيحة الواثقة, لكني خِفتُ الفشل, وحصل هذا فعلاً! لقد فشلت لأنني خِفتُ الفشل!
عدت كالسابق, كـأمل الطبيعية, ومالبثت خمسة أيام أن تمضي حتى اشتاقت إليّ تعاستي! بأي حالٍ من الأحوال, هل يمكن في أيام, تغيير ماحصل خلال أشهر؟ كنت أحاول تكفير ذنبي!! لكن لم يتقبّلني عالمي كفتاة مهاجرة.
وصلت إلى أسوأ أيام في الخريف, إنها أيام الجفاف, الايام التي لا أقوى فيها على التنفس, الايام التي كلما حاولت استنشاق هواءها, لا أستطيع.. أيام جارحة جافة, سحيقة..يبدو أن النهاية اقتربت بحق!
كنت أبقى وحدي في كل هذا, لم تكن أمي بجانبي. إلا أنني أحسستُ بـشبح أحدهم يحوم حولي, كان كلما تأتيني نوبة صراع داخلي أو بكاء أو كابوس وهذا الغريب بقربي.. لكن المريب في الأمر أنه لا يفعل شيئاً, يكتفي فقط بمراقبتي وتهدئتي, والطبيعي هو أنني لم أنصت له حتى, بل لم ألمح تفاصيله.. لم أكن أقوى على تدوير رأسي, ولا أقوى على التركيز. أكتفي فقط بالنظر في النافذة, وهذا أقصى ما أمكنني فعله!
كان الشبح كالنسيم, يمر ويهتم بالازهار التي لم أنظر إليها أبداً, لكن رائحتها تتسلل إليّ فأعرف فيها زهور الساكورا والجوري, أو زهوراً لا أعرف اسمها!!
يتسلل هذا النسيم ويجلس بقربي, يحاول تهدئتي في نوباتي الغريبة!
ويخرج بهدوء كما دخل بهدوء.. لم أعرف من هو, هو ليس قاسم ولا أريج, ياسر على الارجح!
*
مرت الايام بسرعة بطيئة.. وحان موعد خروجي!!
للأسف, لا أستطيع المشي إلى الان, لا بد من إجراء عملية خطيرة مكلفة.. لم أرد القيام بها! ليس لانني لا أملك المال, إذا اعترضت بسببه كان عمي سيتقدم وأنا لا أريد لهذا أن يحصل. لكن الموضوع أني أرغب لما تبقَّى من عائلتي الرحيل, لا أريدهم بعد الان. كما لا تهمني قضية المشي كثيراً, أظن أن ألمي قد تعدّى أن أبكي لأجل المشي.. يا لِتعاستي, آهٍ يا لِتعاستي!.
خرجت من المشفى وأنا على كرسيٍ متحرك, دخلت بيتنا الموحش المعطَّرَ والمُزيَّن من أجل الحفل!!
لم تغطِّ رائحة المعطرات رائحة بخور أمي, كانت أمي تستعمل نوعاً مميزاً محبباً لها ولوالدي.. وبدورنا كنا نحبه!!
فهمت من تصرفات أريج أنها لا تريد تذكيري بها في هذه المناسبة..
أرادت مني فقط إنحنائةً من شفتيّ, أرادت بسمة صغيرة..
لم أُجاملها ولم أبتسم, كنت متوترة, لم أعرف ماذا أفعل!.
أود البكاء لكني لا أستطيع, أود الصراخ, ولم أستطع.. وددت القفز من مكان ما مجدداً ولكني لا أستطيع, وددت لو أفعل الكثير, لكني لم أقدر!!
أكثر شعورٍ مُروِّعٍ هو ذاك الشعور بالعجز!
شعور الناس بأنها تريد, ولا تستطيع أن تأخذ.. تريد نعم, تأخذ لا!
الحرمان أيضاً قاسٍ جداً, كأن يُحرم بعض الناس من أناس كانوا روتيناً في فترة من الزمان, أصبحوا الان مجرد ذكريات!
الحرمان من أشياء يفعلها الناس يومياً, والان هؤلاء الناس فقط يراقبون بعينين بائستين..
الحرمان من ممتلكاتهم الخاصة, وكل ما في الأمر أنهم لا يستطيعون الاعتماد على أعضائهم الحركية!
الحرمان كثيرة معانيه بكثرة الغيوم..
ترون! كيف أعرف كل هذا عن الغيوم؟
ربما لأن هؤلاء الغيوم, هم أنا!
*
مضت بداية الحفل بشكل جيد, حضر عمي خالد وعائلته وياسر, وخالتي وصغارها الثلاث..
إخوة أبي اثنان, عمي *خالد*والد عمر, أماني وإسراء..
وعمي *سالم* والد ياسر وسارة..
سأعيش مع عمي *خالد* كما قرروا, وأشك في أنهم سـيُخرِجُونَنِي من المنزل..
