Chapter 2

187 14 21
                                    

" كزجاجة عطرٍ نفذ منها, لا تستطيع الزجاجة الإستغناء عن العطر.. تحتفظ بذكرى عبقه, حتى وإن وُضع عطرٌ مختلفٌ عن السابق, لا تزال لا تستغني عنه وتمزج عطرها الأول مع الجديد, لتنتج إما رائحة طيبة أو عكسها!! كذلك هو رحيلك, لكنه كان أسوأ من زجاجة عطر فارغة, كان كالمرض الذي لا أبرأ منه, أو كالجرح الشفاف, يؤلمني ولا يلتئم!!. "
*
سرعة, سرعة, سرعة.. كـدقات قلبي لـطيفك, أريدها!
تعبت ضجة بني البشر/الغيوم.. لم لا يأتي يوم وتسيح هذه الغيوم وتبقى سمائي صافية؟
لكن لا أمل, لأن هذه التعاسة التي أعيشها سببها الخريف!!
خريف, يالكثرة استعمالي لك يا خريف!
أحببتك بقدر كرهي لخريفي..
كنتُ يوماً كالشجرة, نظرة, آملة, مزدهرة, في هضبة خلابة كنت أعيش! ملؤوني بالامل, فوقعت بقوة كان لها الأثر في صدى نفسي..
تحطمت, أي نعم تحطمت.. ثم سرعة!!
وصارت الهضبة البهيجة, وادٍ مقفر!
كما لم أركَ وأنت مسجّىً في ثابوتك بسبب زحام الغيوم حولك وصراخهم وعويلهم..
وكما يريد قلبي الخروج من مكانه, مرت تلك اللحظات, وبسرعة!
ثم بدأ خريف, وليس أيّ خريف!
خريفي, الذي لا يدوم ثلاثة أشهر, بل يدوم طيلة حياتي!!
*
لا أُطيق الحصى, أُفضّل لو تكون صخوراً على أن تكون حصىً!!
أستمر في التعثر, لا أجد طريقي فيها..
مشتتة, ناعسة, هاذية ومجنونة بمعنى دقيق, هذا ما صِرت عليه من بعدك!!
فوضى و إضطراب, داخل عقلي..
أنت من أخبرني بأن جميع الغيوم مختلفون رغم التشابه.. وهذه حقيقة, فليست كلها تنزل مطراً لطيفاً أستطيع تنوقه!! أغلب الغيوم, تبرق وترعد وتضرب بحبات البَرَد وجهي, كما تلحفني نظراتهم..
ألا ترى حالي كيف أصبح؟! الغيوم تقتلني وأنت لست معي لِتوقفهم!!
أمي, دوماً ماكانت تهمس لي عندَ صغري, كلمات فهمتها مدةً من الزمن ثم نسيت كيف كنت أفعل!!.. قالت:
*المرأة كـالزهرة, تصنع العطر بـيديها, ثم تنشره!
المرأة, تصنع الفرح بيديها ثم تعكسه على كل من حولها.. أبداً لا تبالي بهم! فكما هناك من لا يعجبه العطر, هناك من يعشقه..*
وكانت دوماً إجابتي الهامسة لها:
*أنا حقاً لم أفهم!*
*ستفهمين عندما يحين الوقت..*
سألتها ذات مرة: *وكيف سأعرف أنه حان؟*
*كُفي عن هذا أمل!! عندما تتذكرينها في موقفٍ ما هذا يعني أنك فهمتها..* قالت بقهقهة لطيفة.
لم أسمع تلك القهقهة المميزة بعد ذلك! لأنها توقفت عن همس كلماتها تلك مجدداً!
كنت مستغربةً لمَ أبالغ في وصف الأشياء!! أُضخّم الأمور دوماً رغم أنها بالغة الصِغر.. وأمتدّ في التخيلات بعيداً جداً.. أدركت الآن أنها قد تكون جيناتٍ موروثة! أمي عقّدت كلماتها تلك, وكذا أفعل أنا الآن! لذا إنزاح ذاك التعجّب كغمامةٍ متحركة..

لكن يا أُماه, ابنتك ضاعت.. ضاعت من أشعة حنانك الدافئة نحو براثن عاصفة فكرية مشتتة!!
أماه, ابنتك نسيت وهي تتذكر كيف كانت تفهم كلامك, صارت الان تعجز عن فهمك!
أماه, ابنتك لم تعد ابنتك!
أماه, ابنتك جسد بلا روح!
أماه, ابنتك تتحدث بكثرة, في عقلها.. وهي بكماء مع غيرها!!
أماه, عذراً وليس العذر بـكافٍ.. عذراً عندما تحدثينني, وأنا أستمع بدون أن أستمع!!
أمي, لست سوى زهرة شائكة ذابلة.. قلّ مائي, ليس بسبب عدم وجود من يعطينيه! بل لأني لا أقبله..
ذبلت أوراقي التي كانت يوماً نظرة, من شدة ذبولها, صارت شائكة..
لست سوى فتاة, لا تقدر على عكس شئٍ ليست هيَ به.
لا أقدر على صنع سعادتي أماه, ابنتك لا تصنع ولا تعكس حولها شيئاً.

