لست أدري بمَ أشعر تماماً! ربما هي الوحدة! صحيح؟ أتذكر أنك قلت إن الوحدة أسوأ مايحصل مع الإنسان, وأتذكر كيف أن أريج جاءت بصحون الغذاء فتوقفت عن إكمال حديثك! شعرت بأنك لا تريد منهم أن يعلموا رأيك في الوحدة, فآثرت الصمت أنا أيضاً! وبعدها نسيت سؤالك عن الموضوع مجدداً!
أبي, سأخبرك برأيي أنا في الوحدة, وأظن أنه كرأيك تماماً!
الوحدة, كلمة فسّرها كل شخص على هواه!
لا أجد لها تفسيراً ولا معنىً واحداً..
الوحدة, أن تحس بظمأٍ ولا يوجد قربك ماء.
الوحدة, أن تشعر بالالم والسمُّ يسري في عروقك ولا يوجد لديك ترياق.
الوحدة, أن تتمنى توقف الأوجاع وليس لديك زر التحكم فيها..
الوحدة, أن تقول أنا بخير ولا خير فيك ولا أنت فيه.
الوحدة, أن تكون إرادتك شخصاً ولا تستطيع الوصول إليه.
الوحدة, أن تكون مشتاقاً وليس بيدك الذهاب.
الوحدة, أن تريد ولا تستطيع الأخذ.. تتألم فقط لـلوحدة.
الوحدة ليست بالضرورة أن تكون وحيداً, قد تشعر بالوحدة مع أنك في قلب الزحام..
كنت كاتبة, أكتب قصصاً فيها روح الدعابة والمرح, ثم انتقلت للروايات العاطفية.. والان أين أنا من هذه الدعابة والمرح والعاطفة؟
قتلت يا أبي, قتلت وانتهيت مذ رحلت, منذ اغمائتي الاخيرة وأنا ميتة, أسير بجسدٍ هشّ كأجساد الموتى, شبح الموت يلوح فوقي!
وهأنذي.. أمرّ بلحظات عصيبة, أودُّ الرجوع لحالتي السابقة.. مع أني أعرف أنه قد تغير الكثير, جلستنا وضحكتنا وفرحنا تغير..
تشتتنا أجل, كل منا يكاد ينسى أمر غيره, ضاعت عائلتنا..
أعتذر عن تعذيبي لك وعن إهمالي لكني لست بخيرٍ أبداً..
ألا تحس بأنني جننت يا أبي! هل تسمعني على الاقل؟؟
*
جاء اليوم الخامس من الشهر.. وجاءت أمي كعادتها.. تحدثت إليها لأول مرة بعد خمسة أشهر. لم أتحدث بحيت تسمع صوتي واضحاً.. كانت تسمعه بعينيها وتترجم كلماتي المبهمة بقلبها, وهي تتصرف تبعاً لغريزة أمومتها الغريبة.. ساعدتني في الذهاب لدورة المياه.. اغتسلت غسل التوبة..
قررت أن أتوب وأرجع إلى الله, عليّ أن أعود لحياتي وأساعدنا.. رأيت من النافذة شروق الشمس, أحسست أن حياة شبحي قد بدأت به, مجدداً!
أنا الان أحاول الاستيقاظ من غفوةٍ دامت خمسة أشهر..
دخلت غرفتي وصلّيت الفرض, أتبعته بصلاةٍ أخرى قضاءً لما فاتني وأنا ضائعة مغيبة عن الله..
جلست ودعوت ثم قرأت القرآن الكريم.. التحسن الذي شعرت به كان لا يصدق!! شعرت أنني أريد البكاء, لا لأجل أبي, بل لأجل ماكنت مبتعدة عنه وماكنت فيه من شرك!!
كانت الساعة التاسعة صباحاً, عندما فتحت باب غرفتي وخرجت منها لوحدي وبإرادتي.. ذهبت لغرفة أمي, وجدتها خاشعة تصلي وتدعو وتبكي في وقت واحد..