وعمي *سالم * يقطن خارج بلادنا هو وزوجته وابنته, وأما ياسر, فسيلتحق بهم بعد مدة من الزمن.. لا أعرف ما سبب النقاش بينهم تماماً, لكني أرى أن ياسر لا يريد الذهاب حيث والده, أو ربما ذاك النقاش القديم والكتاب المغلق المحظور فُتح مجدداً بينهم..
ومن ناحية والدتي كانت هناك خالتي *أسماء * تزوجت من مدة ليست بـبعيدة, لديها توأمان وطفلة رضيعة..
هي خالتي الوحيدة, فلا خال ولا عمة, تناقضات غريبة..
وطبعاً, كان هناك جدي *والد أبي* المتوفّى قبل ولادتي, وجدتي التي رحلت منذ ثلاث سنواتٍ كذلك.
وأما والدا أُمي, فهما حاضران,وتنبع من عيونهما نظرة ابنتهما..
تلك النظرة الواثقة الغريبة, إكتسبت أمي ثقتها من جدتي..
جدتي التي لطالما قامت بالكثير وهي تعرف القليل, جدتي ووالدتي جريئتان جرئةً مخيفة..
أما إتقانها وذكاءها وحكمتها فمن جدي, تصرفاته غريبة صحيح! لكني أعرف فيه نظرة الهرم الفاهم المستوعب..
انقطعت عن كل هؤلاء ولم أزرهم منذ أشهر, رأيتهم اليوم, ولم أستمتع برؤيتهم, لم أستمتع بشئ مطلقاً.
سحقاً لم تروادنا الرغبة في البكاء أثناء وقت غير مناسب!!
ياللحيرة, هل أُنزل دموعي, فيحصل تحقيق وأفسد الحفل؟؟
أم أصمت وأضيفها للإختناقات الأولى؟؟
صمتت رغم الوجع والالم, لم تطاوعني دموعي فبدأت تنزل وحدها.كنت أضع يدي على فمي كي لا أُصدر صوتاً, أغمضت عيني وصرت أبكي بصمت, كنت منشغلةً بإخفاء دموعي وصوتي, وبدون أن أدري وجدت نفسي في ساحة منزلنا, حيث قهوة أمي الصباحية!! لم أرغب بمعرفة كيف حصل هذا الأمر بقدر رغبتي بالبكاء وإفراغ طاقتي فيه حتى جاءت أريج..
*أأنتِ بخير؟ علمت أنك تريدين استنشاق بعض الهواء, لا بأس, عليكِ أن تحضري هذا الجزء المهم من الحفلة, وبعدها يمكنك أخذ راحة.*
أخذتني أختي إلى حيث الحفلة, وفي طريقي أشغلني وصولي للحديقة, أنا لم أُحرك عجلات الكرسي, لا شك أنه *ياسر*! متى فقط تتوقف شفقته علي؟؟..
دخلنا ووجدتهم ينظرون إليّ, كان ياسر ينظر نحوي مستغرباً!!
حسناً, أظنه لا يريد لأحدٍ أن يعرف أنه من قام بإبعادي وأنا أبكي..
لا بأس, كنت سأقول أن تصرّفه كان ضرباً من العبث, لكنه أنقذني في النهاية..
مضت الساعة المهمة لكلٍ من أريج وقاسم, حيث أحضر قاسم بشرى لحفلنا, وجاء كمال, التقطوا الصور ومضت الحفلة على خير..
لم أهتم بتفاصيل الحفل لأنني لم أكن معهم تماماً, لم أتذكر الزينة ولا الحلوى ولا شكلها, أتذكر ثوب أريج وبشرى, كانا رائعين..
أستغرب بحقٍ كيف رضيت أريج أن تبقى بثوب بسيطٍ بدون حفل أو موسيقى على الاقل..
لِم لَم تؤجل حفلها؟ فرحةٌ مرة واحدة في العمر..
غريب, هل الحب يجعلنا نرضى بالقليل إلى هذا الحد؟؟
أم أنها فقط تريد بدأ حياة جديدة بسرعة من دوني ومن دون ذكرياتها المريرة؟؟ لا أعلم حقاً, لكن لا بأس, لقد فَعَلتها بقناعة منها..
قصتها مع كمال ليست بالغريبة, عائلته من العائلات المتحضِّرة نوعاً ما, درس في كلية الطب كذلك, لذا قصتها واضحة, حتى أنها لم تعانِ كثيراً في علاقتها معه. أتذكر فقط كيف أنها تشبثت به رغم عدة أسباب قد تجلعها ترفضه, وأتذكر مشكلاتها مع صديقتها التي ظنت أنها مقربة لها بسببه.. كانت هذه نهايتهما, نهاية المحبة الصادقة الطاهرة.
أما بشرى, أقامت حفلاً في منزلها, وأحضرها قاسم إلى هنا, أنا لم أره بـتلك السعادة يوماً!!
لا أعرف حقاً كيف تعرَّف على بشرى, هو متحفظ كثيراً في هذه الامور بطبيعة الحال, كل ما أعرفه أنه أخذ أمي إلى منزلها, وإنتهت تلك الزيارة إلى الخطبة..كانت السعادة ترفرف حولهم جميعاً, وجوههم نابضة بالحياة, بالسعادة و بالامل..