أمي, محتاجة جداً لكلامك الذي يخترق سياج قلبي وأسلاكه الشائكة.
محتاجة جداً ليدك الدافئة التي تُربّت على شعري, دافعةً خفقات قلبي على الانتظام, وعينيّ على إسدال ستائرها.
محتاجة جداً لعناقك الذي يهرب بي من سجني الخريفي إلى جنة, جنتي الخاصة المتمثلة في حضنك.
أمي, محتاجة جداً لقبلتك التي تطبيعنها على جبيني, لتمنحني فقدان ذاكرة!
أمي, محتاجة جداً لك, محتاجة جداً لك, محتاجة جداً لك كلّك!
أحتاج لكلامك لو أستطيع فهمك, بل سماعك بسماعك.
أحتاج ليدك لو أستطيع الاحساس بها, بل الاحساس بوجودك..
أحتاج لعناقك لو أستطيع أن أجد طريقي وسط الاوهام إليك, بل إذا إستطعت الوقوف على قدمي. أحتاج لقبلتك لو أستطيع الخروج من غرفتي نحو جنتك, بل لو أستطيع النهوض من سريري.
أمي, أنا ميتة حيّة, ميتة حيّة!!
لِمَ لَم يأخذني معه عند رحيله؟!
لمَ يريدني أن أتعذب لفراقه!!
باتَ المنزل خالياً بدونه, رغم كونه ممتلئاً بالناس.
أبي, المنزل بدونك خالي, رغم كونه ممتلئاً بالناس.
خالي مع أنه ممتلئ..
*
البعد بين السماء والارض, والبعد بين أيدينا والنجوم.. في وسط هذه المسافات, قلبي وعقلي معلقان..
مامدى القوة التي نبذلها عند محاولتنا لمس السماء أو النجوم؟؟
بكل تلك القوة, أحاول النهوض من بحر أفكاري.
وبكل ذاك الضعف الذي نحسه عند فشلنا لمس النجوم, أغرق, أكثر وأكثر وأكثر.. تخرج فقاعات كلام من فمي.. ترّهات لا أفهمها.. تكون كثيرة في البداية, لكنها تنقص تدريجياً.. وأستسلم لحواسي التي أنهكها البحر الذي بات كـتفكيري.
كان تفكيري محدوداً نوعاً ما! لكن رحيلك جعله يكبر ولا يكتفي بخطوط تحدد نهاياته وبداياته!! أصبح بدونها..
جميل هو البحر في الشاطئ, عندما تستسلم, ينقضّ عليك وينتهي الأمر بك غارقاً..
هذه أنا أغلب الوقت, لكن قد تنتشلني صفعات أشعة الشمس أو نكزات المصباح الذي تضيئه والدتي, أو ربما رفرفة كلامها الهادئ الهامس..
*ابنتي, هداكِ الله. إستيقظي, صلّي لله وادعي له بالرحمة. مضى '...' وأنتي على هذا الحال.. تعيشين على كوب ماء وأقراص دواء..كفاكِ..*
تأتي كـعادتها قرابة خمس أو ست مرات في اليوم إليّ , تردد ذات الكلمات التي لا أفهمها, لكني أعي أنها تحاول التوغّل لقلبي من النافذة, ولم تستطع.. تحاول التغيير بكلماتها قليلاً ولا فائدة!! تحاول وتحاول ولا فائدة.. أستمع دوماً, بلا فائدة..
لا تزال تصر في كل مرة على ذكر الوقت الذي مضى وأنا على هذا الحال.. ولا أزال أُصر على عدم الاستماع للمدة..
مالذي يفيدني معرفتها؟؟ أنا ضائعة بكل حال, لأستمر حتى أجد منفذي لوحدي.. لأستمر ولأصفق لنفسي بهلاكي المبكر.. لأستمر وليزد غرقي.. لأستمر ولأصرخ لنفسي بصوتي المتهالك غير المسموع *براﭬوو, براﭬوو*.. لأستمر ولينتهي بيَ الحال نائمة..
ولأستمر ولأبقى هكذا حتى يوميَ الأخير العاصف!.

خريف | AutumnWhere stories live. Discover now