لم أشأ مقاطعتها.. بعدما انتهت التفتت ودمعت عيناها من جديد, دمعت رغم الدموع الاولى التي لم تجف! لم تكن دموعها دموع حزن, كانت عيناها تبرقان فرحاً وابتهاجاً وأملاً..
سارعت إليّ واحتضنتني.. وباتت تهمس:
* علمت أنك ستفعلينها, علمت أنك ستعودين.. حمداً لله ياحبيبتي.. لقد أطلت غيابك.. رباه, كم اشتقت لك!!*
سمعتها!!! أجل سمعتها بقلبي, فهمت ماتقصده, عاد إلي سمعي!! حمداً لك يا رب..
* أعتذر * نطقتها مع بسمة وجدت طريقها عبر دموع غزيرة, كانت هذه البسمة الدافئة تنبع من صميم قلبي!
ابتسمت أخيراً, الابتسامة الصحيحة..
* أنظري لك كم تغيرت! لم أرك هكذا منذ زمن.. أنظري لك ولبسمتك التي لا تقارن ببسمة الموناليزا الباردة.. هأنت يابنتي.. رجعت إلي صغيرتي أخيراً *
أخذت كلانا تبكيان الألم والفراق, لم تنكف ينابيعٌ عانت وقاست ورأت الكثير عن البكاء..
أخذتني أمي لحديقتنا الخلفية, شربت والدتي كوب قهوة بينما اكتفيت بكأس ماءٍ وأقراصي.. كانت ممسكة بيدي طول الوقت, تراقب حركاتي وسكناتي كلها.. كانت تحادثني وتستمتع عند سماعها صوتي الغائب من خمسة أشهر..
وقفت أريد دخول غرفتي, شعرتُ بالغرابة وعدم الاطمئنان, جزعت أمي لرؤيتي أقف.. تلعثمت قائلة:
*إلى أين؟* حركت سبابتي نحو غرفتي..
قالت بهمس *لا بأس, هذا إنجاز.. عديني أن تخرجي وقت الغذاء!* أشرت بإبتسامة موافقة..
دخلت غرفتي وشعرت بالاكتئاب, ويلي لم أجد مايريحني, لا أريد الخروج ولا الدخول!!
بحثت عن هاتفي المحمول, وجدته في درج مكتبتي..
كان مغلقاً, وضعته في الشاحن وجلست على سريري..
مالجديد الذي طرأ ومالسئ الذي حصل؟؟
لا شئ يذكر! زرعت في قلب أمي سعادةً لا توصف.. فرحت لأني خرجت..
تأملت غرفتي, لم تكن بها أية فوضى, كانت أمي تمر لتنظف مكتبة كتبي العملاقة!! بطبيعة حالي كنت أعشق الكتب, لا أهتم بالهاتف ولا الانترنت ولا شئ سوى الكتب, كنت أيضاً أكتب قصصاً قصيرة و قصصاً عاطفية, لكني توقفت مذ رحل والدي!
كُسر زجاج بيت أفكاري بحجر مضئٍ من الهاتف.. تبين أنه قد فُتح ولم تكتمل تعبئته بعد.. أحضرته وبدأت التقليب!
مالذي تغير الان؟؟ أصدقائي الذين كانوا أكثر من مجرّد أسماءٍ في لائحة, لم يفرق غيابي عنهم!
كانت هناك فقط "أثير" التي حاولت ويأست نهايةً, لكنها على الاقل حاولت.. شعرت بصداعٍ غريب, أغلقت الهاتف وارتميت كجثةٍ هامدة, لم أفكر بشئ, فوجدتني حيث السماء, حيث تخلد أنت!
كانت هناك كلماتٌ تدور في ذهني دُرت أنا بعدها لدوامة الحلم..
*هذا الروتين القاتل المعتم ,لأكسره, أجل.. سأكسره يا سادة!! لتشهدوا بأني سأفعلها!! أحتاج فقط خمسة أيام تعوضني وتعوض والدتي عن الخمس أشهر!!*
ثم, ظلمة!

خريف | Autumnحيث تعيش القصص. اكتشف الآن