إرتدت بشرى ثوب زفافها الابيض البسيط, لم تضع مساحيق كثيرة.. لكنها تمتلك آيةً من الجمال منذ البداية, فـلم تُفقدها بساطة الثوب وقِلَّة المساحيقِ جمالها, بل زادتها بشكلٍ عجيب!.
كانت حفلةً جيدة جداً على ما أرى, رحلت بشرى وأريج إلى منزلهما, طائرتهما وأماكنهما مختلفة, سـيُغادرون معاً على تمام السادسة مساءً.
نامت بنات عمي وخالتي وجدتي عندنا,لم يستيقظ أحد, كانوا متعبين جداً..
مرّت ليلة مسدّهة بالأحزان عليّ, لم يبقَ أحد نهاية المطاف, الايام تتوالى وتأخذهم معها, سنقول وداعاً, فهذه البقية..
تتسابق الاصداء على الثغر الحزين, حان وقت الفراق وتعالى الأنين..
الفراق صعب ولا مفرّ, الأوقات تتباطأ لتقتلنا حزناً وشوقاً من الآن..
*
حلّ الصباح بشروق حزين, وما إن دقت عقارب الساعة الثانية عشرة حتى استيقظت الفتيات من سُباتهن, عملن على بقايا حفلة أمس.. وأماني ساعدتني للإستحمام وأعطتني الدواء.
تركت غرفتي واستأذنتني لتجهز نفسها, كنت أشعر بضيق, صرت كالطفل الذي لا يقدر على شئٍ بمفرده, هذا حقاً مؤلم!!
أماني أفضل أقربائنا بالنسبة لي, لا نتحدث كثيراً لكنها تعجبني بلباقتها وأسلوبها..
جاءت أريج وبشرى وزوجاهما, تناولوا الغذاء وجاءتني أريج في غرفتي.قبلتني قبلة على جبيني, ابتسمت لها وهمست *مبارك لكما.*
فرحتْ كثيراً رغم أنها كانت مجرد همسة, إلا أنها تركت فيها أثراً على مايبدو..
قالت أريج: *حبيبتي, أعتقد أنني سيئة لأتركك وحدك, سيئة جداً.. لكني أعلم أنك لا تحتاجين إليَّ, تحتاجين لنفسك أكثر مني, سيأتي هذا اليوم عاجلاً أم آجلاً, ولا أريد لتلك الذكريات بأن تعود.. عليك ألا تستسلمي مطلقاً, واعلمي أنه عندما يُفتح القلب على مصراعيه, وعندما تثقين بكل كيانك! فقط وحينها فقط يتحقق ماتريدين.. اجعلي والدانا يفرحان لانك فعلتِ ذلك!!
أمل, أودُّ أن أعتذر عن تغيير الخطة المفاجئ, أعني سفرنا اليوم!! أثق بأنك تتفهمين! عموماً,ستذهبين إلى بيت عمي مع إسراء وأماني صحيح؟*
هنا نظرت لها نظرة غريبة, لم أفهم ما أقصده بها, كنت لا أرغب بالذهاب وأرغب به, وأريد البكاء ولا أريده, كله اختلط, ولا أدري مالذي كوَّنته عيناي بهذا المزيج من المشاعر..
أرادت أريج أن تطمأن وتأخذني لبيت عمي..
*حسناً, خمس دقائق وأمرُّ لنذهب معاً.*
خرجت أريج, فكرت لبرهة, علمت أنني لن أرتاح هناك لذا أوصدتُ غرفتي جيداً وجلست في شرفتي الظليلة.. أصغيت أول مرة بإنتباه إلى الطبيعة حولي, إلى عدوتي اللّذودة, الرياح..
كان همسها ساحراً, أصغيت بدقة إلى التفاصيل ولم أصغِ إلى الطرقات على الباب..
حتى جاء ياسر من الممشى الذي أسفل شرفتي وهو يتحدث: *أمل, ماخطبك؟ إفتحي الباب!! أأنت بخير؟؟ أجيبي!!*
دخلت وأغلقت الشرفة, مرت عدة ثوانٍ حتى سمعت صوت أريج المرتعب: *أمل, أعلم أنك تسمعين, موعد طائرتي إقترب, وأقسم أنني لن أرحل دون أن أراكِ أو أطمأن عليكِ.. سأنتظر حتى ألف سنة, إفتحي, إفتحي أرجوك.*
قالت كلماتها وصرت أستمع لبكاءها, رأيت الساعة, لم يتبقَّ الكثير على موعدها حقاً! فتحتُ الباب وارتمتْ عليَّ وهي تبكي..
*كان بإمكانك إخباري أنك لا تريدين الذهاب! لِمَ تفعلين هذا لِمَ؟؟ قلقتُ عليك جداً.*
كنت أسمع صوت أحدهم يقول *لنتركها هنا, قد تفعل ماهو أسوأ إن أخذناها, نستطيع أن نتبادل على الاعتناء بها!*
سحقاً! هل أنا عبئ إلى هذا الحد!

خريف | AutumnWhere stories live. Discover now